الفصل الخامس

ألقت بنفسها فوق المقعد منهكة بعد انتهائهامن غسيل آخر دفعة من الأطباق المتسخة، فقد تكدست أمامها الأواني المتسخة كالجبل واعتقدت بأنها ستفقد وعيها قبل أن تنتهي، فقد كان هناك احتفال خاصا بشركة مرموقة، وقد تم حجز المطعم بأكمله من أجل هذا الاحتفال، زملائها في العمل حظو بوقت ممتع في التجول بين الموائد وخدمة الضيوف، وقد نالو بقشيشا كبيرا لحسن تعاملهم وخدمتهم، أخذت تراقبهم وهم يقومون بإحصاء غنائمهم لهذا المساء، اقتربت منها جوان، وقد كانت أكبر لونا بعامين فقط:


- أنا لا أفهم! لما ترفضين العمل في تقديم الطعام وخدمة الزبائن، أنظري كم حصلو من المال.

وقفت لونا تتمطى في مكانها، وأجابت بلا مبالاة.
- أنا طموحي أكبر من هذا بكثير، ماذا ستفعل لي بضعة ملاليم قليلة، بينما أنا بحاجة ملايين.

قالت جوان ساخرة:

- لا شيء يأتي مرة واحدة، سوف تحققين أحلامك يوما ما ولكن بالتدريج يا صديقتي.

ابتسمت لونا بأمل:

- أعلم هذا، فالسماء لا تمطر نقودا.

ذهبت لونا الي غرفة ماركو بعد أن بدلت ملابسها، وحينما أذن لها بالدخول، دخلت لتراه قد فتح الخزنة التي يخفي بها أمواله على مصراعيها، كانت لونا تعلم أنه يمتلك الكثير من المال، ولكنها لم ترى مال بهذه الكثرة يوما، لذا تلبكت وتوترت وعيناها تحدق بالرزم المالية المكدسة أمامها، لاحظ ماركو نظراتها المصحوبة الي خزنته، ابتسم بخبث وتناول رزمة منهم واتجه نحوها، وهو يمد يده بالرزمة:

- تعلمين أنه بإمكانك الحصول على أي مال مني بسهولة، فأنا على استعداد أن اعطيكي كل ثروتي بكلمة واحدة منك.

آه، هذا لن ينتهي، نظرت إلي الرمزية التي أمسك بها بيده، وابتسمت بلطافة نافذة الصبر:

- تعلم بأنني لست مهتمة بهذا العرض السخي، يكفيني أن تعطيني راتبي.

عضلة في خده تقلصت، وبان الجمود والغضب في عينيه، أنها الوحيدة التي استطاعت رفض عرضه من بين جميع الفتيات اللواتي عملن معه، وهذا ما جعله يتمسك بها اكثر، فهو يريدها هنا أمام عينيه، ولن يتوانى ابدا عن المحاولة مرارا وتكرار فهي تستحق أن يبذر عليها القليل من امواله، ابتسم ساخرا وهو يخرج من جيب بنطاله مبلغ زهيدا من المال، ويمده إليها قائلا:

- تعلمين بأن العروض تنتهي بفترة قصيرة، ولكن (وشد على راتبها حينما حاولت أخذه من يده) عرضي لاجلك طويل الأمد، ومتاح باي وقت تبدلي رايك به.

ابتسمت لونا على مضض وهي تسحب المال من يده لتضعه في جيبها، وتغادر سعيدة بما جنته اليوم من عرق جبينها، حينما خرجت كان الوقت متأخرا جدا، ولم يتبقى أحدا بالشوارع، تنهدت لونا، فهي واثقة أنها لن تجد سيارة أجرة لتقلها، وموعد الحافلة قد فاتها، سارت لونا لمسافة طويلة وحينما وصلت إلي منزلها كان الوقت الثانية صباحا، كانت عائلتها تغط بنوم عميق، ولم تلبث أن تخلع حذائها الا وطرقات خفيفة حطت على الباب، نظرت لونا الي الساعة واتجهت لفتح الباب، هناك وجدت ماتيلدا، واقفة مرتعشة وعلى وجهها بقايا اثار من الدموع، سارعت لونا بسؤالها بقلق:

- ماذا هناك؟! عل ابنتك بخير؟! اخبريني؟

ماتيلدا كانت متألمة ومحرجة، لا تعلم كيف ستواجه لونا بما في جعبتها من حديث، تنفست بعمق وبدأت:
- توماس يريد أن يحادثك في أمرا ما، هل يمكنك مرافقتي الي منزلي أنه بانتظارك هناك.

عبست لونا بضيق، ذلك الأحمق لا يعرف حدودا ابدا، أخبرت ماتيلدا بلطف:

- الا يمكن لهذا الأمر أن يصبر للغد، ماتيلدا انا حقا متعبة، كما انني اعلم جيدا بأن لا شيء جيد يأتي من شقيقك، لذا دعينا نؤجل هذا للغد.

ولكن ماتيلدا اعترضت بشدة:

- لا يمكن أن أنتظر للغد، فهو ينتظرك في بيتي منذ ساعات، أرجوكي!

تنهدت لونا بضجر، وتسحبت بلطف كي لا تزعج عاىلتها وذهبت لترى الأحمق توماس ماذا يريد، كان يدخن سيجارة متجعدة وكان يهز ساقه بتوتر، وكانت نظراته شاردة، مشتتة، ولكن هذا ليس بجديدا على توماس جالب المشاكل، حالما رآها ركض نحوها مسرعا، وقال بلهجة متوسلة:

- لونا حبيبتي انتي الوحيدة التي سوف تنقذيني من هذه الورطة.

نظرت له بدهشة، وفكرت، انت اخر شخص سافكر بانقاذه من اي مصيبة، جلست متنهدة بنفاذ صبر:

- توماس! انا حقا متعبة واتوق للنوم، هات ما لديك بسرعة ارجوك!

بدأ عليه التوتر والحرج، ولكن لم يكن لديه خيار آخر لذا تنتحنح وبدأ بسرد ما لديه:

- أتى ذلك الرجل الي، لا أدري كيف تورطي معه، فأنا لم أكن اعلم بما حدث بينكما، ولكن ذلك الرجل مجنون حقا، أنه يبحث عنكي كالمهوس في كل مكان، رفضت أن أبلغه عن مكانك، ولكنه يطاردني، انا لا اعلم ماذا افعل، لذا اتيت اليك، علينا أن نجد حلا.

حاولت لونا استيعاب كلماته، فقد كان سريعا متلعثما غير واضح أو مفهوم تماما بالنسبة لها، قالت بحيرة:

- سنجد حلا حالما أفهم المقصود! توماس ما شأني بكل هذا؟!

وقف توماس متوترا وهو يمرر يده بشعره المنكوش من كثرة عبثه به:

- هل تمزحين معي؟! لونا ذلك الرجل الذي صفعته بالنادي وأهنته زعيم مافيا خطير، ذلك الرجل لا يعرف التفاهم، وهو الآن يبحث عنكي بكل مكان.

اتسعت عينا لونا حينما استدركت الأمر، وعادت بذاكرتها الي ذلك المساء المشؤوم، ذلك الرجل تحرش بها لهذا هي قامت بصفعه، لو أنه استمع اليها وعاملها باحترام، لما اهانته مطلقا، الآن لما عليه أن يصب جام غضبه عليها بينما هو من أخطأ بحقها، وقفت لونا بحدة، هي لن تخاف من ذلك السكير العجوز، هي تعلم تماما كيف تتخلص منه، إن كان يبحث عنها فليجدها اذن، نظرت إلي وجه توماس المرعوب، وقالت بغضب وببرود:
- توماس، انت تعلم بأن سبب حديثي اليك وحتى موافقتي على لقاءك هو ماتيلدا، انت لا تهمني ابدا، ولا كلماتك ولا تحذيراتك التافهة، انا لن اختبأ كالفار المذعور بسبب كلماتك هذه، وان كنت تخشى، ذلك السكير الأرعن، فأنا لن أخشاه، عد من حيث أتيت ولا تتظاهر بالقلق علي مطلقا، بامكاني حل مشاكلي بنفسي.

عادت لونا الي بيتها تحت أنظار توماس المذهولة، كانت غير مبالية فعلا وكان الأمر لا يعنيها مطلقا، والقت بنفسها فوق سريرها الذي رتبته لها والدتها في وقت سابق، وغطت بنوم عميق.

استيقظت على صوت إخوتها الصغار يتراكض ن ويلعبون في أنحاء المنزل، نظرت إلي الساعة برعب فوجدتها العاشرة والنصف صباحا، يا الهي لقد تاخرت عن جامعتها اليوم، بسرعة نهضت عن السرير وهي تسحب منشفة صغيرة علقتها فو رقبتها وهي تركض إلى دورة المياه صائحة:

- أمي كيف لم توقظيني مبكرة، يا الهي لقد تاخرت.
أغلقت على نفسها باب التواليت، أمام نظرات والدتها المندهشة، والتي كانت تربط عصبة على رأسها حاملة بيدها ملعقة طعام خشبية يتصاعد منها البخار، ثم هزت برأسها مستسلمة وعادت لتتابع عملها.

أنهت لونا حمامها سريعا، وسمعت صراخ اخواتها الصغار يطالبن بتناول وجبة افطارهم، بينما والدتها تحاول الهائهم بترتيب المائدة، اقتربت لونا من والدتها وطبعت قبلة عميقة فوق وجنتها وقالت معاتبة:

- هذه المرة الأولى التي تنسي فيها ايقاظي مبكرا، هل انتي بخير؟!

ابتسمت والدتها بحنان وهي تتابع عملها بتفاني:

- لم أنسى أبدا، ولكن على ما يبدو انك انتي من نسيتي أنه يوم السبت، وليس لديك جامعة اليوم!

اتسعت عينا لونا بصدمة، أجل صحيح أنه يوم السبت المقدس لديها، أنه اليوم الوحيد الذي تنعم فيه بالنوم حتى الظهر، جعدت وجهها متذمرة حينما أدركت بأنها ضيعت وقت نومها الثمين:

- يا لي من غبية! كيف نسيت يوم اجازتي؟! انا حقا حمقاء، والآن وقد اغتسلت وأزلت عني أثار النوم نهائيا، كيف ساعود الي النوم؟!

ابتسمت والدتها، وقالت تشاكسها:

- هذا جيد، أن اخواتك يرغبن بنزهة اليوم، دعينا نتناول الطعام ونذهب الي الكنيسة ومن ثم الي مدينة الالعاب، هل نسيتي؟! لقد وعدتيهم بذلك الاسبوع الماضي!
ضربت فوق جبهتها بادراك، بالفعل هي نسيت كل ما يتعلق بهذا الأمر، هتفت بحماسة وهي تتجه الي المائدة:

- بالفعل كنت قد نسيت، ولكن لحسن الحظ فقد حصلت على مرتب جيد بالامس، اليوم سوف نقضي وقتا ممتعا سويا.

تناولو الافطار جميعا بسعادة، وقد كانت الطفلان متحمستان جدا للخروج، لذا انهو طعامهم بسرعة واعلنوا عن استعدادهم للخروج، أتت ماتيلدا إليهم ولم تكن كعادتها مطلقا، أشفقت عليها لونا وبعيدا عن مسامع والدتها أخذت تطمىنها:

- ماتيلدا لا داعي لكل هذا القلق، صدقيني ستكون الأمور بخير.

ولكن ماتيلدا لم تكن توافقها الرأي أبدا، همست برعب تغلغل الي داخلها وتملكها طوال الليل وحتى الصباح:

- لا اعلم من اين تستمدين قوتك، أخبرني توماس بأن هذا الرجل خطير جدا، حطم كل من اعترض طريقه.

وبرغم من شعور الخوف الذي بدأ يتسلل اليها، الا انها تظاهرت بالشجاعة، فهي لا تريد لماتيلدا أن تزداد رعبا وخوفا من أجل صغيرتها المسكينة، فيكفيها هماً والما أن توماس شقيقا لها. أمسكت بيديها وهي تشد عليها بقوة:

- انا استمد شجاعتي من خالقي، لن اخاف أحدا ابدا، فأنا لم اخطىء، واخبري توماس أني على استعداد لمقابلة ذلك المتحرش، لا داعي أن يبحث عني فليحدد الزمان والمكان وساقابله.

اتسعت عينا ماتيلدا بصدمة، وهزت رأسها رافضة:

- لا تقابليه لونا، لا تلتقي به أبدا، أنه قاس لا يرحم.

كانت ماتيلدا ترتجف من الخوف، ترتجف لدرجة أن لونا لاحظت بادارك تام لمعرفة ماتيلدا بهذا الرجل، وبالرغم من ذلك تغاضت عن هذا الأمر ولم تحاول سؤالها ابدا، فقط اكتفت بابتسامة مطمئنة واكدت لها بأنها ستصل معه الي حل ما بالتأكيد.

في ذلك اليوم أمضت لونا برفقة اخواتها نهارا ممتعا، بالرغم من أنه بنهاية اليوم اضطروا للذهاب الي المستشفى، اذ تعرضت شقيقتها لنوبة ربو مفاجئة واسرعت بها الي قسم الامراض الصدريه.

همست لورا وهي تتنفس بصعوبة والدموع تسيل من عينيها الذابلتين:

- لونا؟! هل سأموت الآن؟!

هزت لونا راسها نافية واجابتها برقة:

- مستحيل ان أدعكي تموتين! نحن سنبقى معا الي الابد.

اخذت لورا نفسا عميقا بصعوبة شديدة، بالرغم من ان جهاز الاكسجين موصول بأنفها وفمها، ولكن بدا الامر مرهقا شاقا عليها.

- سعيدة لسماع ذلك، فأنا احب قضاء الوقت معكم، انا سعيدة كوني واحدة منكم.

ابتسمت لونا برقة، فهي تكره رؤية شخصا عزيزا عليها يعاني، فماذا ستفعل حين يكون هذا الشخص قطعة من روحها.

- اششش لا تتحدثي، قرييا سيأتي الطبيب ليخبرنا انك بخير وحينها سنعود سويا الي المنزل.

اغمضت لورا عينيها بهدوء وذهبت لونا لترى امها وشقيقتها، كانتا جالستين خارج الغرفة امها عيونها محمرة لكثرة الدموع، وثريا تغفو في حضنها، متهالكة من التعب بسبب ركضها طوال اليوم. اقتربت من والدتها برفق وهمست وهي تربت على كتفها برقة:

- أمي! لما لا تأخذين ثريا وتعودين الي البيت، انا سأبقى الي جانبها حتى تتحسن.

همست والدتها بصوت جريح مكسور:

- ترى هل أخطئنا لأننا تركناها تركض وتلهو ولم نمنعها؟! أكان علينا تقييدها ومنعها من الحركة؟!

ركعت لونا تمسك بيد والدتها اليائسة، وهمست مخففة عنها.

- أمي، لا يمكننا حبس الفرحة عنها بسبب مرضها اللعين! إن كان يجب علينا ذلك فيجدر بنا وضعها في قفص زجاجي ونسجنها طوال حياتها.

انفجرت والدتها بالبكاء رافضة هذا الواقع القاسي المرير:

- آية حياة هذه التي ستعيشها، هل ادعو عليها بالموت لترتاح، لا يمكنني احتمال رؤيتها هكذا، ليتني كنت مكانها ولم تكن هي في هذا الوضع!

احتضنت امها بحنان وأخذت تحاول مواساتها بالرغم من أنها بكت معها إلا أنها لم تنهار بل صمدت لأن على أحدهم أن يبقى قويا من أجل الآخرين.

أوقفت لوالدتها سيارة أجرة وساعدتها بالصعود برفقة شقيقتها الصغيرة، وبابتعاد السيارة تدريجيا من أمامها، عادت الدموع لتتجمع في عينيها من جديد وتسيل فوق وجهها، لجأت لونا إلى مقعد جانبي في الظلام تحت ضوء القمر وضمت ركبتيها الي صدرها واطلقت العنان لدموعها الحبيسة، دموع ممزوجة مع الياس والحزن والإحباط والالم، دموع من فقد الأمل وخاب رجاه في التغلب على صعوبات اقوى منه وليس بيده حيلة بها.

لم تشعر لونا باقتراب ذلك الشخص الذي كان يراقبها من بعيد، ولم تسمع صوت أقدامه لأن صوتها كان يغطي ويطغى على كل صوت اخر، ولكن حينما أطل بجسده الذي حجب عنها ضوء القمر، عرفت بوجوده، للوهلة الأولى شعرت بالخوف، وقد اعتدلت بجلستها بحذر، وهي تدقق النظر بحاجبين معقودين تحاول معرفة هوية الشخص الواقف امامها، وبنفس الوقت تستعد لاطلاق ساقيها للريح وتعود الي مبنى المستشفى حيث ترقد شقيقتها المريضة، أتاها صوته لطيفا قلقا:

- آسف! لم اقصد التطفل، كنت خرجت لادخن سيجارة حينما سمعت صوت بكاء! هل يمكنني مساعدتك في شيء؟!

وهنا انتبهت لونا الي رداءه الابيض وسماعاته التي تحيط بعنقه، إذن هو طبيب، تنفست لونا براحة:

- انا من يجب عليها الاعتذار، آسفة حقا لازعاجك، لم أستطع تمالك نفسي ...

قاطعها الطبيب مجددا متفاجئا:

- لونا؟! يا الهي أهذا انتي؟!

واقترب منها مسرعا ليمسك بيديها الباردة المرتجفة:

- ماذا تفعلين هنا؟! هل انتي بخير اخبريني؟!

أنه استاذها بالجامعة جون يا الهي أن الدنيا صغيرة فعلا، كيف تلتقيه هو دون غيره من البشر في هذا المكان، بسرعة حاولت تدارك نفسها والتظاهر بالقوة والثبات:

- يا الهي أهذا انت دكتور؟! يا لها من صدفة! انا، انا، كنت...

جلس الي جانبها وهو يمعن النظر إلي وجهها، وقال مقاطعا تلعثمها وارتباكها:

- لا تحاولي أن تخفي علي الأمر! لونا اعلم أن هناك مكروها حدث، أخبريني دعيني أساعدك، ارجوكي!

وأمام لطفه الذي لم تحصل عليه من أحد ابدا، انفجرت لونا بالبكاء وذرة التماسك التي حاولت الاحتفاظ بها انهارت ولم يتبقى منها شيء.

لم تعلم لكم من الوقت بكت ولكنها حينما انتهت وعت الي نفسها بأنها ترتمي باحضانه وقد توسدت كتفه لتذرف فوقها الدموع، كان ماتيوس لطيفا مراعيا، ولم يحاول إيقافها ابدا بل اكتفى باحتضانها ومواساتها بالربت فوق ظهرها بحنان، ابتعدت عنه لونا بحرج، فهي لم ترغب بأن تظهر أمام أحد بهذا الضعف، ولكن الحظ لم يكن حليفها هذه المرة، أخرج جون منديلا ورقيا من جيبه وأخذ يساعدها في تجفيف دموعها مما زاد من حرجها واحمرار وجنتيها، همست بارتباك:

- آسفة! كان هذا رغما عني!

ابتسم جون برقة وهو يمسك بيديها بلطف:

- لا تعتذري، انا سعيد لاني كنت هنا لاجلك! أخبريني بكل شيء ولا تخفي عني امراً، دعيني اكون صديقا لكي ولا تصديني، وأعدك بأن احتفظ بهذا سرا بيننا.

حينها ولشدة شعورها بالامتنان نحوه، بدأت تسرد عليها وضعها وظروفها ومرض شقيقتيها، حتى أنها أخبرته بأشياء لا داعي لها مثل ما مر به والدها في سبيل تعليمها، ومعاناته مع المرض وحصولها على المنحة في الجامعة، حقا تفوهت بالكثير ولكنها شعرت براحة كبيرة، شعرت وكأن هماً أزيح عن صدرها:

- هل تعمل هنا منذ فترة طويلة؟!

هز رأسه نافيا وابتسامة باهتة ترتسم فوق شفتيه:

- منذ بضعة أشهر فقط، لقد وقعت عقدا بالعمل هنا لمدة عام واحد، هل انتي معتادة للقدوم الي هذه المشفى؟!

ابتسمت برقة:

- هذه المشفى تعتبر بيتي الثاني، لهذا سالتك فهذه هي المرة الأولى التي التقيك فيها هنا.

تطايرت خصلة نارية من شعرها الاحمر هاربة من ضفيرتها المجدولة لتصفع وجنتها برفق، ودون وعي منه امتدت يده لتزيح خصلة شعرها خلف أذنها برقة وهمس بهدوء حالم:

- لحسن حظي اني التقيت بكي، دائما للقدر خططا أخرى بشأن البشر، وانا سعيدا لأن قدري قادني لالتقي بك هنا.

ابتسمت لونا باحراج وحاولت أن تبعد وجهها عن مرمى يديه، رن هاتفه لينتزعه من شروده بها، وعلى الفور اجاب فكان الاتصال من ممرضة تستدعيه لحالة طارئة:
- انا قادم في الحال( نظر إلي لونا وسألها قبل أن يتركها) بأي غرفة تمكث شقيقتك؟!

- غرفة رقم (٢٥)قسم الامراض الصدرية.

هز رأسه موافقا وهو يسرع الي الحالة المستعجلة، ملوحا له بيده:

- أراكي قريبا.

تنهدت لونا براحة، فقد أفادها التحدث الي ، من الجيد أن يجد الإنسان شخصا يشاركه همومه، ابتسمت وهي تحدق الي حيث اختفى داخل البناية وهمست بسعادة:

- أشكرك لوجودك قربي، فقد كنت مستمعا جيدا.

- أنا أيضا بامكاني الاستماع جيداً!

قفزت لونا بمكانها مرتعدة من ظهور فرانكو أمامها فجأة، ورمشت بعينيها ثلاث مرات كي تتأكد من صحة ما تراه، ابتسم فرانكو ساخرا:

- لست شبحاً، بامكانك لمسي لتتأكدي!

بالتأكيد ليس شبحا، فالشبح لن ينظر إليها ساخرا أو يحدثها شامتاً، كما أنه لا يضع هذه الكمية من العطر، شتمت في سرها وهي تبتعد عنه عدة خطوات.

- مع الأسف لست شبحاً!

واستدارت بسرعة كي تعود إلي المشفى حيث تتواجد شقيقتها المريضة، ولكنه قفز بخفة أمامها يعترض طريقها:

- الي أين تذهبين؟ هل تهربين مني؟!

هزت راسها نافية وهي ترسم ابتسامة زائفة على وجهها:

- أهرب منك؟أنت؟! هل انت مجنون! لماذا سوف اهرب من شخص قام بمحاولة فرمي تحت عجلات سيارته الفيراري ولا يفوت فرصة للسخرية مني أو تهديدي كلما وقعت عيناه علي؟! أرجوك لا تكن سخيفاً.

وتجاوزته متجهة إلي حيث ملاذها الأمن، وبشدة فاجئتها قام بجرها من ذراعها وجذبها نحو صدره الصلب وقال محذرا بصوته الاجش الرخيم:

- أنتي تلعبين بالنار!

فكرت( انا لا العب بها، بل هي من تتربص بي وتتصيدني مهما حاولت تجنبها) حاولت سحب ذراعها من يده القاسية المحكمة ولكنه شدد من قبضته فوق ذراعها حتى شعرت بالدماء تنحبس في عروقها، رجته بصوت متألم:

- أتركني، أنت تؤلمني!

لوهلة قصيرة اعتقدت أنه لن يفعل، وكانت تنوي الصراخ وعضه وركله إذا استمر في ازعاجها، ولكنه لاحظ تلون ذراعها تحت قبضته القاسية فتركها بسرعة وتراجع مبتعدا عنها خطوة للخلف، بينما سارعت لونا لتفرك ذراعها التي احمرت بفعل ضغطه عليها، ولكنه لم يتركها تذهب فهو ما زال يعترض طريقها ويمنع رحيلها من أمامه.

صاحت به بحدة، وهي تقطب حاجبيها بغضب:

- ماذا تريد مني؟! هل تلاحقني ام ماذا؟!

ارتفع حاجبيه باستنكار وقال وهو يمعن النظر بها من راسها حتى أخمص قدميها:

- تغالين كثيرا في تقدير نفسك! أخبرتك سابقا أمثالك من الفتيات لا يستهووني ابدا.

احتدت نظرات لونا إليه في ضوء القمر الأبيض، وصاحت بحدة مستنكرة أفعاله:

- اذا كان كلامك هذا صحيحا، لما تستمر في ازعاجي؟!
وضع يديه في جيبه وأخذ يدور حولها بغرور:

- صدقيني أنها صدفة بحته، فأنتي لا تخطرين على بالي أبدا، ولكن أفعالك الخاطئة هي من تضعك في طريقي! ألم اطلب منك بوضوح أن تتوقفي عن اغواء الاستاذ جون؟!

لم يعجبها تعجرفه وغروره، واذا دافعت عن نفسها أمامه سيتأكد بأنها مذنبة تماماً، لذا اجابته بتحدي وعناد واضح في صوتها:

- اعتقد بأننا لسنا في الجامعة أو بوقت الدوام، كما انك لست ولي أمر الاستاذ جون!

ابتسم ساخرا وهو يقف أمامها وينحني نحوها ليذكرها بما قالته له سابقاً:

- انا روبن هود! هل نسيتي؟!

ارتفع حاجبيها بإدراك وهزت رأسها ساخرة تجاريه:

- أجل صحيح، كدت أنسى! وانا الغاوية الشريرة التي ستنقذه منها، آه يا الهي انت بالفعل تقوم بعمل نبيل!

اقتربت منه وهمست بنفس السخرية التي بادر بها:

- ولكن من أخبرك بأنه يريد أن ينقذ؟

اشتعلت نظرات فرانكو بالغضب، هي تختبر صبره لابعد حد، وان اعتقدت بأنها ستفلت منه دون عقاب، إذن فهي مخطئة تماما، قال بنبرة تحذيرية مهددة:

- فلتستمعي لي ايتها الطالبة الجديدة، ان كنت تتربصين بجون لأجل المال، فأنا على استعداد للدفع أكثر، أما إذا كان غرضك هو نيل درجات لا تستحقينها، فهذا شيء لن تستطيعي الحصول عليه ابدا، لذا لا تضيعي وقتك الثمين وابحثي عن جامعة أخرى وأستاذ آخر، فمهنة الطب ليست للفشلة أمثالك!

- وما الذي يجعلك تجزم بأنني فاشلة؟ ماذا تعرف عني كي تتهمني بمحاولة اغواء أستاذي؟ حتى لو اردت اغواءه من أنت لتحاسبني؟!

انحدرت نظراته لتحوم فوق جسدها النحيل باحتقار تام، جعل القشعريرة تدب في أوصالها، وقال باشمئزاز وهو يلمس خصلة هربت ثائرة من عقدة شعرها الناري:

- اه أرى أنك متحمسة جدا كي تثبتي لي مهارتك الخالصة، أؤكد اني لا أمانع، فالبرغم من أنني أفضل الشقراوات الا انني لن أرفض عرضك المغري أبدا وسيسعدني أن أعرف عنك الكثير، أنا أثق جدا بمهاراتك.

كانت إهانته لها أشد من أن تحتملها، هي حقا لم ترغب بالتمادي معه أو حتى صفعه ولكن دون إرادتها ارتفعت يدها لتهوي بقوة فوق وجنته، فرانكو لم يستطع تفادي صفعتها لانه ابدا لم يتوقعها، ولكن نظراته المستعره التي ارتكزت عليها جعلتها تتمنى لو انشقت الأرض وابتلعتها قبل أن ترفع يدها عليه، ولكن هو من قادها الي هنا بأسلوبه المستفز الوقح، وبدلا من أن تفر هاربة من أمامه، هددته بجرأة لم تشعر بها فعلا:

- هذه هي اخر مرة أسمح لك باهانتي بها! الافضل لك أن لا تعترض طريقي مجدداً.

وقبل أن تستدير مبتعدة عنه جذبتها يداه بقوة نحوه وقبل حتى أن تدرك حقيقة ما حدث، قام فرانكو بتقبيلها بقوة وعنف، لم تستوعب لونا الأمر تماما اذ اتسعت عيناها بصدمة كبيرة وحاولت انتزاع نفسها من بين ذراعيه، ولكن يديه احاطتا بها بقوة محكمة وقيد حركاتها تماما، لم يكن أمامها سوى تحريك رأسها يسرة ويمنة تحاول تخليص نفسها من الورطة التي وقعت بها.

ولكن فرانكو لم يترك لها مجالا ابدا فقد كان خبيرا في هذه الأمور، وهي كانت عديمة الخبرة تماما فهي لم تسمح لأحد بلمسها ولو بدافع الصداقة، وجميع محاولاتها الإفلات منه بائت بالفشل، كانت قبلته قاسية عنيفة لم يكن بها شيئا من الرقة والعذوبة، كانت بمثابة عقاب مؤلم لها شعرت على أثره بتورم في شفتيها، وكي تخلص نفسها لم تجد حلا سوى أن تعض شفتيه التي كانت تحاول إخضاعها والسيطرة عليها، ولكم كانت سعيدة حينما رأته يتقهقر بعيدا عنها دافعا اياها بقوة أسقطتها أرضا، بينما حدق بها بصدمة وعيون متسعة، تلك الفتاة قد تجاوزت حدودها معه وابدا لن يتركها تهرب بفعلتها، كان صدرها يعلو وينخفض مع ايقاع أنفاسها المتسارعة وكانت نظراتها متحدية منتصرة، وكأنها خاضت حربا لتوها، اقترب منها فرانكو غاضبا وانحنى نحوها بشفتيه الدامية، وهمس بغل وحقد اشتعل داخل عينيه الزرقاوان:

- تأكدي باني سأجعلك تندمين على هذا، سوف أجعلك تتمنين الموت، ولن تجديه أبدا!

قال كلماته هذه ورحل عنها، تاركا اياها تنتفض من الخوف والغضب والألم، بالفعل كلماته إصابتها في الصميم، وهذه المرة تأكدت بأنها لن تنجو من بطشه أبدا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي