الفصل الرابع

وجاء الصباح، بعدما عانيت في إنتظاره الأمرين، لكنه جاء على أية حال، وكنت قد توقعت بعض المفاجآت، توقعت مثلاً: أن لا نجد يوسف أو نبيل أو كلاهما بغرفته، فقد تصورت أن يوسف لن يقوى على مواجهة التساؤلات ـ التي سيراها في عيوننا على الأقل ـ لكن يبدو أنه كان قوياً بما يكفي لمواجهة أربعة أزواج من العيون المتسائلة، الحائرة، واللائمة أيضاً.
أما نبيل، فقد كان معنا بجسده فقط، أما عقله فكان في وادٍ آخر.
وجيه أيضاً، بعد أن عرف بما حدث من زوجته، كان ينظر لكل منهما على حدة، وعيناه تنطقان بالحيرة والغضب، وهكذا لازمنا الصمت طوال رحلتنا.
ولم أحتمل هذا الجو المشحون بالحرج والتوتر والضيق، فتركتهم وخرجت إلى الممر الواصل بين العربات، ووقفت هناك أنظر إلى الطريق الذي يفر من تحت عجلات القطار، دون أن أقوى على رفع ناظري نحو السماء، كي لا أرى الشمس وأتذكر رحلة سابقة، لم يمض عليها سوى يومان فقط _ كانت سعيدة _ ولم أدر أن دموعي تنسابُ على خديَ إلا حين وجدت يداً تمسحها في رفقٍ حنون، لكنني إرتجفت برغم ذلك، وصاحبها يتساءل:
_ لماذا؟!.
نظرت إلى نبيل طويلاً في صمتٍ حائرٍ خجلٍ، ومن ثم لم أجد لديَّ إجابة سوى:
_ لست أدري.
لكنه نظر إلى متفحصاً وهو يتساءل ثانية:
_ حقاً؟!.
فاندفعت مشاعري لتفصح عن نفسها في كلمات سريعة مرتبكة:
_ أعلم أنني ما كان يجب أن أرى أو أسمع شيئاً مما حدث، لكنني لم أتعمد أستراق السمع، ولكن، لماذا؟، ما الذي يحدث بينكما أنت ويوسف؟، لم كل هذه الكراهية؟.
وفي كآبة أجاب:   
_ لست أدري.
_ دعني أستعير كلمتك إذن، حقاً؟!.
لكنه بدلاً من إجابتي، سألني بدوره:
_ ماذا تكتبين في جريدتك؟.
_ أهروب هذا؟.
_ ولماذا أهرب؟، لقد أجبتك، ولم تصدقي، لست أدري حقاً سر كراهية يوسف لي.
_ هو لا يكرهك، بل يخافك، هو قال هذا.
_ كل ما أعرفه أن خوفه مني سببه مهنتي تحديداً؟، لكني لا أعرف السبب، وهذا هو سبب حيرتي!.
وصمت قليلاً، ثم أكمل:
_ ربما كنت استطعت حثه على الكلام بالأمس، لولا.
ثم توقف عن الكلام فجأة وأطرق خجلاً كما فعلت، لكني أكملت جملته:
_ لولا ظهورنا، أو ظهوري أنا تحديداً، أنا آسفة حقاً، لكن
فقاطعني قائلاَ:
_ لا تأسفي، هي تدابير القدر ليس إلا.
_ أتحاول تخفيف ذنبي؟. [ فأجابني وهو يفكر في عمق]:
_ إن ما يشغلني الآن، هو، كيف أكسب ثقته؟.
فقلت وأنا أفكر بدوري:
_ نعم، هذا هو ما يجب أن يشغلك الآن..
ثم رفعت عينيَّ إليه وأنا أكمل:
_ وما كان يشغلك منذ الصباح، أليس كذلك؟
كان يريد تغيير مجرى الحديث بعيداً عما فعلت وما كان، وقد نجح، فابتسم أخيراً وأجاب:
_ نعم، هذا صحيح.
ثم طرأت على ذهني فكرة، جعلتني أسأله:
_ أتأتي معي؟.
فابتسم ثانية وأجاب:
_ إلى آخر الدنيا.
فسبقته لأداري ابتسامتي وأنا أقول:
_ يبدو أنني لن أعتاد اسلوبك في المزاح أبداً، هيا بنا.
_ إلى أين؟!..
فالتفت إليه وأنا أقول ساخرة:
_ من كان يتحدث عن آخر الدنيا؟!.
_ فقط، أريد أن أعرف.
_ توقف عن التساؤل، وضع ثقتك بي، ولن تندم.
فأمسك بيدي للمرة الثانية قائلاً:
_ طالما أنتِ معي، فلن أندم أبداً.
ودخلنا سوياً إلى حيث جلس الأصدقاء صامتين كما تركتهم، مما أعاد إلي إحساسي بالاختناق، فأقتربنا منهم، وهتفت بهم في نفاد صبر:
_ لما لا نذهب إلى قاعة الطعام؟.
وبينما نظر إلي الجميع في دهشة، كان أوفرهم حظاً منها هو "نبيل" ذاته، إلا أنه لم يعترض، بل حاول أقناعهم بدوره، وأنا أثق بداخلي أنه يود لو يسألني عما أريده، لكننا نجحنا في إقناعهم، وهناك حول المائدة أجلست "نبيلاً" بجوار "يوسف" ثم أجلست "وجيه" و"جيهان" بجوارهما، بينما جلسنا "نور" وأنا بجوارهما، ثم أمسكت بيدها ويد "جيهان" ودفعتها لتفعل المثل مع "وجيه" بينما أمسك هو و"نبيل" بيدي "يوسف"، والعجيب أنه لم يعترض، ثم أمسك نبيل يد "نور" بيده الحرة وهو يبتسم لي وقد فهم ما أفعله، وسألتهم:
_ أترون ماذا صنعنا الآن؟.
فأجابني يوسف بشيء من التهكم:
_ دائرة، والدائرة بلا بداية ولا نهاية. (ماذا أقول؟!!.. مهندس).
وأكمل وجيه:
_ أي لا يستطيع أحد أن يفصل أحد جوانبها عن الآخر.
فقال يوسف:
_ لكنها قد تنقسم من الداخل إلى قطاعات.
تدخلت "نور" قائلة :
_ ما يمنع هذا هو التكامل بين كافة القطاعات.  
وأكملت "جيهان":
_ ولكي يحدث هذا التكامل، يجب أن يتحدث كل فرد حول ما يشعر به بوضوح، فإن غضبت مني أخبرني، ربما لم أكن أعلم أن ما فعلته يغضبك، حتى إن وجدتُ أنني قد أخطأت في حقك، إعتذرت لك، وقد تصفح عني إن استطعت.
فسألها "يوسف":
_ وإن لم أستطع؟.
أجابه وجيه:
_ إذن إتركها للزمن، فقد يستطيع الزمن مداواة أصعب الجروح.
وأكمل "نبيل":
_ وقد تكتشف أنه خطأ غير مقصود، يمكنك التجاوز عنه، حتى تمنحك الأيام فهماً أكبر للموقف.
فأرتسمت على وجه يوسف الابتسامة للمرة الأولى منذ الصباح، وسأله:
_ فهل ستتجاوز أنت عما فعلته بك أمساً؟.
فمد يده إليه قائلاً:
_ نعم سأفعل.
متجاوزاً عن ابتسامته الساخرة أيضاً، فمد يوسف يده بدوره إليه وتصافحا، وقبل أن تخرج زفرة الإرتياح من صدري، فوجئت بوجيه يقول لهما:
_ ربما قررتما التجاوز الآن عما حدث من توتر في بداية لقاءكما، أما أنا، فلي معكما حديثٌ آخر في يومٍ آخر، حتى ننهي هذا الأمر تماماً. [وأنا أعرف طريقة وجيه في التفكير، وأثق في حسن تقديره للأمور، وقوله أن الأمر لم ينتهي تماماً أقلقني، وأعادني إلى سؤالي الأول: بما سيأتينا هذا القادم الجديد؟، خيراً، أم؟.
(((
بعد عودتنا إلى القاهرة، تغيرت الحياة تماماً بالنسبة لي، فتكررت اللقاءات بيننا كثيراً، وصار التعامل بين يوسف ونبيل أكثر قرباً وبساطة، حتى أنني أجرؤ على القول أنهما صارا صديقين حميمين، ربما أكثر منا جميعاً، وهكذا عادت الأمور إلى سابق عهدها، بل ربما صارت أفضل، بالنسبة لي أنا على الأقل، فقد تطورت الأمور بيني وبين نبيل، إلى ما هو أبعد كثيراً من الصداقة، أو أقرب كثيراً ــ لست أدري ــ وبشكل سريع وملحوظ، حتى أن نبيل لم يكن بحاجة إلى شرحٍ كثيرٍ حين أخبرهم بعزمه على التقدم لخطبتي، بعد شهر واحد من عودته إلى مصر، أقصد حين حاول أن يخبرهم، فهو لم يستطيع أن يخبرهم شيئاً، أبداً.
يومها فاجأنا وجيه وجيهان ويوسف ومعهم نوران الجميلة _ التي تدبر كل شيء في صمت كالعادة _ بحديث بدأ بالهزل وانتهى بطريقة لم أستطع التعبير عنها أبداً يومها، ولا أعتقد أنني أستطيع هذا الآن، ولقد بدأ وجيه الحديث مع نبيل قائلا:
_ لا تحاول الكلام يا صديقي، فالصب تفضحه عيونك.
وقال يوسف في تخابثِ ضابط مباحث جنائية كشف حيلة مجرمٍ للتو:
_ أنتم فقط من تأخر في إعلان الأمر.
وقالت جيهان في رزانة الأم:
_ بالطبع نحن عائلتها الكبرى، ونستحق أن تطلبها منا أولاً، كما تفعل الآن.
وأكملت نور:
_ ولكن يجب أن تطلب يدها من أبيها، في وجودنا بالطبع.
وحاول نبيل أن يتكلم ليوقف سيل تعليقاتهم، لكن وجيه لم يسمح له، إذ لاحقه قائلاً:
_ وبالطبع ستحتاج لمن يقف بجوارك ويساندك، ولن تجد من هو أفضل مني، لبراعتي في الحديث وطلاقة لساني، و
فقاطعه يوسف قائلاً:
_ أخشى يا عزيزي المحامي، أنك لن تستطيع الوقوف بجواره أبداً، فصديقنا الدكتور يزيد عن المائة وسبعون سنتيمتراً طولاً، وأنت لم تبلغ النصف متر بعد.
فصاح وجيه غاضباً:
_ أنا متر برغم أنفك، وبشهادة نقابة المحامين، وكل من كسبت له قضية طوال عقد كامل.
واستمرت المشادة المرحة بينهما، وسط ضحكاتنا، لكن نبيل أوقفهما قائلاً:
_ لما لا تتوقفا عن الشجار قليلاً، لأكمل حديثي قبل أن تقتلا بعضكما البعض؟.
لكن نور لم تسمح للجد أن يعود، فقاطعته قائلة:
_ أعرف ما ستقول، ستقول أنك تحتاج إلى عقليتي الجبارة، لإقناع والدة العروس.
ثم أشارت لنفسها بفخر وهي تكمل:
_ وأنا لها.
فوقف نبيل وهو يصطنع غضباً لا يستطيعه قائلاً:
_ مالي أنا وهؤلاء الأصدقاء المزعجين، هيا بنا يا عزيزتي، لنبحث لنا عن أصدقاء غيرهم يعرفون معنى الجد، فهؤلاء لا نفع لهم، إلا في الهزل فقط.
فقال وجيه:
_ وهل من الهزل أن تذهب هاتان الجميلتان إلى والدة هذه العروس، لتعرضا عليها أمرك قبل أن تفاتحنا أنت في الأمر؟.
وأكمل يوسف:
_ وهل من الهزل أن نذهب أنا وهذا الأستاذ الجليل، لنترافع في قضيتك أمام والدها، دون أن تطلب منا؟.
ففتح نبيل عيناه على اتساعهما وهو يسقط على مقعده غير قادر على الوقوف وهو يقول ذاهلاً:
_ ماذافعلتم؟!.
فأجابه وجيه ضاحكاً:
_ مهدنا لك أرض المعركة أيها الفارس.
وقالت جيهان وهي تحتضني في فرحة حقيقية:
_ وأهل عروسنا الجميلة في انتظارك في تمام الساعة السادسة مساء بعد غدٍ.
وأكملت نور همساً في أذني وهي تنضم لها في احتضاني بحب:
_ وغداً، لنا نحن الفتيات، فسنأتي إلى منزلك جيهان وأماني وأنا، لنرتب كل ما يمكن أن تحتاجيه في يوم كهذا.
ولم يجد أينا كلمات نرد بها على ما فعلوه لأجلنا، ووقف نبيل حائراً لا يدري ماذا يفعل، وشغلت أنا بمحاولة منع دموعي من الإنهمار لتوازي نهر الحب المتدفق حولي بهذه القوة، لكنهم لم يتركانا لحيرتنا، فتلقفتنا الأحضان الحانية لهؤلاء الأصدقاء الرائعون، والتفت لأجدنا نصنع دائرة متكاملة بأحضاننا، دائرة لا تنفصم من الصداقة، والحب.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي