الفصل الثاني

عودة
مرت عشر سنواتٍ أخرى، وتغيرت الدنيا كلها من حولي، وتحققت كل أحلامي، حيث جمع الحب بين " وجيه " و" جيهان " وتزوجا ـ كما تمنيت يوماً ـ وعملت أنا بالصحافة، ودرست فن كتابة السيناريو في أكاديمية خاصة بأحد الفنانين، وعملت " نور" بمجال المونتاج الذي عشقته، بإحدى القنوات الخاصة، وتزوجت "أماني" وأنجبت طفلان جميلان يتمتعان برقة أمهما وذكاءها، وطيبة أبيهما، أما "يوسف"، فقد أفتتح مكتباً هندسياً خاصاً به، بعد أن عمل طويلاً في شركة والده للمقاولات، وذلك بعد عودته من رحلة لم يفصح عن سببها أو تفاصيلها أو وجهتها أبداًـ على الرغم من أنها قد طالت إلى سنة كاملة ـ رغم تساؤلاتنا الكثيرة والمتكررة التي كاد أن يقطع صلته بنا بسببها، مما دفعنا إلى إيقافها، وإن ترك فينا هذا الأمر حيرة بالغة،
خلال هذه الفترة كان "وجيه" دائم التحدث عن صديق له يقيم بالولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراساته العليا في مجال الطب النفسي، وهو الدكتور/نبيل فهمي، تحدث عن صداقتهما القديمة، التي مرت عليها ثلاثة عقود حتى الآن، تحدث عن زمالتهما التي انقطعت بعد المرحلة الثانوية، حين اختار هو القسم الأدبي واختار "نبيل" القسم العلمي، من ثم التحاق كل منهما بالكلية التي حلم بالدراسة فيها، حيث أختار "وجيه" دراسة الحقوق، وأختار "نبيل" الطب.

كان من الطبيعي أن ترانا ونحن نتحدث عنه لساعات وساعات، أو نستمع لوجيه وهو يقرأ لنا أحد خطاباته التي يرسلها له عبر البريد الالكتروني، أو لنشاركه كتابة إحداها، حتى صار نبيلاً على البعد واحداً منا، حتى جاء يوم فوجئنا فيه بوجيه يأتي إلينا مهللاً:
_لقد عاد، لقد قرر أخيراً أن يعود.
فبادرته "جيهان" قائلة:
_لقد جُنَ زوجي والله، كنت أعرف أن هذا سيحدث يوماً ما.

وأكمل "يوسف" سائلاً:
_ماذا جرى لك يا صاحبي؟، ومن هذا الذي قرر أخيراً أن يعود؟

فالتفت إلينا وهو يقول محنقاً:
ألا يوجد لديكما صفة تعجبية أو سؤال مندهش لتضيفانه أنتما أيضاً؟

فأجابته "نور" في هدوء:ـ
_بالطبع لا، فنحن نعرف سر ابتهاجك، وعمن تتحدث.
فقال وجيه بسعادة:ـ
_أراحك الله في الدنيا والآخرة يا نور، عمن أتحدث إذن؟،
فأجبته أنا:
_عن الصديق العتيد "الدكتور/ نبيل" بالطبع.
فقال في حماس: هذه هي الصداقة وإلا فلا.
[ثم إلتفت نحو "جيهان" و"يوسف" مضيفاً]:
ـ ألم يعلمكما بابا وماما كيف تستعملان هذا الشيء المسمى بالعقل، مثلما فعلتا؟،
لكن جيهان لم تقبل هذه اللهجة منه بالطبع، فقالت في صوت هادئ آمر:
_ألا تجلس وتخبرنا في هدوء عما تريد؟
وأكمل "يوسف" في حدة يحاول إخفاءها تحت قناع اللامبالاة:
_نعم، أخبرنا عن هذا الحدث الجلل، الذي قامت له الدنيا، ولن تعود كما كانت ثانية.
فجلس وهو يدير عينان صارختان في وجوهنا، وصمت طويلاً، وفي صوتٍ متعب حزين قال أخيراً:
_لا شيء، يبدو أن ما لدي لا يهم أحداً سواي.
ثم قام لينصرف، فأسرع "يوسف" ليمسك بذراعه قائلاً:
إلى أين يا هذا؟، ألا تستسيغ الدعابة أبداً؟
فأجابه وجيه في ضيق:ـ
لم يكن فيما قيل ما يشبه الدعابة من قريب أو بعيد،فقاطعته "جيهان" قائلة:
أنت الذي نسى يا عزيزي أننا نعرف موعد وصول الطبيب الغائب.
فطأطأ رأسه خجلاً وهو يقول: هل أخبرتكم؟
هالة: منذُ ثلاثةِ أيام.
نور: لذلك أخبرتك منذ البداية، أننا نعرف سر ابتهاجك.
وجيه: هاه، أحقاً فعلت؟!
ثم رفع رأسه وقال في انفعال مفاجئ أضحكنا جميعاً: لكني أتيت لأخبركم شيئاً جديداً،
وعاجلته جيهان بسخرية محببة:ـ وما هو يا قدري الجميل؟
وجيه: أرأيتم؟ هكذا تخاطب الزوجة الوفية زوجها.
وفي تلكؤ ألفناه في وجيه حين يطلب منا شيئا عصياً قال:
هو شيء ستكونين أول من يفرح ويرحب به،
فقاطعته هي في صبر نافد:
حسناً، وما هو؟
فأجاب في سرعة وكأنه يخشي أن يتراجع عما يريد قوله:
ما رأيكم في رحلة إلى مدينة الإسكندرية لمدة يومان؟
فكررناها جميعاً في دهشة حتى أنه قفز للخلف قائلاً في خوف:
_ يومان فقط، نتفرغ فيهما تماماً من كل أعبائنا والتزاماتنا و،
ثم أكمل في رجاء: ونربح صديقاً.
فوقفت جيهان قائلة في لهجة حاسمة:
_وجيه، أنا لا أقبل منك هذه اللهجة.
وقبل أن يسقط قلب وجيه في قدميه خوفاً، أكملت باسمة:
_ فلهجة الرجاء هذه لا تليق بالأستاذ/ وجيه المحامي، فزوجي الحبيب ينبغي أن يأمر، لأطيعه دون مناقشة.
ولكي تزيد دهشته، لاحقه يوسف قائلاً:
وأنا لا أقبل أن أتسبب في الحزن أو الألم لأيكم يا وجيه، لذلك فسنذهب جميعاً لاستقباله، حتى لا يكون لك صديقاً خارج دائرتنا يبعدك عنا.
[فأجابه وجيه باسماً في امتنان]:
لا يا صديقي الغالي، لا أحد يستطيع إبعادي عنكم مطلقاً.

وفي الإسكندرية، كان للطبيب العائد رغبة وافقنا عليها جميعاً، حتى نستطيع التعرف على هذا الصديق الجديد بشكل أفضل، وهكذا، ركبنا القطار من الإسكندرية إلى أسوان، لأنه يرغب في أن يرى مصر كلها مرة واحدة على حد قوله، بعد أن غاب عنها كل هذه السنوات.
ولم يكن من عادتي النوم أثناء السفر، لذلك خرجت لأشاهد شروق الشمس من نافذة القطار الكبيرة في الممر الواصل بين العربات، فوجدته هناك، يتابع كل ما يدور حوله بشغف العاشق العائد إلى محبوبته بعد فراق طال كثيراً، فكان لايكاد يحول عينيه عن نافذة القطار، لكني قاطعت هذا الشغف لأروي ظمأي المعتاد للمعرفة وسألته:
لماذا السفر ليلاً؟، وبالقطار تحديداً؟!
فأجابني وهو يشير إلى السماء التي بدأ لونها يتحول من الرمادي الباهت إلى لون أزرق خفيف يميل إلى البياض، ولون الشمس الأصفر يتسلل من بين السحب في خجلِ عروسٍ تخرجُ من خِدرِها.
_أنظري، وكأن النور يسابق القطار، وكل منهما يحاول الوصول إلى وجهته قبل الآخر، هل يمكن لإنسان أن يرى مشهداً بهذه الروعة إلا هنا؟، في مصر؟
فقلت وأنا أراقب ملامحه جيداً: أعتقد أنه يمكنك أن تراه في أي بلدٍ مشمس.

فأجابني بحزم رقيق وعيناه تركضانِ خلفَ الضياءِ للبعيدِ: لن يكون بهذه الروعة.
أحسست أنني أقف أمام طفل يصف جمال أمه، الذي لن يرى جمالاً يضاهيه في الكون كله.
فأجبته وأنا أبتسم: إنه فقط شوقك أنت لمصر.
أجابني في حرارة وهو يلتفت بكيانه كله نحوي: وكيف لا أشتاق إليها؟
والتقت عيوننا، وطالت نظرته إليَّ دون أن ينطق ثانية، وكأنه يراني للمرة الأولى، وأنا أيضاً، لست أدري ماذا حدث لي حين ضاعت نظراته في وجهي بهذه الطريقة، لقد وجدتني أغوص في هاتين العينين الصافيتين، وكأنهما بحر بلا شطآن، وكدت أغرق فيهما، لولا أن أنقذني صوت وجيه الضاحك، وكأنه آتٍ من مكان بعيد قائلاً:

ومن هذه التي تشتاق إليها أيها الطبيب؟، هل وقعت في الحب من وراء ظهري؟
إلتفت إليه نبيل في سرعة، وقال في لهجة أرادها ساخرة مرحة، لكنها خرجت على الرغم منه متوترة مرتبكة :
_أمازلت تسترق السمع أيها المحامي؟
فضم وجيه كفيه أمام صدره، وانحنى في حركة مسرحية وهو يقول ضاحكاً:
_لقد سمعتها عفواً يا مولاي، فهل تصفح عني؟
فأجابه نبيل ممازحاً:
_حسناً ، لقد عفونا عنك، لكن لا تعد إليها مرة أخرى، وإلا أمرنا باعدامك.
_حسناً، قل لي من هي إذن؟ من هذه؟!
_من قلت أنك تشتاق إليها يا صاحبي.
_أنت لا تتغير أبداً يا وجيه، لا شيء يروي فضولك؟، كنا نتحدث عن بلدنا يا أستاذ.
_آه ، فهمت.
ولما العجب؟، لقد غبت عن وطني لأكثر من عشر سنوات، فلما لا أشتاق إليه؟
_ومن قال إنني أتعجب؟، هل ارتسمت على وجهي علامة تعجب أم ماذا؟

فابتسم "نبيل" في خبث وأجابه :ــ ربما.
فصاح "وجيه" وهو يحاول التظاهر بالغضب:ــ نبيييل.

ثم إقترب منه بسرعة، وفي حركة مفاجئة مد ذراعيه وضمه إلى صدره في قوة وهو يكمل في حرارة:
_أنا من يشتاق إليك أكثر يا رجل، حمداً لله على سلامتك.

وأجابه نبيل وهو يربت على كتفيه:ــ
_وأنا لا أستطيع مقارنة كل ما مضى من عمري بهذه اللحظة يا وجيه.
_وأنا أكاد أبكي من شدة التأثر يا سادة.

ارتفعت هذه الجملة الباردة بصوت مليء بالغضب، ارتجفت له أوصالي، ولم تصدقه أذناي .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي