الفصل الثالث

العراف
التفتنا لنرى صاحب هذه الجملة الباردة التي افسدت جمال الموقف في دهشة، لكن نبيلاً كان أول من تجاوز دهشته قائلاً:
_ يوسف؟!، أهلاً، فلتنضم الينا يا رجل.
وأجابه يوسف بنفس البرود في ملامحه وكلماته:- وأُفسدُ هذه اللحظة؟.
فقال وجيه معلناً ما كنت أفكر فيه:- بل أنت تفسدها بتصرفك هذا. [ثم أكمل غاضباً] فلتنضم الينا أو
وصمت خجلاً قبل أن يكمل, لكن يوسف التقطها سريعاً فأكملها:
_ أو أنصرف، أليس كذلك؟، حسناً.
وتحرك لينصرف بالفعل، فمنعه وجيه سائلاً في قلق:
_ ما الأمر يا صاحبي؟، أنت لست على ما يرام منذ الصباح؟.
فصمت يوسف كثيرا هذه المرة, ثم هز رأسه قائلا:
_ لاشيء.
ثم تركنا وخرج عائدا إلى حيث كان، فأسرعت خلفه، بينما التفت نبيل إلى وجيه قائلاً:
_ صديقك لا يرحب بوجودي يا وجيه.
صدمتني العبارة, لكني حاولت تجاوزها وجاهدت نفسي لكي لا أعود، لأعرف ما يدور بذهن يوسف, فهو صديقُ طفولتي رغم كل شيء، وهناك، وجدته يجلس ووجهه بين كفيه، وأسرعت إليَّ "نور" قائلة بصوت خفيض قلق:
_ ماذا حدث؟، لقد جاء دامع العينين وجلس صامتاً بهذه الطريقة.
_ لست أدري، أنا أحاول أن أفهم!.
وحين اقتربنا منه، جلست في المقعد المقابل له بجوار جيهان، بينما جلست نور بجواره، وأمسكتُ بيديه أبعدهما عن وجهه, فانتفض قائلا:
_ ماذا؟ [ووجدنا بجواره، فأكمل قائلا]:
_ ماذا حدث؟.
فقلت له:
_ لن يسمح أينا بأن تتفرق هذه الصحبة أبدا.
أجاب شارداً:
_ نعم.
فسألت جيهان في قلق:
_ ماذا جرى بالداخل؟.
لكن يوسف أكمل بنفس الشرود، دون أن ينتبه لتجاهله لسؤالها:
_ أتعلمن أننا أوجدنا حالة خاصة؟، صداقتنا صارت مضرباً للأمثال بين من يعرفوننا.
فقالت نور حائرة:
_ ومن منا لم يرها في عيون من حوله؟!.
_ لكنني كنت أجد وجيهاً، كشقيق لي، لأنني بلا أشقاء.
فقلت وأنا أحاول الابتسام:
_ نحن صديقان منذ أكثر من عشرين عاما يا هذا، وليس لك أشقاء؟!، قتلتني.
فقال بخجل:
_ سامحيني ياهالة، أنا لا استطيع الاستغناء عنكم قط، ولكن.
فقاطعته جيهان سائلة:
_ ماذا حدث بالداخل لتخرجا أنتما الاثنان بهذا الحالة؟، ماذا فعل وجيه وجعلك تتحدث بهذه الطريقة يا يوسف؟.
فسألتها أنا:
_ أخبريني أنتِ يا جيهان، هل يمكن لوجيه أن يتخلى عنا, لأن صديقه القديم قد عاد؟.
فأجابت موجهة الكلام ليوسف:
_ أهذا ما يقلقك؟!. ليست صداقتنا أمراً هيناً، حتى يتخلى عنها أينا بهذه البساطة، [وتنهدت مبتسمة] إنها صداقةٌ عمر بحق.
دفعته أنا في كتفه ممازحة:
_ وانا صديقة طفولتك، ولي حق الأقدمية على الجميع.
وأخيرا, حاولت تلك البسمة الكسيرة الخائفة أن تلون وجهه وهو يخاطبنا قائلاً:
_ تعلمن قدركن عندي وتستغلون حبي لكنَّ أسوأ استغلال.
فأجابته نور:
_ أما أنت, فيبدو أنك لا تعلم قدرك لدينا أيها الصبي؟.
فقال يوسف بدهشة:
_ صبي!، أنا أكبر منك بأربعة أعوام يا فتاة.
فالتقطها أنا:
_ والطبيب العائد أكبر منا بعامين فقط، فلما لا تحاول أن تقربه منك، فتكسبه، ولا تخسر صديقك الأثير.
فتساءل يوسف متعجباً:
_ صديقي الأثير؟!.
فأجبناه في صوت واحد:
_ أنت من أعترف بهذا.
فرفع كفيه في مواجهتنا وهو يقول ضاحكاً:
_ حسناً، ومن أنا لأقف أمام ثلاثتكن؟، رفعت الجلسة.
فوجئنا بصوت وجيه يهتف في تساؤل:
_ رفعت الجلسة؟، دون حكم؟، أهو التأجيل إذاً؟.
وكان نبيل هو من أجابه قائلاً:
_ بل هو الحب حين يكسِر الجليد.
ثم خاطب يوسف قائلاً:
_ فهل تسمح له؟.
فقال يوسف:
_ كما تقول أيها الطبيب.ٍ
وكما قال بالفعل، تم تجاوز جبل الجليد الذي كاد أن يعترض صداقتنا، بمبادرةِ حبٍ من "نبيل"، ثم استطاع "وجيه" تحويل دفة الحديث، وهو يسأل "نبيلاً" عن الدراسات الحديثة في الطب النفسي، ولقد كان حديثاً شائقاً بالفعل، فوجئنا وقتها بمعرفة يوسف الواسعة في بعض نواحي الطب النفسي، تلك المعرفة التي لم نكن نعلم عنها شيئاً، والتي تسببت في توتر الجو ثانية بينه وبين "نبيل"، حين علق الأخير على حديثه قائلا:
_ من الواضح أن معلوماتك عن الطب النفسي غزيرة يا يوسف.
فأجابه يوسف في لهجة بدت تهكمية:
_ شكراً ياااا دكتور.
فقال نبيل وهو يتفرس في وجهه:
_ لكن لماذا تكرهه؟.
فقال يوسف بتحفز:
_ أكره ماذا؟.   
فأكد نبيل وهو يتفحصه باهتمام أكبر:
_ الطب النفسي.
وهنا بدأت لهجة يوسف تتخذ سمة العدوانية:
_ ولماذا أكرهه؟!.
فهز نبيل كتفيه قائلاً:_ لست أدري، لكن.
فقاطعه يوسف غاضباً:
_ لا تتلاعب معي بفنون العرافة التي تسمونها طباً هذه، فأنا أدرى من عشرة منكم بها.
فقال نبيل بدهشة ساخرة:
_ عرافة؟! وهل أتيت غيباً؟.
فأجابه يوسف بسخريةٍ أشد:
_ هذا ما لن يمكنك فعله أبداً.
رد نبيل :ـ
_ تظنُ أنك بئرٌ لا قرار لها، ومن يحاول الوصول لمياهها يغرق فيها؟.
هنا أحسست أنني أمام موضوعٍ يستحقُ الدراسةِ، ما سرُ هذا العداء الذي ظهر بينهما فجأة؟!.
وبينما دارت هذه الأفكار برأسي، استطاع "وجيه" تحويل مجرى الحديث مرة أخرى، وتطرق إلى رحلات نبيل حول العالم، لدارسة أساليب الطب النفسي في بلدان العالم المختلفة، فقد كان هذا هو موضوع رسالة الدكتوراة التي قدمها مؤخراً، ولقد أثار "نبيل" إعجابنا جميعاً، حتى وجيه صديق عمره، الذي يفترض أنه أكثرنا معرفة به، صارحنا أنه لاحظ تغييراً شاملاً في شخصية صديقه، لم يكن يتوقعه على الإطلاق، وتساءل: هل العلم يطور شخصية الإنسان إلى هذا الحد؟!.
لكنه ليس العلم وحده، فلم يبهرنا "نبيل" بحديثه حول طبيعة عمله فقط، بل أثار انبهارنا وإعجابنا بثقافته الواسعة، التي لم تقف عند حدود مهنته أو المجال الذي تخصص فيه، بل كادت تشمل معظم نواحي العلوم والفنون والرياضات المختلفة، وثقافات وحضارات كل ما زاره من بلاد أيضاً، حتى إنقضى الوقت دون أن نشعر وفوجئنا بوصولنا إلى أسوان قبل أن ينتهي الحديث.
وهناك، تغيرت الأمور بشكل مفاجئ، وكأنما قرر الإثنان إيقاف الحرب بينهما، ولو إلى إشعار آخر، وهكذا، استمتعنا بيومين من أجمل أيام الشتاء، في جو أسوان الدافيء، وكانا يومان لا يمكن لأحدنا أن ينساهما، خاصة يوم وصولنا إلى أسوان، حين مد نبيل يده ليساعدني على النزول من القطار، وهو ينظر في عينيَّ بهذا العمق الذي لم أكن قد اعتدته منه بعد، وهو يقول:ــ
_ لا تنشغلي بالآخرين إلى هذا الحد، ودعي أمر يوسف لي أنا.
أجبته ضاحكة:
_ هكذا سأصدق أنك عراف.
فأجابني باسماً:
_ ليتني عرافاً، لأرى ما بداخل قلبك.
فحاولت أن أداري إرتباكي بالسخرية قائلة:
_ وما شأنك أنت بقلبي؟.
فابتسم قائلاً:
_ من يدري؟.. ربما يكون قلبُكِ هو شأني الوحيد والأهم فيما بعد.
وبينما عقدت الدهشة لساني، أخذ هو بيدي وسار بجواري حتى وصلنا إلى حيث وقف الأصدقاء ينتظروننا، فسحبت يدي من يده سريعاً، وإندفعت نحو صديقاتي وكأني أحتمي بهن من شيء لا أدريه.
ومر اليومان في لهوٍ ومرحٍ طفولي، وكأننا عدنا سنواتٍ طويلة إلى الوراء، حتى جاء اليوم المقرر لعودتنا إلى القاهرة، وإلى زماننا، ولنعرف أننا، قد فارقنا سنوات الطفولة إلى غير رجعة.
يومها كنت قد إتفقت مع "جيهان" و"نور" على أن نقضي ليلتنا الأخيرة في أسوان منفردات، بعيداً عن الرجال وصخبهم ومشاكلهم، لكنني حين خرجت من غرفتي، فوجئت ب "نبيل" واقفاً أمام غرفة "يوسف" وهذا الأخير يسد الباب بجسده مانعاً إياه من الدخول، حاولت الإسراع إلى غرفة نور، لكنني لم أستطيع التحرك خشية أن يراني أحدهما وأتسبب في إحراج أينا، وفي ذات الوقت لم أرغب في إطالة وقفتي في مكاني هذا حتى لا أسمع ما لا يجب عليَّ سماعه، لكنني سمعت يوسف يقول لنبيل في حدة:
_ ما الذي أتى بك إلى هنا؟.  
_ ألن تدعوني للدخول أولاً؟.
فأجابه وهو يحاول إغلاق الباب:   
_ بالطبع لا، ومن الأفضل لك أن تنصرف الآن.   
_ أنا لا أريد سوى صداقتك، ولم ولن أضر بك أبداً.  
_ وجودك هنا هو الضرر بعينه بالنسبة لي.  
_ أعلم أنك تكره مهنتي، ولكن لماذا؟!، ولماذا تكرهني أنا بالتبعية؟!.  
_ أنا لا أكرهك، و.. ولكني أخافك.
وخفُتَ صوتَهً مع الجملةِ الأخيرةِ، حتى كدتُ لا أسمعُهُ، وهنا فوجئت ب"جيهان" تفتح الباب صائحة:
_ هل جئت أخيراً؟، كنا سنذهب نحن إليك الآن.
إلتفت نحوها، وكذلك فعل "يوسف" و"نبيل" أيضاً، وقبل أن أعود ببصري إليهما، سمعت باب غرفة "يوسف" يصفق بمنتهى العنف، في وجه "نبيل"، وتسمرت عيناي أنا وجيهان ناحيته، لكنه لم يحول وجهه نحونا مطلقاً، وقد أخذته هذه المفاجأة السخيفة، وتحجرت عيناه نحو الباب المغلق، وخيم علينا صمت محرج ثقيل، حتى أنهى هو الموقف، بأن ترك المكان وإنصرف مسرعاً.
واستمر الصمت سيداً للموقف لثوانٍ أخرى، حتى قطعته "نور" وهي تخرج متسائلة عما حدث، لكني لم أعلم بما أجيبها، حقاً لست أدري، لماذا يخافُ يوسف نبيلاً؟، ولماذا يكره التعامل معه إلى هذا الحد؟، وقادني هذا إلى تساؤلات كثيرة أرهقتني وحيرتني، كان آخرها، ماذا يحمل لنا هذا القادم الجديد؟، خيراً أم؟.
وعرفنا أن هذه هي نهاية سهرتنا التي لم تبدأ، وعدت إلى غرفتي لأداري حرجي، وألمي لما تسببت به، لكن الصحافية بداخلي لم تهدأ، ولن تهدأ، حتى أجلو هذا السر الغامض بينهما، فهل أستطيع؟.
***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي