حدوتة حنين

Samia Aiad`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-11-19ضع على الرف
  • 24.2K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

الفصل الأول:


لماذا تدوم الذكرى؟ لماذا نتعذب بها دون جدوى؟ فالزمن لا يدور أبداً إلى الوراء.
كنت أعلم أن الشعور بالوحدة هو إحساسٍ قاسٍ مميت، لكنني أبداً لم أدرك أنه بارد إلى هذا الحد.
يا رب، احميني من ثورة ذاتي، ومن وطأة أناتي، فليس أصعب من برد المشاعر على الإنسان
ولا أقسى من وحشة قلبٍ بلا سكان.
أعلم الآن أنني على مفترقِ طريقٍ، وهما طريقان لا ثالث لهما، إما "طريقُ السلامةِ"، أو "طريقُ الذهابِ بلا عودة"، فلا فرصةَ للندمِ هناك، إنها لحظة الاختيار، وأي اختيار؟
إنه اختيار بين مُرٍ وأَمَّر، ولكن أيهما أمرُ من الآخر؟
الافتراق عن صحبة العمر! أم نسيان أعجب وأحب صديق في العمر؟

يوم وافقت على خطبتي له، تساءل المحيطون عن السبب، وأنا التي لم تعرفه إلا منذ شهر واحد، لكنهم هم كانوا يعرفون.
ألا يكفي أنه كان إنساناً؟ إنساناً في زمنٍ ندر فيه القلب الطيب، ألا يكفي هذا سبباً للحب؟
لقد كان إنساناً صافياً، شفافاً، صادق الإحساس إلى أبعد الحدود، حين تنظر إلى عينيه تشعر بالرهبة تهز قلبك، وبالرغبة في أن تجلس إليه، وتفضي بكل ما في كيانك من كلمات، وحين تستمع إلى صوته الهادئ الواثق، تتمنى ألا يتوقف عن الحديث أبداً.

أراه الآن أمامي، بيننا، معنا، البسماتُ لا تخفي تلك النظرةِ الجادةِ للحياةِ، والضحكاتُ تعلو في تحدٍ سافرٍ لكل الأحزانِ، كم تخطينا من صعابٍ، كم غلبنا الدنيا فقط لأننا كنا معاً، كان لنا عالمنا الخاص، عالمٌ لا يحتاجُ المرءُ فيه إلى زيفٍ أو نفاقٍ، أو تجميلٍ أو كذبٍ، عالمٌ لا تحتاجُ فيه إلا أن تكونَ أنتَ، أنتَ وكفى.
تتساءلون من هؤلاء؟
حسناً، اقتربوا ولكن في صمت، حتى لا تفسدوا جلستهم الهادئة الباسمة.
أترون هذا الأسمر الوسيم؟ إنه "وجيه"- الأستاذ/ وجيه، كما أحب أن أناديه - محامي بارع- في الثلاثين من عمره، متوسط الطول، أسمر البشرة، نحيل بعض الشيء، حاول أن لا تلتفت إلى تلك الابتسامة الهادئة الواثقة، والتي تثير حيرتك بتلك اللمحة الساخرة فيها، ولا تتساءل إن كانت موجهة نحوك، أم نحو الحياة بأسرها، فلن تعرف أبداً، ولا تحاول أن تخفي إعجابك بشخصيته الفريدة، فهو يحب أن يسمع بعض المديح من آن لآخر.

أما هذه الجميلة، فهي "جيهان" خريجة التجارة، والتي تعمل بإدارة الائتمان بأحد البنوك، وتتمتع بتأثير ساحر على كل من تتعامل معه، برقتها المتناهية، ومشاعرها المرهفة، وحبها لإلهها الذي فاض حتى أغنى كل من عرفها، وروحها الخفيفة المرحة، ناهيك عن جمالها الواضح، والذي لا يمكن أن يوصف إلا بالروعة، فهي تملك عينا إيزيس وشعرها، لكنهما لا يضارعا الليل سواداً كما يقال، فلشعرها لون كستنائي جميل، وعينيها العسليتين لا ترى فيهما إلا الصفاء والحب. (إذا كنت تملك قلبك وتستطيع التحكم فيه جيداً، فاقترب منها).

وهذه السمراء الرائعة هي " نوران" أو " نور" كما تعودنا أن نلقبها، وهي حاصلة على بكالوريوس علوم الحاسب، سمراء، طويلة، لا هي بالممتلئة ولا هي بالنحيفة، خفيفة الحركة، وخفيفة الظل أيضاً، تجمع بين جمال القلب والقالب، وبالرغم من أنني أكبرها بأربع سنوات كاملة، إلا أننا نتوافق في كثير من الأمور، حتى أن بعض من يعرفوننا ينادونني باسمها وينادونها باسمي، رغم عدم تشابه الاسمين.

أما هذا الشارد، فهو المهندس/ يوسف سامي، مهندس ديكور، في الثامنة والعشرين من عمره، طويل، بدين بعض الشيء، أبيض البشرة، ويحلق لحيته بذلك الشكل الذي يسمونه "دوجلاس" يتمتع بجدية غير عادية، وذكاء مخيف، وثقة تصل أحياناً إلى حد الغرور، وصمت مريب في معظم الأوقات.

وأخيراً هذه التي تجلس بجوار " نور"، هي "هالة" ـ وهي أنا طبعاً ـ وأماثل جيهان ويوسف في العمر، أما عن ملامحي، فأنا ذات لون قمحي، ممتلئة قليلاً، وأتميز بأنني أقصر أفراد مجموعتنا قامة، أعمل بالصحافة، وبحسب رأي "جيهان"، فأنا صحفية نشيطة جداً، ولا أكف عن البحث عن المتاعب مع الأخبار، كعادة الصحافيين أمثالي.
هؤلاء هم كل من عرفت، وكل من أحببت.

ولقد بدأت قصتي معهم منذ زمن بعيد، وأنا في السادسة من عمري، يوم اصطحبتني أمي للمدرسة الابتدائية في يومي الأول بها، وهناك، إلتقيت صبياً يدعى "يوسف سامي"، لم أتعود نطق اسمه مجرداً أبداً ـ هاه ـ تفانين أطفال!، والأطفال لا يعرفون تعقيدات الكبار، ببساطة صرنا أصدقاء، وشاءت الصدفة أن يجمعنا فصل واحد طوال ست سنوات متتالية، هي كل فترة التعليم الأساسي، والعجيب أنني إنتقلت من مدرستي مرتين خلال تلك السنوات الست، لكنني لم أفترق عنه أبداً، فقد كان ينتقل معي، دون تدبير من أحد ودون أن يعرف أحدنا بذلك قبل حدوثه.

وبعد عامين، وأنا بالصف الثالث الابتدائي، التقيت "جيهان" حين انتقلت أسرتها للسكن بجوارنا، ومع تجاور السكن وتقارب الأهل أيضاً، صارت جيهان أقرب صديقاتي، وفيما بعد أكثر من يرى موهبتي ويرى قيمةً لقلمي وما يكتبه هي ونور، ورغم أنها لم تكن زميلة دراسة في أي سنة من السنوات التالية لمجيئها لحينا، إلا أننا كنا نمضي معظم ساعات النهار معاً، لنستذكر دروسنا، ونلعب، ونصلي ـ على ضوء الشموع ـ أيضاً.
ومرت سنوات الطفولة سريعاً، ككل شيء جميل، وما أسرع ما يختفي الجمال من حياتنا، وإضطررت خلال المرحلة الإعدادية والثانوية للإنفصال عن "يوسف"، ولكن شاءت الأقدار أن التقي به في اليوم الأول لإمتحانات الصف الثالث الثانوي، حيث جمعتنا الصدفة ـ التي قررت أن لا تتركنا للفراق أبداً ـ في مدرستين متجاورتين في فترة الإمتحانات، وللمرة الثانية في مكتب التنسيق بالجامعة، وكانت معي جيهان، وحينها تم التعارف بينهما.
لكنني لم أستطع دخول الجامعة في تلك السنة، وتم تأجيل فكرة الدراسة الجامعية بالنسبة لي إلى أجل غير مسمى، بعدها عملت كسكرتيرة بمكتب الأستاذ/ رؤوف عزمي المحامي بالنقض، ولم يكن من الممكن أن أقترب من هذا الرجل ولا أتعلم منه، وخلال أربع سنوات عملتها في مكتب هذا الأستاذ العظيم، تعلمتُ الكثير والكثير عن مجال عملهم، وتعلمت على يديه أيضاً معنى أمانة العمل، وقبلها، أمانةُ الكلمة.
وهناك أيضاً، التقيت وجيهاً، حيث التحق للعمل بالمكتب بعدي بشهر واحد، وكم حلمتُ أن ينضمَ "وجيه" إلى صحبتنا الصغيرة هذه، ويتعرف هذه المجموعة الرائعة التي حباني الله، بصحبتهم وحبهم.

لكنني تركت مكتب المحاماة بعد أربعِ سنواتٍ كاملةٍ قضيتُها فيهِ، دون أن أستطيع تحقيق حلمي الصغير هذا، وانتهت القصة عند هذا الحد، أو هكذا ظننت.

ثم تقابلتُ مع " نور" وشقيقتها "أماني" حين انضممت إلى إحدى فرق الهواة المسرحية، وكانت نقلة جديدة في حياتي، ورغم أني تعرفتُ بـ "أمانى" أولاً، إلا أن " نور" هي من قرأ أول نص مسرحي لي، وقدمته إلى المسئول عن الفرقة. بل وساعدتني بإخراج العمل أيضاً، في فترة كانت جيهان فيها مشغولة بعملها عن المسرح، عشقنا الأول، والذي جمع بيننا نحن الثلاثة، في صحبةٍ من نوع خاص، لم تنفصم إلى الآن، وأدعو الله ألا تنفصم أبداً.
ومرت السنون لكنني لم أتنازل عن حلمي القديم، ولم أنتظر الصدفة هذه المرة، لقد إخترعتها، بعد عشر سنوات من حصولي على دبلوم التجارة، حصلت على بكالوريوس الإعلام بنظام التعليم المفتوح، وقررت أن أحتفل، وفي هذا الحفل، تم التعارف بين الجميع، واكتملت دائرة الأصدقاء التي حلمت كثيراً باكتمالها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي