الفصل ٢٣
خطت قدمها الى داخل البيت الذي عرف طفولتها وصباها وكما لم يتغير بيت الحاج رحيم , لم يتغير بيت نجوى زوجة والدها والتي ورثته عن والدها , فلم تملك منه درة شيئا
ونجوى من كرمها ربت درة بين أولادها حين أترى بها والدها إليها معتذرا على نزوته العابرة في زواجٍ ثانٍ ثم وفاة أمها لتبقى الصغيرة معه لا يجد من يرعاها
قبلت بها نجوى مرغمة و ربتها بما يرضي الله ولم تناديها درة سوى بلقب أمي
توقفت درة وقاسم خلفها يدخل حاملا حقيبتها
ثم رفعت وجهها لترى أختها واقفة تضع يدا فوق يد وهي تنظر إليها بنظرة ناقمة وملامح مكتومة تخفي الاضطرار خلفها
تكلمت صفية قائلة بوجوم ودون ملامح ترحيب
- أهلا يا درة مضى وقت طويل منذ آخر مرة رأيتك فيها أو سمعت عنكِ شيئا
رفعت درة ذقنها وهي ترمقها من أعلى رأسها و حتى قدميها لقد كبرت و ظهرت علامات الشقاء على وجهها بينما ازداد وزنها على الرغم من أن درة نقصت وزنا والعجيب أن الإثنين جمعهما الجوع
لكن تظل درة تلك المرأة التي تجوع بأناقة
ابتسمت ببرود وردت بنبرة هادئة
- منذ هروبي وخوض الجميع في شرفي
ردت صفية بقسوة وقد فقدت بعضا من السيطرة المفروضة عليها
- وهل توقعتِ خلاف ذلك ؟! أنتِ حتى لم تفكري في سمعتنا بعد ما أقدمتِ عليه بكل أنانية و انعدام أخلاق
فتحت درة فمها لترد الا أنها لم تجد الفرصة , فقد تقدمها قاسم ليقف أمامها يخفيها عن صفية وزوجها وأخيها مروان الذي خرج الآن من غرفته مع زوجته ينظران إليها بكرهٍ واضح وصدورهم لا تحمل لها الخير أبدا
تكلم قاسم مخاطبا الجميع وهو يضع الحقيبة أرضا بنبرة هيمنة أجبرت الجميع على الصمت
- كلامي مع مروان كان واضحا درة أصبحت خطيبتي , أي زوجة قاسم رحيم المستقبيلة غير مسموح بأن يمسها أحد بكلمة أو تصرف
ثم استقام وهو ينظر الى عيني مروان الغاضبتين وتابع بصوتٍ مهدد قاسٍ
- غير مسموح بلمسها حتى
اتقدت عينا مروان وهو يقول بعنف بينما زوجته تجذب مرفقه كي لا يتهور ,الا أنه لم يستطيع منع نفسه
- اسمح لي يا سيد قاسم , درة ستكون مسؤولة منك حين تكون تحت سطح بيتك زوجتك أما الآن فهي في بيت أخيها ومن حقه أن يربيها , ولن أمرر ما تسببت فيه دون عقاب يكسر عظامها
تقدم قاسم خطوة ورفع ذقنه ليقول بهدوء شديد رغم خطورة نظرات عينيه
- حاول أنا أنتظر
توتر الجو وتوقف العديد من الأطفال عن اللعب وهم يراقبون ما سيحدث تقدم مروان خطوة , بينما ظل قاسم مكانه واضعا كفيه في خصره دون أن يتحرك وعلى الرغم من ثباته , اضطرت درة الى التقدم حتى مست معصمه قائلة ببرود
- لا داعي يا قاسم أنا
الا أن قاسم قاطعها قائلا بسطوة وصرامة دون أن يلتفت إليها
- اصمتي أنتِ
شعرت بالغضب يعتريها بجنون وهي تسمعه يخاطبها بهذه النبرة فزمت شفتيها محتقنة الوجه
بينما تابع قاسم سائلا ببرود
- نستطيع أن نتواجه الآن وإن كنت لا أفضل لك أن يتم هذا أمام أولادك لكن وبعد أن أنتهي منك , هل أنت مستعدا لمعاداتي ؟!
تحركت صفية بسرعة حتى أمسكت بكتف مروان وارتفعت على أطراف أصابع قدميها لتهمس في أذنه بشيء بعصبية مما جعل ملامحه تتجهم أكثر وتكفهر , لكن يتراجع إصراره ويتخاذل حينها تولت صفية الكلام وهي تقول بتوتر و خنوع
- لن نمسها بسوء يا سيد قاسم درة فوق رؤوسنا وفي أعيننا
جال قاسم بعينيه بين وجوه الجميع ليرى إن كان هناك من سيعترض لكن بدت الأفواه صامتة , والأعين منكسرة بذلة أما درة فقد رفعت ذقنها و على شفتيها طيف ابتسامة وفي عينيها الرضا البارد
ثم سألت وهي تدير رأسها وكأنها تعاين المكان بشك
- هل عاد مروان ليقيم هنا بزوجته و أولاده ؟!
سألت صفية بقلق
- وأين سيذهب ؟! هذا بيت أمه ويظل مفتوحا له
نظرت درة إلى وجه أخيها ثم سألته بصلف
- ألم تتمكن من إدخار ما يمكنك من شراء بيت لنفسك ؟!
رمقها بنظرة شريرة دون أن يجيبها , فتدخلت زوجته تقول بصوتٍ خافت
- لم ندخر ما يكفي حتى لشراء جدار واحد في بيت جديد
قامت درة بعد الأطفال لقد كبر من تعرفهم وهناك أطفال جدد فنظرت الى صفية وسألتها بسخرية
- لقد أنجبتم المزيد من الأطفال !!
عقدت صفية حاجبيها وهي تسأل باضطراب
- هل هناك مشكلة في ذلك ؟!
زادت ابتسامة درة قساوة وهي تقول ببرود
- ما شاء الله , زاد عدد أطفالك وعدد أطفال مروان ثم عاد الى البلدة بزوجته وأولاده كل هذا و لم تتمكني من أن تجدي لي أريكة أنام عليها منذ سنوات !!
عقد قاسم حاجبيه وهو يخفض وجهه قليلا غير راغبا في سماع هذا الحوار , بينما ردت صفية بتوتر خوفا من بطشه إن أساءت اختيار كلماتها مع درة
- كل طفل يأتي برزقه توقفي عن عد أطفالي , هذه ليست المرة الأولى التي تقومين فيها بهذا
أومأت درة قائلة بابتسامة باردة
- كل طفل يأتي برزقه , لكن ليس الأخ لكن حين عاد الأخ فتح البيت أبوابه لأنه الشقيق أما الأخت من أم أخرى فرصتها ضعيفة جدا في الحصول على مأوى بين أخوتها
ردت صفية بقوة
- هذا بيت أمي من الأساس , لا تملكين فيه شيئا ألأنها ربتكِ تتوقعين أن ترثينها أيضا ؟!
صرخت درة فجأة بعنف وهي تشير الى صدرها
- لا أتكلم عن أي ميراث أو جدران أتكلم عن إخوتي اللذين القوا بي في بيوت الأغراب لا ألوم أمك فقد فعلت كل ما عليها و لا صلة دم تجمعني بها أما أنتم فلا أي رجلٍ هذا الذي يلقي بأخته في البيوت ؟! وأي أختٍ تلك التي تتعذر عن إيجاد أريكة لي والآن تتجرؤون على محاسبتي على هربي و التحقيق في شرفي ؟!
شعرت درة فجأة بقبضة قوية تمسك بمعصمها كي تتوقف فرفعت وجهها تنظر الى قاسم الى منعها بنظرةٍ واحدة من عينيه الصارمتين وبالفعل صمتت وهي تلهث بعنف , غير مصدقة أنها فقدت أعصابها الى هذا الحد رغم أنها كانت تنوي الصمت و الاستمتاع بالنصر البارد لكنها وجدت نفسها غير قادرة على الصمت ما أن رأت وجوههم الغير مرحبة والكارهة لاستقبالها
زفرت زفرة طويلة وهي ترفع يدها لتبعد شعرها الأشعث عن عينيها مخفضة وجهها أما قاسم فقد سأل بصوتٍ قاسٍ أسكت به الجميع
- أين ستنام درة ؟
بقت صفية صامتة مشيحة بوجهها , بينما كانت ملامح مروان تصارع في حربٍ عنيفة ما بين الرغبة في الهجوم عليها و قتلها لتعديها على رجولته المفترضة وبين الخنوع أمام قاسم الذي يساعد هذه العائلة بما يستطعه منذ سنوات وعليه الآن أن يحني رأسه أمامه
لذا تطوعت زوجته تقول بخفوت
- درة سيكون لها غرفة مستقلة كما طلبت ونحن سنحاول ترتيب نومنا الى حين زواجكما يا سيد قاسم
أومأ قاسم برأسه موافقا دون رد ثم نظر إلى مروان وخاطبه بعبارة واحدة
- تعال , أريدك
لحق به مروان بخطواتٍ متثاقلة وكلا من زوجته وصفية تترجيانه تربتان على صدريهما كي يطيعه فلا ينقلب عليه
لكن حين مر بدرة وقف بمحاذاتها وهو يرمقها بنظرةٍ شرسة , فلم تخف منه بل رفعت رأسها و نظرت اليه بتحدٍ وصلف مما جعل قاسم ينادي بقوة صارما
- مروان
وصل مروان إليه ونظرت درة إليهما عن بعد , كان قاسم يتكلم بصوتٍ خفيض و كأنه يملي تعليماته , ومروان يخفض رأسه مكفهر الوجه واضعا يديه في جيبي بنطاله بحنق وما أن انتهى حتى رأته درة يخرج حافظته من جيبه ويخرج منها العديد من الأوراق المالية مد يده بها الى مروان الذي أخذها ببطىء دون أن يتفوه بكلمة
تذكرت قديما حين كانت تشعر بالخزي كلما مدت صفية يدها تأخذ مساعدة مالية من قاسم وكانت تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها , أما الآن فشيطان انتقامها جعلها تشعر بالرضا
الى أن سمعت درة صوت قاسم يناديها بنبرة آمرة
- درة سأنتظرك في الخارج لأودعك
تحركت درة رافعة وجهها مبتسمة وهي تشعر بنظراتهم تلاحق خطواتها الأنيقة المتمهلة حتى خرجت من باب البيت , لتجد قاسم واقفا يولها ظهره بصمت , وما أن سمع خطواتها من خلفه حتى استدار إليها محدقا في عينيها عبر الظلام , فلم تستطع تبين تعبير وجهه بوضوح
الا أنه حين تكلم كان صوته عميقا وهو يقول بهدوء
- أنا مضطر للذهاب الآن فقد سهر أهل البيت بسببنا طويلا
شعرت بالخوف فجأة من فكرة أن يتركها هنا بمفردها فقالت بخفوت ولهفة قبل أن يرحل
- قاسم أنا وجودي هنا غريب , أسمعت ما قالت ؟! أنه بيت أمها و لا يحق لي البقاء كرامتي لا تسمح
ابتسم قاسم حتى ظهرت أسنانه في الظلام , ثم أجابها بصوتٍ أجش خفيض
- من يسمعك يظنك الجانب المظلوم هنا !! أنتِ أيضا لم تتهاوني معها في الرد و جعلتِ منها ومن أخيكِ مصفاة أرز من شد كلماتك الأشبه بطلقات الرصاص أمام أطفالهما و زوجيهما
تنهدت درة مبتسمة رغما عنها وهي تحك جبهتها هامسة
- لا أعرف أنا فقط , ما الذي جعلني
صمتت لا تعرف كيف تكمل كلماتها , فتطوع قاسم يقول بخفوت وهو يرفع أصابعها ليمشط بهما شعرها المنسدل على جانب وجهها بلمسة خفيفة للغاية
- لا تفكري فقط استمتعي بانتصارك
مالت بعينيها تنظر إلى أصابعه المنزلقة حتى وصلت الى أعلى صدرها دون أن تلمس جسدها , الا أنها شعرت بنفسها تتحرق وتتلون فتراجعت للخلف
ما يحدث ليس صحيحا مطلقا إنها تمر بفترة احتياج عاطفي و قاسم آخر شخص ينبغي أن تتواجد بقربه حاليا ..
تكلم قاطعا أفكارها ليقول بصوتٍ أجش
- يجب أن أذهب حالا سأراكِ غدا سآتي لزيارتك للاطمئنان عليكِ يا خطيبتي
رفعت وجهها إليه تسأله بشك
- حقا ؟!
أومأ برأسه ببطء ثم أجاب بصوت أكثر خشونة وانخفاضا
- وبعد الغد وبعده وبعده
شعرت بالراحة رغما عنها , الا أنها سألته ساخرة
- هل أنت عاطل يا خطيبي ؟!
ابتسم دون ردٍ على سؤالها , ثم قال بهدوء
- هاتفك معك , إن حدث أي شيء اتصلي بي في أي ساعة من الليل وسآتي على الفور لقد سجلت لكِ رقم هاتفي
أومأت برأسها بصمت دون رد ثم همست مضطرة
- شكرا يا قاسم لكن أرجو أن تذكر نفسك بأن هذه الخطبة مجرد مسرحية لا غير
ابتسم و ظل صامتا طويلا , فتمنت لو ترى عينيه لكنه كان مسبلا جفنيه , ثم قال أخيرا بنفس النبرة الهادئة
- لا تبالغي في إعطاء نفسك أكبر من قدرها يا درة سلام يا خطيبتي المسرحية
لوح لها في حركة هازئة ثم استدار وانصرف بينما زمت شفتيها وهي تشتمه بعنف على قلة ذوقه وانعدام تهذيبه
فدخلت مسرعة صافقة الباب , ترجو لو كان قد صُفَق على أنفه أو أسوأ تبا له
.....
" أنا آسف يا شغف آسف لأنني أستغلك على هذا النحو , لكن مقاومتي لكِ باتت مستحيلة "
لا ينفك صوته يدوي داخل أذنيها بتلك العبارة التي همس لها بها بنبرة صوته الآسرة بعد أن احتواها بين ذراعيها بكل طوفانه العاطفي العنيف
ربما كانت من ألطف العبارات التي سمعتها وجعلتها تبتسم كلما تذكرتها بصوته
هو يستغلها ؟! ويعتذر أيضا ؟!
ضحكت شغف باستمتاع وهي تتذكر نبرته مجددا بتلك العبارة بعد أن اكتشفها بكل طرقه العاطفية جرأة ونعومة متعرفا على أسرار ضعفها واحدا تلو الآخر يداعب أتوار جسدها بأصابعه وشفتيه العازفتين بمهارة لم تصدق من قبل أن يمتلكها
عادت لتضحك مجددا حتى أن الدموع غشت عينيها وهي تضحك متنهدة بنعومة ثم خفتت ضحكتها وبهتت ابتسامتها حتى سكنت تماما جالسة على حافة نافذة غرفتها وظلت تحدق في المنظر أمامها بصمت مطبق قبل أن تهمس بهدوء
- وعدتني ألا تتركني كنت حبل النجاة الوحيد المتبقي لي
أسبلت جفنيها وهي تحيط ركبتيها بذراعيها , لكن صوت رسالة من هاتفها جعلها تنتبه وتتصلب قبل أن ترفع رأسها وتطاله بسرعة من فوق منضدة جانبية لترى مصدرها وكما توقعت أو كما تمنت كانت الرسالة منه
اشتدت شفتاها للحظة , بينما تحولت ملامحها بلمح البصر الى قناعٍ قاسٍ في منتصفه عينين حادتين مخيفتين رغم سكونهما وهما تقرئان الرسالة
- لا أحب لعبة الرسائل تلك أتظنين أنني أحد أولئك العاجزين اجتماعيا كي أحاول الوصول الى فتاة عبر رسائل الكترونية ؟! فلنتقابل اليوم
خرج نفس بطيء من بين شفتيها الجافتين , ثم كتبت له ترد عليه
- لماذا تراسلني اذن إن كنت تتمتع بالحصول على أي فتاة تريد ! لماذا تضيع وقتك معي ؟!
وصلها الرد يحمل سخرية غاضبة بين الكلمات
- فكرت في السبب طويلا , فلم أجد سوى احتمالين إما أن لكِ أسلوب مستفز يجعل من يقرأ رسالة منكِ يدمنك , أو أنني أنتظر التأكد من كونك ذكرا لا أنثى وحينها ستتمنى لو ولدت أنثى ما أن أعثر عليك
لم تبتسم , بل كانت تقرأ باتزان شديد حتى أنها وضعت نظارتها الطبية التي نادرا ما تضعها لتعيد قراءة الرسالة على مهل
زمت شفتيها للحظة مفكرة , قبل أن تبعد الهاتف عنها قليلا , تمسكه بيد بينما مدت معصمها باليد الأخرى أمام كاميرا الهاتف لتصورها قبل أن ترسل له الصورة !
صورة كف جميلة بأصابع بيضاء ناعمة وأظافر منمقة في كل اصبعٍ حلقة ذهبية رقيقة وفي المعصم ساعة فخمة كتبت مرفقة بالصورة
- انظر الى الساعة والتاريخ المسجل بها إنه الآن , هذا يعني أن هذه اليد هي يدي فما رأيك بالعينة ؟!
مرت فترة قصيرة , قبل أن يصلها الرد منتشيًا يكاد أن يلهث كالكلب خلف صورة لا تكشف عن شيء على الرغم من قدرته على الحصول على الكثير من الفتيات كما قال بالفعل
- إن كانت هذه هي العينة , فكيف تكون البضاعة كاملة اذن ؟! ما تلك النعومة والجمال ؟! والأصابع التي بدأت أن أتخيل مرورها من فوقي في هذه اللحظة أريد أن أراكِ حالا
تحرك حلقها بصعوبة وهي تركز تفكيرها تعض على شفتها مفكرة في كل كلمة ألف مرة قبل أن ترسلها
ثم كتبت بحذر
- ماذا تفعل الآن ؟
وصلها الرد بأسرع مما تنتظر , لكنه كان أقذر مما توقعت
- لن يعجبك الرد , فأنا استيقظت للتو ولست بمفردي , لكن إن أحببتِ التقينا فللنهار جماله بعد ليل طويل
أغمضت عينيها للحظات طويلة شاعرة بالدوار إلا أنها أخذت نفسا عميقا , ثم آخر
قبل أن تلعق شفتيها وهي تكتب له بحذر أكبر
- لا تتسرع , لست أنا من تكمل بها الليلة في نهارٍ عابر مجهد أنا أستحق الانتظار وتأكد بأن كل لحظة تقضيها معي ستكون بحياتك كلها
مضت فترة قبل أن يرسل لها سائلا
- هلا أرسلتِ لي اذن صورة لعينة أخرى كي أطمئن لاستحقاقك هذا الانتظار ؟!
عضت على شفتها العليا مفكرة في الرد , ثم أبعدت الهاتف قليلا وأخذت تصور عدة صور قبل أن ترسلها له
لكن قبل أن ترسل الصور كتبت رسالة
- الصور الرخيصة لا تناسبني لكن ما رأيك في الأشياء الغالية ؟
من الجانب الآخر رأى الصور واحدة تلو الأخرى مفتاح سيارة تحمل اسما يعبر عن قيمة ضخمة للغاية جانب من منظر الحديقة التي تطل عليها النافذة لا تكشف العنوان خاتم زواجها
ضاقت عينا من يحدثها ثم كتب لها
- وااااااو أنتِ من نفس المستوى وعلى الأغلب أعرفك فليس هناك الكثير ممن يمتلكون مثل هذه السيارة ومتزوجة أيضا !
عضت جانب شفتها قبل أن تكتب
- نعم هل يمثل هذا مشكلة بالنسبة لك ؟
ابتسمت الشفتان العابثتان الذكوريتان , ثم كتب يرد عليها
- إن كان لا يمثل مشكلة لزوجك فلن يفعل بالنسبة لي على أن آخر مرة لم تنتهي على نحوٍ رائع لكن لكل جوادٍ كبوة كما يقولون
ظلت عيناها تقرئان من خلف زجاج نظارتها ومن خلف زجاج الشاشة ومن خلف زجاجهما القاتم البارد
ثم كتبت له أخيرا مبتسمة دون مرح
- يجب أن تنتهي على نحوٍ رائع اذن فلن أقبل بأقل من ذلك
ابتسمت الشفتان الذكوريتان مجددا , قبل أن يصلها الرد
- هل تقصدين حين نكون سويا ؟! أعدك أن تكون أعتقد أنها ستكون الأروع حتى و إن لم تكوني جميلة , فغموضك وحده يكفي لإشعال الإثارة بداخلي
أغلقت شغف المحادثة ثم ألقت بالهاتف فوق السرير قبل أن تفتح النافذة لتشهق بصوتٍ عالٍ طالبة أكبر قدر من الهواء بعد أن زاد الدوار من حولها و أوشكت على الإصابة بالإغماء ثم لم تلبث أن صرخت عاليا صرخة وحشية شقت عنان السماء و أفزعت بعض الطيور على شجرةٍ قريبة
سمعت طرقة على باب غرفتها بينما هي تستند بوجهها الشاحب إلى إطار النافذة فنادت دون حماس
- ادخل
دخلت لوسي الى الغرفة حاملة كيس كبير وقالت بلغتها الأجنبية أن هناك من ترك هذه الأغراض لها ثم انصرف !
نهضت شغف من مكانها لتقف أمامه ثم فتحته ببطء وترى ما فيه حينها رفعت عينيها إلى لوسي وسألتها بلهفة وبنبرةٍ حارة ترتعش
- هل خاطر هو من أحضره ؟! أهو هنا ؟
ردت عليها لوسي بتكسر
- لا , ليس السيد خاطر بل رجل آخر وانصرف
أسبلت شغف عينيها , ثم أومأت برأسها تقول بصوتٍ فاتر
- لا بأس اذهبي أنتِ يا لوسي
وبعد خروجها جلست على حافة السرير , لتفتح الكيس بأصابع مهتزة فأخرجت علبة تعرفها جيدا فقد اختارتها لمكرم بنفسها وضعتها جانبا بملامح ثابتة ونظراتٍ متزنة
ثم أخرجت علبة أخرى وأيضا تعرفها علبة مصفف الشعر الخاص بشيماء
ابتسمت قليلا وهي تنظر الى العلبة الأنثوية البراقة بلونها الوردي المبهج ثم وضعتها جانبا
وعلبة أخرى
بهتت ابتسامتها وهي تتذكرها , فقد لازمتها سنواتٍ طويلة فتحت العلبة لتخرج منها السماعة الطبية تتأملها لفترة وهي تتذكر أيام الدراسة التي لم تكن سعيدة تماما
وآخر علبة كانت علبة الهاتف الذي ابتاعته له بكامل مرفقاته
ظلت تحدق في الأغراض طويلا وهي تمرر أصابعها فوق أسطح العلب و همست بخفوت
- لم تأتِني بهدية كي أعيدها لك أتظنه عدلا ؟!
ونجوى من كرمها ربت درة بين أولادها حين أترى بها والدها إليها معتذرا على نزوته العابرة في زواجٍ ثانٍ ثم وفاة أمها لتبقى الصغيرة معه لا يجد من يرعاها
قبلت بها نجوى مرغمة و ربتها بما يرضي الله ولم تناديها درة سوى بلقب أمي
توقفت درة وقاسم خلفها يدخل حاملا حقيبتها
ثم رفعت وجهها لترى أختها واقفة تضع يدا فوق يد وهي تنظر إليها بنظرة ناقمة وملامح مكتومة تخفي الاضطرار خلفها
تكلمت صفية قائلة بوجوم ودون ملامح ترحيب
- أهلا يا درة مضى وقت طويل منذ آخر مرة رأيتك فيها أو سمعت عنكِ شيئا
رفعت درة ذقنها وهي ترمقها من أعلى رأسها و حتى قدميها لقد كبرت و ظهرت علامات الشقاء على وجهها بينما ازداد وزنها على الرغم من أن درة نقصت وزنا والعجيب أن الإثنين جمعهما الجوع
لكن تظل درة تلك المرأة التي تجوع بأناقة
ابتسمت ببرود وردت بنبرة هادئة
- منذ هروبي وخوض الجميع في شرفي
ردت صفية بقسوة وقد فقدت بعضا من السيطرة المفروضة عليها
- وهل توقعتِ خلاف ذلك ؟! أنتِ حتى لم تفكري في سمعتنا بعد ما أقدمتِ عليه بكل أنانية و انعدام أخلاق
فتحت درة فمها لترد الا أنها لم تجد الفرصة , فقد تقدمها قاسم ليقف أمامها يخفيها عن صفية وزوجها وأخيها مروان الذي خرج الآن من غرفته مع زوجته ينظران إليها بكرهٍ واضح وصدورهم لا تحمل لها الخير أبدا
تكلم قاسم مخاطبا الجميع وهو يضع الحقيبة أرضا بنبرة هيمنة أجبرت الجميع على الصمت
- كلامي مع مروان كان واضحا درة أصبحت خطيبتي , أي زوجة قاسم رحيم المستقبيلة غير مسموح بأن يمسها أحد بكلمة أو تصرف
ثم استقام وهو ينظر الى عيني مروان الغاضبتين وتابع بصوتٍ مهدد قاسٍ
- غير مسموح بلمسها حتى
اتقدت عينا مروان وهو يقول بعنف بينما زوجته تجذب مرفقه كي لا يتهور ,الا أنه لم يستطيع منع نفسه
- اسمح لي يا سيد قاسم , درة ستكون مسؤولة منك حين تكون تحت سطح بيتك زوجتك أما الآن فهي في بيت أخيها ومن حقه أن يربيها , ولن أمرر ما تسببت فيه دون عقاب يكسر عظامها
تقدم قاسم خطوة ورفع ذقنه ليقول بهدوء شديد رغم خطورة نظرات عينيه
- حاول أنا أنتظر
توتر الجو وتوقف العديد من الأطفال عن اللعب وهم يراقبون ما سيحدث تقدم مروان خطوة , بينما ظل قاسم مكانه واضعا كفيه في خصره دون أن يتحرك وعلى الرغم من ثباته , اضطرت درة الى التقدم حتى مست معصمه قائلة ببرود
- لا داعي يا قاسم أنا
الا أن قاسم قاطعها قائلا بسطوة وصرامة دون أن يلتفت إليها
- اصمتي أنتِ
شعرت بالغضب يعتريها بجنون وهي تسمعه يخاطبها بهذه النبرة فزمت شفتيها محتقنة الوجه
بينما تابع قاسم سائلا ببرود
- نستطيع أن نتواجه الآن وإن كنت لا أفضل لك أن يتم هذا أمام أولادك لكن وبعد أن أنتهي منك , هل أنت مستعدا لمعاداتي ؟!
تحركت صفية بسرعة حتى أمسكت بكتف مروان وارتفعت على أطراف أصابع قدميها لتهمس في أذنه بشيء بعصبية مما جعل ملامحه تتجهم أكثر وتكفهر , لكن يتراجع إصراره ويتخاذل حينها تولت صفية الكلام وهي تقول بتوتر و خنوع
- لن نمسها بسوء يا سيد قاسم درة فوق رؤوسنا وفي أعيننا
جال قاسم بعينيه بين وجوه الجميع ليرى إن كان هناك من سيعترض لكن بدت الأفواه صامتة , والأعين منكسرة بذلة أما درة فقد رفعت ذقنها و على شفتيها طيف ابتسامة وفي عينيها الرضا البارد
ثم سألت وهي تدير رأسها وكأنها تعاين المكان بشك
- هل عاد مروان ليقيم هنا بزوجته و أولاده ؟!
سألت صفية بقلق
- وأين سيذهب ؟! هذا بيت أمه ويظل مفتوحا له
نظرت درة إلى وجه أخيها ثم سألته بصلف
- ألم تتمكن من إدخار ما يمكنك من شراء بيت لنفسك ؟!
رمقها بنظرة شريرة دون أن يجيبها , فتدخلت زوجته تقول بصوتٍ خافت
- لم ندخر ما يكفي حتى لشراء جدار واحد في بيت جديد
قامت درة بعد الأطفال لقد كبر من تعرفهم وهناك أطفال جدد فنظرت الى صفية وسألتها بسخرية
- لقد أنجبتم المزيد من الأطفال !!
عقدت صفية حاجبيها وهي تسأل باضطراب
- هل هناك مشكلة في ذلك ؟!
زادت ابتسامة درة قساوة وهي تقول ببرود
- ما شاء الله , زاد عدد أطفالك وعدد أطفال مروان ثم عاد الى البلدة بزوجته وأولاده كل هذا و لم تتمكني من أن تجدي لي أريكة أنام عليها منذ سنوات !!
عقد قاسم حاجبيه وهو يخفض وجهه قليلا غير راغبا في سماع هذا الحوار , بينما ردت صفية بتوتر خوفا من بطشه إن أساءت اختيار كلماتها مع درة
- كل طفل يأتي برزقه توقفي عن عد أطفالي , هذه ليست المرة الأولى التي تقومين فيها بهذا
أومأت درة قائلة بابتسامة باردة
- كل طفل يأتي برزقه , لكن ليس الأخ لكن حين عاد الأخ فتح البيت أبوابه لأنه الشقيق أما الأخت من أم أخرى فرصتها ضعيفة جدا في الحصول على مأوى بين أخوتها
ردت صفية بقوة
- هذا بيت أمي من الأساس , لا تملكين فيه شيئا ألأنها ربتكِ تتوقعين أن ترثينها أيضا ؟!
صرخت درة فجأة بعنف وهي تشير الى صدرها
- لا أتكلم عن أي ميراث أو جدران أتكلم عن إخوتي اللذين القوا بي في بيوت الأغراب لا ألوم أمك فقد فعلت كل ما عليها و لا صلة دم تجمعني بها أما أنتم فلا أي رجلٍ هذا الذي يلقي بأخته في البيوت ؟! وأي أختٍ تلك التي تتعذر عن إيجاد أريكة لي والآن تتجرؤون على محاسبتي على هربي و التحقيق في شرفي ؟!
شعرت درة فجأة بقبضة قوية تمسك بمعصمها كي تتوقف فرفعت وجهها تنظر الى قاسم الى منعها بنظرةٍ واحدة من عينيه الصارمتين وبالفعل صمتت وهي تلهث بعنف , غير مصدقة أنها فقدت أعصابها الى هذا الحد رغم أنها كانت تنوي الصمت و الاستمتاع بالنصر البارد لكنها وجدت نفسها غير قادرة على الصمت ما أن رأت وجوههم الغير مرحبة والكارهة لاستقبالها
زفرت زفرة طويلة وهي ترفع يدها لتبعد شعرها الأشعث عن عينيها مخفضة وجهها أما قاسم فقد سأل بصوتٍ قاسٍ أسكت به الجميع
- أين ستنام درة ؟
بقت صفية صامتة مشيحة بوجهها , بينما كانت ملامح مروان تصارع في حربٍ عنيفة ما بين الرغبة في الهجوم عليها و قتلها لتعديها على رجولته المفترضة وبين الخنوع أمام قاسم الذي يساعد هذه العائلة بما يستطعه منذ سنوات وعليه الآن أن يحني رأسه أمامه
لذا تطوعت زوجته تقول بخفوت
- درة سيكون لها غرفة مستقلة كما طلبت ونحن سنحاول ترتيب نومنا الى حين زواجكما يا سيد قاسم
أومأ قاسم برأسه موافقا دون رد ثم نظر إلى مروان وخاطبه بعبارة واحدة
- تعال , أريدك
لحق به مروان بخطواتٍ متثاقلة وكلا من زوجته وصفية تترجيانه تربتان على صدريهما كي يطيعه فلا ينقلب عليه
لكن حين مر بدرة وقف بمحاذاتها وهو يرمقها بنظرةٍ شرسة , فلم تخف منه بل رفعت رأسها و نظرت اليه بتحدٍ وصلف مما جعل قاسم ينادي بقوة صارما
- مروان
وصل مروان إليه ونظرت درة إليهما عن بعد , كان قاسم يتكلم بصوتٍ خفيض و كأنه يملي تعليماته , ومروان يخفض رأسه مكفهر الوجه واضعا يديه في جيبي بنطاله بحنق وما أن انتهى حتى رأته درة يخرج حافظته من جيبه ويخرج منها العديد من الأوراق المالية مد يده بها الى مروان الذي أخذها ببطىء دون أن يتفوه بكلمة
تذكرت قديما حين كانت تشعر بالخزي كلما مدت صفية يدها تأخذ مساعدة مالية من قاسم وكانت تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها , أما الآن فشيطان انتقامها جعلها تشعر بالرضا
الى أن سمعت درة صوت قاسم يناديها بنبرة آمرة
- درة سأنتظرك في الخارج لأودعك
تحركت درة رافعة وجهها مبتسمة وهي تشعر بنظراتهم تلاحق خطواتها الأنيقة المتمهلة حتى خرجت من باب البيت , لتجد قاسم واقفا يولها ظهره بصمت , وما أن سمع خطواتها من خلفه حتى استدار إليها محدقا في عينيها عبر الظلام , فلم تستطع تبين تعبير وجهه بوضوح
الا أنه حين تكلم كان صوته عميقا وهو يقول بهدوء
- أنا مضطر للذهاب الآن فقد سهر أهل البيت بسببنا طويلا
شعرت بالخوف فجأة من فكرة أن يتركها هنا بمفردها فقالت بخفوت ولهفة قبل أن يرحل
- قاسم أنا وجودي هنا غريب , أسمعت ما قالت ؟! أنه بيت أمها و لا يحق لي البقاء كرامتي لا تسمح
ابتسم قاسم حتى ظهرت أسنانه في الظلام , ثم أجابها بصوتٍ أجش خفيض
- من يسمعك يظنك الجانب المظلوم هنا !! أنتِ أيضا لم تتهاوني معها في الرد و جعلتِ منها ومن أخيكِ مصفاة أرز من شد كلماتك الأشبه بطلقات الرصاص أمام أطفالهما و زوجيهما
تنهدت درة مبتسمة رغما عنها وهي تحك جبهتها هامسة
- لا أعرف أنا فقط , ما الذي جعلني
صمتت لا تعرف كيف تكمل كلماتها , فتطوع قاسم يقول بخفوت وهو يرفع أصابعها ليمشط بهما شعرها المنسدل على جانب وجهها بلمسة خفيفة للغاية
- لا تفكري فقط استمتعي بانتصارك
مالت بعينيها تنظر إلى أصابعه المنزلقة حتى وصلت الى أعلى صدرها دون أن تلمس جسدها , الا أنها شعرت بنفسها تتحرق وتتلون فتراجعت للخلف
ما يحدث ليس صحيحا مطلقا إنها تمر بفترة احتياج عاطفي و قاسم آخر شخص ينبغي أن تتواجد بقربه حاليا ..
تكلم قاطعا أفكارها ليقول بصوتٍ أجش
- يجب أن أذهب حالا سأراكِ غدا سآتي لزيارتك للاطمئنان عليكِ يا خطيبتي
رفعت وجهها إليه تسأله بشك
- حقا ؟!
أومأ برأسه ببطء ثم أجاب بصوت أكثر خشونة وانخفاضا
- وبعد الغد وبعده وبعده
شعرت بالراحة رغما عنها , الا أنها سألته ساخرة
- هل أنت عاطل يا خطيبي ؟!
ابتسم دون ردٍ على سؤالها , ثم قال بهدوء
- هاتفك معك , إن حدث أي شيء اتصلي بي في أي ساعة من الليل وسآتي على الفور لقد سجلت لكِ رقم هاتفي
أومأت برأسها بصمت دون رد ثم همست مضطرة
- شكرا يا قاسم لكن أرجو أن تذكر نفسك بأن هذه الخطبة مجرد مسرحية لا غير
ابتسم و ظل صامتا طويلا , فتمنت لو ترى عينيه لكنه كان مسبلا جفنيه , ثم قال أخيرا بنفس النبرة الهادئة
- لا تبالغي في إعطاء نفسك أكبر من قدرها يا درة سلام يا خطيبتي المسرحية
لوح لها في حركة هازئة ثم استدار وانصرف بينما زمت شفتيها وهي تشتمه بعنف على قلة ذوقه وانعدام تهذيبه
فدخلت مسرعة صافقة الباب , ترجو لو كان قد صُفَق على أنفه أو أسوأ تبا له
.....
" أنا آسف يا شغف آسف لأنني أستغلك على هذا النحو , لكن مقاومتي لكِ باتت مستحيلة "
لا ينفك صوته يدوي داخل أذنيها بتلك العبارة التي همس لها بها بنبرة صوته الآسرة بعد أن احتواها بين ذراعيها بكل طوفانه العاطفي العنيف
ربما كانت من ألطف العبارات التي سمعتها وجعلتها تبتسم كلما تذكرتها بصوته
هو يستغلها ؟! ويعتذر أيضا ؟!
ضحكت شغف باستمتاع وهي تتذكر نبرته مجددا بتلك العبارة بعد أن اكتشفها بكل طرقه العاطفية جرأة ونعومة متعرفا على أسرار ضعفها واحدا تلو الآخر يداعب أتوار جسدها بأصابعه وشفتيه العازفتين بمهارة لم تصدق من قبل أن يمتلكها
عادت لتضحك مجددا حتى أن الدموع غشت عينيها وهي تضحك متنهدة بنعومة ثم خفتت ضحكتها وبهتت ابتسامتها حتى سكنت تماما جالسة على حافة نافذة غرفتها وظلت تحدق في المنظر أمامها بصمت مطبق قبل أن تهمس بهدوء
- وعدتني ألا تتركني كنت حبل النجاة الوحيد المتبقي لي
أسبلت جفنيها وهي تحيط ركبتيها بذراعيها , لكن صوت رسالة من هاتفها جعلها تنتبه وتتصلب قبل أن ترفع رأسها وتطاله بسرعة من فوق منضدة جانبية لترى مصدرها وكما توقعت أو كما تمنت كانت الرسالة منه
اشتدت شفتاها للحظة , بينما تحولت ملامحها بلمح البصر الى قناعٍ قاسٍ في منتصفه عينين حادتين مخيفتين رغم سكونهما وهما تقرئان الرسالة
- لا أحب لعبة الرسائل تلك أتظنين أنني أحد أولئك العاجزين اجتماعيا كي أحاول الوصول الى فتاة عبر رسائل الكترونية ؟! فلنتقابل اليوم
خرج نفس بطيء من بين شفتيها الجافتين , ثم كتبت له ترد عليه
- لماذا تراسلني اذن إن كنت تتمتع بالحصول على أي فتاة تريد ! لماذا تضيع وقتك معي ؟!
وصلها الرد يحمل سخرية غاضبة بين الكلمات
- فكرت في السبب طويلا , فلم أجد سوى احتمالين إما أن لكِ أسلوب مستفز يجعل من يقرأ رسالة منكِ يدمنك , أو أنني أنتظر التأكد من كونك ذكرا لا أنثى وحينها ستتمنى لو ولدت أنثى ما أن أعثر عليك
لم تبتسم , بل كانت تقرأ باتزان شديد حتى أنها وضعت نظارتها الطبية التي نادرا ما تضعها لتعيد قراءة الرسالة على مهل
زمت شفتيها للحظة مفكرة , قبل أن تبعد الهاتف عنها قليلا , تمسكه بيد بينما مدت معصمها باليد الأخرى أمام كاميرا الهاتف لتصورها قبل أن ترسل له الصورة !
صورة كف جميلة بأصابع بيضاء ناعمة وأظافر منمقة في كل اصبعٍ حلقة ذهبية رقيقة وفي المعصم ساعة فخمة كتبت مرفقة بالصورة
- انظر الى الساعة والتاريخ المسجل بها إنه الآن , هذا يعني أن هذه اليد هي يدي فما رأيك بالعينة ؟!
مرت فترة قصيرة , قبل أن يصلها الرد منتشيًا يكاد أن يلهث كالكلب خلف صورة لا تكشف عن شيء على الرغم من قدرته على الحصول على الكثير من الفتيات كما قال بالفعل
- إن كانت هذه هي العينة , فكيف تكون البضاعة كاملة اذن ؟! ما تلك النعومة والجمال ؟! والأصابع التي بدأت أن أتخيل مرورها من فوقي في هذه اللحظة أريد أن أراكِ حالا
تحرك حلقها بصعوبة وهي تركز تفكيرها تعض على شفتها مفكرة في كل كلمة ألف مرة قبل أن ترسلها
ثم كتبت بحذر
- ماذا تفعل الآن ؟
وصلها الرد بأسرع مما تنتظر , لكنه كان أقذر مما توقعت
- لن يعجبك الرد , فأنا استيقظت للتو ولست بمفردي , لكن إن أحببتِ التقينا فللنهار جماله بعد ليل طويل
أغمضت عينيها للحظات طويلة شاعرة بالدوار إلا أنها أخذت نفسا عميقا , ثم آخر
قبل أن تلعق شفتيها وهي تكتب له بحذر أكبر
- لا تتسرع , لست أنا من تكمل بها الليلة في نهارٍ عابر مجهد أنا أستحق الانتظار وتأكد بأن كل لحظة تقضيها معي ستكون بحياتك كلها
مضت فترة قبل أن يرسل لها سائلا
- هلا أرسلتِ لي اذن صورة لعينة أخرى كي أطمئن لاستحقاقك هذا الانتظار ؟!
عضت على شفتها العليا مفكرة في الرد , ثم أبعدت الهاتف قليلا وأخذت تصور عدة صور قبل أن ترسلها له
لكن قبل أن ترسل الصور كتبت رسالة
- الصور الرخيصة لا تناسبني لكن ما رأيك في الأشياء الغالية ؟
من الجانب الآخر رأى الصور واحدة تلو الأخرى مفتاح سيارة تحمل اسما يعبر عن قيمة ضخمة للغاية جانب من منظر الحديقة التي تطل عليها النافذة لا تكشف العنوان خاتم زواجها
ضاقت عينا من يحدثها ثم كتب لها
- وااااااو أنتِ من نفس المستوى وعلى الأغلب أعرفك فليس هناك الكثير ممن يمتلكون مثل هذه السيارة ومتزوجة أيضا !
عضت جانب شفتها قبل أن تكتب
- نعم هل يمثل هذا مشكلة بالنسبة لك ؟
ابتسمت الشفتان العابثتان الذكوريتان , ثم كتب يرد عليها
- إن كان لا يمثل مشكلة لزوجك فلن يفعل بالنسبة لي على أن آخر مرة لم تنتهي على نحوٍ رائع لكن لكل جوادٍ كبوة كما يقولون
ظلت عيناها تقرئان من خلف زجاج نظارتها ومن خلف زجاج الشاشة ومن خلف زجاجهما القاتم البارد
ثم كتبت له أخيرا مبتسمة دون مرح
- يجب أن تنتهي على نحوٍ رائع اذن فلن أقبل بأقل من ذلك
ابتسمت الشفتان الذكوريتان مجددا , قبل أن يصلها الرد
- هل تقصدين حين نكون سويا ؟! أعدك أن تكون أعتقد أنها ستكون الأروع حتى و إن لم تكوني جميلة , فغموضك وحده يكفي لإشعال الإثارة بداخلي
أغلقت شغف المحادثة ثم ألقت بالهاتف فوق السرير قبل أن تفتح النافذة لتشهق بصوتٍ عالٍ طالبة أكبر قدر من الهواء بعد أن زاد الدوار من حولها و أوشكت على الإصابة بالإغماء ثم لم تلبث أن صرخت عاليا صرخة وحشية شقت عنان السماء و أفزعت بعض الطيور على شجرةٍ قريبة
سمعت طرقة على باب غرفتها بينما هي تستند بوجهها الشاحب إلى إطار النافذة فنادت دون حماس
- ادخل
دخلت لوسي الى الغرفة حاملة كيس كبير وقالت بلغتها الأجنبية أن هناك من ترك هذه الأغراض لها ثم انصرف !
نهضت شغف من مكانها لتقف أمامه ثم فتحته ببطء وترى ما فيه حينها رفعت عينيها إلى لوسي وسألتها بلهفة وبنبرةٍ حارة ترتعش
- هل خاطر هو من أحضره ؟! أهو هنا ؟
ردت عليها لوسي بتكسر
- لا , ليس السيد خاطر بل رجل آخر وانصرف
أسبلت شغف عينيها , ثم أومأت برأسها تقول بصوتٍ فاتر
- لا بأس اذهبي أنتِ يا لوسي
وبعد خروجها جلست على حافة السرير , لتفتح الكيس بأصابع مهتزة فأخرجت علبة تعرفها جيدا فقد اختارتها لمكرم بنفسها وضعتها جانبا بملامح ثابتة ونظراتٍ متزنة
ثم أخرجت علبة أخرى وأيضا تعرفها علبة مصفف الشعر الخاص بشيماء
ابتسمت قليلا وهي تنظر الى العلبة الأنثوية البراقة بلونها الوردي المبهج ثم وضعتها جانبا
وعلبة أخرى
بهتت ابتسامتها وهي تتذكرها , فقد لازمتها سنواتٍ طويلة فتحت العلبة لتخرج منها السماعة الطبية تتأملها لفترة وهي تتذكر أيام الدراسة التي لم تكن سعيدة تماما
وآخر علبة كانت علبة الهاتف الذي ابتاعته له بكامل مرفقاته
ظلت تحدق في الأغراض طويلا وهي تمرر أصابعها فوق أسطح العلب و همست بخفوت
- لم تأتِني بهدية كي أعيدها لك أتظنه عدلا ؟!