الفصل الثالث

هز رأسه بعدم اكتراث قائلًا بمكر وهو ينوي أن يلعب لعبة خطرة معهم :- لا تقلق سأتصرف معهم بمعرفتي ولكن المهم الآن هو التصرف بسرعة لإنقاذ هذه المسكينة .
أردف بموافقة :- إنها فتاة هادئة للغاية لا يصدر منها صوت، مثل البلسم ولا كأنها موجودة، لا أعلم كيف قست قلوبهم لهذه الدرجة ويفكرون بقتلها .

استمع له بانصات وهو يفكر بداخله بخبث مرددًا :- سوف أذهب معك يا سعيد ونرى ما سنفعل وكيف سنحل هذا الموضوع ؟ وإن شاء الله خير .

أردف برجاء :- يارب ياحاج صبري، الموضوع لا يحتمل المزاح أبدًا .

عزلت ذاتها بغرفتها منذ أن أخبرتها أمها بنية الآخر بالزواج منها، بعد ماذا ؟ فقد فات الأوان وتم وأد كل شيء بداخل مقبرة قلبها حتى أنها لم تقم له عزاء، لم يعلم أحد بما عانته أخفته عن الجميع ولم تشاطر أحدًا وجعها سوى صديقتها، معترفة بخسارتها الفادحة في معاركها التي خاضتها للفوز بقلبه، لم تفز بأية غنيمة سوى جروح زينت جدران فؤادها وباتت ملازمة لها، أخبرتها بكبرياء أنها ترفضه لتثور الأخرى عليها وتصيح عليها بأنها فاض بها الكيل وأنها ستقوم بالزواج منه رغم أنفها، وإن لم تفعل ذلك ستلاقي مالا يحمد عقباه، ألا وهو ستوافق بزيجتها من الآخر والذي تمقته بشدة، والذي سبق له الزواج من ثلاثة سيدات، وضعتها بين نارين وعليها بأن تلقي بنفسها في إحداهن، لا تعلم أتختار من تكره وتحكم على بقية حياتها بالموت، أم تختار ناره هو وتعيش على أمل أن يشعر بها يومًا ؟
لم يشفى جرحها منه حتى الآن فكم من طعنة حصلت عليها بسببه هو، أولها اعترافه بحبه لشقيقتها، والثانية الزواج منها وإنجاب طفلين، لم تكن أبدًا الضغينة لأختها بل تمنت لها السعادة ولو على حساب نفسها، ترسم السعادة وبداخلها التعاسة تنهش جدران قلبها حتى احتلته، لم يتبقى سوى جيوش الكآبة تقتل أية ذرة بهجة إن وجدتها في طريقها، الليالي شاهدة على كل عبرة حارة نزلت على وجنتيها فتكويها بنار الفراق، وشاهدة على جميع الأوجاع والسقم الذي عانته طوال هذه الفترة، غبية نعم تعترف بذلك فهي إن لم تكن كذلك ما أصبحت في وضعها ذاك .

يا ليت القلوب تصاب بداء النسيان كما تفعل العقول، لارتاحت أفئدة الكثيرين ممن يعانون مرارة الفقدان، تعترف بأنها لم يكن يتوافر عندها العتاد المناسب والمتمثل في شجاعتها، فلو كانت شجاعة بشكل كاف لما ظلت هكذا تبكي على الأطلال، بل لكانت الآن زوجته وهؤلاء الصغار أطفالها من رحمها هي، لم تقاتل في ساحة المعركة بل انسحبت تشاهد ما يحدث بقلب مفطور، ينزف الدماء ولا يجد له دواء يشفيه، إن كانت قوية بشكل كاف لناضلت بكافة الطرق وبكل أسلحتها المتوافرة لديها، وإن لجأت لبعض الطرق الغير مشروعة، فكل شيء مباح في الحب والحرب كما يزعمون، ولكن فطرتها التي نشأت عليها لم تسمح لها بذلك، ولا تعاليمها التي تشربتها في مدرستها الأزهرية تسمح لها بالخوض في هذه المسالك الوعرة، خافت لذلك رفعت الراية البيضاء باكرًا مقررة التخلي عن كل شيء، وأولهم قلبها الذي تركته في منتصف الطريق، لا يدري له معبر يود الإبتعاد والقرب في الوقت ذاته، يريد أن ينسى ولكن كيف واسم ذاك البعيد مسطر بحروف من الصعب محوها، وكأنه لعنة حلت عليه لا تنتهي إلا بزواله، أما ما دام على قيد الحياة فيتجرع شتى أنواع العذاب هكذا تقول اللعنة .

ضغطت على رأسها تمنع سيل الأفكار التي كادت أن تعصف بها من التدفق، قاطع وحدتها دلوف أمها المفاجئ بوجه مكفهر ونظرت لها بسخط قائلة بغيظ وقد قررت أن تضع الحروف في أماكنها الصحيحة :- وماذا بعد يا ندى، إلى متى ستقبلين الأمر بالرفض ؟ إلى متى ؟

أجابتها بضيق وهروب :- لا أريد أن أتزوج يا أمي، هل الزواج طواعية أم بالأمر ؟ لا أريد أن أتزوج به أنه زوج أختي.

صاحت بغضب وبنبرة جديدة لم تعتاد عليها الأخيرة، ولكنها مضطرة لن تترك ابنتها هكذا بل ستعمل بجدية كي تحصل على موافقتها مهما كلفها الأمر :- كان زوجها الله يرحمها ولكن الآن لم يعد افهمي ذلك جيدًا، واسمعيني بعناية هما خيارين لا ثالث لهما، إما أن تتزوجي فادي يا إما تتزوجي  بحسين ابن المعلم فرغلي رغم أنفكِ، يكفي عبثا معكِ مهلة حتى الصباح سأنتظر قرارك .

قالتها بقسوة ومن ثم تركتها لتنفجر الأخرى باكية عقب خروجها، لم تترك لها حلول للنجاة وتركتها وحيدة تتخبط في الطرقات دون أن تجد لها معين ينقذها ولا يأخذ بيدها إلى بر الأمان، تمنت في هذه اللحظة الموت ولا شيء دونه، كي تتخلص من هذه المتاعب التي حلت فوق رأسها، واثقلت كاهلها فما عاد بمقدورها الحركة .

رن هاتفها فنظرت له وما إن رأت المتصل أجابت على الفور، وكأن المتصل حبل النجاة ففتحت المكالمة قائلة ببكاء شديد :- أغيثيني يا مني .

أتاها صوت صديقتها المقربة القلق :- ما الأمر يا ندى ؟ يوجد لدي هاجس منذ الصباح إنكِ لست بخير  ولهذا السبب اتصلت بكِ .

ردت بصوت متحشرج :- أمي مصممة على رأيها ولا أدري ماذا أفعل ؟

جزت على أسنانها بغيظ قائلة :-  وهل هناك حاجة للتفكير ؟ وافقي على فادي بالتأكيد أليس هذا حبيب القلب ؟

أجابتها بنفي :- لا يا منى كان فعل ماضي،  لكن الآن أمقته.

اهتز قلبها بشدة ما إن قالت ذلك، وكأنه يرفض نكرانها لحبه الذي يزين جدرانه وكأنه يخبرها بأن تكف عن الكذب، فمهما قالت وفعلت فهي لا زالت محبوسة في دهاليز هذا العشق المخفي والذي لا تعلم نهايته معها بعد إلى أين سيصل ؟ .

رفعت منى حاجبها باستهجان قائلة :- نعم ؟ بالله عليكِ كفي عن الكذب كلانا نعلم جيداً بأنكِ تعشقينه .

صاحت بانفعال لكي تهرب من هذه المعضلة :- يكفي هراء وحديث لا فائدة منه، والآن فكري معي في حل لتلك المشكلة العويصة .

رددت بروية من عناد صديقتها :- حسنا، حسنا سنجد حلا ولكن اهدأي .
ثم أكملت بمرح :-  اتريدين نصيحتي اقبلي بالزواج من حسين وبهذا تصبحين الزوجة الثالثة .

ضيقت عينيها بوعيد مرددة :- أتعلمين يا منى إن كنتِ ماثلة أمامي الآن، لكنت مزقتك بأسناني .

ضحكت بصخب قائلة :- الحمد لله يا ابنتي إنني بعيدة عنكِ، معي أطفال بحاجة للتربية .

هتفت بضيق :- لا تتحدثين إذًا بهذه الطريقة معي .

ردت منى بتعقل :- وافقي يا ندى لا أحد يعلم أين يكمن الخير، افعلي ما يمليه عليكِ قلبك واختاري بعناية كي لا تأتي في يوم وتندمين على ذلك، والله يوفقكِ لما هو خير .

زفرت بحنق قائلة :- حسنا لنرى ما سيمليه عليه عقلي قبل قلبي ولنرى ما تخفيه الأيام لنا .

ضحكت منى بتأييد قائلة :-  مضطرة أن أغلق المكالمة الآن، الفتى المشاغب يضرب أخته كعادته.

ضحكت بخفة ورددت :- حسنا اذهبي وكان الله في عونك .

ردت على عجالة :- أخبريني بقراركِ الحاسم لاحقا لا تنسي .

قالت ذلك ثم صرخت بحدة في ابنها المشاغب لتتعالى ضحكات الأخرى عليها، تسرق لحظات من الزمن بها بعضًا من السعادة، فيبدو أنها مقدمة على أهوال ستلحق بقلبها الأذى، وسيغزو جميع حصونها .

بعد أن انتهى من عمله عاد لمنزله بصحبة الحاج صبري، وبعد أن تمت مضايفته طلب رؤية تلك الفتاة، لتدلف وهي في حيرة من أمرها فور أن علمت بأن هناك رجلًا مسنًا يود رؤيتها، ارتسم الذعر على وجهها حينها واعتقدت أنه طرف من هؤلاء الذين يركضون خلفها ويودون موتها، ولكن سعيد أسرع بطمأنتها وإنه يعرفه تمام المعرفة، ولا يوجد هناك ما يثير الريبة أو الذعر، فقط هو يريد التحدث معها لعل وعسى أن يجد حلًا لهذه المشكلة التي تغرق فيها بمفردها دون أن يشاطرها أحد .

رفع صبري بصره صوبها لتصيبه الدهشة فهو رسم لها صورة مغايرة عما تخيله بعقله، ليجد فتاة متوسطة الطول، ذات بشرة بيضاء ترتدي خمارًا طويلًا وملابس فضفاضة، تعجب لأمرها حيث سائر أبناء الطبقة الثرية التي تنتمي إليها تميل إلى التحرر، ولكن هذه استثناء يبدو عليها الاحتشام الشديد، دعا بالرحمة والمغفرة لمن قام بتربيتها، ابتسم لها ببشاشة أرسلت السكينة بداخلها، حثها سعيد على القدوم وهو يقول : تقدمي  يا ابنتي واجلسي، لا تخافي إنه الحاج صبري في مثابة أخي الذي لم تلده أمي، هيا تعالي لا تخافي .

رسمت بسمة بسيطة على ثغرها وهتفت بصوت رقيق مثلها وهي تتقدم منهم :- كيف حالك يا جدي ؟

أردف صبري بحنو :- أهلًا يا حبيبة جدك، لم تخبرني يا سعيد إنها مثل القمر ما شاء الله، كنت جلبت لها عريسا معي .

جعدت أنفها بضيق طفيف من حديثه، بينما تدارك سعيد الأمر ليخبرها بلطف :- الحاج يمزح معكِ .

اكتفت بهز رأسها ليردف صبري بجدية :- اسمعيني جيدًا يا ابنتي سعيد أخبرني بقصتكِ وظروفك وفهمت كل شيء .

مطت شفتيها بأسى فلم تتخيل يومًا إنها ستكون موضع شفقة تنال العطف من ذا وذاك، ولكن هذه هي الحياة متقلبة يوم لك ويوم عليك، وجدته فرصة لتخبره برغبتها في الانتقال لمكان آخر فهتفت باحترام :- بعد إذن عمي سعيد أنا أريد شقة أمكث فيها، يكفي أنه استضافني طوال هذه المدة في بيته.

نظر لها بعتاب وردد :- ما هذا الذي تهذين به يا ابنتي،  أنتِ في مقام ابنتي التي لم أنجبها، والتي تدخل منطقتنا وتطلب مساعدة تضحي واحدة منا وتحت جناح حمايتنا، ومن يفكر يقترب منا فتح على نفسه أبواب الهلاك .

تحدث صبري بتأكيد :- بالظبط يا ابنتي أنتِ في حمايتنا الآن لا تقلقي .

طالعتهم بامتنان قائلة :- لا أعرف ماذا أقول لكم ولا كيف أشكركم ؟ أنتم أفضل بكثير من أناس كنت أظنهم مصدر حمايتي، وجدتهم يطمعون فيما أملك ويودون التخلص مني في أقرب وقت .

قالتها بوجع شديد وهي تشعر بوحدة موحشة تستولي عليها، فما أصعب من أن تشعر بأنك مجرد غصن هش وعليك مواجهة العالم أجمع بمفردك، أن يكون الجميع ضدك وأنت غير قادر على مواجهتهم، تنهدت بحزن فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال، فبعد أن كانت تنعم بحياة الترف ولا تفارق البسمة وجهها الصبوح، ذهب كل ذلك رحل الترف وسكن القلق والرهبة، وذهبت البسمة وحل محلها وجل وحزن شديد يظهر على ملامحها الجميلة .

أردف صبري بود :- لا تحملي هما أنا أعرف مكانًا  يمثل الأمان لكِ  .

أردفت بلهفة بها بعض السعادة :- أحقًا يا جدي ؟ أين وبكم إجاره ؟

جعد جبينه بضيق مرددًا :- أنتِ تصرين على أن نحزن منكِ، أنتِ ابنتنا يعني عرضنا وشرفنا هل سنتقاضى مال مقابل ذلك ؟ لا يصح أبدًا.

نظرت للأرض بحرج ليكمل هو بحذر :- والآن أود منكِ أن تركزي معي وتسمعين بكل آذان صاغية، وتحفظين كل كلمة والأهم أن لا يخرج حرف واحد من هذا الحديث لأي مخلوق حاجة، فقط ثلاثتنا سيكونون على دراية بهذا الأمر .

نظروا له باهتمام ليشرع هو في سرد خطته تحت صدمتها وذهولها مما يتفوه به، لا تصدق تمامًا أنه يطلب منها تنفيذ ذلك، ولم تختلف صدمة سعيد عنها في شيء فآخر شيء كان يتوقعه هو أن يخبرهم بهذا المخطط، وكيف ستوافق هي ام ستقوم بالرفض القاطع ؟ أنه يطلب منها ما لا تستطيع تنفيذه، وإن نفذته كيف ستواجه أهله بمفردها ؟ يا إلهي متى ترتاح وتنتهي المشاكل التي تصر أن ترافقها أينما ذهبت، تضاربت مشاعرها وكذلك عقلها وتخبطت فجأة لا تقدر على أخذ قرار حاسم الآن في هذا الموضوع الخطير، نجدها هو من حيرتها تلك وكأنه رفق بحالها، إذ أخرجهم من شرودهم صوته الجاد مرددًا :- سأغادر الآن واترككِ على راحتك تفكرين حتى الغد، وأتمنى أن لا ترفضي طلبي، فكري جيدًا ستجدين أن كل هذا يصب في مصلحتكِ أولًا قبل مصلحتنا، وأننا لا نزج بكِ إلى دروب الشر .
ثم نهض من مكانه قائلًا باختصار :- حسنا علي الذهاب الآن وغداً بإذن الله أحصل على البشرى .

تحدث سعيد بإصرار :- لا تذهب الآن على الأقل تناول معنا الطعام .

ردد بهدوء :-  لا توجد لدي شهية مرة أخرى، وداعا .

انصرف هو لتظل هي على حالتها كتمثال أفرغ النحات من صنعه للتو، انتفضت في مكانها عندما وضع سعيد يده على كتفها قائلا بحنو أبوي :- ماذا ستفعلين يا ابنتي ؟

هزت رأسها بتيه قائلة بخفوت وضياع :- لا أدري يا عمي إن غد لناظره قريب.

تنهد بعمق وردد :- كوني واثقة أن صبري لن يظلمكِ وإن كلمته واحدة وبصراحة يا بنيتي هذا هو الأحق وبجدارة في أن يكون حاميكِ، وأيا كان قرارك أنا معكِ فيه .

نهضت قائلة بشرود :- بعد اذنك سأدلف للغرفة .

احترم خصوصيتها ولم يضغط عليها حتى تهتدي لقرارها النابع من داخلها دون ممارسة أي ضغط من الخارج عليها، أما هي جلست على الفراش بضياع تفكر ورأسها يكاد ينفجر، تشعر وكأنها طفلة بحاجة لأبيها ليرشدها إلى الصواب، فهي لأول مرة تتعرض لمثل هذا النوع من الضغط ومطلوب منها أن تحسم قرارا ستتوقف عليه حياتها بأكملها، كان يساعدها على ذلك أبيها الذي رحل ولم يعد الآن موجودا معها، وعلى ذكر أبيها اغرورقت عيناها بالدموع قائلة بشجن فتمنت أن يكون معها الآن ليدلها على قرار سليم :- لقد تركت فراغًا كبيرًا يا أبي، يا ليتك أخذتني معك بدلًا من  هذا الشقاء .

في اليوم التالي ترتدي عباءة سوداء ضيقة، ووجهها لا يخلو من مساحيق التجميل، رائحة عطرها بلغت آخر الشارع وتمضغ في علكة باغراء واضح، تخلت عن حياؤها لتجلب ذا وذاك خلفها، أو بالتحديد لتجذبه هو فقط نحوها، فمنذ أن توفت زوجته وهي تدور خلفه في محاولة منها ليتزوجها هي دون غيرها، دلفت لمحل أدوات الأجهزة الكهربائية حيث يديره العابث، والذي لم يكن سوى وجهتها ومقصدها، تهادت في خطوتها وسارت نحوه قائلة بابتسامة عريضة ورقة مبالغ فيها :- كيف الحال يا فادي اليوم ؟

قفز من على كرسيه وهتف بترحاب وعبث، فهي لا تخفى نواياها عنه أما بالنسبة له لا يشكل له الأمر فرقاً فلا مانع من بعض العبث معها ما دامت هي تطلب ذلك بنفسها :- يا أهلًا وسهلًا بجميلة الجميلات لقد زدتي المكان نور .
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي