الجزء الخامس عشر

نزل جاسم مسرعًا فإذا بشاب ، تستنتج من هيئته أنه ربما هو مقبل على العقد الثاني من عمره يرتدي بنطالاً جينز وقميصًا أبيض بهيئة غير مهندمة ، على عكس مرضى الآونة الأخيرة لا يصرخ ولا يرفض الدخول للمشفى ، بل هو هادئًا تمامًا لا يتفوه بحرف ينظر إلى الأسفل بحركة عين سريعة ، ترتعش يداه قليلاً معلنة عن توتره ..
قطع تأملي له د. نجيب الألفي :-
= MDD
- د. جاسم :- بالتأكيد ، من جلبه لهنا ؟
= د. نجيب :- أخيه ، قال أنه منذ فترة قصيرة وحالته غير مستقرة ، يغضب من أقل شيء ، يصرخ في وجه والدته ، رُفد من عمله ، أقنعه أن يأتي إلى هنا لربما يجد العلاج ..
لم أجد أفضل منكَ لأرشحه ..
- د.جاسم :- لا تقلق ، كل شيء سيكون على ما يرام ..
بينما كانت طيف تتابع الموقف من بعيد ، فاقتربت غاضبةً موجهة كلامها إليَّ :- هل تشخص الحالات دون الكشف عليهم ؟
- د.جاسم ببلاهة :- عندما تصبحين في مستوايّ العلمي ستشخصين المرضى قبل أن تشاهديهم ..
= كيف يمكن أن يحدث ذلك ؟
- إذا كنتِ تعلمين لكان رشحك د. نجيب بدلاً مني ..
ثم تركها ورحل ليبدأ رحلته العلاجية مع مريضه الجديد وذهبت هي حاملة غضبها معها لتلحق بـد. نجيب الألفي حتى لحقته
= طيف :- دكتور نجيب دكتور ، دكتور نجيب لو سمحت
- د. نجيب :- نعم يا د. طيف
= أنا عاوزة أعالج الحالة الجديدة
استغرب نجيب من طلب طيف فهي معها عدة حالات وتبدي أداءًا لا بأس به بالنسبة لحداثتها ..
- ليه ؟
= اشمعنا دكتور جاسم اللي هيعالجها ؟
- أفندم !!
= أنا أسفة يا دكتور نجيب مش قصدي ، بس ليه حضرتك رشحته هو ؟
- لأن هو أكفأ طبيب عندي ياطيف
= طب وأنا ؟
- دكتور طيف أنتي دكتورة شاطرة جدًا رغم أنك صغيرة ، لو قارنتي نفسك بناس ضيعت عمرها في العلم أكيد هتكون مقارنة غير متكافئة ..
= بس أنـا ..
قاطعها د. نجيب :-
- أنتي معاكي حالات كويسة وملاحظ تحسنها في فترة صغيرة ، أنا هعدي المرة ديه لأنك لسة جديدة ، لكن ياريت تفرقي بين دكتور زميلك وبين مديرك ، وياريت نلتزم بشغلنا وبس يادكتورة
= حاضر يا دكتور ، أنا أسفة
لأول مرة تشعر أنها تحمل كرهًا تجاه د. جاسم حمدان ، لا تعلم إن كانت هي المخطئة عندما قارنت نفسها به أم عندما لم تصفعه على وجهه حتى يُدمى ..
أقسمت بداخلها أنها ستنتقم منه ولو بعد حين ولو كلفها الأمر أن تضحي بنفسها ..
ذهب د. جاسم ليجلس مع حالته الجديدة ، فاقترب من المريض ليرى ردة فعله ، ازداد توتره وشبك أصابعه في بعض وزادت حركة عينه ، فابتعد ثانيةً خشيةً غضبه ..
جرب جاسم أن يتحدث :- هل تسمح لي بالحديث معكَ ؟
ما إن تفوه بتلك الكلمات حتى ثار جنون المريض وظل يصرخ ويخبط رأسه في الجدران فأسرعوا الممرضين والممرضات في تهدئته وقاموا بربطه بالحبال حيث فقدوا السيطرة عليه فأعطوه مهدأ فغاط في سبات عميق ..
خافت طيف مما رأته فهي مازالت جديدة ولم ترى جميع الأعراض الخاصة بالأمراض النفسية بينما لم يتأثر جاسم فقد رأي الأصعب تكرارًا ومرارًا ..
نظر جاسم يمينًا فوجدها خائفة فضحك رغمًا عنه قائلاً باستهزاء :- وكنتِ تريدين معالجته ..
همَّ للرحيل لكنها قالت بصوتٍ عالٍ منفعل :- أقسم بالله لتندم
التفت لها جاسم بسرعة واقترب منها والغيظ يعلو وجهه :-
- أنتي قولتي إيه ؟
لم ترد طيف حيث شعرت لأول مرة أنها تخشاه وتخشى نبرة صوته
مد يده وضغط على ذراعها :- أقسم بالله لو اتكررت تاني لهمحيكي من على وش الأرض
اجتمعت الدموع في عينيها وكادت أن تسقط فضغط ع ذراعها بقوة أكثر ثم تركها وهو يتمتم في سره ..
قطعت طريقه درة فرأته غاضبًا فلم تتفوه بكلمة وسارت وراءه ، صعد لمكتبه فقبل أن تدخل استأذنته فسمح لها ، جلست ومازالت صامتة مدت يدها ولامست يده قائلةً :- أنا أسفة ..
- د. جاسم :- على ماذا تعتذرين ؟
= لا أعلم لكنك غاضبًا فوجب عليّ الأعتذار لكوني أجهل سبب غضبك
لأول مرة يقع جاسم تحت تأثير كلمات أنثى ، لكن رد فعلها كان يخطف القلب ، فعندما رأته غاضبًا لم تتكلم بل جعلته يشعر بوجودها دون أن تتحدث ، لم تقتحم خصوصيته عندما دخل غرفته بل استأذنت أولاً حتى سمح لها ، وحتى عندما سُمح لها أثرت الصمت بل طمأنته فقط ، كل هذا دون كلام ..
تأمل جاسم ملامح درة وكأنه يراها لأول مرة فتأمل تلك العينين الجذابتين تلك الملامح الهادئة البريئة التي كان يغطيها المرض وما إن تلاشى حتى برزت ..
- شكرًا يا درة
= على ماذا ؟
- شكرًا وكفى
لم تَلَحُّ درة لتعرف سبب غضبه بل اكتفت أنه صار بخير ..
على الجانب الآخر كانت تبكي طيف بحرقة ، فقررت ألا تخوض حربًا مباشرة ثانيةً ، فجاسم من نوع العدو الذي يخشاه عدوه إن اقترب منه لكن إن جاء من خلفه فلا هناك وقت للخوف ، لن تحاربه من أمامه ثانيةً ستعد خطة مدروسة وتفكر بعقل د. جاسم حمدان حتى تتغلب عليه ..
ذهب جاسم ليقرأ بيانات المريض الجديد فعلم من الأوراق المقدمة أنه يُدعى سليم عزام يبلغ من العمر ثلاثون عامًا ، لم يصدق د. جاسم في بادئ الأمر فهيئته لا تعطيه أزيد من تسعة عشر عامًا ، بالتأكيد هو الـ MDD كما قال د. نجيب الألفي ..
يعمل بمهنة التدريس بجامعة حلوان كلية الآداب قسم الجغرافيا ، لقد كان من أوائل دفعته لذلك تم تعيينه فور تخرجه وحصل على درجة الماجستير في وقت سريع ولكنه لم يحصل على الدكتوراة بعد ..
أما عن حالته الإجتماعية فهو أعزب ، توفى والده وهو في سن السابعة ويعيش مع أمه وأخيه الأصغر في إحدى أحياء منطقة حلوان ، حيث انتقلت أخته للعيش مع زوجها في محافظة المنيا ..
كان ونعم الابن ، حتى شهرًا واحدًا فقط فقد تبدلَّت حالته للأسوء ، لا يأكل ولا يشرب ، يصرخ بلا سبب ، أقالته الجامعة للتحقيق أولاً ثم رفدته ، حتى تم إقناعه بصعوبة أن يأتي إلى هنا فوافق على مضض ..
ذهب د. جاسم إليه ليجده نائمًا فانتظره حتى يستيقظ فهو يعلم أن مفعول الدواء سينتهي بعد قليل ، ما إن فاق سليم حتى نظر لجاسم نظرات بائسة لا روح فيها فحاول جاسم أن يطمئنه بنظراته ولكن دون جدوى ..
حاول أن يتحدث معه لكنه كان صامتًا ..
مر اليوم الأول هكذا والثاني وأيضًا الثالث ، لا يأكل بل يعيش على المحلول الأزرق الذي يتسرب إلى يده ..
اليوم الرابع لا جديد والخامس شعر جاسم باليأس يتسرب إليه فقد حاول محاولات عدة لكن سليم لا يستجيب لأي واحدة منهم ..
جاء اليوم السادس وكان اليوم المشهود بالنسبة لجاسم فقد حدثه سليم متسائلاً :- لِمَا أنا هنا ؟
ليرد جاسم بسرعة :- حتى تتعافى
فصرخ سليم قائلاً :- من لديه الحق أن يقرر أن ما بداخلي يحتاج للتعافي ؟
هدأ جاسم من روعه أولاً ثم أخبره أنه إذا لم يعترف بوجود المشكلة فلن يجد طريق الخلاص أبدًا ..
لم يستجب سليم لكلامه المعسول وظل يصرخ ويخبط رأسه في الجدران مرة أخرى فلجأ جاسم ثانيةً للمهدئات حتى يغطو في سبات عميق ..
كانت طيف تراقب كل هذه التصرفات في صمت تام ، فطوال الستة أيام الماضية لم يُسمع لها صوتًا ، كانت طبيبة روتينية ..
تأتي في الصباح الباكر ، تأخذ مشروبها المفضل ، ثم تذهب إلى مكتبها لتتفقد التقارير ، تمر على مرضاها وتطمئن عليهم ، توقع في ميعاد الانصراف ثم ترحل وهكذا ..
وكان جاسم مشغولاً عنها بمريضه الجديدة فلم تبدأ جولةً جديدة من حربهم .. 
كانت درة تشتاق لجاسم لكنها تقدر عمله فلم تثقل عليه ، تركته حتى جاء هو لها معتذرًا عن غيابه فتفهمت الأمر جيدًا دون أن تصرخ في وجهه ، طلبت منه أن يعوضها عن ذلك الأسبوع فصعدا إلى منضدتهما وطلب لها مشروبها المعتاد وطلب لنفسه كوبًا من القهوة ..
= درة :- ناوي على إيه في اللي جاي يا جاسم ؟
- جاسم :- أتمنى مكنش بحسبها غلط المرة ديه
= هو أنا وحشة ؟
تفاجىء جاسم من سؤال درة لكنه لم يرد سؤالها بسؤال أخر بل أجابها :-
- أنتي جميلة ، وجودك فارق معايا جدًا الفترة ديه ، مهون كتير ، كتير أوي
استغلت درة أنها تسمع ذلك الكلام من جاسم فأسقطت دمعة من عينيها قائلةً في تمسكن :- أمال ليه حصل معايا كده ، ليه كل حاجه بتمناها مش بلاقيها ، ليه بابا مش بيسأل عني ، همه شكله ومش همه بنته ، أنا دايمًا بقدم لكل اللي حواليا لكن عمر ما حد قدملي ، ده عمر ما حد قالي شكرًا حتى
قطع كلامها بأن سحب يدها بخفة وطبع قبلة عليها قائلاً :- شكرًا على كل اللي بتعمليه معايا
لم تصدق درة ما حدث ، ظلت تنظر إليه وتتأمل ملامحه ، هل دكتور جاسم حمدان ذاته هو من قبل يدها ؟؟؟ هل سيبتسم لها القدر ويهديها إياه ، هل سيكون العوض جاسم ؟
رأتهما طيف فاشتدت الغيرة بداخلها فاقتحمت جلستهما قائلةً لجاسم :-
= بزمتك مش مكسوف من نفسك في دكتور يعمل اللي أنت بتعمله ده !! نسيت أن في ناس حواليك ؟
ثم نظرت لدرة نظرة احتقار قائلةً :-
وأنتي بقى المريضة اللي بتتعالج صح ، والله العظيم ليه حق أبوكي يـ ..
انهمرت الدموع من عين درة ، فلم تكد تكمل جملتها حتى قام دكتور جاسم وسحبها من يدها أمام الجموع قائلاً بأعلى صوت يمتلكه :- تقريبًا أنتي اللي نسيتي نفسك ونسيتي أنك مجرد واحدة بتشتغل عندي ، ده أخر إنذار ليكي ياطيف لو معرفتيش أنتي شغالة فين وعند مين أنا هخليكي تندمي أنك درستي الطب قبل كده ، أنا مسمحش لواحدة زيك أنها تكلم خطيبتي كده
ثم اقترب من درة ومسح دموعها بيده وربت على كتفها وطبع قبلة أخرى على يدها ثم أخذها ورحل ..

_ جيهان سيد ♥️
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي