الفصل الرابع

راقبت لونا الوافدين والجالسين والسكارى الهائمين، وهي مشمئزة من جميع ما يحيط بها، اقترب رجل بدى في العقد الرابع من عمره، يحمل بيده زجاجة نبيذ وباليد الأخرى سيجارة مهترئة، مال إليها هامسا:

- راقصيني ايتها الجميلة!

نظرت لونا بسرعة الي توماس، تحاول الاستنجاد به، ولكنه لم يعرها اي اهتمام فقد كان منهمكا جدا في التركيز على العجلة الدوارة التي ستمكنه من الفوز، عادت لونا بنظرها إلى الرجل الاربعيني، قائلة بأدب جم:
لونا لم تحتمل قربه أكثر، كما أن الالم في ظهرها بدأ يشتد، دفعته بكلتا يديها في صدره كي يتنحى عن طريقها، وبسرعة قفزت من أمامه مبتعدة عنه تتنفس الصعداء، ذلك الحقير يتلاعب بها ويسخر منها، التفت إليه وهي ترفع يدها مهددة متوعدة:
لا تعتقد بأنك تخيفني، فأنا أعلم...
وتطايرت باقي عبارتها في الهواء حينما رأت الوشم الضخم الذي رسم على ظهره، ورغما عنها أفلتت منها صيحة عالية، حينما تذكرت ما يعنيه هذا الوشم، وأين رأته سابقاً، وما الضجة التي أثارها هذا الوشم مؤخرا في أنحاء بلادها، أن توماس لم يخدعها أبداً، فقد أخبرها بأنه زعيم مافيا لا يرحم ابدا، ولكن كيف لها أن تتورط معه دون عن غيره، ذلك الكوبرا الذي ملأت أخباره الصحف والمجلات ومواقع الانترنت، ذلك المجرم الذي ينهب ويقتل دون رحمة، المسؤول الوحيد عن انتشار المخدرات والهيروين، وضياع العديد والعديد من الشباب والفتيات وتشرد الأطفال، استدار ميخيل نحوها ببطىء حينما توقفت عن الاسترسال في تهديدها الواهي، واتسعت ابتسامته الخبيثة وقد رأت الشر واضحاً في عينيه الحادتين، كان سروره عظيما حينما رأى جمودها، وقد شعر بالفخر للصيت المخيف الذي أشاعه لقبه في أنحاء بلاده، لونا لم تستطع الحراك ابدا من مكانها، بالرغم من أنها رغبت كثيرا لو تطلق لساقيها العنان وتفر من امامه، ولكن بكل بساطة قدميها لم تستجب لنداء عقلها، وبقيت متسمرة في الأرض تراقب تقدمه منها بخوف، امتدت يده إلى وجهها الشاحب وأخذ يمرر اصبعه السبابة صعودا ونزولا فوق وجنتها الباردة وهو يمعن النظر في شفتيها المرتعشتين:
لا تخافي يا أميرتي، لا اريدك أن تخافي مني ابدا، كل ما أريده هو حمايتك فقط.
وهنا تذكرت لونا توماس، وارتعبت من فكرة أن يكون هذا المجرم قتله بسببها، تراجعت للخلف مبتعدة عنه وسألت متلعثمة وهي تحاول السيطرة على أفكارها المتلاطمة:
ماذا فعلت بتوماس؟!
نظراته الرقيقة احتدت، وزم شفتيه بغضب شديد التمع في عينيه القاسيتين، وضع يده بجيب سرواله وأخذ يدور حولها كما يدور الأسد حول فريسته، وقال متوعداً:
هذا يترتب على ما سوف تخبريني به؟!
لونا لم تفهم ما يقصده تماما، وازداد قلقها على توماس، فبالرغم من عدم محبتها له، الا انها لا تتمنى الموت له ابدا، على الأقل لم ترغب أبدا أن تكون سببا في موته، همست مترددة:
ماذا تعني؟! هل...هل...
تابع بقسوة مكملا جملتها الناقصة:
قتلته؟!...ليس بعد، ولكن اجابتك هي ما ستحدد اذا ما كان مصيره الموت.
هزت رأسها بعدم فهم، كيف ستنقذه بجوابها:
لم أفهم! لما سأكون السبب في تحديد مصير ذلك الغبي.
صفق بيديه بقوة مرتين، وانحنى نحوها هامساً بوعيد:
سنرى هذا الان.
وعلى الفور فتح باب القصر الداخلي على مصراعيه، وظهر توماس بالمدخل، كان مازال بحال مزرية، ولكنها كانت سعيدة جدا لانه ما زال على قيد الحياة، ركضت نحوه بسرعة وجثت بقربه على ركبتيها حينما سقط أرضا يئن وينوح:
توم أيها الأحمق! سوف تخسر حياتك بسبب تصرفاتك الطائشة!
توم لم يصدق وجودها أمامه فهو يعلم جيدا بأنها لا تحبه أبدا، ولن تحرك ساكنا في سبيل انقاذه، ولكن على ما يبدو أنه أساء الحكم عليها، فصغيرته الجميلة، ليست قاسية القلب ابدا، ولم تتوانى يوما عن نجدته ونجدة شقيقته، همس ساخرا بابتسامة جانبية، ودقات قلبه تزداد فرحا وشعورا بالأمان للمساتها الحنونة الرقيقة التي أخذت تمسح الدماء عن وجهه المتورم وعيناها تدمع بخوف وقلق:
يبدو أنني في الجنة! فلونا التي اعرفها يستحيل أن تخاف أو تدمع عيونها لأجلي!
تنفست لونا براحة كبيرة، أنه بخير، ذلك الأحمق الغبي، إن لم يقتله رجل الكوبرا هذا، فستفعل هي بنفسها! وبالرغم عنها فاضت عيونها الزمردية بالدموع، وأخذت تصرخ عليه بحنق وغضب:
ماثيو انت غبي جدا، أمثالك مكانهم الجحيم وليس الجنة، حينما نخرج من هنا سأرسلك الي الجحيم بنفسي.
رفع ميخيل عيونه الي السماء ضجرا من حوارهما الممل، اقترب ليقف أمامها وانحنى نحوها هامساً.
اعتقد بان ما رأيته كاف لتقرر ما هو مصيره.
وباشارة من يده انقض رجاله على توماس يسحبونه بعيدا عنها، حاولت التشبث بجسد توماس لتوقفهم عن أخذه بعيدا عنها، ولكن دون فائدة فقد أخذوه واختفو خارجا تماما كما دخلو، ركضت نحو ميخيل غاضبة:
توقف عن إثارة غضبي! الي أين أمرت رجالك بأخذه.
ابتسم ساخرا وهو يكرر ما قالته سابقا لتوماس:
ألم تقولي بأن أمثاله مكانهم الجحيم! أنا ماهر جدا بإرسال البشر الي الجحيم.
هزت رأسها بسرعة معترضة وهي تتشبث بذراعيه القاسيتين:
لا!! أنا لا أريده أن يذهب للجحيم، أرجوك لا تؤذه، إنه احمق بالفطرة ولكنه لا يستحق الموت، أرجوك لا تقتله.
ضاقت عيناه فوقها حينما رأى لهفتها، وبكلمات غاضبة سألها:
هل هو حبيبك؟!
وحينها فهمت لونا سبب رغبته بقتله، فسارعت تنفي ظنونه بسرعة:
ليس حبيبي على الاطلاق! لا شيء يربطنا ببعضنا البعض سوى صديقتي الطيبة ماتيلدا!
عضلة في وجنته برزت واشتدت وقست عند ذكرها اسم ماتيلدا، الا انه أشاح بنظره بعيدا عنها مخفياً اللهفة التي سرعان ما خبت داخل عينيه:
اذن لا بأس! ساعفو عنه واتركه لاجلك فقط.
راقب ميخيل الابتسامة التي أضاءت وجهها الباكي، وشعر بضربات قلبه تتسارع دون إرادة منه، وأخذ يراقب تعثرها في الكلمات وهي تحاول شكره والتعبير عن امتنانها، فامتدت يده نحوها وجهها الجميل برقة ليلمس وجنتيها الرطبتين بدموعها الآنية، وهمس بصوت أجش وهو ينحني نحوها:
اشش، توقفي عن شكري، فلا شيء بدون مقابل يا حلوتي.
وبسرعة تلاشت ابتسامتها تماما كما ظهرت، وارتجفت شفتيها بتوتر وعينيهيا المرتعبتين تكيل له الشتائم واللعنات، ولكن هما تشعر به كان آخر همه، اتسعت ابتسامته الخبيثة، وصاح بها أمرا وهو يفتح أحد الأبواب ليختفي خلفه:
اتبعيني...حتى نتفق، أذا أحببتي أن نتفق طبعاً!
راقبت اختفائه والحنق والغضب يتاجج داخلها، فكرت بغيظ ( ايها الأفعى الغليظة، هل صدقت انك كوبرا؟! أيها الأحمق راقبني كيف ساتخلص منك بسهولة وارميك خارج حياتي بكل بساطة) تنفست بعمق وعدت حتى رقم عشرة، ورفعت رأسها بثقة وسارت تلحقه بكل هدوء.
وجدت نفسها داخل غرفة مكتبه، كانت غرفة واسعة مهيبة، وغير مريحة اطلاقا، نظرت إلي أثاثها الفاخر والمكتب الضخم المتروس في وسط الغرفة، والسجادة السوداء الوثيرة، كان المكتب مصمم بذوق حاد قاتم وغير مرضي ابدا لذوق امرأة، أي امرأة وليس ذوقها هي فقط، وجالت بعينيها الي سقف الغرفة وجدرانها، لتجد مصدر عدم راحتها، وتكتشف سبب الرهبة والقشعريرة التي دبت في أوصالها، سقف الغرفة كان مكسو بجلود الأفاعي، جلود طبيعية لأفاعي حقيقية، بينما علق رؤوسها فوق جدران الغرفة، رؤوس متعددة لافاع متعددة الأشكال والألوان، كان ميخيل يراقبها باستمتاع، فقد كانت هذه الغرفة مصدر فخره، ومنها يستمد قوته، كان يحب رؤية وجوه ضحاياه الذين يسقطون في شركه، حالما يدخلهم الغرفة ويرى الرعب الذي يرتسم على وجوههم عند رؤية أفاعيه المحنطة، ولكن ما رآه على وجه معشوقته الصغيرة، لم يكن رعبا ابداً، بل كان قرفاً واشمئزازاً، وهذه ردة فعل تختلف تماما عما توقعه، وتذكر شقيقته مرة وعشيقاته العديدات اللواتي دخلن الي هذه الغرفة سابقاً:
ميخيل هذه الغرفة لن أدخلها ما حييت، لا أعلم كيف تعيش داخل عالم الرعب هذا، أن غرفتك تعبر عما بداخلك وهذا لا يروق لي أبداً!
كانت شقيقته الصغيرة، اغلى ما يملك في الوجود، فقد توفت والدته بمرض السرطان الخبيث وهو في ٢٦من عمره وتولى رعاية شقيقته الصغيرة ذات ال ١٤عاما، كانت مدللته وطفلته وكل شيء في حياته، حتى أنه لم يتزوج لأجل أن يتفرغ لها تماما، وعاهد نفسه بعد أن قتل والده على أيدي عصابات المافيا المنافسة له في التجارة والنفوذ والسلطة، أن لا يتزوج وينجب الاطفال الي بعد أن يطمئن عليها، والان بعد أن أتم خطبتها قرر أن الوقت حان ليتخذ له عشيقة أبدية، وحال اتخاذه هذا القرار صادف هذه الجميلة، وبالرغم من أنه لم يكن في وعيه تماما الا انها سحرته منذ أن وقعت عيناه عليها، فبحياته لم تتجرأ انثى اي أنثى على صفعه أو احتقاره واهانته، فقد رأى عنفوانها، بنظراتها الواثقة القوية، وظلت هذه النظرات تلاحقه حتى بعد أن آفاق من سكره وتذكر فعله الشائن، فقد أمل أن ينسى تلك العيون الخضراء الزمردية، ولكنها طاردته بكل مكان، وازعجت احلامه، وانتزعت راحة باله منه، لا يستطيع التصديق أنها تقف أمامه في هذه اللحظة، ولا يمكنه وقف تدفق الادرينالين في عروقه، من تحميه لفكرة حصوله عليها، فهي ستكون ملكه شائت ام أبت، أتاه صوتها الرقيق بنبرة ساخرة:
لما أشعر وكأنني داخل مقبرة للأفاعي؟! لا أفهم كيف تمكث هنا وتحتمل هذه الرائحة؟!
عبس وهو يحاول أن يستنشق اكبر كم من الأكسجين داخل الغرفة، ولكنه لم يشتم شيئا ابدا، نظر إليها يحاول سبر غورها، هل هي جادة؟! ام انها تسخر منه تلك المغرورة الصغيرة:
أي رائحة تقصدين؟!
اقتربت منه وانحنت فوق مكتبه هامسة بصوت مخيف، لا تريد لغيره أن يسمعه وكأنه سر غير معلن:
رائحة الموت! ( واسترسلت وهي تشير الي تماثيل الأفاعي المحنطة) خيراً فعلت بهذه الأفاعي، فأنا أكرههم وأشمئز كثيرا منهم.
لا يعلم ميخيل إن كانت ما زالت تتحدث عن الأفاعي فقد شعر بأنها توجه له إهانة غير مباشرة، راقبها وقد تراجعت للخلف مبتعدة عنه لتجلس فوق المقعد المقابل لمكتبه، وقالت بكل هدوء وثفة، هي نفسها لا تدري مصدرها:
كلي أذان صاغية، ماذا تريد؟!
تراجع في مقعده للخلف، وهو يمعن النظر إلي ملامحها الجادة، فكر بنفسه هذه الفتاة تتغير على حسب اهوائها، فهو لم يقابلها الا لساعات فقط، وفي هذه الساعات القليلة، تعاقبت أمامه فصول مزاجها المتقلب، ما بين وخوف وغضب ومن ثم سعادة وغرور، هذه الفتاة المزاجية ستقلب حياته رأسا على عقب بالتأكيد، وهو واثق بأنه سوف سيستمتع بترويضها:
أريدك أنتي!
خاطبت نفسها تعزز ثقتها بنفسها لتصمد أمامه أكثر، فهي تعلم أنه يحاول اخضاعها، وبث الرعب في قلبها، اختطافها، وتعذيب توماس، وأسرها لساعات وحيدة في غرفة نومه، والان هذه الغرفة الباردة الموحشة، كل هذه الضغوط التي يمارسها عليها ليس إلا للسيطرة عليها والتحكم بها، رفعت نظراتها إليه ورسمت ابتسامة ساذجة ساخرة:
لماذا؟! أترغب بسلخ جلدي عن عظمي، وتعليق رأسي على جدار هذه الغرفة الكئيبة بين افاعيك المحنطة؟!
ابتسم معجباً بجرأتها، خاصة وأنه يعلم كم كانت ترتعب خوفا منه قبل قليل، هز رأسه نافيا وهو يطيل النظر إليها بإعجاب خفي:
هناك مكان وحيد أرغب بتوق رهيب لسجنك داخله الي الأبد!
لونا فقدت رغبتها بلعبة القط والفأر التي يلعبانها، فهو يدور حول الموضوع ولم يدخل في صلبه أبداً، عادت لارتداء قناع الشجاعة وقالت بنفاذ صبر:
أخبرني بما تريده؟! دعنا ننهي هذه المهزلة؟!
وقف في مكانه ودار حول مكتبه ليشرف عليها بطوله الفارع، وقال بنزق:
انتي مدينة لي، فقد صفعتني أمام الملأ، وهددتني، ورحلتي كأن شيئا لم يكن!
اتسعت عيناها بصدمة، كيف يتهمها بهذا الاتهام، يا الهي ذلك الأحمق الذي يقف أمامها الآن لا يشبه ذلك العجوز السكير الذي صفعته في ذلك اليوم المشؤوم، وقفت بحدة معترضة على اتهامه الباطل وهي تصرخ وتلوح بيديها:
يا الهي! انت بالفعل لا تصدق! هل صفعتك دون سبب؟! هل جررتك من يدك الي ساحة الرقص وارغمتك على مراقصتي أمام الملأ؟! هاي ايها اللعين المغرور، هل نسيت ما فعلت أم أذكرك بتحرشك بي أمام الجميع؟! يا الهي! كيف تجرؤ على لومي وأنت من أذنب في حقي؟! برأيي فقد استحققت تلك الصفعة وبجدارة، وان عاد بي الأمر لذلك اليوم مجددا، سأصفعك مرارا وتكراراً ودون ندم، ولا تعتقد بأن تلك الكوبرا على ظهرك سوف تخيفني أو تثنيني عن مبادئي.
أنهت جملتها وهي تشدد على كلماتها بقوة وغضب دفين، ذلك اللعين يختبر صبرها، فقد أخرج أسوأ ما بها بعد لحظات من اتخاذها قرار مجاراته وتفاديه، كان صدرها يعلو ويهبط بفعل تسارع انفاسها، فالغضب رغما عنها اجتاحها وتملكها، وفقدت السيطرة على عقلها ولسانها! والان بعد أن ألقت ما بجعبتها نحوه، وتخللها الهدوء والراحة، شعرت بفداحة تهورها عندما ارتسمت رده فعله داخل عينيه السوداوين الحادتين، ولكن لم يكن هناك مجال للتراجع وابتلاع كلماتها التي أغضبته، ولكنه ابتسم ساخرا وعاد إلى جرار مكتبه ليخرج من داخله ظرفا مغلفاً، والقاه نحوها آمرا:
افتحيه.
عبست لونا وهي تفتح الظرف بيدين مرتعشتين، كان الظرف يحتوى على صور لها ولشقيقتيها ووالدتها، خلال رحلتهم بالأمس، الشخص الذي قام بالتقاط الصور لهم لاحقهم من مكان الي آخر ولم يتركهم ولو للحظة، من ينظر لهذه الصور سيعتقد بأنهم عائلة سعيدة هانئة لا يعانون من المشاكل، ارتفعت عيونها الدامعة لتصطدم بنظراته الساخرة، ذلك الوغد، هل يهددها الان بعائلتها؟!
وكأن نظراتها الدامعة الغاضبة أعطته الاذن بمتابعة حديثه الكريه:
اعتقد بأننا الآن سوف نتفاهم!
أعادت الصور الي الظرف بعناية، وزفرت أنفاسها بتعب وسألته بصوت كسير:
ما هي طلباتك؟!...الأمر بيني وبينك، اترك عائلتي خارج الموضوع.
هتف ساخرا مصفقا بيديه:
فتاة عاقلة!
- أشكرك سيدي، ولكني لا أرغب بالرقص.

ضحك الرجل ساخرا، ومد أصابعه الغليظة ليمسك بذراعها ويسحبها لتقف بمواجهته، قائلا بثقة وغرور:
- هيا يا فتاة! سأدفع لك الثمن الذي تريدينه، فقط كوني رفيقتي.

وبالفعل انتزعها من مقعدها بسهولة وجرها خلفه الي ساحة الرقص، لونا كادت تموت من الخوف، وكانت نظراتها مركزة على توماس الذي لم يلاحظ شيئا مما حدث، وهي كانت تحاول أن تحل الموضوع بعقلانية، كي لا تلفت الإنتباه اليها، وقفت في ساحة الرقص الواسعة، تنظر إلى الراقصين الذين يتمايلون حولها، بمجون واستهتار، ومن ثم عادت بنظراتها لرفيقها الغليظ، وقالت بصوت عال، كي يستطيع سماعها:

- ٱسفة! أنا لا أستطيع الرقص، بالاذن منك.

واستدارت عائدة الي طاولتها، الا ان الرجل الغليظ أحاط بها من خاصرتها وسحبها نحوه لتصطدم بصدره بغتة، شهقت لونا بصدمة، فقد تجاوز هذا العجوز كل توقعاتها، وهي كانت تحاول تفادي المشاكل في هذا المكان المريب، ولكن على ما يبدو أن المشاكل لا تتفاداها، وكان ذلك الرجل يضمها بشدة إليه من ظهرها، وبدأت يديه تحومان فوقها بجرأة وقحة، مما دفع لونا لأن تدوس فوق قدمه بقوة، وفي الحال شهق الرجل متألما شاتما، وانتهزت.

لونا الفرصة لتحرر نفسها من بين ذراعيه، ولكن يديه انطلقنا مجددا كي تمسك بها، فتملصت لونا منه بسرعة وقد بلغ غضبها ذروته، والتفتت اليه، توجه له صفعة حادة حملتها كل غضبها ومقتها نحوه ونحو المكان الذي اضطرت لدخوله، وعلى أثر الصفعة عم الهدوء المكان، وتوقف جميع الراقصين عن اللف والدوران، وتركزت الأنظار عليهم، ما بين مصدوم ومندهش، وساخر، والقلة القليلة آسفون، على ما سيصيب هذه الفتاة، الا ان لونا لم تهتم، فقد حاولت معه بالذوق، ولكن هو من أراد هذا، رفعت اصبعها بوجهه، محذرة مهددة:

- اياك ولمسي أو الاقتراب مني! كان يجدر بك الاستماع إلي اعتراضاتي بدلا من ارغامي على رفقتك، حاول لمسي مجددا وأعدك بأنك سوف تندم!

ألقت كلماتها بوجهه وعادت إلى طاولتها، لترى توماس يضم النقود التي ربحها إلى صدره فرحا مختالا، نظرت إليه باشمئزاز، ذلك الوغد لا يوثق به ابدا، نظرت إلى المبلغ الذي يحتضنه بذراعيه، وسحبت منه رزمة كانت أكثر بقليل مما سرقه من شقيقته، وقالت لتوماس بحدة قبل أن تنسحب من أمامه:

- إن عدت الي حينا مجدداً، سأبلغ عنك الشرطة بتهمة السرقة، وساتاكد بأنك لن تخرج أبداً هذه المرة.

خرجت تلاحقها الأنظار المصدومة والمعجبة بشجاعتها، خرجت وهي لا تعلم باي مأزق أوقعت به نفسها، خرجت شامخة منتصرة مرفوعة الرأس وقد حصلت على ما أرادته.

كانت فرحة ماتيلدا لا توصف بعودة مالها اليها، وكانت فرحة لونا تماثلها بل أضعافا مضاعفة، فماتيلدا؛ كانت خير عون لها بعد موت والدها، ولطالما شعرت لونا بالامتنان لها لوجودها بقربهم في تلك الأوقات الصعبة، وقد كانت سعيدة لأنها استطاعت مساعدتها والوقوف إلى جانبها في محنتها، في تلك الليلة نامت لونا الجميلة مرتاحة قريرة العين، وقد شعرت بأنها قامت بإنجاز كبير وخطير، وخرجت منه بأقل الأضرار.

كانت المحاضرة شيقة جدا وبها كم كبير من المعلومات التي تاقت لها لونا، وقد نالت إعجاب جون ببراعة للحد الذي لم يستطع انتزاع عينيه عنها، فقد كانت طالبة مجتهدة وقد لاحظ ذكائها ونباهتها وتعطشها للعلم وجمع المعلومات، وفي نهاية المحاضرة طلب منها انتظاره قبل أن تفر هاربة كعادتها، وعلى مضض بقيت لونا في مكانها وقد شعرت بنظرات زملائها تخترقها مستنكرين طلب دكتورهم الصريح بالاختلاء بها، وبخيبة وإحراج راقبتهم يبتعدون حانقون وعلامات الاشمئزاز ترتسم على وجوههم، كان بإمكانها رفض طلبه بكل بساطة ولكنها لم ترد أن تسبب له الاحراج أمام طلابه، ولكنها الآن ستتحدث معه بشكل مباشر وواضح، فهي لا تريد أن يساء فهمها، اتجهت إليه بخطوات واثقة وهي ترسم ابتسامة مهذبة فوق شفتيها، وقالت برسمية شديدة:

- المحاضرة كانت شيقة جدا دكتور، لقد استمتعت بها حقا.
أجابها جون بحبور وفخر:

- صراحة الطلاب المجتهدون امثالك فقط من يلاحظون ذلك، انتي بالفعل طالبة مثالية واتوقع لك مستقبلا باهراً.

قالت لونا باحراج:

- هذه شهادة اعتز بها حقا، إذن سأغادر الآن، اذا لم يكن هناك أمرا هام...

عبس جون بضيق وقال وهو يمعن النظر إلي تعابيرها الجادة:

- أشعر وكأنني افرض نفسي عليكي، اذا كنت منزعجة مني...

قاطعته لونا بسرعة، فهي لا تريد أن تكسر خاطره، وعليها أن تكون صادقة معه كي تتجنب المشاكل لاحقا:
- لا ازعاج على الاطلاق، الحقيقة أنا احترمك كثيرا واقدرك، كل ما في الامر...لا اريد أن يساء فهمنا...انت تفهمني أليس كذلك؟!

راقب جون تعثرها بالكلمات وفهم تماما ما أرادت أن توصله اليها، وهي محقة بلاشك خاصة وأنه لم يستطع انتزاعها من رأسه من أول لقاء، ولكن فكرة أن تتجنبه أمرا لم يعجبه مطلقا، قال بجدية:

- بالتأكيد أفهمك، ولكن أن يجتمع دكتورا مع طالبة متفوقة مثلك في دروسها ليس بالأمر الذي يساء فهمه.
وبلحظة إدراك سألها، وهو واثق من اجابتها:

- هل ازعجك أحد بهذا الشأن؟! هل قام أحدهم بالإساءة إليكِ.

سارعت لونا بالنفي، انه موضوع شائك وهي تفضل تجنبه تماما:

- ابدا، على الاطلاق، ولكني آخذ حذري فقط ليس إلا.
هز برأسه متفهماً، هي ما زالت في بداية الطريق وبالتأكيد هناك من يزعجها، وهو تكهن من هو فعلا، لذا لن يضغط عليها كثيراً وسوف يحل الأمر بينه وبين ذلك المدلل رجلا لرجل.

- لا بأس، انا أفهمك تماماً، حسنا أعطني هاتفك سأجل رقمي لديكي كي نستطيع التواصل بشأن الدروس المستعصية.

عضت شفتيها بحرج، فهي لا تملك هاتفا، ولكنها تنوي الحصول على واحد قريبا:

- ليس لدي هاتف! ولكن أعطني رقمك، واذا احتجت شيئا بخصوص المحاضرات، سأتصل بك بالتأكيد.
سارع بإخراج قلمه من جيبه، وخط رقمه سريعا وأعطاه لها مبتسما:

- اياكي والتردد بشأن اي سؤال، سأكون موجودا دائما لاجلك.

أخذته لونا شاكرة ومحرجة في نفس الوقت، فهي بدأت تشعر بعدم الراحة حياله، فهو بدى واضحا جدا، لدرجة لا يمكن أن يساء فهمها.

وما أن خطت خارج القاعة، امتدت يد بحركة سريعة تسحب الورقة من يدها، التفتت بسرعة متذمرة واصطدمت عينيها بعيناه الرماديتان الساخرتان، تشدق وهو يقرأ رقم جون:

- قلبي الصغير لا يتحمل! انتي سريعة جدا، حقا تغلبتي على سابقاتك من الفتيات.

حاولت سحب الورقة من يده ولكنها لم تستطع فقد رفع يده عاليا، ونظر إليها من فوق بتعجرف وغرور:
- اعدها إلي! ليس من حقك التدخل في شؤون الغير.
ضحك فرانكو ساخرا، وهو يتراجع مبتعدا عنها، ووضع الورقة بجيب سرواله الجينز:

- خذيها بنفسك أن استطعتي!

زفرت لونا بغضب، يبدو أنها لن تستطيع التخلص منه بسهولة، لحقت به إلي الخارج وراقبته وهو يتجه الي مقهى الجامعة، اختار طاولة منعزلة، وجلس إليها واضعا ساق فوق أخرى، ونظر نحوها بابتسامة خبيثة على جانب فمه الغليظ، وأشار لها بيده أن تأتي وتأخذ المقعد الذي يقابله.

وبخطوات يائسة نافذة الصبر اتجهت اليه، ومن بين أسنانها المغلقة قالت بغيظ:

- ماذا تظن نفسك فاعلا؟!

ابتسم ببراءة كادت تفقدها صوابها:

- أدعوك لفنجان من القهوة! هل هذا خطأ فادحاً؟!
ألقت لونا نظرة سريعة حولها، تتأكد أن الأنظار ليست منصبة عليهم، ولكن لسوء حظها، يستحيل أن يتواجد فرانكو في مكان لا تحيط به النظرات، تنهدت باستسلام حينما أشار لها بعينيه أن تجلس لتشاركه فنجان القهوة، جلست مغلوبة على أمرها فهي لا تريد أن تثير جلبة لا داعي لها، ليس وكل هذه الأنظار تحيط بهم، ابتسم فرانكو بانتصار، ورفع يده مشيرا إلي النادل أن يجلب فنجانين من القهوة، بينما لونا كانت تراقبه بغيظ وضجر، قالت بحدة:

- ماذا تريد؟!

- أنتي!

كانت إجابته سريعة، فظة، وفي غير محلها ابداً، جعلت عينيها الخضروات تتسعان بصدمة، وضربات قلبها تكاد تقفز خارج صدرها، ولم تعي أبداً أنها كانت تكتم أنفاسها، ارجع ظهره للخلف قليلا ساندا ظهره بوضع أكثر راحة، يراقبها بابتسامة ساخرة في عينيه، وأصابعه تدق فوق الطاولة بضربات رتيبة مزعجة، اخرجتها من ذهولها المفاجىء لرده الصريح الوقح، أطلقت نفسها المكتوم، وهي تهرب من نظراته المتفحصة، وشعرت وكأنها مكشوفة جدا وواضحة أمامه، حاولت استدراك الموقف وتجاوز تلك اللحظة الثقيلة بابتسامة ساخرة تماثل ابتسامته:

- هل يجدر بي ان أشعر بالغرور أو الاطراء؟!

علت وجهه تعابير الغرور والاشمئزاز وهو ينحني بجسده نحوها:

- لا هذا ولا ذاك!

وانحدرت عيناه على جسدها بنظرة مهينة متابعاً:
- فلا يوجد بكي ما يثيرني.

لمح في عينيها الخضراوان اللامعتين ارتباكها لرده القاسي، بينما حاولت التماسك أمامه وتظاهرت بأن إهانته لم تؤثر بها على الاطلاق، ولم تفتها نظرة الانتصار في عينيه الحادتين، فقد أصابها في مقتل، وجرح مشاعرها، وهز ثقتها بنفسها، تراجعت للخلف بمقعدها، ونظرت إليه ببرود وهي ترسم ابتسامة جافة فوق شفتيها الجميلتين:

- لحسن الحظ مشاعرنا متبادلة، إذن ما دمنا متفقين على ذلك، دعنا ننهي سوء الفهم بيننا، ولا يعترض أحدنا طريق الآخر.

أتى النادل بفنجانين من القهوة وضعهم على المائدة أمامهما وانسحب بهدوء حالما لاحظ الجو المشحون بينهما، تناول فرانكو رشفة من فنجانه، وتنهد بسعادة وهو يستمتع بطعم القهوة المر اللاذع:

- لا شيء يضاهي فنجان قهوة في يوم عصيب.

عبست لونا، وهل لامثاله أيام عصيبة، كالتي تمر بها كل يوم، يا للسخرية، لاحظ فرانكو تعابيرها الساخرة كردة فعل على عبارته، تفحصها بنظرات باردة مستنكرة، وقال بحنق ظهر واضحاً جدا في طيات كلماته الحادة:

- نحن أيضا بشر ونعاني من أوقات صعبة أحياناً سواء صدقتي ام لم تصدقي.

اللعنة، لما يكون بإمكانه دائما ترجمة تعابيرها وقراءة أفكارها، أن التواجد معه في مكان واحد يوترها ويعيث خرابا في داخلها، فكيف حينما تكون مضطرة للجلوس أمامه وتبادله أطراف الحديث وكأنه الأمر الأكثر طبيعية على وجه هذه الأرض، زفرت لونا بنفاذ صبر قائلة:
- لا اعتقد بأنك جلبتني الي هنا لتحدثني بهذا الأمر، أعد الي ما هو لي ودعنا نفترق بسلام.

ابتسم فرانكو ساخرا وهو يخرج الورقة من جيبه، ومزقها أمام عينيها والقاها فوق الطاولة بلامبالاة أمام عيونها المتسعة باستنكار.

- في هذه الجامعة لا يحدث شيء دون معرفتي، علاقة المعلم بطالبته المراهقة وحصولها على اعلى الدرجات، بينما يظلم من يستحق، هذا أمر لن أسمح به أبدا.
شعرت بنوبة غضب كبيرة تجتاحها، من هو كي يأخذ عنها قرارتها، ويفرض عليها اراداته، ذلك الأحمق من يظن نفسه ليحشر نفسه فيما لا يعنيه، كظمت غيظها منه وعدت حتى عشرة وهي مغمضة عينيها ومن ثم زفرت أنفاسها الغاضبة وفتحت عينيها تحدق به، ومن ثم رسمت ابتسامة جافة واسعة على شفتيها، بالكاد وصلت إلي عينيها، وقالت ساخرة:

- حسنا يا روبن هود، أتمنى أن تكون مسرورا لتخليصك الجامعة من من لا يستحقون.

وقفت بهدوء وهي تحمل حقيبتها، وتابعت بنفس السخرية:

- اعتقد انه لا حاجة لأن ادافع عن نفسي لانك لن تصدقني بكل الأحوال، شكرا على القهوة.

اتجهت بخطوات ثابتة واثقة وهي تشعر بالانتصار فقط لأنها تغلبت على غضبها واخفته جيدا، فقد قاومت رغبة قوية داخلها بسكب فنجان القهوة في وجهه، ذلك المتغطرس لقد تمادى كثيرا بوقاحته.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي