البارت الثاني

مرت السنوات بدون أن أشعر بها، حتى وصلت إلى الصف الثالث الإعدادي، كان أهلي في تلك السنة يضغطون عليَ كثيرًا؛ بسبب رغبتهم في أن أحصل على المركز الأول كما إعتدت الحصول عليه في العامين الماضيين.

لم أكن من الشخصيات التي تستطيع العمل تحت الضغط، بل بالعكس كنت أقوم بإفساد الأمر عندما أتوتر وأشعر بالقلق.

لكن الأمر سار على ما يرام في الفصل الدراسي الأول؛ فقد حصلت فيه على المركز الأول، كنت سعيدة للغاية بحصولي على ذلك المركز، وكنت سأتابع هذا النجاح في الفصل الدراسي الثاني.

لكن في الفصل الدراسي الثاني حدثت لي أزمة نفسية، لو سألتموني عن أسوأ عامين في حياتي، سأخبركم بأن الفصل الدراسي الثاني في الصف الثالث الإعدادي والسنة الأولى في الجامعة كانت أسوأ الأوقات لي في حياتي.

فقد كنت أعاني من إكتئاب حاد في ذلك الفصل؛ كان الإكتئاب قد تمكن مني إلى الحد الذي جعل الدراسة آخر همومي، مازلت أتذكر توقفي عن الذهاب إلى الدروس الخصوصية، ومازلت أتذكر تلك المناهج التي لم أكن أعرف عنها شيئًا حتى وقت دخولي إلى الإمتحان.

كان سبب إكتئابي هو إنهاء أمي لعلاقتي مع صديقتي التي كنت أحبها كثيرًا، كانت صديقتي تلك سودانية وكنا نتواصل عن طريق الواتس آب أو عن طريق الفيسبوك، ولكن أمي منعت ذلك التواصل، قامت بمسح رقمها من هاتفي كما قامت بمسح المحادثة الخاصة بيننا.

ولم تكتفي بذلك بحسب بل قامت بالإتصال بتلك الصديقة قبل أن تقوم بفعل كل ذلك، وأخبرتها أن تبتعد عني وأنها تقوم بتضييع وقتي، الذي كان يجب أن يكون كله متركزاً على الدراسة، كنت حزينة للغاية في ذلك الوقت؛ فقد شعرت للمرة الأولى بأنه ليس لديَ الحق في الحصول علي صديقة.

شعرت للمرة الأولى بأنني مجرد آلة تقوم بالدراسة فحسب، بل ربما يعاملون الآلة بشكل أفضل؛ فعلى الأقل يقومون بفصل الكهرباء عنها لعدة ساعات في اليوم؛ كي ترتاح قليلاً وحمايةً لها من الإحتراق، لكن أنا لم يكن لديَ أي وقت أستطيع التنفس فيه براحة.

كان حزني كبيرًا حتي أنني فكرت في الإنتحار، وإنهاء تلك الحياة التي لم تجلب لي سوى الحزن والتعب، أخذت الفرجار من حقيبتي وقمت بإحداث العديد من الجروح علي معصم يدي وعلي ساعد يدي، لم أكن أريد جذب الإنتباه لتلك الجروح، بل علي العكس كنت أريد القيام بها في أماكن غير ظاهرة للناس.

كنت أعتقد بأن ألمي النفسي سيصبح أخف، عندما يكون ألمي الجسدي أقوى منه، مازلت أتذكر جلوسي على السرير وفي يدي الفرجار، وتحديقي في معصم يدي، وكأنني أفكر ما إذا كان من الصواب الإنتحار أم لا.

كنت خائفة للغاية من عقاب ربي لي إذا ما مِت منتحرة؛ لذلك لم أتجرأ على فعل هذا الأمر، بل إكتفيت بالدعاء بالموت في أسرع وقت؛ فقد كنت يائسة للغاية من حياتي.

في أحد الأيام قامت أمي برؤية تلك الجروح التي كانت بيدي، هل تستطيعون توقع ردة فعلها؟ قامت بإستدعائي إلى غرفتها، ثم بدأت في الكلام.

أردفت أمي بغضب:
_هل قمتُ بحرمانكِ من شيء ما؟ أنا أحضر لكم أفضل الطعام والشراب، كما أنكم تقومون بإرتداء أفضل الملابس، عليكِ أن تقدري النعمة الموجودة في يدك، فكم من آباء وأمهات لا يهتمون بأبنائهم، بل ولا يقومون حتى بتحضير الطعام لهم، أنتِ حقاً ناكرة للجميل.

كنت أرغب في إخبارها بأن توفير الطعام والشراب والسكن هو من واجباتهم، وليست أشياء يقومون بالتفضل بها عليَ، كما أنني كنت أريد إخبارها بأن الحنية والإهتمام بالمشاعر أهم من تلك المسائل المادية.

أردت سؤالها عن عدد المرات التي قامت فيها بإحتضاني، وعن أول شيء تقوم بفعله عندما تراني أبكي، أردت سؤالها عن أول شيء تخبرني به عندما أحصل على درجة سيئة للمرة الأولي بعد عدة درجات جيدة.

لكنني لم اتجرأ على قول أي شيء، فقط إكتفيت بالصمت وكأنني أنا المذنبة، وكأنني أنا من أقوم بالشكاية من حياتي، رغم المحاسن الموجودة بها، وكأنهم يقومون بإطعامي وتوفير المسكن لي في مقابل أن أكون فخرًا لهم.

يجب علي كل الآباء والأمهات أن يجعلوا أبنائهم يشعرون بمدى فخرهم بهم مهما فعلوا، ومهما كانت الدرجات التي كانوا يحصلون عليها، يجب عليهم أن يشعروهم بأن حبهم لهم ليس مشروطًا، وأنهم سيستمرون بحبهم دائمًا مهما حدث ومهما فعلوا.

عندما حان وقت الإمتحانات كنت أقضي اليوم كله نائمة، ثم عندما أذهب إلى الإمتحان في اليوم التالي، كنت أقوم بالغش من الفتاة التي كانت تجلس أمامي، أقسم بأنه كان هناك الكثير من الدروس في مادة الدراسات الإجتماعية والتي لم أكن أعلم عنها أي شيء.

رغم كل ذلك حصلت علي المركز السادس في ذلك الفصل الدراسي، لكنني لم أكن سعيدة بحصولي على ذلك المركز؛ لأنني حصلت عليه بالغش ولأنني تمكنت من تجاوز ذلك الفصل بأقل الخسائر، لكن أهلي لم يكونوا راضين، فبدلًا من حصولي على المركز الأول، فاجئتهم بالحصول ع المركز السادس.

لم أقم بلوم نفسي في تلك المرة، بل إكتفيت بالشعور بالرضا، كما أنه لم يكن من حقي الشعور بالسخط؛ فقد حصلت على ذلك المركز بالغش، لماذا قد أشعر بالسخط من مركز حصلت عليه بمجهود غيري؟

الشيء الوحيد الذي قمت بلوم نفسي عليه هو أنني قمت بالغش، لم أعتد على الغش ولم أكن أحبه طوال حياتي، بل بالعكس كنت أشعر بالإشمئزاز من الفتيات اللاتي تلجئن إلى الغش، بدون أن أعلم أنني سأكون واحدة منهم يومًا ما.

لكنني عاهدت الله أنني لن ألجأ إلى الغش مرة أخرى، وأن جميع المراكز التي سأحصل عليها في المستقبل ستكون بمجهودي، وهذا ما فعلته فعليًا.

تفوقت في الصف الأول الثانوي وتمكنت من الحصول على المركز الثاني، بالطبع لم تستقبل أمي ذلك الخبر برضا؛ فقد قضت الإجازة كلها في لومي كما لو أنني قمت بمصيبة، كانت دائمًا ما تخبرني بأنه كان يمكنني الحصول على المركز الأول، إذا كنت قد إجتهدت قليلًا.

ولكنني لم أستمع لكلامها، بل إحتفلت بنجاحي بنفسي، كم من المرات تمنيت سماع كلمة 'مبروك'، تلك الكلمة البسيطة التي قد لا تعني لكم شيئًا، ولكنها كانت تعني لي الكثير، لا تعلمون بأنني كنت أحاول الحصول على المركز الأول في كل عام فقط كي أسمع تلك الكلمة من الجميع.

في الصف الثاني الثانوي إجتهدت كثيرًا وتمكنت من الحصول على المركز الأول، كنت أظن بأن أمي ستكون فخورة بي، ولكن حتى عند حصولي علي المركز الأول لم تكن أمي راضيةً عني.

فقد أخبرتها بأن هاجر قد حصلت علي المركز الأول مثلي؛ مما دفعها إلي لومي علي عدم الإجتهاد، وأنني لو إجتهدت قليلًا، لكنت الوحيدة التي حصلت على المركز الأول.

في ذلك الوقت علمت بأن رضا أمي غاية لن تدرك، وأنني سأقوم على هذا الحال بتضييع حياتي؛ محاولةً الحصول عليه، ولكنني لن أتمكن من تحصيله في النهاية؛ لذلك قررت التوقف عن محاولة تحصيله وقمت بالتركيز علي نفسي.

قررت بعد سنوات أن أجتهد لأجل نفسي، وأن أشعر بالرضا عن تلك النتيجة التى أحصل عليها مهما كانت؛ فقد كنت أبذل الكثير من الجهد للحصول عليها، ولم أكن لأسمح لأي أحد بأن يجعلني أقلل من مجهودي الذي بذلته.

يتبع..
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي