الفصل الثاني

انتفض في مجلسه كمن لسعته حية وسرى سمها في بدنه، ليطالعها بذهول مرددًا بعدم تصديق لعله سمع بالخطأ ما رمته على مسامعه للتو، وشعر بأن كل ما فعله ذهب هباء منثورًا :- من ؟ خالتهم ! لا بد وانكِ تمزحين يا أمي.

هزت رأسها بنعم وقالت بترحيب للفكرة وسعادة ملئت وجهها :- لا أمزح يا بني، أي نعم هي كبيرة قليلًا ولكن فلننظر لنصف الكوب الممتلئ، لقد باتت بمفردها الآن ليس لديها أية إخوة ومعها أموال كثيرة  في البنك من معاش أبيها الخاص بالجيش .

طالعها باستنكار مرددًا بتهكم على كلامها هذا :- لماذا تقولين ذلك ، هل أخبروكِ بأننا متسولين ونود الحصول على حصة من المال كي تسد رمقنا !

ردت باستمالة :- لا تكن غبيًا أموالك مع أموالها ستكن ملكك أنت، ولا أحد يعلم ما الذي ينتظرنا بالغد .

هز رأسه بنفي قاطع وأردف باستماتة :- ولو معها مال قارون يا أمي لن أتزوجها، لن أقدم على هذه الفعلة النكراء .

نهضت بعنف مرددة بصرامة وهي تثور عليه بعنف فقد اكتفت منه ومن أفعاله الصبيانية تلك  :- ستتزوج بها رغم أنفك، أولادك يحبوها كثيرًا وينادونها بأمي ، إنها مضمونة يا بني، أليس ذلك أفضل من أن تتزوج بامرأة لا نعرف عنها شيئًا ولا نعلم كذلك ما الذي ستفعله مع صغارك ؟.

ردد بعدائية وخوفًا على أطفاله الصغار :- من يقترب من أولادي أقطعه بأنيابي ولا أترك فيه قطعة سليمة .

ربتت على كتفه قائلة بروية في محاولة منها لإقناعه :- ولذلك أنصحك بأن تتزوج بها يا قلب والدتك، اسمع كلامي ولن تندم صدقني .

مط شفتيه بسخرية وهتف بكلمات جارحة لو سمعتها الأخرى المقصودة لرشقتها بصدرها وأدمته في الحال، ولجعلتها تخر أرضًا من هول الوجع، ولكن الظروف رحمت بها فهي بمكان وهو بآخر بعيدًا عن سمعها :-  وهل أنتِ تعرفينها عن قرب؟ إنها بالتأكيد تقترب من أولادي كي تنال مرادها، أعلم جيدًا هذه الأشكال الوقحة، أنتِ لا تدرين شيئًا والدتي العزيزة دعيني أتصرف معها وفقًا لما بداخل عقلي .

أردفت بضيق وشعرت بأنها وصلت معه لطريق مسدود فرأسه العنيد يرفض كلما تحدثت :- ماذا أفعل يا فادي لكي تقتنع بما أقوله ؟ يا بني لا تتعب قلبي معك .

نهض من مجلسه وأردف باقتضاب :- سلام يا أمي علي أن أتابع عملي .

تركها دون أن يعطي لها فرصة بالحديث، وهي تطالع أثره بغضب ومنذ ذلك الحين وهي تلح عليه ولم تتركه يهنئ، إذ أحيانًا تخبره بأنها ستغضب عليه في محاولة لنيل موافقته، فاق من شروده وهو يضغط على القلم حتى كسره، رماه بعنف ومن ثم ردد بوعيد وكأن مصير هذه المسكينة يشبه القلم الملقى على الأرض :- حسنًا يا أمي سأفعل ما ترغبين به وسأفعل ما يحلو لي، سوف تبقى حياتك معي يا ندى ما هي إلا جحيم.

قال ذلك ثم وثب بخفة من مكانه وذهب ليبلغ ابن خاله بأنه سيغيب لبعض الوقت، اشترى بعض المأكولات المحببة لأبنائه التوأم، وبعدها صعد للبناية المتواجدة بها تلك الأفعى التي تخطط وتدبر ولا يعلم عنها أحد سواه بعد أن رحلت زوجته، طرق الباب لتفتحه سيدة وقور فابتسم بوجهها ببشاشة لتستقبله هي بحفاوة .
ركض الصغيران ما إن سمعا صوته، يتسابق كل منهما نحوه في الوصول لذراعي والدهما أولًا.

استقبلهما والدهما بحب وضمهما لصدره بحنو، ثم أخذ يعرض عليهم الألعاب والمأكولات التي جلبها لهم بمحبة خالصة لهم، وبعد وقت قضاه معهما تركهما يلهوان سويًا، فنهض وجلس قبالة والدة زوجته الراحلة وهتف باحترام ناويًا على أن يخط أولى خطواته في سبيل تحقيق خطته :- ما الأخبار؟  كيف حالك يا خالة ؟

ابتسمت له بود قائلة :- الحمد لله يا بني فضل ونعمة من الرحمن، وماذا عنك أنت ودرية والدتك ؟ .

بادلها الابتسامة مرددًا :- الجميع بخير ويوصلوا لكي السلام.

صمت قليلًا وأخذت عيناه تجوب المكان بحثًا عنها ليردد بمكر :- أود الحديث معك في موضوع مهم يا أم سمر، هل أنتِ متفرغة ؟

استدارت جيدًا قائلة بحواس منتبهة وهزت رأسها بنعم :- تفضل يا بني هات ما عندك، ما الموضوع؟ .

حمحم بخجل مصطنع وردد بخبث :- الأطفال يكبرون يوم بعد يوم يا أم سمر، ومسؤولياتهما تزيد وأنا معظم الوقت أقضيه في الوكالة، باختصار شديد أولادي بحاجة لإمرأة في حياتهم تقوم بدور الأم تراعيهم وتقوم بمسؤولياتها على أكمل وجه .

فهمت ما يرمي إليه من حديث، ولكنها لم تعلم أنه يقصد ابنتها على وجه الخصوص، إذ هتفت بهدوء :- من حقك يا بني بأن تتزوج، أنت ما زلت شابا يافعا وبحاجة لزوجة تعينه على مصاعب الحياة، تزوج أنت لا تقوم بشئ خاطئ، ولكن لدي طلب بسيط بل رجاء أختر لهم زوجة حنونة  تراعيهم حق الرعاية، هؤلاء أبناء الغالية ابنتي رحمها الله .

ضحك بخفة قائلًا بتوضيح :- لا تقلقي فنحن لن نذهب بعيدًا، الزوجة عندكِ أنتِ يا أم سمر أود الزواج من ابنتك ندى .

اتسعت عيناها بدهشة قائلة بعدم تصديق :- ندى ! ابنتي أنا ! لا أصدق هل أنت جاد ؟

أردف بتساؤل وهو قد فهم الموضوع من منظور آخر :- هل تقولين ذلك لأنها كبيرة كما يقولون ؟ إنها تبلغ الخامس والعشرون خريفًا ليست كبيرة إلى هذا الحد، ولكنكِ تعلمين أفكار الناس في منطقتنا وفكرهم المحدود .

قطبت جبينها بنفي قائلة :- أنا لا أتكلم عن ذلك، ولكن، ولكن أنت لا تفهمني يا بني .

قاطعها مرددًا بريبة :- ما الأمر إذًا ؟ هل يوجد هناك مشكلة لا سمح الله تمنع هذه الزيجة ؟

أجابته بتوتر :- لا الأمر ليس كذلك، في الحقيقة أنها ترفض كل من يأتي لطلب يدها للزواج، وأنا تعبت منها ومن تصرفاتها تلك .

ضحك بداخله باستهجان واردف بمكر :- لا بأس عليكِ حاولي معها هذه المرة، أقنعيها بطريقتك حتى توافق .

هزت رأسها بتفكير قائلة :- حسنًا يا ابني أعطني مهلة يومين وستجد الرد وإن شاء الله خير  .

انتصب في وقفته وهتف برحابة صدر :- حسنا يا أم سمر مضطر الآن لأغادر لألحق بعملي .

قال ذلك ثم ودع صغيريه، وانصرف ليردف بغيظ وهو ينزل درجات السلم :- لا أعتقد إنها سترفض بل ستوافق وبشدة حينما تعلم هويتي، حسنا يا ندى سترين أياما لن تنسيها طوال حياتك .

قال ذلك ثم نزل ليتابع عمله وكلما تذكر كلمات أم زوجته الفقيدة، تغلي النيران بداخل أوردته حتى أوشكت على الإنفجار، ضحك باستخفاف عليها هي ترفضهم لأنها ترغب في واحد فقط، وهذا هو فادي بالطبع فهل بعد كل ذلك تتخلى عن هدفها، هز رأسه بخبث دفين فليتركها ويحرك اللعبة على قوانينه هو .


يقف أمامه كالطفل الصغير الذي يوبخه والده عندما يقوم بفعل شيء ويتم معاقبته عليه، والآخر يصيح بوجهه بغضب عارم وكاد أن يقتلع الأخضر واليابس من شدة كمده، فهو يخشى أن تكون سمعت أي شيء أو معها اثباتات تقدمها للنيابة وعندئذ سيذهب كل ما سعى لأجله في لمح البصر :- بغال مثلكم لا يستطيعون أن يأتوا بهذه الفتاة الضئيلة ؟ سحقا لكم وأنت أولهم يا حاتم، أنت لا تنفع في شئ ولا يمكن الاعتماد عليك في مثل هذه الأمور.

هتف بسخط وهو يضغط على صدغيه بعنف حتى كاد أن يهشمهما من شدة غضبه من كلام أبيه السام :- إنني أبحث عنها في كل مكان يا أبي، ولا تخف فإن كان معها دليل لإدانتنا لكانت قدمته للشرطة، لذلك لا تقلق .

ردد بحنق :- وإن كان الأمر كذلك لم لم تعد لمنزل أبيها إلى الآن ؟ لماذا تختفي ولا تظهر للعلن إذًا ؟ أجبني هيا .

ارتعدت فرائسه بتوتر شديد جلي ليسأله المرشدي بريبة :- لماذا لا تجيب عن سؤالي ؟ حذاري أن تكون فعلت شيئا معها يا وقح، هل قمت بمضايقتها أم بفعل شيء فاضح معها يا لك من حقير .

نفى بكذب وهو يمني نفسه بالحصول عليها بأي شكل :- لا لم أفعل لها شيء علينا الانتظار وستظهر يا أبي لا تقلق سنعاود البحث مجددًا .

أردف بصراخ وخوف خفي من أن يفتضح أمره :- لا تتحدث معي بهذا البرود، وأتمنى أن تكون واع لتلك المصيبة وأن تتصرف بحكمة، إنه خطأي منذ البداية إني اعتمدت عليك .

أردف بدفاع عن نفسه فهو تعب كثيرًا طوال هذا الشهر بحثًا عنها، ليس فقط ليقدمها قربانا لإرضاء والده وإنما ليحقق نواياه الدنيئة نحوها، والتي فشل في الوصول إليها في السابق، ووعد نفسه عندما يجدها سيحصل عليها أولًا وسيثأر لنفسه منها، وبعد ذلك يسلمها لوالده يفعل ما يشاء بها :- أنا أتابع حركتها هاتفها خارج نطاق الخدمة ولم تسحب أي نقود يمكننا أن نستدل منها على مكانها وكأنها قطعة سكر ذابت في المحيط، ولكن الرجال لديهم أعين في جميع الأقسام إن تجرأت وذهبت هناك طلقة واحدة مجهولة المصدر ستخلصنا منها للأبد.

ضغط على الكوب الذي يرتشف منه وأردف بكره :- لن أرتاح إلا عندما يأتيني خبر وفاتها وأن تلحق بأبيها، ولكن قبل كل شيء يجب أن نحصل على ثروتها الهائلة هذه الأموال التي ستنقلنا نقلة أخرى .

قالها بأعين حاقدة تشع طمعًا وأعين الآخر تلمع ببريق ماكر وكل منهم على نواياه التي يسعى كلاهما لتحقيقها من خلال تلك البريئة التي أبسط أحلامها أن تنام قريرة العين دون أن تزورها كوابيس تزيد من رعبها، أن يقتلع القلق من جزور قلبها ذاك الذي يؤرق نومها ولياليها الهنية، هي فقط تود أن تعيش في أمن بدون تهديد على حياتها، تود أن تعود لها البسمة وتزورها ثانية بعد أن رحلت عنها منذ وفاة والدها .


في صبيحة اليوم الثاني نزل صبري لمباشرة عمله مع ولديه وابن أخيه وأحفاده، لاحظ العبس على إحدى العاملين عنده والذي لم يكن مجرد عامل فهو بمثابة صديق له،  يشاركه الهموم والمشاكل التي يعانيها مع أفراد عائلته، ولكن يبدو هنا أنه هو من يحمل همًا فوق ظهره ويتعبه، انتابه الفضول لمعرفة ما يحدث له فهتف بصوته الجهوري باسمه لينتبه له الآخر ويلبي النداء فتابع الآخر بابتسامة :- تعال يا سعيد نستريح قليلًا، لقد افتقدت الجلوس معك يا رجل .

بادله بسمة خفيفة تخفي خلفها ثقل الهموم التي يكابدها، وافقه الرأي فهو بحاجة للتحدث مع أحدهم لعله يرشده إلى الصواب، فشيء هكذا لا يمكن السكوت عنه يجب التحرك في أقرب فرصة، وإيجاد حلول لتلك الكارثة التي حلت فوق رأسه، ترك الدفتر من يده واتبعه للخارج، وتردد في أن يخبره أم لا كما طلبت الفتاة منه .

جلسا سويًا وعندما لاحظ صبري صمت الآخر أردف بمزاح :- ما بك يا سعيد هل أفتعلت مشكلة مع زوجتك قبل أن تأتي ؟ كيف حالك وحال ابنائك وعبدالرحمن ؟

أردف بود :- الجميع بخير وعبد الرحمن بخير أيضًا هو وصغارع يتصل بي يطمئنني عليه هو الباقي لي من عبق الغالية .

تمتم بدعاء :- رحمها الله، ولكن يبدو إنك لست بخير، ألسنا أصدقاء ومن الواجب أن نتشارك الهموم سويا ؟

تنهد بصعوبة وردد :- بصراحة يا حاج صبري أنا وقعت في مصيبة لا يعلم بها إلا الله ولا أعلم كيف أتصرف في حلها .

جحظت أعين الآخر بقلق مرددًا :- خير يا سعيد لقد اقلقتني .

ردد بتعب وهو يفرك جبينه بتوتر :- منذ حوالي شهر  كنت أجلس في المنزل في أمان الله، إلى أن سمعت طرقات صاخبة على الباب ومن هنا بدأت الحكاية، بنت صغيرة في مقتبل العمر وقعت أمامي فاقدة الوعي قبل أن تهتف بذعر بأن أنجدها.  استدعيت الطبيب  ليرى ما بها فأخبرنا أنها تعرضت لضغوط شديدة ونوبة هلع . بقلم زكية محمد

ردد صبري بهلع :- يا إلهي! ما هذه الرواية وكأنها أحجية .

أكمل بتوضيح :- لم يتحدث معها أحد في هذا الأمر، وفي ذات مرة أتت هي بنفسها  وقصت علي كل شيء، ومنذ ذلك الحين وأنا خائف لست على نفسي بل على أهل بيتي، لست قويًا كفاية لمواجهة هؤلاء الذئاب البشرية أبدًا .

صمت لبعض الوقت تحت أنظار صبري المنتظرة على أحر من الجمر بقية الأحداث، ليردد هو مقررًا أن يزيح ذاك الجبل الذي يجثو فوق صدره :- هذه الفتاة من عائلة ثرية للغاية ومعروفة على الصعيد الداخلي والخارجي، ترك لها والدها أموال ومستشفى كبيرة قبل وفاته، ولكن ليست هذه هي المشكلة بل المشكلة تكمن في أن زميل أبيها وابنه يودان التخلص منها وأخذ هذه الثروة لهما .

اتسعت أعين الآخر بذهول لما يسقط على أذنيه، ليردد بعدم تصديق :- يا إلهي أيعقل أن يكون هناك أحد مثل هؤلاء الاوغاد ! 
صمت ليردف بوجع خفي :- لا تستبعد ذلك في زمننا هذا، الآن صدق كل شيء وتوقع الغدر من أقرب الناس إليك، وكيف حال البنت الآن ؟

مط شفتيه بأسى وردد :- تمكث في الشقة ورافضة رفض قاطع بأن تخرج، وطلبت مني أن أذهب لأحضر لها شهادة التخرج الخاصة بها ولكنهم رفضوا يجب أن تكون هي بنفسها أو ولي أمرها من أقرب الناس إليها وها هي فقدته .

قطب جبينه بضيق مرددًا:- لا حول ولا قوة الا بالله.
فكر قليلاً ثم هتف بحزم :- اسمع يا سعيد مسؤولية هذه الفتاة من الآن فصاعدا ستقع على عاتقي أنا شخصيًا .

أردف بتوتر :- لا أقصد أن تقول هذا ولكن ..

ردد بصرامة وقاطع حديثه :- لا تكمل كلامك يا سعيد، سوف أذهب معك إلى المنزل اليوم، أود أن أرى الفتاة بنفسي، سآخذها البيت عندي وانتهى الأمر . وويل لأي أحد يجرؤ على أن يتعرض لشخص تحت حماية صبري الأنصاري .

تحدث بحزن على حالتها وما تعيشه من تعاسة فلم يرى أبدًا منذ أن أتت أنها ضحكت ولو لمرة واحدة :-  وما يزيد الطين بلة زوجتي وتصرفاتها، الفتاة تود أن تغادر وطلبتها مني صريحة، وأن أجد لها مكانا آخر تمكث فيه .

أردف ببساطة وهو يفكر في أمر ما :- اسمع كلامي  الكلام وأترك لي  الموضوع وإن شاء الله سيتم حله .

شعر براحة كبيرة تخللت في ثناياه فأخيرًا سيتخلص من حديث زوجته الناقم على وجودها بالمنزل معهم، ولن تحدث مشاكل مجددًا، بينما تحدث بريبة :- ولكن ماذا عن أهل بيتك ؟ ماذا سنقول لهم عندما يرونها ؟ لا أود أن تحدث مشاكل نحن في غنى عنها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي