الجزء السادس عشر

لم تنطق طيف من صدمتها فهي اعتادت طريقة جاسم وتعجرفه لكنها لم تعتاد منه أن ينطق بما لن ينفذه ، فهل كان قرار الخطوبة قد أُخذ مُسبقًا واتَّفق الطرفان على بنوده !!
أم أنه قرارًا للدفاع عن درة وهيئتها ..
تمنت أن تكون الأولى فهي لم تجد جاسم يتخذ قرارات مصيرية حفاظًا على غيره فإن كان كذلك فلا تريد أن تعرف ..
جلست طيف في غرفتها والدموع تنهمر من عينيها طوال الليل ومع كل دمعة تسقط تقسم أن حقها سوف يُرد وأنها ستجعله يندم أشد الندم دون أن تبوح له بذلك ..
فهو الذي اقتحم حياتها منذ أول لقاء ، هو من افتعل المشكلة ، هو أيضًا من اختلق الحرب بينهما ، هو الذي كذب عليها ولم يخبرها أنه المدير من البداية كأنه كان ينوي مواصلة الحرب ، لم تكن هي سوى ردة فعل لأفعاله ، هو الذي وضعها في تلك الخانة ..
هي التي عاشت طوال حياتها تدرس وتحصل على شهادات وتحضر مؤتمرات عالمية ، عاشت مدللة لا يجرؤ أحد على رفض أوامرها ، جاء ذلك المتعجرف دون موعد مسبق وغير ذلك كله ، لم يكن يملك الحق لفعل ذلك لكنه فعل ، لم يتركها حتى أن ترد إهانته ، لا يرى سوى غروره ، وتلك المخبولة الأخرى التي تشجعه فيما يفعله مع غيره ظنًا منها أنها ستفوز بقلبه ..
جاء الصبح وعين طيف تفصح عما أسقطته من دموع طيلة الليل ، فارتدت نظارة شمسية وذهبت للمشفى وهناك علمت أن حازم يريد د. جاسم لكنه لم يصل بعد ..
استأذنت د. نجيب الألفي مدير المستشفى أن تدخل لحازم حتى يصل د. جاسم فوافق لأن حازم أبدى تحسنًا في الآونة الأخيرة وليس هناك خطرًا إن تحدثت معه طيف ..
ذهب جاسم إلى منزله بعدما سحب درة من يدها أمام طيف وأدعى أنها خطيبته وللحق هي لم تنطق بشيء بل أظهرت فرحتها من خلال نظراتها وقدّرت حالته فلم تتحدث معه حتى أوصلها غرفتها ورحل هو ..
أول شيء قام بفعله هو إلقاء الخط الذي كان يهدد به طيف من الشرفة فهو لا يريد أن يتعامل معها ثانيةً ، وأقسم أنه لن يؤذي الممرض فطيف تستحق ما كان ينوي فعله معها ..
جلس هو الأخر في غرفته يفكر فيما صدر منه ، لا يعلم ما الذي دفعه لقول ذلك ؟ هو الذي رفض الارتباط لسنوات عديدة ، فعندما يحدث الأمر يحدث بتلك الطريقة ؟
أم أنه النصيب ! ولكن إن كان كذلك ، فهل يصير كما حدث ! إنه لم يدرك حقيقة مشاعره تجاه درة ، إنه غير متأكد إن كانت هناك مشاعر في الأساس أم لا ..
كل ما كان يفكر به هو إسكات طيف ، منذ أن كان صغيرًا وتعلم أنه إذا جلست معه فتاة أصبحت تحت حمايته ، فلا يصح أن تدفع جنيهًا ، لا ينظر لها أحد ، وإن ضايقها أحدهم بكلمة فكأنه وجهها له شخصيًا ..
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعدى طيف فيها حدودها ، تنسى أنها في مشفى وتتعامل وسط مرضى ، فإن كانت تريد مضايقتي فما ذنب هذه المسكينة ؟
وجب عليّ الرد ، إن لم أكن فعلت ذلك لدخلت درة في حالة لن أستطع أنا إخراجها منها ..
ربما أخطأت في الرد وتسرعت لكن تلك المستفزة هي السبب ، لن أنسى لك هذا يا طيف ..
عليَّ الآن أن أفكر فيما سأفعله ، هل سألتزم بما خرج من فمي وأتقدم لخطبة درة !
بهذه السهولة ! هل هذه من ستصير زوجتي ! هل درة تصلح أن تكون أمًا لأولاد دكتور جاسم حمدان ؟
لن أقبل على أمر دون أن أدرسه جيدًا وأيضًا لن أعود في كلمة قد نطقتها حتى إن كانت بغير قصد ..
دخلت طيف غرفة حازم لتجده جالسًا في ركن الغرفة ويتأمل السقف ، فجلست بجانبه ونظرت لما ينظر إليه قائلةً :- 
- تتفقد ملامح زين أليس كذلك ؟
لم ينظر حازم لها ، بل أومأ برأسه أي نعم
- هل لكَ أن تصفه لي ؟
شعر حازم بالسعادة لأنه سيشرح ملامح ذاك الملاك الذي يراه أمامه فقال :-
= أنه كالملاك ، لا يصدر صوتًا كبقية الأطفال ، بل يأكل إصبعه من شدة الجوع ، عيناه لونهما رمادي ، أنفه صغيرة لا تكاد تُرى ، أما فمه فهو يشبهني تمامًا ، يحرك يديه يمينًا ويسارًا ، ينتظر أن أحمله .. 
- طيف :- أي يشبهك !
لم يصدق حازم ما تفوهت به طيف فالتفت إليها وظل يتأمل ملامحها ، فمنذ أن دخل هنا ولم يتغزل به أحد كما فعلت ، فهي استطاعت أن تدمج بين عشقه لمولوده وبين إرضاء غروره كرجل شرقي ..
فلا يوجد أجمل من زين حتى تشبهه به ..
مد حازم يده لطيف قائلاً :-
= حازم وأنتي ؟
سلمت عليه مرحبةً :-
- طيف ، دكتورة طيف
عادت ملامح حازم للإنكسار مرة أخرى
= دكتورة ! ، حتى أنتي دكتورة ..
- أنت مش بتحب الدكاترة ؟
= لا
- ليه ؟
= مأنقذوش زين
- ممكن تحكيلي أنت فقدته ازاي ؟ 
تجمعت الدموع في عين حازم ثم قال في إيمان شديد نابع من قلبه :-
= إنها مشيئة اللَّه سبحانه وتعالى ، رب الخير لا يأتي إلا بالخير ..
- ونعم بالله ، فعلا معاك حق كل حاجة بيكون ليها حكمة بنعرفها في وقتها
= لا
- لا إيه ؟
= لا مش لازم نعرفها ، قرأتي  سورة الكهف قبل كده صح؟
-  أيوة الحمد للَّه
= ربنا قالنا 3 قصص مهمين جدًا حصلت بين سيدنا موسى -عليه السلام- و الخضر بس احنا مش بناخد بالنا منهم كويس
أولهم :- السفينة
سيدنا موسى -عليه السلام- كان ماشي مع الخضر فشافوا سفينة في البحر فالخضر اقتلع لوحًا من ألواح السفينة ، وقتها سيدنا موسى استغرب جدًا وأنكر الفعل ده وواجه الخضر
ثاني قصة :- الغلام
وهما ماشيين كان في مجموعة غلمان بيلعبوا فراح الخضر أخذ واحد منهم وقتله فسيدنا موسى مصدقش ! ازاي الخضر يعمل كده وربنا حرم قتل النفس وأنكر الفعل وواجه الخضر
ثالث قصة :- الجدار
سيدنا موسى والخضر دخلوا قرية وأهل القرية ديه رفضوا أنهم يأكلوهم أو يشربوهم ، فوهما ماشيين لقوا جدار كان على وشك أنه يقع ، راح الخضر عدله فسيدنا موسى قاله مش كنت خدت فلوس مقابل إقامته وأكلنا بيها ؟ وبرده أنكر الفعل ..
قاطعته طيف بعدما شعرت بالحس الديني الذي يملأ قلب حازم :-
- بس ده محصلش بدون حكمة ، في نفس السورة ربنا قالنا أن كان في ملك ظالم يأخذ كل سفينة سليمة فالخضر عمل كده عشان الملك يسيبهم ، والغلام كان جاحد بربنا -سبحانه وتعالى- وكان هيرهق أهله المؤمنين ، أما بقى الجدار فكان تحته كنز وأصحابه لسة صغيرين فحكمة ربنا أنهم كانوا يكبروا الأول عشان يعرفوا ياخدوا كنزهم ..
= ديه حقيقة ، بس مش هو ده اللي قصدته يادكتورة طيف ، اللي أقصده هل الناس ديه عرفت الحكمة وقتها ولا ولا ؟
يعني اللي كانوا في السفينة أدركوا أن الملك سابهم عشان ربنا بعتلهم حد يسببلهم أن الملك يسيبهم ولا انشغلوا في إصلاحها وخلاص ! ..
هل الوالدين إيمانهم بربنا كان كفاية أن يخليهم يتخطوا اللي حصل ؟ خاصة أن ربنا قال خشينا أن يرهقهما يعني هو مأرهقهمش بالفعل هو كاد أن ، في المستقبل ..
الأطفال لما كبروا افتكروا قصة الجدار ولا اهتموا بالكنز وبس !! ..
أوقات كتير بتكون الحكمة ادامنا بس مش بنكون عارفين أنها الحكمة ..
- ماشاء الله يا حازم ، شايفة أنك اتطورت جدًا وإيمانك بقى أقوى
= الفضل يرجع لدكتور جاسم
- هو دكتور جاسم اللي قالك كده ؟
= أيوة
- دكتور جاسم حمدان اللي قالك الحكمة اللي في سورة الكهف !!
= أيوة يادكتورة
- سبحـاااااااااااااانه
خرجت طيف من حجرة حازم وهي تضرب كفًا على كف فهل جاسم الذي تعرفه هو الذي أخبر حازم بهذا الكلام !!
وهي تحدث نفسها وجدت جاسم أمامها ، فاقترب منها متسائلاً :-
- هو أنتي كنتي بتعملي إيه هنا ؟
= كنت عند حازم
ارتفعت نبرة د. جاسم :-
- بتعملي إيه عند حازم يا طييف !!
= عرفت أنه كان محتاجك وأنت مجتش
- وأنتي مالك ؟
نظرت له نظرةً تحقيقية قائلةً :-
= هو أنت ليه مقولتليش أنك مدير مع د. نجيب ؟
ضحك جاسم بسخرية ثم قال :-
- للمرة الألف ياطيف تتخطين حدودك
= أنا أسفة يادكتور جاسم ، بس من معرفتي بيك عارفة أنك مش بتعمل حاجة بدون هدف ، فهل معنى أنك قولتلي أنك المدير أنك تخليت عن هدفك اللي خلاك تخبي ؟
لم يُستفز جاسم من كلام طيف فرد بهدوء :-
- ليس لكِ شأنًا ..
رحل ثم عاد ثانيةً وهمس لها :-
- بصفتي مديرك أخبرك ألا تقتربي من مرضاي يا طيف
ذهب لصديقه نجيب وجلس على الكرسي وأول ما تلاقت عينه بعين نجيب قال :-
- لقد أوقعت نفسي في ورطة
= ماذا حدث ؟
قصَّ جاسم ما حدث بالأمس على نجيب ، فثار جنونه وظل يسب طيف ويقسم أنها حصلت على شهادتها بالمحسوبية حتى وإن أظهرت كفائتها في علاج بعض الحالات في المشفى ثم أخبر جاسم بأنه سيرسلها تنتدب في إحدى المستشفيات الأخرى عقابًا عما فعلته ..
- ليس الآن يا نجيب ، ستظن أنني من فعلت ذلك
= كما تريد يا جاسم
ثم سأله : ماذا تنوي فعله تجاه درة ؟
- لا أعلم ، فلا ذنب لها بما حدث ، ولا ذنب لها بما تفوهت أنا ..
= هل ستقوم بخطبتها ؟
- لا أريد يا نجيب لكن ربما ..
هدأ جاسم قليلاً بعدما تحدث مع صديقه نجيب وقام ليرى سليم ويطمئن عليه ..
دخل فوجده على حالته الأولى لا يتكلم ويرفض الطعام والشراب ينظر إلى اللاشيء ..
- د. جاسم :- كيف حالك اليوم ؟
لم يرد سليم ..
- د. جاسم :- لِمَا لا تأكل ، ألم يعجبك الطعام ؟
لم يرد أيضًا ..
اقترب منه جاسم وأخبره إذا كان هناك شيء يضايقه فعليه أن يخبره وسوف يقوم بإيقافه على الفور ..
فشاور سليم على نفسه ..
- د. جاسم :- عفوًا !!
شاور على نفسه مرةً أخرى ثم قال :-
= هذا ما يضايقني ، أرجوك خلصني منه ، الآن
- حسنًا سأفعل لكَ كل ما تريد ، فقط أهدأ
= قلت لكَ الآن
وقف جاسم أمام سليم ليستعد لأي حركة سريعة قائلاً :-
- سأفعل ، ولكن أهدأ ، هلا أخبرتني بماذا يضايقك تحديدًا !
= بأنه مازال متمسكًا بالحياة
- لربما لديه هدف لم يصل إليه بعد !
= لا مزيد من الأهداف ، ولا الحياة
- ولكـن..
قاطعه سليم قائلاً :-
= ألم تقل أنك ستفعل ، خلصني منه الآن
بينما يتحدث هو ود. جاسم فإذا بسليم يقْم مُسرعًا ويضرب الباب بكتفه ويصعد جريًا للكافتيريا في الدور السابع ويضع قدمه اليمنى على السور المطل على نهر النيل وسط صرخات كل من حوله ..   

_ جيهان سيد ♥️
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي