الفصل الثالث

لونا لم تحتمل قربه أكثر، كما أن الالم في ظهرها بدأ يشتد، دفعته بكلتا يديها في صدره كي يتنحى عن طريقها، وبسرعة قفزت من أمامه مبتعدة عنه تتنفس الصعداء، ذلك الحقير يتلاعب بها ويسخر منها، التفت إليه وهي ترفع يدها مهددة متوعدة:
لا تعتقد بأنك تخيفني، فأنا أعلم...
وتطايرت باقي عبارتها في الهواء حينما رأت الوشم الضخم الذي رسم على ظهره، ورغما عنها أفلتت منها صيحة عالية، حينما تذكرت ما يعنيه هذا الوشم، وأين رأته سابقاً، وما الضجة التي أثارها هذا الوشم مؤخرا في أنحاء بلادها، أن توماس لم يخدعها أبداً، فقد أخبرها بأنه زعيم مافيا لا يرحم ابدا، ولكن كيف لها أن تتورط معه دون عن غيره، ذلك الكوبرا الذي ملأت أخباره الصحف والمجلات ومواقع الانترنت، ذلك المجرم الذي ينهب ويقتل دون رحمة، المسؤول الوحيد عن انتشار المخدرات والهيروين، وضياع العديد والعديد من الشباب والفتيات وتشرد الأطفال، استدار ميخيل نحوها ببطىء حينما توقفت عن الاسترسال في تهديدها الواهي، واتسعت ابتسامته الخبيثة وقد رأت الشر واضحاً في عينيه الحادتين، كان سروره عظيما حينما رأى جمودها، وقد شعر بالفخر للصيت المخيف الذي أشاعه لقبه في أنحاء بلاده، لونا لم تستطع الحراك ابدا من مكانها، بالرغم من أنها رغبت كثيرا لو تطلق لساقيها العنان وتفر من امامه، ولكن بكل بساطة قدميها لم تستجب لنداء عقلها، وبقيت متسمرة في الأرض تراقب تقدمه منها بخوف، امتدت يده إلى وجهها الشاحب وأخذ يمرر اصبعه السبابة صعودا ونزولا فوق وجنتها الباردة وهو يمعن النظر في شفتيها المرتعشتين:
لا تخافي يا أميرتي، لا اريدك أن تخافي مني ابدا، كل ما أريده هو حمايتك فقط.
وهنا تذكرت لونا توماس، وارتعبت من فكرة أن يكون هذا المجرم قتله بسببها، تراجعت للخلف مبتعدة عنه وسألت متلعثمة وهي تحاول السيطرة على أفكارها المتلاطمة:
ماذا فعلت بتوماس؟!
نظراته الرقيقة احتدت، وزم شفتيه بغضب شديد التمع في عينيه القاسيتين، وضع يده بجيب سرواله وأخذ يدور حولها كما يدور الأسد حول فريسته، وقال متوعداً:
هذا يترتب على ما سوف تخبريني به؟!
لونا لم تفهم ما يقصده تماما، وازداد قلقها على توماس، فبالرغم من عدم محبتها له، الا انها لا تتمنى الموت له ابدا، على الأقل لم ترغب أبدا أن تكون سببا في موته، همست مترددة:
ماذا تعني؟! هل...هل...
تابع بقسوة مكملا جملتها الناقصة:
قتلته؟!...ليس بعد، ولكن اجابتك هي ما ستحدد اذا ما كان مصيره الموت.
هزت رأسها بعدم فهم، كيف ستنقذه بجوابها:
لم أفهم! لما سأكون السبب في تحديد مصير ذلك الغبي.
صفق بيديه بقوة مرتين، وانحنى نحوها هامساً بوعيد:
سنرى هذا الان.
وعلى الفور فتح باب القصر الداخلي على مصراعيه، وظهر توماس بالمدخل، كان مازال بحال مزرية، ولكنها كانت سعيدة جدا لانه ما زال على قيد الحياة، ركضت نحوه بسرعة وجثت بقربه على ركبتيها حينما سقط أرضا يئن وينوح:
توم أيها الأحمق! سوف تخسر حياتك بسبب تصرفاتك الطائشة!
توم لم يصدق وجودها أمامه فهو يعلم جيدا بأنها لا تحبه أبدا، ولن تحرك ساكنا في سبيل انقاذه، ولكن على ما يبدو أنه أساء الحكم عليها، فصغيرته الجميلة، ليست قاسية القلب ابدا، ولم تتوانى يوما عن نجدته ونجدة شقيقته، همس ساخرا بابتسامة جانبية، ودقات قلبه تزداد فرحا وشعورا بالأمان للمساتها الحنونة الرقيقة التي أخذت تمسح الدماء عن وجهه المتورم وعيناها تدمع بخوف وقلق:
يبدو أنني في الجنة! فلونا التي اعرفها يستحيل أن تخاف أو تدمع عيونها لأجلي!
تنفست لونا براحة كبيرة، أنه بخير، ذلك الأحمق الغبي، إن لم يقتله رجل الكوبرا هذا، فستفعل هي بنفسها! وبالرغم عنها فاضت عيونها الزمردية بالدموع، وأخذت تصرخ عليه بحنق وغضب:
ماثيو انت غبي جدا، أمثالك مكانهم الجحيم وليس الجنة، حينما نخرج من هنا سأرسلك الي الجحيم بنفسي.
رفع ميخيل عيونه الي السماء ضجرا من حوارهما الممل، اقترب ليقف أمامها وانحنى نحوها هامساً.
اعتقد بان ما رأيته كاف لتقرر ما هو مصيره.
وباشارة من يده انقض رجاله على توماس يسحبونه بعيدا عنها، حاولت التشبث بجسد توماس لتوقفهم عن أخذه بعيدا عنها، ولكن دون فائدة فقد أخذوه واختفو خارجا تماما كما دخلو، ركضت نحو ميخيل غاضبة:
توقف عن إثارة غضبي! الي أين أمرت رجالك بأخذه.
ابتسم ساخرا وهو يكرر ما قالته سابقا لتوماس:
ألم تقولي بأن أمثاله مكانهم الجحيم! أنا ماهر جدا بإرسال البشر الي الجحيم.
هزت رأسها بسرعة معترضة وهي تتشبث بذراعيه القاسيتين:
لا!! أنا لا أريده أن يذهب للجحيم، أرجوك لا تؤذه، إنه احمق بالفطرة ولكنه لا يستحق الموت، أرجوك لا تقتله.
ضاقت عيناه فوقها حينما رأى لهفتها، وبكلمات غاضبة سألها:
هل هو حبيبك؟!
وحينها فهمت لونا سبب رغبته بقتله، فسارعت تنفي ظنونه بسرعة:
ليس حبيبي على الاطلاق! لا شيء يربطنا ببعضنا البعض سوى صديقتي الطيبة ماتيلدا!
عضلة في وجنته برزت واشتدت وقست عند ذكرها اسم ماتيلدا، الا انه أشاح بنظره بعيدا عنها مخفياً اللهفة التي سرعان ما خبت داخل عينيه:
اذن لا بأس! ساعفو عنه واتركه لاجلك فقط.
راقب ميخيل الابتسامة التي أضاءت وجهها الباكي، وشعر بضربات قلبه تتسارع دون إرادة منه، وأخذ يراقب تعثرها في الكلمات وهي تحاول شكره والتعبير عن امتنانها، فامتدت يده نحوها وجهها الجميل برقة ليلمس وجنتيها الرطبتين بدموعها الآنية، وهمس بصوت أجش وهو ينحني نحوها:
اشش، توقفي عن شكري، فلا شيء بدون مقابل يا حلوتي.
وبسرعة تلاشت ابتسامتها تماما كما ظهرت، وارتجفت شفتيها بتوتر وعينيهيا المرتعبتين تكيل له الشتائم واللعنات، ولكن هما تشعر به كان آخر همه، اتسعت ابتسامته الخبيثة، وصاح بها أمرا وهو يفتح أحد الأبواب ليختفي خلفه:
اتبعيني...حتى نتفق، أذا أحببتي أن نتفق طبعاً!
راقبت اختفائه والحنق والغضب يتاجج داخلها، فكرت بغيظ ( ايها الأفعى الغليظة، هل صدقت انك كوبرا؟! أيها الأحمق راقبني كيف ساتخلص منك بسهولة وارميك خارج حياتي بكل بساطة) تنفست بعمق وعدت حتى رقم عشرة، ورفعت رأسها بثقة وسارت تلحقه بكل هدوء.
وجدت نفسها داخل غرفة مكتبه، كانت غرفة واسعة مهيبة، وغير مريحة اطلاقا، نظرت إلي أثاثها الفاخر والمكتب الضخم المتروس في وسط الغرفة، والسجادة السوداء الوثيرة، كان المكتب مصمم بذوق حاد قاتم وغير مرضي ابدا لذوق امرأة، أي امرأة وليس ذوقها هي فقط، وجالت بعينيها الي سقف الغرفة وجدرانها، لتجد مصدر عدم راحتها، وتكتشف سبب الرهبة والقشعريرة التي دبت في أوصالها، سقف الغرفة كان مكسو بجلود الأفاعي، جلود طبيعية لأفاعي حقيقية، بينما علق رؤوسها فوق جدران الغرفة، رؤوس متعددة لافاع متعددة الأشكال والألوان، كان ميخيل يراقبها باستمتاع، فقد كانت هذه الغرفة مصدر فخره، ومنها يستمد قوته، كان يحب رؤية وجوه ضحاياه الذين يسقطون في شركه، حالما يدخلهم الغرفة ويرى الرعب الذي يرتسم على وجوههم عند رؤية أفاعيه المحنطة، ولكن ما رآه على وجه معشوقته الصغيرة، لم يكن رعبا ابداً، بل كان قرفاً واشمئزازاً، وهذه ردة فعل تختلف تماما عما توقعه، وتذكر شقيقته مرة وعشيقاته العديدات اللواتي دخلن الي هذه الغرفة سابقاً:
ميخيل هذه الغرفة لن أدخلها ما حييت، لا أعلم كيف تعيش داخل عالم الرعب هذا، أن غرفتك تعبر عما بداخلك وهذا لا يروق لي أبداً!
كانت شقيقته الصغيرة، اغلى ما يملك في الوجود، فقد توفت والدته بمرض السرطان الخبيث وهو في ٢٦من عمره وتولى رعاية شقيقته الصغيرة ذات ال ١٤عاما، كانت مدللته وطفلته وكل شيء في حياته، حتى أنه لم يتزوج لأجل أن يتفرغ لها تماما، وعاهد نفسه بعد أن قتل والده على أيدي عصابات المافيا المنافسة له في التجارة والنفوذ والسلطة، أن لا يتزوج وينجب الاطفال الي بعد أن يطمئن عليها، والان بعد أن أتم خطبتها قرر أن الوقت حان ليتخذ له عشيقة أبدية، وحال اتخاذه هذا القرار صادف هذه الجميلة، وبالرغم من أنه لم يكن في وعيه تماما الا انها سحرته منذ أن وقعت عيناه عليها، فبحياته لم تتجرأ انثى اي أنثى على صفعه أو احتقاره واهانته، فقد رأى عنفوانها، بنظراتها الواثقة القوية، وظلت هذه النظرات تلاحقه حتى بعد أن آفاق من سكره وتذكر فعله الشائن، فقد أمل أن ينسى تلك العيون الخضراء الزمردية، ولكنها طاردته بكل مكان، وازعجت احلامه، وانتزعت راحة باله منه، لا يستطيع التصديق أنها تقف أمامه في هذه اللحظة، ولا يمكنه وقف تدفق الادرينالين في عروقه، من تحميه لفكرة حصوله عليها، فهي ستكون ملكه شائت ام أبت، أتاه صوتها الرقيق بنبرة ساخرة:
لما أشعر وكأنني داخل مقبرة للأفاعي؟! لا أفهم كيف تمكث هنا وتحتمل هذه الرائحة؟!
عبس وهو يحاول أن يستنشق اكبر كم من الأكسجين داخل الغرفة، ولكنه لم يشتم شيئا ابدا، نظر إليها يحاول سبر غورها، هل هي جادة؟! ام انها تسخر منه تلك المغرورة الصغيرة:
أي رائحة تقصدين؟!
اقتربت منه وانحنت فوق مكتبه هامسة بصوت مخيف، لا تريد لغيره أن يسمعه وكأنه سر غير معلن:
رائحة الموت! ( واسترسلت وهي تشير الي تماثيل الأفاعي المحنطة) خيراً فعلت بهذه الأفاعي، فأنا أكرههم وأشمئز كثيرا منهم.
لا يعلم ميخيل إن كانت ما زالت تتحدث عن الأفاعي فقد شعر بأنها توجه له إهانة غير مباشرة، راقبها وقد تراجعت للخلف مبتعدة عنه لتجلس فوق المقعد المقابل لمكتبه، وقالت بكل هدوء وثفة، هي نفسها لا تدري مصدرها:
كلي أذان صاغية، ماذا تريد؟!
تراجع في مقعده للخلف، وهو يمعن النظر إلي ملامحها الجادة، فكر بنفسه هذه الفتاة تتغير على حسب اهوائها، فهو لم يقابلها الا لساعات فقط، وفي هذه الساعات القليلة، تعاقبت أمامه فصول مزاجها المتقلب، ما بين وخوف وغضب ومن ثم سعادة وغرور، هذه الفتاة المزاجية ستقلب حياته رأسا على عقب بالتأكيد، وهو واثق بأنه سوف سيستمتع بترويضها:
أريدك أنتي!
خاطبت نفسها تعزز ثقتها بنفسها لتصمد أمامه أكثر، فهي تعلم أنه يحاول اخضاعها، وبث الرعب في قلبها، اختطافها، وتعذيب توماس، وأسرها لساعات وحيدة في غرفة نومه، والان هذه الغرفة الباردة الموحشة، كل هذه الضغوط التي يمارسها عليها ليس إلا للسيطرة عليها والتحكم بها، رفعت نظراتها إليه ورسمت ابتسامة ساذجة ساخرة:
لماذا؟! أترغب بسلخ جلدي عن عظمي، وتعليق رأسي على جدار هذه الغرفة الكئيبة بين افاعيك المحنطة؟!
ابتسم معجباً بجرأتها، خاصة وأنه يعلم كم كانت ترتعب خوفا منه قبل قليل، هز رأسه نافيا وهو يطيل النظر إليها بإعجاب خفي:
هناك مكان وحيد أرغب بتوق رهيب لسجنك داخله الي الأبد!
لونا فقدت رغبتها بلعبة القط والفأر التي يلعبانها، فهو يدور حول الموضوع ولم يدخل في صلبه أبداً، عادت لارتداء قناع الشجاعة وقالت بنفاذ صبر:
أخبرني بما تريده؟! دعنا ننهي هذه المهزلة؟!
وقف في مكانه ودار حول مكتبه ليشرف عليها بطوله الفارع، وقال بنزق:
انتي مدينة لي، فقد صفعتني أمام الملأ، وهددتني، ورحلتي كأن شيئا لم يكن!
اتسعت عيناها بصدمة، كيف يتهمها بهذا الاتهام، يا الهي ذلك الأحمق الذي يقف أمامها الآن لا يشبه ذلك العجوز السكير الذي صفعته في ذلك اليوم المشؤوم، وقفت بحدة معترضة على اتهامه الباطل وهي تصرخ وتلوح بيديها:
يا الهي! انت بالفعل لا تصدق! هل صفعتك دون سبب؟! هل جررتك من يدك الي ساحة الرقص وارغمتك على مراقصتي أمام الملأ؟! هاي ايها اللعين المغرور، هل نسيت ما فعلت أم أذكرك بتحرشك بي أمام الجميع؟! يا الهي! كيف تجرؤ على لومي وأنت من أذنب في حقي؟! برأيي فقد استحققت تلك الصفعة وبجدارة، وان عاد بي الأمر لذلك اليوم مجددا، سأصفعك مرارا وتكراراً ودون ندم، ولا تعتقد بأن تلك الكوبرا على ظهرك سوف تخيفني أو تثنيني عن مبادئي.
أنهت جملتها وهي تشدد على كلماتها بقوة وغضب دفين، ذلك اللعين يختبر صبرها، فقد أخرج أسوأ ما بها بعد لحظات من اتخاذها قرار مجاراته وتفاديه، كان صدرها يعلو ويهبط بفعل تسارع انفاسها، فالغضب رغما عنها اجتاحها وتملكها، وفقدت السيطرة على عقلها ولسانها! والان بعد أن ألقت ما بجعبتها نحوه، وتخللها الهدوء والراحة، شعرت بفداحة تهورها عندما ارتسمت رده فعله داخل عينيه السوداوين الحادتين، ولكن لم يكن هناك مجال للتراجع وابتلاع كلماتها التي أغضبته، ولكنه ابتسم ساخرا وعاد إلى جرار مكتبه ليخرج من داخله ظرفا مغلفاً، والقاه نحوها آمرا:
افتحيه.
عبست لونا وهي تفتح الظرف بيدين مرتعشتين، كان الظرف يحتوى على صور لها ولشقيقتيها ووالدتها، خلال رحلتهم بالأمس، الشخص الذي قام بالتقاط الصور لهم لاحقهم من مكان الي آخر ولم يتركهم ولو للحظة، من ينظر لهذه الصور سيعتقد بأنهم عائلة سعيدة هانئة لا يعانون من المشاكل، ارتفعت عيونها الدامعة لتصطدم بنظراته الساخرة، ذلك الوغد، هل يهددها الان بعائلتها؟!
وكأن نظراتها الدامعة الغاضبة أعطته الاذن بمتابعة حديثه الكريه:
اعتقد بأننا الآن سوف نتفاهم!
أعادت الصور الي الظرف بعناية، وزفرت أنفاسها بتعب وسألته بصوت كسير:
ما هي طلباتك؟!...الأمر بيني وبينك، اترك عائلتي خارج الموضوع.
هتف ساخرا مصفقا بيديه:
فتاة عاقلة!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي