الفصل الثاني و الخمسون

نظر أمير إليه باستياء ليشد على قبضته التي انغرزت بكفه بشدة تاركة أثرا واضحا ثم أردف:
اسمع سنتحدث بشكل طبيعي دون شجار لأنه لن يجدي نفعا لكن هذه المرة ستسمعني جيدا.
اعتدل كمال في مكانه ليردف:
هذا ما أريده أيضا تفضل إذا أسمعك.
تنهد أمير بحنق ليردف قائلا:
فقط ضع نفسك مكاني وفكر كيف سيمكنني البوح بتلك الحقيقة؟ بالله كيف سأنظر بعيون المرأة التي أعشقها والتي تحمل طفلي ببطنها واقول بكل جرأة أنني أنا السبب بكل ما عشته قبلا، وأنني أنا من احضرك من قريتك و، لكن هنا توقف عن الحديث وما استطاع أكثر فلامس شعره يعيده للخلف متوترا يتحرك يمينا ويسارا وكمال ينظر صامتا.
قليلا من الوقت فقط ليعود للحديث وكمال لا يزال يستمع إليه فأردف قائلا:
كيف سأقول أنا قدمتك للكازينو وفعلت ما فعلت لتجل الإنتقام من أبيك والثأر لأختي؟ ههه والمغزي أنك يا عشق لست ابنة ذلك الرجل وقد أخطأت أي أنني عذبتك وأهنتك ظلما، ضع نفسك مكاني أنا لا أتحمل رؤية حتى تكشيرة بوجهها حتى لو كانت بسبب شيء تافه، لا أريدها إلا سعيدة فرحة فكيف سأكسرها هكذا؟ أنا لا أستطيع إن تركتني أموت وأنتهي.
وقف كمال من كرسيه وتحدث بنفس الحدة ونفس النبرة قائلا :
أانت تعترف إذا.
رد أمير غاضبا:
وما أنكرت يوما ولست خائفا منك يا هذا لكنني عدت عن خطئي وندمت، إنها كل شيء لي كل شيء اتستوعب هذه الكلمة فقط وستفهم حينها أن حبنا أقوى من أي شيء، نحن لسنا مجرد شخصين عاديين تزوجا لا والله إننا روح سكنت  روح الآخر


زفر كمال بضيق وأردف:
لكنها شقيقتي ايضا افهم واستوعب، شقيقتي التي ضاعت مني منذ صغرها ولي الحق بأن أضمها إلي، ولها الحق بأن تعرف ا
أن لها عائلة أيضا، والأهم من كل هذا أن لها الحق بأن تعرف أن من يدعي عشقها أنه سبب كل المصائب التي حلت على رأسها منذ خطت أول خطوة بهذه المدينة عاشته قبلاه.
صدح صوت أمير قائلا:
أين كنت؟ لكن سرعان ما انتبه أنه بمكان كل حائط منه له آذان فاخفض صوته وأكمل يشد على أسنانه غاضبا ليكمل قائلا:
أين كنت طوال هذه السنين لم لم تبحث عنها؟ والآن فجأة تظهر أمامنا وتريد أن تتقبلك بكل بساطة، الم تفكر للحظة لربما سترفضك وتمقتك؟
لكن وآه من كلمة لكن، قبل أن يتلفظ كمال بحرف واحد دلفت هي من باب قاعة الاجتماعات تحمل الورقة بيدها.
عيون متسعة دامعة وجسد يتألم يرتجفو كربة بالقلب تشده حتى باتت نبضاته تتسارع حينا وتكن حينا، اختلطت عليها المشاعر وهاجمها الحزن والخذلان معا، نزل البرد على جسدها فجأة لهول ما سمعت ويا ليتها ما سمعت، تلك صدمة العمر لا بل مصيبة وحلت على رأسها.

لقد أمضت حياتها بالتخلي عن حقوقها واشيائها، أمضت حياتها بالتنازلات والمبادرات، أمضت حياتها لتبرير كل كلمه تقال منها وكل تصرف يبدر منها، أمضت حياتها بالصمت عند الألم والذهاب ل تجرع الخيبات واحده تلو الآخرى، لقد تعبت جدا، كل الناس تفهم عكس ما تقول وكأنه كتب عليها أن تكتم الألم وتتجرعه بصمت لكي تدوم العلاقات ولكنها تنتهي بالأخير، كتب عليها أن تتهم في شرفها لأنها عفت وصمتت، لقد أيقنت بعد الذي سمعت أن الحياة لن تنصفها يوما.


نظر إليها كمال وامير بعيون متسعة وفم مكموم فآخر ما كانا يتوقعانه أن تحضر هناك فجأة، كل منها ينظر إليها وينظر للآخر.
أما هي فقد أبقت نظرها صوب أمير مطولا ثم حررت كلماتها بعد أن شهقت لتردف بحنق:
فقط قلي إنها كذبة قل لي إنها مزحة فقط، قل أن ما كتب هنا كذبة (وهي تحرك الورقة ويدها ترتجف)، قلي أن ما سمعته أذناي كذبة قلها هيا رجاء.
سكتت عن الحديث وهو لا يزال ينظر إليها مذهولا ثم مرة أخرى شهقت وردتت بصوت يرتجف:
أعدك سأصدقك أمير، أعدك سأصدقك فقط قل أن ما سمعته كذب بينما دمعها فكلمة الشلال لا تصف انهماره.

أحس لحظتها بذلك الوجع الذي يدور بجسده من رأسه حتى اخمس قدميه وأصابته قشعريرة تشابه قشعريرة الموت حتما، لحظتها فقط ادرك أنها سمعت حديثه ولربما كله بالتفصيل أيضا فحلت الظلمة فجأة على سمائه وأصبح المكان معتما، صرخات هنا وهناك حوله وشيء يجذبه يريد إدخاله للقعر الأسود، أين المفر؟ لا يدري فقط ينتظر قرار الإعدام الذي سيصدر في حقه.

نظرت إليه مطولا تبكي بحرقة ثم صرخت به بأعلى صوت:
أجبني لم أنت صامت؟ قل أنها كذبة قلها.
أومأ برأسه حينها بكل صعوبة لكنه فعلها أخيرا وأومأ بالنفي
أومأت هي أيضا براسها و هي تردد باكية:
لا لا انت تكذب أم أنه كابوس حتما كابوس فأنا مؤخرا أرى كوابيس كثيرة تؤرق نومي، ثم وضعت يدها على رأسها تشده وهي تردد:
استفيقي هيا استفيقي افتحي عيونك عشق وإلا ستموتين بسبب هذا الحلم.
وقف أمير متسمرا ينظر إليها دون أن يتلفظ بحرف واحد حتى،
ماذا يقول وهو يرى مملكة سعادته تنهار أمامه فجاة،

أما كمال فقد كان ينظر بأسى على شقيقته وما حل بها، تشجع واقترب وهو يمد يده ليمسكها لكن صرخت سريعا بوجهه وقالت:
ابتعد عني.
رفعت رأسها بعد حين ونظرت لأمير ثم اقتربت قليلا منه لم يدر رأسها لم تقع، لقد كانت كالسيف الحاد الذي يضرب رغم امتلائه بالدماء لتردد بين شفتيها بصعوبة تكاد للحظة تختنق:
أصحيح ما سمعت؟
نزلت دمعة حارقة من  عينيه يكاد يخفيها ليمسحها سريعا براحة يده ثم لملم بعض الحروف المتناثرة وأردف بحنق:
نعم صحيح.
كلمتين فقط كانت كسكين حاد بتر فجأة الحب والود والثقة والرحمة والألفة التي كانت بينهما، بتر العشق الذي كان بين عشق وأمير وهاهو هناك في زاوية غارق في دمائه.
نظرت بعمق عينيه برهة ثم تنهدت لترفع بعدها يدها وتقوم بضرب  صدره بأصبعها وهي تردد:
أنا أكرهك.
ثم رمت الورقة على وجهه واستدارت بكل هدوء وشجاعة لأجل الخروج.
خرج أخيرا من بين الأمواج التي كان يتخبط بها ليقوم سريعا بإمساك يدها وهو ينظر إليها حزينا ليقول:
لا تذهبي عشق انتظري.
استدارت إليه وسحبت ذراعها بقوة وأردفت:
عشق ماتت قتلتها ورميتها لتتعفن دون حتى أن تدفنها، لتستدير ثانية لكن لم تتحرك سريعا بل نظرت إلى كمال وكأن كل انكسارات الكون تجمعت بمقلتيها فهي لأول مرة تحس بذلك الخذلان الذي أتى مضاعفا من زوجها وأخيها ثم تحركت للخروج حينها.
تحرك كمال قليلا ناحيتها لكنها نظرت إليه بغضب مشيرة بأن يتوقف لتردف:
رجاء.
ثم توقفت ونظرت لأمير ثانية لكن هذه المرة لشدة وجعها شهقت بقوة، شهقت لأنها أحست بالضعف بعد القوة التي منحها، شهقت لأنها كسرت بعد أن جبرها، شهقت لأنها ضاعت بعد أن وجدت نفسها، لتتحرك للخروج ثانية كالعاصفة التي تضرب أمامها كل شيء تطحنه ولا تبالي.
وقف أمير مكانه كالصنم المتحجر، هو أيضا لم يستوعب ما حدث كان يظن أنه كابوس يتشاركان به فقط وهما نائمان بجانب بعض وسيستفيق بعد حين على صوتها وهي تطلب حضنه وسيحتضنها ويدندن لها كعادتهم حتى تنام مطمئنة، لكن لم يكن كابوسا بل كان واقعا مرا لا يستساغ لكنه واقع وما عاد إليه إلا حين ناداه كمال قائلا:
أمير الحق بها ماذا تنتظر؟
كان دمعه ينزل من عينيه صامتا باردا وقلبه ينزف دما يوجع صدره، فنظر لكمال بانكسار ثم هب مسرعا إليها خارج المكتب ليصطدم بوالده الذي أتى حين سمع الصراخ ليقول حكمت:
بني ماذا هناك؟
بقي أمير ينظر إليها وهي تتجه نحو المصعد مسرعة ليناديها بصوت عال:
عشق انتظري.
التفتت إليه وهي تهم بالدخول للمصعد ثم دخلت ونظرت إليه بغضب، نظر لوالده ثم إليها ليقول:
لاحقا أبي، ليركض إليها مباشرة
ناداه حكمت قائلا:
بني انتظر.
رد أمير:
لاحقا أبي أنا مستعجل الآن، ثم ركض إليها نبض قلبه ونور عينيه، لكن قبل أن يصل اقفل باب المصعد وهي داخله تنظر، عيون كالصقر في حدتها، ليسرع أكث لكن لم يلحق به فيتوقف عنده وضربه برجله بقوة وردد متذمرا:
اللعنة عليك ليس وقتك الآن يجب أن ألحق بها ولا أتركها تضيع من يدي، سأشرح لها كل ما حدث وستسامحني فقلبها خلق ليغفر فقط.
تحرك مسرعا نحو السلالم يريد فقط اللحاق بها، بهذا الوقت خرج كمال من المكتب مسرعا ليستوقفه حكمت الذي كان لايزال يقف هناك، فنظر إليه ليقول:
كمال بيك ماذا هناك لم لا تزال هنا؟
رد كمال يحاول أن يبتسم كي لا يظهر له شيء:
كنت أتحدث مع أمير بيك بخصوص المشروع وكم يلزم من حديد ومواد أخرى أنت تعرف، والآن عن إذنك عندي شيء مستعجل حكمت بيك ثم مد يده وسلم وانصرف.
حكمت مندهشا:
إذنك معك كمال بيك.
تحرك كمال مسرعا تاركا حكمت واقفا بمكانه مذبهلا ليردف بعد حين:
غريب مالذي يحدث هنا؟ ثم أمسك هاتفه واتصل بأمير لكن الآخر بعالم مواز ليعود إلى مكتبه بعدها.
خرجت ريحان من الشركة كالعاصفة الهوجاء تمشي بخطا طويلة مسرعة تريد فقط أن تفر قبل ان يلحق بها متناسية أنها تحمل روحا داخلها وأنها قد تؤذي نفسها وتؤذي تلك الروح البريئة بسبب حركتها القوية لكن لم تكن هي المتحكمة بحركتها تلك بل ألمها الذي يأتز ائتزازا داخلها.
مشت باندفاع نحو الخارج تبكي بصمت وتضع يدها على فمها، منهارة مكسورة الأجنحة، لتقوم بايقاف سيارة أجرة مباشرة.
خرج هو راكضا من الشركة ليجدها تتقدم مسرعة نحو السيارة
فناداها لكن لم تتوقف بل نظرت إليه وأكملت خطواتها السريعة، ليركض إليها سريعا ويقوم باحتضانها من الخلف بقوة جعلتها تتألم ثم ردد بصوت مرتجف يغلب عليه البكاء:
أعرف أنا مذنب أنا شيطان رجيم لكنك ملاكي الرحيم، انت جانبي الطيب ووحدك من عالجتني، أنت نور عتمتي ولا أحد يستطيع أن يعيش دون النور فلا اتفعلي بي هذا، أنا أذنبت أعرف هذا لكن عدت وتبت بفضلك بعد رب العالمين، أنت من يقول دائما أن خير من يخطئ هو التائب وأنا تائب، وأنت لك قلب طيب يسع ذنبي سامحيني رجاء.
صرخت به:
اتركني
رد أمير يضمها إليه أكثر:
لن افعل
ريحان بغضب:
قلت اتركني ألا تفهم؟ أنت تؤلمني
أمير بحزن:
لا أستطيع لو فعلت سأخسرك حتما وأنا لا أستطيع دونك.
ريحان باكية:
يكفي يكفي بحق الإله يكفي لوجه خالقك يكفي، أنا أتألم وأحتضر اتركني اذهب بسبيل حال ويكفي لحد اللحظة، ما عدت أقدر لقد ذبحتني مرتين أمير، لكن هذه المرة كانت اوجع من قابلتها، قلت اتركني ألا تفهم أنت؟
أمير بحنق:
آسف سامحيني أقسم كنت سأخبرك، كنت ساعلمك بكل شيء في الوقت المناسب ولم أجد فرصة.
ريحان بغضب وهي لا تزال تحاول فك نفسها:
تعلمني ماذا؟ أنك عيشتني بوهم؟
نزل صاحب سيارة الأجرة من سيارته وخاطب أمير بغضب قائلا:
اتركها ماذا تفعل أنت؟
أمير بغضب:
ما دخلك أنت هيا انصرف.
خاطبه صاحب السيارة مهددا:
أتركها وإلا طلبت لك الشرطة بأي عصر أنت كيف تعنف امرأة؟ ثم قام بمد يده وإمساك ريحان من ذراعها يحاول ابعادها عنه وأمير ينظر إليه، لكن ريحان أسرعت وسحبت ذراعها وهي تنظر ناحية أمير.
نظر  إليه أمير غاضبا حتى أنه احمر وجهه وعقدت حواجبه وبرزت عروق رقبته المشدودة، أما هي فكانت تنظر دهشة مصدومة
ليقترب هو من صاحب السيارة  سريعا ويشد قبضته ويقوم بلكمة بقوة صارخا به:
هل جننت كيف تجرأ على لمسها؟ إذا سأريك العنف على أصوله ليباشر ضربه لكمات متفرقة شديدةحتى أسقطه أرضا.
صرخت به هي:
اتركه ياربي ماذا تفعل أنت؟ لكن جن جنونه ولم يستمع إليها فأخذت تصرخ تطلب المساعدة.
أتى كمال راكضا نحوهما وقام سريعا بامساك أمير من كتفيه ليردد بغضب:
مالذي تفعله أنت هل جننت؟ ثم رفعه عن صاحب سيارة الأجرة الذي كان يتلفظ أنفاسه بصعوبة
وقف الآخر وكل انفهه وملامح وجهه دما ،ثم اخذ يمسحها وهو يقول:
همجي أقسم أنني ساسجنك.
اقترب كمال منه بحاول فك النزاع ليردف: خذ ثم أعطاه بطاقة هواتفه، اتصل بي وتعال لمكتبي لكن فقط انصرف الآن رجاء ولا تزد الطين بلة.
صاحب السيارة بغضب:
لا هذا يجب أن يسجن مع أمثاله.
رد كمال قائلا:
من فضلك لأجلي فقط اذهب للمشفى الآن ليسعفوك واتصل بي وأنا سأتدبر كل شسء.
رد صاحب السيارة:
حسنا لكن لن اتنازل عن الشكوى وسأضعه في السجن ليكن بعلمك، أنت ستدفع ثمن تهجمك علي غاليا
رد أمير:
اذهب هيا انصرف.
نظر كمال الذي هدأ الضع بصعوبة ليقول:
أمير رجاء
لم يكن هجومه على ذلك الرجل فقط غضبا لأنه لمس عشق إنما كان مع كل ضربة يوجهها له يرى نفسه هو مرميا أرضا، لقد كان يجلد نفسه بنفس يمقتها على ما افتعلت بالماضي.
انصرف صاحب سيارة الأجرة بينما هي فقد كانت تنظر فقط لما يحدث أمامها مصدومة تماما كيف حدث ولم حدث؟ منذ لحظات كانت تحلق فرحا وتجهز كي تفاجئه بنبضات قلب طفله الأولى، ماذا حدث؟ لا تفسير لكل ما حدث إلا بقول أن زلزلا قد مر من خلالهما.
سألت نفسها:
هل هذا فعلا أمير؟
هل فعلا ذلك الرجل الذي عشقته وسلمت له قلبها وجعلته أمانها وملاذها بعد أن أذاقها الويلات؟ لم بين لحظة وأخرى عاد أمير رجل الماضي الذي ما تكاد تتذكره إلا لعنته؟
رفع بصره إليها أخيرا لتتحول سريعا نظرة الغضب إلى نظرة انكسار وحسرة وخذلان ليس منها بل من الزمن الذي باغته على غفله وأعطاه ضربة موجعة من الخلف أردته طريح الأرض مبتور القدمين.
اقترب منها ثانية ببطئ لتصرخ بهما معا:
اتركوني وشأني اتركوني لا أريد أن يقترب مني أحد.
زاد بكائها تصرخ بهما وتردد نفس الكلمات وكأنها غير مدركة لما تقول، رغم ذلك ما كان ليستسلم فاقترب أمير منها ثمرة أخرى لكن هذه المرة أمسكه كمال قبل أن يلمسها وأومأ بالنفي.
وقف أمير مكانه ينظر إليها وهي تبتعد تجر ذلك الجسد الذي ما عاد له القدرة على احتواء ذلك الكم من الأحزان، لكنها استطاعت جره والمشي بعيدا عنه، وكلما مشت خطوة اعتصر داخله.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي