الفصل ١٨

كان وجه درة شديد الشحوب , نظراتها غائرة وشاردة حتى أنها تركت لأم فوزي أن تسندها برفق
نزولا على درجات السلم , ثم اقتادتها حتى مائدة الطعام
توقفت درة مكانها وهي ترى المائدة ليست بالخالية , بل كان قاسم يحتلها و قد بدأ في الأكل بالفعل لكنه رفع رأسه ما أن شعر بوجودها
نظرت درة الى عينيه بصمت , وبادلها التحديق ثم قال أخيرا بصوتٍ جامد
استيقظتِ أخيرا تفضلي لتتناولي طعامك
الا أن درة ظلت واقفة مكانها تنظر إليه لا تتحرك حتى ربتت أم فوزي على ذراعها تحثها على التقدم , حتى أنها دفعتها دفعا الى أن سحبت الكرسي المجاور له و أجلستها ثم سألت بتهذيب
- هل تحتاج أي شيء آخر يا سيد قاسم ؟!
رد عليها قاسم بهدوء
شكرا لكِ يا أم فوزي يمكنك أن ترتاحي الآن
ابتسمت له المرأة برفق ثم اتجهت للمطبخ بينما تابع قاسم تناول طعامه دون أن يبالي بجلوسها بجواره
أما هي فكانت تحدق فيه صامتة تماما أصابعها متشابكة أسفل سطح الطاولة وعيناها غائرتان جدا
تكلم قاسم سائلا دون أن يرفع رأسه عن طعامه
- هل ستجلسين عندك تراقبيني هكذا طويلا ؟!
لم ترد درة , بل ظلت على صمتها و تحديقها فيه , حتى تنازل أخيرا و رفع وجهه ينظر إليها ثم توقف
حدق في عينيها الغريبتين بنظراتٍ حادة نافذة ثم أمرها مشيرا الى الأكل بصوتٍ فظ
- ماذا تنتظرين ؟! كلي
فتحت درة فمها , ثم قالت بخفوت و تردد
- فقدت شهيتي
رمقها بطرف عينيه , ثم زفر قائلا بنفاذ صبر
- هذه أكبر كذبة يمكنك النطق بها فأنتِ جائعة قبل الحادث بأيام وربما أسابيع كلي يا درة وكفى تكبرا
ابتلعت الغصة في حلقها ثم رفعت وجهها وهمست بضعف
- كنت جائعة , ثم فقدت شهيتي بعد أن سمعت الخبر
نظر إليها سائلا بجمود
-أي خبر ؟
أغمضت عينيها للحظة ثم فتحتهما مجيبة بصوتٍ أجوف لا يكاد أن يسمع
- وفاة زوجة أبي
تحرك فمه ببطء و كأنه ينهي ما فيه فمه من طعام لكنه تمتم بشيء غاضب لم تتمكن من سماعه وبقى صامتا بعدها ثم أمام عينيها الذاهلتين تابع أكله بصمت !!
انتظرت منه أن يتكلم , أن يقول شيئا أن يبرر
لكنه بكل بساطة تابع أكله !
لذا سألته بصوتٍ متداعٍ
- هل حضرت الجنازة و العزاء ؟!
ظل صامتا للحظات ثم أجاب بكلمة واحدة مختصرة , دون أن ينظر إليها
- نعم
فغرت فمها و هي تراقبه بصدمة ثم هتفت بقسوة و بصوتٍ مرتعش
- ولم تخبرني ؟! رأيتك منذ شهر فلماذا لم تخبرني ؟! لماذا لم تتصل بي كي أحضر العزاء على الأقل ؟!
رفع عينيه إليها وسأل بهدوء بارد
ولماذا علي أن أخبرك ؟!
لم تصدق درة ما سمعته لم تصدق مطلقا , لكنها هتفت بغضبٍ وقد بدأت دموعها في التساقط من عينيها بألم
- تبا لك يا قاسم , أي برود قلبٍ تحمل بين أضلعك ؟! كيف لك أن تسمح لحدقك أن يتحكم بك ويمنعك عن اخباري بخبرٍ كهذا لأقوم بواجب العزاء
نظر قاسم الى الدموع المنسابة على وجهها دون أن يرف له جفن , ثم سألها ببرود مجددا
- وكأنكِ تهتمين !
صرخت بذهول و أنفاسها تهتز في صدرها
- بالطبع أهتم , هي من ربتني بعد وفاة أمي , كانت أمي
رد عليها قاسم قائلا بنبرةٍ قاسية
- اعترفي يا درة بأنك كنتِ قد قررتِ قطع كل صلة لكِ بهم منذ فرارك ألم تفكري في احتمال موتها يوما ما ؟! لم توصي أحد كي يطمئنك على أخبارها , لأنك كرهتها بعد أن كانت السبب الغير مباشر في اضطرارك المؤسف على قبول الزواج مني لم تنسي لها هذا , لذا وفري على نفسك ملامح الأسى تلك , إن كنت لم تهتمي بحضور عزاء والدي الذي أكرمك فهل أهتم أنا بإخبارك عن زوجة والدك !
كانت تهز رأسها نفيا مع كل كلمة نارية يقذفها بها وحين انتهى شعرت بعدم القدرة على الرد فرفعت كفيها لتدفن وجهها بينهما وبكت بصوتٍ مختنق , فما كان منه الا أن نهض من مكانه قائلا بنفاذ صبر
- جو ملائم جدا لسد الشهية تمتعي بطعامك , ولا يأخذك الكبر فتمتنعي عن الطعام , لأنني لن أتحمل أي إصاباتٍ بالإغماء هنا
لم تصدق مدى قساوة قلبه فأبعدت وجهها عن كفيها وهي تنظر اليه يتجه الى باب البيت فسألته بسرعة من بين نحيبها المختنق
- الى أين أنت ذاهب ؟!
رد عليها بجفاء دون أن يستدير إليها
- سأنام في غرفة الحديقة
وجدت نفسها تسأله بصوتٍ واهٍ
- أما قلت أنها تحولت الى مخزن ؟!
توقفت خطواته لحظة , الا أنه تابع مجيبا بسخرية فظة
- النوم بين الصناديق المغبرة حاليا أفضل من سماع نحيبك
ثم خرج صافقا الباب الضخم خلفه بكل قوته وبقت هي ناظرة الى الطعام من خلف دموعها التي تأبى التوقف كل يوم تقسم فيه أنها لم تعد تملك ما تخسره , تثبت لها الحياة بعده أنها كانت مخطئة
......
لا تعلم السبب الذي جعلها من بداية الصبح تخرج الى الحديقة ربما كانت في حاجة الى الهواء الذي يحمل رائحة مميزة جدا , افتقدتها وربما كان افتقادها لهذه الحديقة نفسها
سارت ببطء وهي تدس كفيها في جيبي تنورتها البسيطة , تتأمل نفس الأشجار ثم ابتسمت وكأنها تركتها منذ يومين على الأكثر الأشجار لم تتغير , لكن الحديقة مهملة و هذا أشعرها بالحزن !
توقفت درة مكانها للحظة وهي تبتسم ابتسامة صغيرة حزينة ومجهدة رافعة وجهها الى النسيم اللطيف
لقد افتقدت هذا المكان , على الرغم من كل جهودها الحثيثة في الهروب منه سابقا , ربما لو لم يكن قاسم موجودا لكن هذا البيت هو بيتها الوحيد الذي أحبته وشعرت فيه بالأمان
عادت لتتحرك مجددا ناظرة حولها هناك اعتادت الجلوس وحدها لتدرس , محاولة الاختباء عن عيني قاسم الا أنه كان عادة ما يجدها و يفرض وجوده عليها
وهنا ألقت بخاتم خطبتهما أرضا حيث أجبرها على الركوع بحثا عنه في الظلام لساعات حتى وجدته
ذكرياتٍ بائسة تداهمها وهي لا تود ذلك ليس الآن فلا طاقة لها بعد كل المجهود العاطفي الذي بذلته بالأمس
كانت قد وصلت الى غرفة الحديقة التي كانت غرفتها لسنوات فاقتربت منها بحذر , من المفترض أنه ذكر ليلة أمس نيته في المبيت فيها لكن القفل العتيق المثبت أعلى الباب يخبرها بأنه لم يفعل
لكنه فعل لقد أبصرته قبل شروق الشمس يخرج من الغرفة ويثبت القفل بعد خروجه !
رفعت درة يدها تحرك القفل , تتأمله بتفكير ترى لماذا يعيد إغلاق الباب بعد خروجه ؟! ما الذي يخشى عليه من السرقة ويضعه بالداخل والأهم كيف تمكن من النوم في غرفة مزدحمة بالصناديق القديمة المغطاة بالأتربة
ابتسمت ابتسامة ساخرة راضية وهي تتخيله نائما بعدم انتظام وبجسده الضخم فوق تلك الصناديق
لكن إن كان سريرها لا يزال بالداخل فلن يصعب عليه النوم
اضطربت قليلا وهي تتخيله نائما في سريرها , لكنه في الواقع سرير ملك لأصحاب البيت كباقي الأسِرة الأخرى لذا لا داعي لمثل هذا الاضطراب و الغيرة حول فراشٍ مهجور منذ سنوات كان يحتضنها فقط من باب الإحسان
- زيارتك لمكان نومي في مثل هذه الساعة المبكرة تنعش صدري بالأماني
انتفضت درة شاهقة وهي تسمع الصوت الرجولي الخشن من خلفها يتكلم بفظاظة رغم العبث الذي طغى على كلماته
استدارت حول نفسها بسرعة وهي تترك القفل بعصبية فرأته واقفا أمامها يراقبها عاقدا حاجبيه بملامح متجهمة
عادة حين كان يلقي على مسامعها عبارةٍ عابثة من قبل , كانت ملامحه تحمل شيئا من هذا العبث مما يثير استفزازها لكن ملامحه الآن لم تحمل شيئا سوى التجهم و النظرة الجادة التي تشعر بها تخترق عظامها
تمالكت درة نفسها وهي تقول بصوتٍ متحدٍ فظ يشبه نبرته
- لا تمني نفسك شيئا , كنت أتجول في الحديقة فقادتني خطواتي الى مكان نومي و دراستي الذي ضمني لسنوات اكبح غرورك يا قاسم
التوت شفتاه للحظة الا أنه عيناه لم تلينا وهو يرد بجمود ساخر
- توقفت عن الغرور منذ أن هربت عروسي قبل الزفاف بأيام حتى أنني كنت قد اشتريت حلة الزفاف
ارتبكت ملامحها فأشاحت بوجهها عنه , الا أنه تابع ببساطة وكأنه لم يقل شيئا
- أما بالنسبة للمكان الذي ضمك لسنوات فلم يعد كذلك
قالت مستاءة من سوء طباعه
- هذا ما أوضحته عدة مرات , شكرا لك
ساد الصمت بينهما للحظات وهي تفرك أصابعها تنظر حولها بتوتر بينما هو ثابت مكانه كثبات عينيه عليها لا تحيدان أبدا بإصرارٍ وقح فأشارت للقفل سائلة من باب الفضول
- لما تغلقون الغرفة بالمناسبة ؟
تحركت كتفاه وكأنه يسوي اتزانهما خاصة وهو يجيب بملل و نفاذ صبر
يبدو أن لديكِ رغبة في الثرثرة هذا الصباح
زمت شفتيها وهي تكتم بداخلها رغبة في ضربه بأقربِ حجرٍ تجده عند قدميها وحين ظلت صامتة , سألها بجفاء
- هل تمكنتِ من العودة للنوم ليلة أمس ؟
رفعت عينيها الغائرتين تنظر الى عينيه ثم أجابت بقسوة
تقصد بعد معرفتي عرضيا بخبر موت المرأة التي اعتبرتها أمي ؟! لنقل فقط أنها كانت ليلة مؤلمة وشكرا لك
رد عليها بسخرية لا مبالية
- العفو والآن أعذريني
ثم تجاهلها تماما وتجاوزها وهو ينوي الدخول الى الغرفة فأبصرته يخرج المفتاح من جيب بنطاله و للمرة الأولى لاحظت أنه أنه بدل ملابسه و بدا منتعشا , مرتبا بخلاف الهيئة التي يفترض به أن يكون عليها بعد قضاء ليلة بملابسه فوق الأتربة مما جعلها تسأله بحيرة
- هل تحتفظ بملابس لك في الداخل ؟!
توقفت أصابعه فوق القفل الكبير , ثم انخفضتا دون أن يتما مهمتهما قبل أن يستدير إليها مجددا
ومع استدارته رأت في عينيه غضبا جعلها تراجع خطوة , الا أنه لم يتقدم إليها وهو يقول بصوتٍ عنيف مكتوم
- تبدين فضولية أكثر من اللازم اليوم يا درة والفضول صفة سيئة للغالية , لذا أنصحك بالعودة للبيت التقاط إحدى المجلات وتناول شيئا واقضي يومك براحة بعيدة عني والآن للمرة الثانية اعذريني
كان حنقها قد وصل الى أعلى مستواه فهتفت فجأة بعنفٍ شديد
- لا لن أعذرك أنا بحاجة للكلام منذ ليلة أمس , وأنت ستقف مكانك و تسمعني
تسمر مكانه يوليها ظهره , ثم استدار إليها ببطء يراقبها بعينين ضيقتين مندهشتين كانت عصبية منفعلة وفي عينيها لا يزال حزن الليلة السابقة ساكنا فيهما كانت تبدو شديدة الضعف , في نفس الوقت عنيفة جدا
حين ظل صامتا في انتظار ما لديها لتقوله , أخذت نفسا حادا طويلا , ثم قالت بنفس العنف
- أنا لم أتمكن ليلة أمس من إخبارك عن مدى كرهي لك
ارتفع حاجب من حاجبيه وهو ينظر إليها , وعلى الرغم من تحفزه رغبة في تلقينها الأدب الا أن دهشة أكبر تغلبت على تلك الرغبة وهو يرى حركة أصابعها العصبية ومع صوتها الذي علا أكثر و هي تتابع مهاجمة
- لم أتمكن من أخبارك عن مدى قسوتك المقيتة وجمود قلبك , هذا إن كنت تمتلك واحدا لم أتمكن من إخبارك أن تعمدك عدم اخباري بوفاتها لهو أشد ما ارتكبته في حقي قذارة يا قاسم , ولن أسامحك عليه مطلقا ولا تقل العفو و المزيد من تلك الردود المستفزة التي تنم عن حقارة منقطعة النظير
انقبضت قبضتا قاسم بشدة وكان بالفعل على وشك أن يتهور ويضربها , لكن سيطرة جبارة حكمها على أعصابه وهو يرى أنها قد نالت ما يكفي من العنف و الذي لا تزال آثاره واضحة حتى الآن
مما جعله يرفع ذقنه ويسألها بصوتٍ مهدد مقتضب
هل انتهيتِ ؟
صرخت بقوة وهي ترتعش
- لا لم أنتهي بعد لم أتمكن من إخبارك , أنك تجد لنفسك مبررا عقيما لكل تصرفاتك تجاهي بينما أنا أرى المبرر الوحيد هو أنك متوحش و عديم الرحمة وأنك تتعامل مع البشر و كأنهم جزء من ميراثك , تتحكم فيه كما تشاء
كرر قاسم بنبرة خطيرة أعلى سطوة وأكثر قسوة وتهديدا
- هل انتهيتِ ؟
كانت ترتعش حرفيا وكأنها مبللة و تقف في مهب ريحٍ باردة لكنها حين تابعت مجددا , كان صوتها قد انخفض فجأة كما انخفض وجهها بصوتٍ هامس حزينٍ قالت
- لم أتمكن من إخبارك , أنني حزنت بنفس القدر على وفاة الحاج رحيم و أنني كنت أتمنى رؤيته مرة أخيرة قبل وفاته , وأن الذنب الوحيد الذي يؤرقني حقا , هو جحودي معه بعد أن أكرمني وفتح لي بيته
ساد صمت مطبق بينهما كانت غير قادرة على النظر إليه الا أنها ارتاحت قليلا حين نطقت بشيء مما يوجع قلبها من بين الكثير وانتظرت رده , وحين رد سألها ساخرا
- الذنب الوحيد يا درة ؟!
رفعت عينيها تنظر إليه بملامح شاحبة و على الرغم من جمود ملامحه , الا أن في عينيه كانت
الاتهامات صارخة ممتزجة بتهكم مهين ثم تابع ببساطة وكأن شيئا لم يكن
- أهذا هو ما يؤرقك اذن ؟! لكن لماذا تفضلتِ علي بذكره ؟! فأنا لست المعني بالأمر فمن أذنبت في حقه رحل للأبد ولن يعود , لذا سيظل اعترافك محتجزا في صدرك و سيرافقكِ الى قبرك والآن هل هناك المزيد من الألفاظ الراقية , تودين اسعادي بها أم تتركيني لمشاغلي ؟
كانت تنظر إليه مصدومة من المرحلة التي وصل إليها من القسوة و الفظاظة وكل شيء مقيت
وحين ظلت صامتة استدار عنها بلامبالاة وحاول فتح الباب مجددا , فهتفت من خلفه بحرارة
- ليته كان أن أنت
ساد صمت ثقيل بعد صرختها الطفولية وظل واقفا مكانه ويداه على القفل ثم هز كتفه مجيبا بصوتٍ أجوف بسيط
- متى كان لليت التمني استجابة حين ينطق بها لسان يعوي
سرت رعشة على ملامحها من تحقيره لها , فتراجعت خطوة أخرى وهي تنظر الى ظهره وهو يفتح القفل لكن قبل أن يدخل الغرفة , سمع رنين هاتفه , فتوقف و أخرج هاتفه لنظر الى الرقم وقد علا وجهه عبوسا شديدا وكأن صبره قد نفذ بالكامل ولم يبدأ النهار بعد
وضع الهاتف على أذنه وأجاب بهمس أجش محاولا ألا يسمع درة الواقفة خلفه
- من الواضح أنكِ لم تنامي من الأساس كي تتصلي بي في ساعة كهذه
تسمرت درة مكانها وهي تلتقط بعضا من كلماته الموجهة لإمرأة ! ربما كانت سلمى أخته
الا أن صوته ازداد انخفاضا وهو يرد
- لن أستطيع الكلام الآن سأتصل بكِ فيما بعد فيما بعد
كانت درة واقفة خلف تتلاعب بأصابعها وهي تختلس النظر الى ملامحه المتجهمة حتى أغلق الخط وأعاد الهاتف الى جيبه فسألته بصوتٍ ساخر
- لا تخبرني أنك ارتبطت أخيرا !
لم يرد عليها , بل دفع الباب بقدمه و حين حاولت النظر الى الغرفة شاعرة بالحنين , كان قد استدار إليها يسد مجال الرؤية أمامها , ثم نظر إليها مجيبا بخشونة محرجة
- لن أخبرك والآن هل من أوامر أخرى ؟
ماذا بها لا تريد الذهاب ؟! وكأنها تريد الكلام قليلا بعد
أهو سحر البيت القديم , أم أنها لا تزال ضعيفة وهشة من الداخل تحتاج الى الرفقة لبعض الوقت حتى إن كانت هذه الرفقة مقيتة كريهة بغيضة
رنين هاتف مجددا قاطعهما , الا أنه كان رنينا مختلفا ومعروفا لديها مما جعلها تشير بإصبعها بإشارة واهية وهي تسأل بدهشة
- هل هذا رنين هاتفي ؟!
أخرج قاسم هاتفها من الجيب الآخر ونظر الى اسم المتصل , ثم رفع وجهه اليها مجيبا ببساطة
- إنها ضرتك السابقة سلوان و هي بالمناسبة يمكنها أن تكون لحوحة جدا حين يقتضي الأمر لقد اتصلت بكِ عدة مرات
استمر الرنين بينهما وهو يمد لها يده بالهاتف بينما هي تنظر إليه بصدمة قبل أن تهتف فجأة بإستياء
- هل كنت محتفظا بهاتفي منذ أمس ؟! لا يحق لك فعل هذا ! وبالطبع سولت لك نفسك تفتيشه و تفقد ما فيه بما أنني إحدى ممتلكاتك
قاطعها قاسم هادرا بقوة أخرستها تماما
- هاتفك بما فيه لا يشكل بالنسبة لي أي أهمية كي أستغرق ولو دقيقة كي أفتش محتوياته أحضره جارك مع أغراضك و تركه معي وبالطبع نسيت أن أعطيكِ إياه ليلة أمس بما فيها من سعادة و سرور غلفتِ بهما الأجواء
ظلت درة عابسة مشككة وهي ترمقه بنظرة غير متفهمة والرنين المزعج مستمر فما كان منه الا أن اقترب منها خطوة حتى وقف أمامها مباشرة فاضطرت الى رفع وجهها إليه مما جعله يقول بصوتٍ خافت
- لا تعطي نفسك أهمية أكبر من اللازم في حياتي بعد الآن يا درة
ودون أن ينتظر منها الرد كان قد لوح بذراعه في حركةٍ دائرية قاذفا معها الهاتف لأبعد مسافة ممكنة على مرأى من عينيها الذاهلتين الا أنه لحسن الحظ حط فوق العشب الأخضر والرنين المتواصل يدل على أن الهاتف لم يصب بسوء
ثم رمقها بنظرة طويلة قبل أن يستدير ليتجه الى الغرفة بينما صرخت فيه بحنق وجنون
- تبا لك أيها ال .... ال تبا لك , أنا أكرهك
ثم اندفعت فوق العشب الى أن وصلت للهاتف فأمسكت به وأجابت بعصبية بالغة
- نعم
ساد الصمت للحظات قبل أن يصلها صوت سلوان هاتفا بغضب
- مستحيل أن تكوني محافظة على موقفك ضدي حتى الآن وبعد كل ما تعرضتِ له !! لم أرى امرأة في سواد قلبك يا درة
رفعت درة عينيها للسماء محاولة السيطرة على أعصابها ثم تكلمت من بين أسنانها
- هل يفترض أن يكون هذا اتصال واجب واطمئنان ؟! لأنني لا أظنك تبلين حسنا
صمتت سلوان للحظة , ثم قالت بخفوت
- لا ليس اتصال واجب واطمئنان بل أردت فقط القول أنني منذ عرفت بما تعرضتِ له , أدركت أنكِ العائلة الوحيدة التي أمتلك وأنني أشعر وكأنه تهجم علي أنا شخصيا
أسبلت درة جفنيها قليلا , الا أنها ردت ببرود
- لو كان هذا صحيحا لهرعتِ لرؤيتي
هتفت سلوان بنفاذ صبر
- وهل أعرف لكِ طريق ؟! على ما يبدو أن قريبك قاسم الشرير هذا قد فرض عليكِ الحماية وقرر ابعادك عن الجميع
رفعت درة عينيها تنظر الى باب غرفة الحديقة المغلق عن بعد ثم قالت بصوتٍ مكتوم
- لا أعلم ربما كنت أبالغ في تقديري , أظنه قد ارتبط بإمرأة ما وما فعل هذا الا بدافع المعرفة القديمة وأننا من بلدة واحدة
هتفت سلوان بلهفة أنثوية بحتة
- قاسم الشرير خطب ؟! من هي و ما شكلها ؟! كم عمرها ؟
هزت درة رأسها يأسا ثم قالت بنفاذ صبر
- هل هذا موقف تتحدثين فيه عن ارتباط قاسم بينما تعرضت لتوي لاعتداءٍ سافر ! ثم من قال أنه خطب ؟! لا أراه يرتدي أي خواتم قلت أنه ربما يكون قد ارتبط ربما كانت علاقة عابرة
سألتها سلوان بدهشة
- علاقة عابرة ! لم أظنه من هذا النوع لكن كلامه معي لم يوحي بذلك
انعقد حاجبا درة قليلا وهي تسألها بدهشة
- كلامه معكِ ؟! ماذا قال ؟!
سمعت من الجانب الآخر تنهيدة طويلة قبل أن ترد سلوان بيأس و تعب
- لقد أقسم أنه سيقتل حسين حين يجده يا درة كان مخيفا وجادا وهو يتكلم شعرت أن حسين قد اشترى عداء قاسم نفسه حين فعل معكِ ما فعل
نظرت درة مجددا الى باب غرفة الحديقة المغلق ثم همست بصوتٍ باهت
- ربما كان مجرد كلام
هتفت سلوان بخوف
- لو سمعتِ صوته لأقسمتِ أنه جاد فيما يقول إنه يبحث عنه باستماتة
ابتسمت درة وهي تقول ببساطة
- ستكون هذه ضربة الحظ القاضية والتي ستخلصنا من الإثنين معا
هتفت سلوان باستنكار
- ما هذا الذي تقولين ؟! درة افهمي جيدا , الوضع بالنسبة لي مختلف , لقد شاء القدر أن يكون هذا الذي تبحثان عنه هو والد بناتي امنعيه يا درة , امنعيه بكل ما تستطيعين , لقد عانت البنتان ما يكفي
تأرجحت درة حول نفسها وسارت تدخل الى البيت مجيبة بهدوء
- لا أظن حسين سيجازف بالظهور خاصة وأن هناك محضرا مقيدا ضده لتهجمه علي
ساد صمت طويل على الجهة الأخرى ثم قالت سلوان أخيرا بيأس
- ما يحيرني هو , كيف استطاع العودة على الرغم من الديون المتراكمة عليه !! هناك شيء لا أفهمه , ترى ماذا ينتظر كي يحاول أخذ البنتين مني بالقانون
ردت درة بامتعاض
- من هذا الذي سيحاول أخذ البنتين يا سلوان اعقلي هل تتخيلين أن يقدم حسين على تحمل مسؤوليتهما المادية ورعايتهما ؟! ولما قد يفعل هذا ؟!
همست سلوان برجاءٍ حار
- هذا ما أمني به نفسي
سألتها درة بصوتٍ حذر
- سلوان صوتك به نبرة مختلفة , ولا أظن أن حسين سببها , فما الذي حدث ؟!
ردت سلوان متنهدة بتردد
- أنا في الحاجة للكلام معكِ طويلا يا درة
وبعد عدة لحظات من الصمت سمعتها درة تقول بصوتٍ يحمل ابتسامة
- ما هذه المكالمة يا شريكة الخيبة ؟! نحن نتحدث بطريقة طبيعية تماما و كأنك لم تتعرضي لهجومٍ منذ ساعات !! يبدو أننا اشتقنا للكلام سويا
ابتسمت درة رغما عنها , الا انها ردت ببرود زائف
- أنا لم أقل أنني سامحتك بعد
قالت سلوان بنبرة حانية
- ستسامحينني , حين نأتي لنصطحبك لتقيمي معنا , أراهن أنك اشتقتِ لطعامي
نظرت درة حولها قبل أن تجلس وتضع يدها على ركبتها لتقول بخفوت
- لن أقيم معكما يا سلوان , انسي هذه الفكرة تماما لدي شقة وسأعود إليها ربما اليوم , أو الغد
صمتت للحظات , ثم همست مجددا
- الغد على الأرجح
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي