الفصل ٢٠

- كل هذا بسبب الدلال الفاقد للمعنى الذي تتلاقاه منذ سنوات دون اعتبار لمكانتها أو عمرها من الطبيعي اذن أن تتصرف على هذا النحو
وقف عبد السلام ينظر من النافذة للخارج بصمت يصله التذمر العاشر من محسن الجالس خلفه على الأريكة يبصق ببعض العبارات الغاضبة بين حين وآخر
أخفض عبد السلام عينيه الى ساعة معصمه لم يكن الوقت متأخرا وربما لا داعي لكل هذا القلق
لكن القلق لم يكن كلمة عادلة لتصف الرعب الذي يكتنفه حاليا رغم هدوء ملامحه وثبات نظراته
لقد اتصل بكل من يمكن أن تذهب هويدا لزيارتهم على الرغم من أنها لم تعد مهتمة بالزيارات مطلقا ومنذ سنوات
ربما كانت تتنزه وسرقها الوقت فلم تشعر بمروره وستعود الآن
ربما تسرع حين اتصل بساهر وما كان عليه الا أن يستقل سيارته ويخرج للبحث عنها في الطرقات
لكن مهندسة في السادسة والعشرين من عمرها هل يٌخشى عليها من الخروج وحدها الى هذا الحد ؟!
أغمض عينيه متنهدا تنهيدة كبيرة محملة بالكثير من الضغط النفسي والأسى الأبوي
عاد لينظر الى ساعة معصمه ثم سأل بصوتٍ وقور هادئ
- ماذا تفعل هنا يا محسن ؟ كما لاحظت هويدا غير موجودة وأنا أنام باكرا فهلا استأذنت
التفت إليه محسن هاتفا باستنكار
- ألست أنت من اتصل بي يا عمي تخبرني أنها خرجت دون هاتفها وأنك تشعر بالقلق عليها ؟!
رد عبد السلام بنفس الوقار
- ظننتها لجأت إليك بما أنك خطيبها كابتلاء من ابتلاءات القدر أو على الأقل تملك بعض الإقتراحات عن أماكن قد تتواجد فيها , لكن عوضا عن البحث عنها أتيت الى هنا لتحتسي فنجان قهوة معي لذا أرى أنك تضيع وقتك , لما لا تعد الى البيت وأنا سأتصل بك و أطمئنك ما أن تصل
هتف محسن مستنكرا حانقا
- تريدني أن أخرج للبحث عنها في الطرقات بعد تصرفها الأخير حين ألقت بكوب الماء فوق رأسي ؟! هذا ما تعتمد عليه هويدا تحديدا يا عمي بالطبع خشيت أن تلومها لتصرفها الوقح معي فقامت بالشيء الوحيد الذي تجيده ادعاء القيام بتصرفٍ أهوج مجنون وتتركك تتحرق خوفا عليها وحين تظهر لا تفعل سوى أن تأخذها بين أحضانك
كان عبد السلام قد وضع سماعتي الأذن منذ الكلمة الثالثة من كلمات محسن ليقوم بتشغيل أغنية شعبية رائجة
وحين طال الصمت بعد انتهائه تعالى صوت محسن بعصبية هاتفا
- عمي هل تسمعني ؟
انتبه عبد السلام الى صوت النعير من خلفه فالتفت رافعا حاجبيه متسائلا ثم أبعد السماعة يسأل بتهذيب
- هل كنت تقول شيئا يا محسن ؟! عفوا يا بني كنت أستمع الى لحن كلاسيكي عله يهدئ من أعصابي
عقد محسن حاجبيه ناظرا اليه بشك فتابع عبد السلام يقول بعفوية مشيرا الى باب ما
- اسمع , ادخل لمهجة و انظر ماذا طبخت اليوم واطلب منها أن تعد لك طبقا أجلس في المطبخ وتناوله
ازداد انعقاد حاجبا محسن لكن صوت سيارة تقترب من بوابة البيت جعلت عبد السلام ينتبه الى وقوف سيارة أجرة فضيق عينيه مدققا النظر قبل أن يسرع خارجا من باب البيت

أخرج ساهر حافظته و هو يقول متململا بحرج مخاطبا سائق الأجرة
- أنا في موقف حرج يا سيدي , لا تقلق معي نقود كافية لكن أخشى أن الأوراق مبللة ربما لو وضعتها أمام النافذة لساعتين فستجف وتصبح صالحة للاستخدام
نظر السائق بدهشة الى الأوراق التي أخرجها ساهر وبدأ ينفضها مرسلة بعض الرذاذ لكن و قبل أن يرد كان عبد السلام قد وصل وفتح الباب المجاور لهويدا قائلا بحدة وارتياح
- الحمد لله
ثم جذبها من ذراعها لتخرج من السيارة قبل أن يضمها الى صدره اضطر ساهر للخروج على مضض وهو يدرك مدى فظاعة اللحظة التالية ما أن ينتبه عبد السلام الى منظريهما لكن الافظع أنه ابصر محسن يخرج من باب البيت !
تأوه ساهر بصمت وهو يحاول إيجاد حجة مناسبة
ابعد عبد السلام هويدا عنه ممسكا وجهها بين كفيه وهو يسألها بخشونة
- هل أنتِ بخير ؟ كيف لكِ أن تخرجي دون أن تعلميني بوجهتك تاركة هاتفك هنا ؟!
لكن صوت محسن علا من خلفه يسأل معنفًا بذهول
- السؤال الأهم هنا , هو عن سبب ابتلالها بهذا الشكل ومن يرافقها ؟!
نظر إليه ساهر نظرة قاتمة , بملامح جامدة بينما نقل عبد السلام عينيه بينهما صامتا
تكلم السائق قائلا بحرج
- هلا أعطاني أحد الأجرة كي أغادر هات يا سيدي الأوراق المبللة , سأقوم بتجفيفها
ناوله ساهر الأوراق الا أن عبد السلام تدخل وهو يمد يده في جيبه معترضا بجدية
- لا أنا سأدفع
لكن ساهر أصر قائلا بقوة
- والله لن أقبل أنا مصر
انحدرت عينا عبد السلام ليفاجأ بقدمي ساهر الحافيتين ثم انتقل الى قدمي هويدا الحافيتين كذلك ثم نظر الى ساهر بحاجبين مرتفعين , مما جعله يجيب على مضض من بين شفتيه المطبقتين
- لقد سُرِقنا
ظل عبد السلام صامتا الى أن تحرك السائق بسيارته مبتعدا وبقى الأربعة ينظرون الى بعضهم بصمت مطبق حتى انطلق صوت محسن غاضبا محتدا يشق هذا السكون
- هلا تكلم أي منكما ما هو سبب تواجد خطيبتي مع زميل لها في مكان لا نعلمه و عودتهما مبللين على هذا النحو المخزي ؟!
بدت هويدا مضطربة تبعد شعرها عن وجهها بتوتر بينما تكلم عبد السلام ليجيب معترفا
- أنا
لكن خوفا من السؤال التالي والذي سيكون لما هو بالذات ؟!
قاطعه ساهر قائلا بنبرة جادة خشنة ومختصرة
- اتصلت هويدا بزوجتي لوقوعها في ورطة وأنا ذهبت إليها زوجتي تعمل في شركة السيد عبد السلام وهي زميلة هويدا في الدراسة بنفس العام
ساد صمت مطبق تماما كانت هويدا تتنفس بسرعة ممتقعة الملامح , زائغة العينين أما عبد السلام فإزدادت ملامحه تجهما لكنه ظل صامتا بعد أن أطلق ساهر تصريحه
لكن محسن سأله بصوت مشتد غير مقتنع
- حقا و أين وجدتها ؟! وما هو نوع الورطة التي عدتما منها مبللين , بأي مستنقع سقطتما معا ؟!
استدار ساهر إليه رافعا ذقنه مضيقا عينيه ثم قال بصوتٍ هادئ
- أظن أنه يتعين عليك البدء في الكلام مع خطيبتك باحترامٍ أكبر في المستقبل أمام الناس وحتى حينما تكونا على انفراد
اتسعت عينا محسن بعدم تصديق للحظة , الا أنه أطبق فجأة على قميص ساهر بكلتا كفيه وهو يهدر بعنف سائلا
- ماذا قلت للتو من أنت لتتجرأ على تعليمي كيفية الكلام مع خطيبتي ؟!!
تشابك ساهر معه استعدادا للشجار الا أن عبد السلام تدخل يفصل بينهما وهو يصرخ بصرامة
- توقفا حالا أنا آمركما ولست أطلب
نفض ساهر يديه عن محسن يدفعه بقوةٍ زاما شفتيه , بينما صرخ الأخير ذاهلا
- ألن تسألهما حتى عن مكانها وسبب ظهورهما بهذا الشكل ؟! اسمح لي يا عمي هي محقة أن تتصرف بهذه الوقاحة
أشار عبد السلام بإصبعه قائلا بنبرة خطيرة دون حتى أن يضطر الى رفع صوته بل بدت عيناه مخيفتان بما يكفي
- إن كنت لا تقبل أن يرشدك أحد لضرورة احترامك لخطيبتك فأنا لا أسمح بمجرد التلميح الى ما قد يسيء لها أو لتربيتها
فتح محسن فمه ليجادل حانقا , الا أن عبد السلام سبقه قاطعا بقوة
- أنصحك أن تتوقف والآن أخرج من هنا وعد لبيتك كي لا أتناسى صلة القرابة , فقد تجاوزت حدودك أكثر من اللازم هيا
نقل محسن عينيه بين الجميع بنظرات مشتعلة , قبل ان ينفض قميصه بجنون وهو يهمس بشراسة
- لا بأس يا عمي لنا كلام آخر فيما بعد
ثم رمق ساهر بنظرة شاملة قبل أن ينصرف شاتما أما ساهر فقد شعر بنفسه في موقف مخزي بكل معنى الكلمة وتساءل إن كان قد أخطأ في شيء لكن فيما أخطأ ؟! ما كان له أن يتخلى عنها
تكلم أخيرا بصوتٍ أجوف
- سيد عبد السلام أنا
الا ان عبد السلام قاطعه قائلا بصرامة
- ادخل يا ساهر لنجد لك حذاءًا وملابس جافة
حاول ساهر الاعتراض فتابع عبد السلام القول بتذمر واقتضاب
- لا تبالغ في الاعتراض وانظر لنفسك لن نسمح بأن تخرج من هنا مبللا , حافي القدمين
.......
بكل اقتدار كانت تجلس واضعة ساقا فوق أخرى بأناقة محتفظة بابتسامة واثقة رائعة
بينما كانت روحها تنزف ألما من كل ما ترى ولا تقدر عليه
كانت لديها قناعة قديمة أن مجرد خروجها من الحي وانتقالها الى هذه الشقة لهو منتصف الطريق
لم تهتم أبدا أن تكون الشقة خالية , المهم أن تحصل عليها , ويوم سجلتها باسمها رقصت طربا غير مصدقة
حتى و إن نامت أرضا المهم أنها حققت المستحيل
لكن الآن تتساءل أي رحلت بهجة الفوز بها ؟!
ولما تغرق روحها الآن في مثل هذا الامتقاع البائس وهي تراقب بعض التحف الكرستالية و تسمع عن رحلاتٍ ترفيهية !
لم تكن هذه الأمور أولويات لها لكن الآن تجلس بين جاراتها شاعرة بأنها أقل منهن في كل شيء
حتى في الحب
تشكو كل منهن من زوجها بقصص ضاحكة ساخرة ولا تمتلك هي قصة واحدة لتقصها
لأن زواجها لم يبدأ بعد ترى ماذا سيكون انطباعاتهن لو عرفن أنها لا تزال عذراء لم يمسها عشق العمر والحبيب الوحيد
المرارة في حلقها بشعة كالسم والابتسامة الواثقة على وجهها مؤلمة تشعر معها و كأن ملامحها ستتحطم في اي لحظة الى شظايا حادة
أسبلت جفنيها شاردة للحظة تداعب حافة الكأس الذي تحمله بين أصابعها لكنها انتبهت على صوت رنين هاتفها فأخرجته من حقيبتها الصغيرة لتجيب بملل
فوصلها صوت رجولي يسأل
- المهندسة نسيبة زوجة المهندس ساهر ؟
عقدت نسيبة حاجبيها وهي تجيب برسمية وحذر
- نعم من يتكلم ؟
رد عليها قاطعا بصوتٍ جاد
- محسن , خطيب هويدا عبد السلام عدوي
ضاقت عينا نسيبة بينما تحفزت أعصابها وتصلبت ملامحها بانتباه تلقائي شاعرة بأن ما ستسمعه لن يعجبها
ابتسمت للجارات الضاحكات المتكلمات جميعا في آنٍ واحد ثم نهضت لتدخل الشرفة الواسعة ثم أجابت بتحفظ
- بما أستطيع أن أخدمك ؟!
رد محسن ببطء كي تستوعب كل كلمة
- لدي سؤال واحد لكِ وأرجو أن تعذري موقفي اليوم تأخرت هويدا خطيبتي في العودة للبيت وحين فعلت كان يرافقها زوجك وكان حالهما غريب مبللين تماما و تغطيهما الرمال , حفاة الأقدام سألته عن السبب فادعى أنها كانت في ورطة واتصلت بك طلبا للمساعدة فأرسلتِ زوجك
أثناء كلامه الشبيه بكلام النساء محبات الثرثرة ونقل الأخبار رغبة في الانتقام كانت عيناها تتحولان بسرعة من الدهشة الى صدمة , ثم يزداد لونهما قتامة حتى بدت نظرتها مخيفة مع حاجبيها المنعقدين وملامحها الثابتة التي لم تتحرك لكن صدرها كان يرتفع و ينخفض بسرعة شديدة وأظافرها تحفر فوق سياج الشرفة الا أنها بقت صامتة تماما عقلها يعمل بسرعة شديدة
وما أن انتهى من كلامه و ساد الصمت بينهما حتى تمكنت من السؤال بهدوء يثير الإعجاب والتقدير
- عفوا ما هو سؤالك بالضبط ؟
بدا من صوته أنفاسه على الجانب الآخر أنه شعر بالمفاجأة من ردة فعلها الهادئة وأنه غير راضيا عنها
فسألها بتوتر وعصبية
- سؤالي إن كان هذا ما حدث بالفعل ؟!
استمر حفر أظافرها في السياج حتى كسر أحدها بقوة ونزف باطنه و على الرغم من ذلك لم تتغير ملامحها لكن عيناها الألم والغضب بها مرعبين
هويدا المثير للعجب أنها كانت تنوي زيارة لها والآن تود قتلها , سحق عظام جمجمتها
يمكنها الآن أن تحقق نصرا سريعا وتقلب خطيبها ضدها لكن ما أقصى ما قد يصيبها ؟!
إن ضاع زوج مستقبلي فستجد الآلاف غيره بنفوذ وأموال والدها
رفعت نسيبة ذقنها وأجابت بهدوء ورقي
- نعم أرسلته إليها لأنني الآن ومنذ فترة في زيارة مهمة ولم أستطع المغادرة , أرجو أن تكون بخير ؟
زفر محسن وهو يبدو غير مقتنعا وفي نفس الوقت شعر بأن موقفه شديد الحرج فقال على مضض
- نعم بخير اذن , لا مجال للمزيد من الكلام
ردت نسيبة بلطف
- جيد ونصيحة مني , هذا الأسلوب منك يظهرك بمظهر سيء للغاية اقترح أن تحل مشكلتك مع خطيبتك عوضا عن البحث في أرقام النساء والتقصي منهن
ثم أغلقت الهاتف دون انتظار رد منه وما أن فعلت حتى أفلتت من بين شفتيها شهقة بكاءٍ عنيفة أشبه بصيحة شرسة متوحشة
....
- ترى ما هو دورك في مثل هذه القصة يا قاسم ؟! إن لم تكن أنت من روج لها
صدح السؤال الغاضب بأحرفٍ قاسية بينهما ثم ساد الصمت وهو ينظر إليها بعينين ضيقتين أما هي فكانت مكتفة ذراعيها تهز ساقها بعصبية تنتظر منه ردا وهي توشك على أن تنهش لحم وجهه بأظافرها
رفعت حاجبيها و سرعة اهتزاز ساقها تزداد فسألت بحدة لاهبة
- هل ستتبع أسلوب الصمت ؟! ألن تجيب ؟! بالطبع فقدت القدرة على إيجاد العذر المناسب لمثل هذا الانتقام الرخيص
تحرك قاسم بخطوات هادئة ينوي تجاوزها , فاتسعت عيناها وهتفت بغضب
- ألن ترد ؟!
وبالفعل تجاهلها تماما وتابع طريقه تجاه باب البيت فلحقت به صارخة من خلفه بتقزز و اشمئزاز
- يا الهي كم أحتقرك وأقرف من أساليبك الرخيصة ! لمجرد أنني رفضت الزواج منك تقوم بالتشهير بي وافساد سمعتي ! لكن هذا ليس غريب على أسرتكم , فمن قبلك أقسمت أختك كذبا فوق المصحف لمجرد أن تبعد عن نفسها شبهة خطة دبرتها بنفسها اتهمتني بالسرقة لمجرد ألا تعترف بخطتها في ابعادي كان يجب أن أعلم أنكما نفس الشخصية والأخلاق لكنك أسوأ , أنت قمت بالتشهير بي وبأخلاقي وشرفي
خرج قاسم من الباب الضخم الى الحديقة وهي خلفه وقد زادتها لا مبالاته غضبا لدرجة الجنون فعلا صوتها حتى خرجت أم فوزي من المطبخ بعينين واسعتين تراقب ما يحدث غير مصدقة لترى درة , تنزل الدرجات القليلة خارج الباب الى الحديقة خلفه وهي تتابع صراخها
- هناك من رآني مع رجل غريب أليس كذلك ؟!! ألم يكن أنت هذا الذي رآني يا قاسم ؟! هل عدت إليهم و أخبرتهم بذلك ؟! ألم تخاف ولو للحظة أن يرد إليك إفترائك علي ؟!
سار قاسم عبر الحديقة بظهرٍ مستقيم ورأس مرتفعة وهي ترفض أن تتركه و تتراجع كان غضبها قد وصل الى الحد الذي لا ينفع معه أي محاولة للسيطرة
كيف وثقت فيه وأتت معه الى هنا ؟! كان عليها أن تتأكد من نظرتها القديمة له أنه دنيء وقد يفعل أي شيء في سبيل أن ينال ما يريد
صرخت مجددا بجنون
- ألهذا أتيت بي الى هنا من الأساس ؟! لتضع الزينة النهائية على هذا الانتقام الأخير الحقير ؟! أن تدعو مروان الى هنا كي تمتع نفسك ببعض الإهانة و الصفعات الإضافية لي وهو ينعتني بالفجر وانعدام الشرف أخبرني على تشعر بالرضا الآن ؟!
رأته ينحني يفتح صنبور خرطوم ري الحديقة فازداد غضبها الى درجة جعلت الدموع تطرف من عينيها من شدة الغيظ خاصة وهو يقوم بعملية تافهة كري الورود أمامها متجاهلا صراخها الغاضب
رأته يتجه الآن الى مقبض الخرطوم فانحنى وأمسك به بملامح ثابتة باردة فصرخت مرة أخيرة بقسوة وعنف
- أخبرني عن الخطبة التي حضرتها كي تتلوها على مسامعهم حين تذهب إليهم اليوم ؟! أتراك ستطلب منهم أن يغفروا لي فإن الله يغفر الذنوب ؟!
رفعت وجهها المحمر من شدة الغضب حين لاحظت أنه وقف أمامها مباشرة ينظر إليها بنفس النظرات الغامضة والملامح الجامدة فصرخت فجأة بانهيار
- أنت حقير يا قا
لم تجد الفرصة كي تتابع صراخها فقط رفع الخرطوم تجاهها وفجأة أطلق عليها سيلا عنيفا من الماء جعلها تشهق وتصرخ بقوة وهي ترفع ذراعيها محاولة صد الماء عن جسدها لكنها لم تنجح فقد كان مصمما بملامح كالحجر وهو يضربها بالماء من كل الجهات وكلما صرخت وجدت سيل الماء يضرب وجهها وفمها المفتوح
جرت أم فوزي شاهقة وهي تحاول حماية درة هاتفة بتوسل تحتضنها بين ذراعيها
- وحد الله يا سيد قاسم الفتاة تمر بحالة انهيار وهي لا تقصد
لكن قاسم كان يبدو كمن لا يسمع ظل يوجه الخرطوم عليها وهو يدور من حولها بينما أم فوزي تحاول الدفاع عنها دون جدوى وقد تبللت هي أيضا فصرخت في درة بحدة
- اهربي الى البيت
وبالفعل بدأت درة تجري تجاه البيت , لكنه سيل الماء ظل يضرب ظهرها و مؤخرتها وهي تصرخ فإلتفتت تنظر إليه أثناء جريها , واستعت عيناها برعب !! فقد كان يجري خلفها بملامح مخيفة !! والخرطوم في يديه دون رحمة
زادت درة جريها وهي تشعر بالخوف من هجومه المخيف , لكنها لم تكن ملتفتة الى درجات السلم , فتعثرت ووقعت فوقها أمام باب البيت متأوهة بشدة لكنها رفعت وجهها لترى ما سيفعل , فرأته يترك الخرطوم ليسقط أرضا ويستمر في اندفاعه تجاهها حتى جثى أمامها فوق الدرجات القليلة يحاصرها بساقيه ويده تقبض على ذقنها ترفع وجهها لأعلى حتى نظرت إليه بهلع لكنه حين تكلم لم يصرخ بل قال بصوتٍ خفيض مشتد من شدة الغضب و الكبت الذي يمارسه على نفسه
- تسألين عن دوري في تشويه سمعتك ؟! لم تتركي لي أي دور فهروبك كان أكثر من كافي , دوري أنا حصر في تلقي السخرية في قصة ظلت الألسنة تتناولها لشهورٍ طويلة بعدها قصة ابن الحاج رحيم التي هربت منه عروسه مع آخر قبل زفافهما بأيام
ارتعشت شفتا درة وهي تنظر الى عينيه بعينين واسعتين و حدقتين مهتزتين بينما تابع هو بصوتٍ أكثر شرا كالفحيح
- لم تتساءلي للحظة عن كرامة هذا الرجل الذي هربت منه بمثل هذا الجبن !
شدد أصابعه فوق فكها حتى شعرت به يكاد أن يتحطم لكنها كانت أكثر خوفا من أن ترد أو أن تتنفس حتى
ثم همس في أذنها بنبرةٍ شرسة
- هل تتخيلين أن أكون في حاجة لاختلاق رواية إهانتي بنفسي ؟! لا , لم تتركي لي دورا يا درة , لقد قمت بالمسرحية كلها على أكمل وجه ثم تركتِني للجمهور
وصلت أم فوزي إليه وانحنت تمسك بكتفيه هاتفة بصوتٍ يرتعش
- اهدأ يا ولدي اهدأ استعذ بالله من الشيطان هيا اتركها
لكن قاسم ظل مسمرًا قبضته على فكها لا يريد لها فكاكا وكأنه التحم معها في جسدٍ واحد حجري يرسم لوحة من غضبٍ قديم
وفي النهاية دفع وجهها عنه ليبتعد عنها ثم أولاها ظهره وانصرف دون أن يولها نظرة أخرى ظلت درة واقعة مكانها فوق درجات السلم ترتعش ثم سقطت دمعة على وجنتها من شدة الخوف , بينما ربتت أم فوزي على صدرها مواسية
- لا تخافي حبيبتي والله ليس هناك أطيب قلبا من السيد قاسم , لكنه فظ الطباع قليلا , تعالي لتبدلي ملابسك هيا
نهضت درة معها وهي ممتنة لوجود من يسندها , فقد كانت ساقاها كالإسفنج غير قادرتين على حملها لكن أم فوزي ساعدتها حتى صعدت الى غرفتها
أجلستها على حافة السرير ثم قالت بحسرة وهي تتجه الى دولاب الملابس
- أنتِ أهنته إهانة بالغة أمام الجميع بهربك لن ينسى رجل إهانة كهذه أبدا , فلا تحاولي الضغط عليه أكثر
لم ترد درة بل بقت صامتة متمسكة بحافة السرير بقبضتيها وهي ترتعش بقوة ولا تزال عيناها واسعتان كطفل صغير
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي