الفصل ١٦
سار في الرواق الطويل في الشركة ممسكا بحاسوبه مفتوحا وهو تابع أحد الرسوم فلم ينتبه الى المجموعة الصغيرة الواقفة عن بعد الى أن بدأت تتفرق وكان أن رفع وجهه في نفس اللحظة التي ظهرت فيها من بين المجموعة التي كانت تحيط بها
توقف ساهر مكانه وهو يتأكد من وجودها بالفعل نعم إنها هي لقد عادت هويدا
وجد نفسه يبتسم رغما عنه , لكن نظراته دارت من حولها وهو يلمح فيها تغييرا غريبا
هي هويدا نفس الملامح و الشعر لكن الشعر بدا مصففا بطريقة راقية فوق ظهرها
والملامح مبتسمة بهدوءٍ باهت دون روح وهي تومئ برأسها لكل من يلقي لها التحية
ترتدي فستانا كلاسيكيا أبيض اللون يجعلها تبدو مناسبة للمكان تماما للمرة الأولى
لم يهتم بما ترتديه أو بطريقة تصفيف شعرها كل ما كان يهمه هو سبب هذا الهدوء الفاتر المحدق بها
وجد نفسه يقترب منها ببطىء وهو يغلق الحاسوب ليضعه تحت ذراعه
يقترب يقترب ثلاث خطوات بعد وسيصل إليها
أغمضت عينيها للحظاتٍ تكاد أن تشم عطره وحين فتحتهما كان قد وصل و توقف بين أفراد المجموعة المحيطة بها .
كانت تستمع بأذنٍ صماء لمهندسة تتكلم معها بسرعة ضاحكة تحاول أن تستوعب ما تقوله , لكن كل ذهنها كان مع هذا الذي يقف على جانبها يراقبها
وحين عجزت عن التحمل رمقته بنظرة من طرف عينيها , فلمحها وتلاقت أعينهما
ابتسمت ابتسامة مشاغبة حطمت تلك الهالة الفاترة الكريهة التي تسيطر عليها ..
تبا متى تنتهي تلك المهندسة من الكلام والثرثرة لا أفهمها وكل ما أريده هو أن ألقي عليه نظرة واحدة فقط .
وبالفعل انتهت من الكلام أخيرا وحيتها مودعة فظلت هويدا واقفة مكانها توليه ظهرها مغمضة عينيها , لكنها انتفضت على ملمس كفٍ غليظة فوق ظهرها وصوتٍ عصبي يقول بخفوت
هل هناك آخرون يودون إلقاء السلام عليكِ ؟! طبعا يشعرون بافتقاد العنصر الوحيد المسلي لهم
استدارت قليلا وهي تقول بهدوءٍ خافت
اخفض صوتك يا محسن من فضلك , إن كنت مجبرة على تحمل إهاناتك في البيت فعلى الأقل اعفني منها هنا وأمام زملائي
بدأ يتذمر عادته مكلما نفسه , لكنها لم تهتم بل التفتت أخيرا ونظرت الى ساهر ثم أخذت نفسا عميقا ملأ صدرها استطاع أن يلمحه وكأنها تحت سطح الماء منذ فترة طويلة و الآن فقط خرجت للهواء
ابتسم رغم عنه و قال بهدوء
أطلتِ الغيبة يا هويدا
رمقته بنظرة مختلسة , ثم أبعدت شعرها عن وجهها وأجابت بصوتها الأجش الجذاب
كيف حالك ؟
أومأ نصف إيماءة و ابتسامته تزداد عمقا لكن صوتا ذكوريا منفرا قال فجأة بفظاظة
هويدا المصعد فتح أبوابه منذ دهر , ألن تدخلي ؟! تأخرنا
تنهدت تنهيدة طويلة بطيئة ثم أخفضت رأسها وتقدمت الى المصعد تعرج قليلا إثر إصابتها منذ شهر
بينما رمقه مرافقها بنظرة مقتضبة وسأل بخشونة ودون اهتمام
هل ستدخل المصعد ؟!
تعرف عليه ساهر على الفور , إنه الفظ قريبها لكن لماذا يرافقها ويحاصرها بهذا الشكل وكأنه لا يريد لها أن تتصل بالناس
تكلم ساهر قائلا بتهذيب وهو يشير إليه كي يتقدمه
نعم كنت نازلا تفضل
دخل محسن الى المصعد تبعه ساهر وما ان أغلق أبوابه حتى سألها بخشونة
هل تناولتِ دوائك ؟!
نقل ساهر عينيه بينهما عاقدا حاجبيه , بينما ركزت هي عينيها على أرقام المصعد المضيئة
وفجأة أخفضتهما لتنظر الى عينيه المحدقتين فيها ثم قالت بصوتها الأجش مشيرة الى محسن
تتذكر محسن ابن خالتي
بينما هي تشير بيدها اليمنى إليه , لمح ساهر الحلقة الذهبية تزين اصبعها مما جعله يتسمر مكانه , ثم يسارع بالنظر الى اصبع محسن وبالفعل كان يضع نفس الحلقة
تراجع ساهر خطوة حتى استند بظهره الى مرآة المصعد يحدق فيها بملامح لا تنم عن شيء فارغة تماما
بدا محسن غير متذكرا ساهر مطلقا خاصة وهو يسألها مجددا بخشونة أكبر
هل تناولتِ دوائك ؟
ردت هويدا متنهدة قائلة بصوتٍ فاتر رتيب
نعم يا محسن تناولت دواء مضاد الاكتئاب وأقراص الهلوسة وذاك الدواء ما كان اسمه ؟!! الذي يمنعني من الانتحار ؟
أفلت نفس متأوه من بين شفتي ساهر لا صوت له , بينما أشاح محسن بوجهه قائلا بحنق بالغ
رائع تصميمك على افتعال الفضائح مذهل
لم تهتم له هويدا , بل كانت تنظر الى ساهر من تحت رموشها ثم تابعت بصوتها الأجش قائلة بدعابة
تلك الأقراص تجعلني أشعر بالدوار و الغثيان حقا
شتم المدعو محسن بصوتٍ غير مسموع بينما تكلم ساهر بجدية قائلا
سلامتك يا هويدا
مطت شفتيها و هي تهز كتفها قائلة مبتسمة
على الأقل حدت من خطورتي على المجتمع كما اقترح الجميع
لم يرد ساهر , بل بدت عيناه عميقتين وهو يراقب حركات أصابعها و هي ترتفع الى جبهتها وما أن فتح المصعد أبوابه حتى تقدمت عدة خطوات الا أنها تعثرت وهي ترمش بعينيها عدة مرات مما جعل كلا من ساهر ومحسن يسارعان لإسنادها الا أن محسن قال ببرود
تدبرت الأمر شكرا لك
وكان هذا فيه إشارة واضحة لأن يتركها و بالفعل تركها ساهر وتراجع للخلف بينما مالت بجسدها تسند الى محسن قائلة بصوتٍ خفيض
لا أرى بوضوح
لم يسمع ساهر رد محسن و لم يتحرك من مكانه حتى عاد المصعد وأغلق أبوابه وهو في الداخل لم يتحرك , عيناه معلقتان بالأرقام المضيئة ثم أغمضهما بشعورٍ كئيب
.....
أمسكت بهاتفها الموضوع جانبا ثم اتصلت بالرقم الذي دأبت على الاتصال به منذ الصباح مراتٍ يجيب بهدوء وصبر ومراتٍ أخرى يتجاهلها
أما هذه المرة فرد عليها بصوتٍ عادي
مرحبا مجددا سيدة سلوان
حكت سلوان شعرها بتوتر , ثم قالت بصوتٍ متلعثم مضطرب
أهلا سيد قاسم أعرف أنني ربما أكون قد أزعجتك كثيرا اليوم , لكنك حتى الآن تبدو غير واضحا في المعلومات التي أطلبها بخصوص درة
سمعت تنهيدته البطيئة التي تدل على قرب نفاذ الصبر , الا أنه حين تكلم كان صوته هادئا وهو يجيبها
إنها بخير بضعة كدمات على الوجه , وجرح في مؤخرة الرأس احتاج للتقطيب ضعيفة قليلا و بحاجة للتغذية لكنها في المجمل بخير , يمكنك الاطمئنان
رمشت بعينيها متوترة , لكنها قالت بصوتٍ صارم قليلا
نعم , هذا ما قلته منذ فترة , لكن منذ أن خرجت بها من المشفى قبل حتى أن يخبرني السيد عبد اللطيف بما حدث معها وأنت تتجنب اخباري عن مكان اصطحابك لها كان يفترض بك أن تأتي بها الى هنا , كي أتمكن من رعايتها لكن مرت ساعات وأنا حتى الآن لا أعرف أين هي حتى !
ساد الصمت لبضعة لحظات , ثم سألها بصوتٍ بدا أكثر صرامة وخطورة و إن ظل هادئا
لماذا اصطحبها الى بيت زوجك يا سيدة سلوان ؟!
زادت العصبية بداخلها , فهتفت بقلق غاضبة
لأنها لا تملك في الدنيا سوانا ! ويفترض بها أن تكون معنا بعد تعرضها لحادثٍ كهذا
حين تكلم مجددا كان صوته مشتدا , عنيفا مكتوما بطريقة جعلتها تجفل
درة لا تملككما يا سيدة سلوان , لا أنتِ ولا زوجك بالأخص زوجك كما أنكما لا تملكانها وفي ظرفٍ كهذا أرفض أن تواجه أيا كان , خاصة مجرد رجل عابر كان يعرض الزواج عليها من باب الشفقة
هتفت سلوان باستياء وغضب
لم يعرض عليها عامر الزواج من باب الشفقة !
رد عليها بجفاء قائلا
قد لا تجدين خطبا في الدفاع عن رغبة زوجك في الزواج من امرأة أخرى لدافع آخر غير الشفقة لكنني لا أحب هذا وأفضل عدم سماعه
اختنقت الكلمات في حلقها وهي تشعر بأنه يحتجزها في زاوية ضيقة كي لا تجادله طويلا
محاولا جرها الى غيرة أنثوية لطالما شعرت بها تجاه درة لكن الآن لم تشعر بها مطلقا !
كان الظرف الذي تمر به درة أقوى من غيرتها
أو ربما تحولت علاقتهما الى رابطٍ أكبر من مجرد منافسة نسائية حول رجل !.
نهضت سلوان من مكانها ببطء وقالت بصوتٍ حازم قوي
إن كنا لا نملكها يا سيد قاسم , فأنت بوجهٍ خاص لا تملكها أيضا وأرجو أن تحكم ضميرك و لا تستغل ما حدث لها كي تجبرها على ما
قاطعها بصوتٍ هادئ ساخر
أجبرها ! درة الآن نائمة كالأطفال وفي أمانٍ تام
هتفت سلوان بحنق وعصبية
اذن أين هي ؟!
رد عليها قاسم متنازلا بهدوء
عدت بها الى بلدتها
توقفت سلوان مكانها مجفلة تفكر في ما قاله , ثم سألت بقلق
الى بلدتها ؟! لكن من لها هناك ؟! ما أعرفه أن لا مكان لها سوى
أجابها قاسم زافرا من جديد
سيدة سلوان درة بخير تماما , وهذا ما أنتِ في حاجة لمعرفته أما بالنسبة لمكان تواجدها فهذا أمر عائد لها فهي ليست طفلة , أنتِ أمها
شعرت بغضبٍ يفوق قدرتها على الرد بتعقل , لذا آثرت أن تغلق الاتصال معه في هذه اللحظة كي لا تتهور في وقتٍ لا يتحمل أي منه لذا استجمعت سيطرتها على أعصابها وأخذت نفسا عميقا وسألته سؤالا كانت تريد سؤاله منذ ساعات
حسنا اذن أنا سأكلمها بنفسي لكن قبلا هل تعرف أي معلوماتٍ عن مكان حسين ؟ طليقنا طليقي
ساد صمت طويل ضاعف من خوفها بل رعبها
فتحت فمها لتهتف مكررة السؤال بأعصابٍ منهارة , الا أنه سبقها وقال بصوتٍ خفيض مرعب
إن كنت أعرف لكنتِ سمعتِ الآن خبره
تحرك حلقها وهي تبتلع ريقها بصعوبة هامسة بتلعثم ترمش بعينيها
خبره !ماذا . ماذا تقصد بالتحديد ؟!
أجابها هادئا , جامد النبرات بطريقةٍ مفجعة
خبر موته
اتسعت عيناها بذهول لعدة لحظات محاولة استيعاب ما سمعته للتو ثم لم تلبث أن قالت متعثرة في حروفٍ مضطربة
أنت أنت بالتأكيد تبالغ , أليس كذلك ؟! أنت لن تقتله أو تصيبه إصابة خطيرة أليس كذلك ؟! سيد قاسم لماذا لا تجيب ؟!
أجابها بعد لحظات سائلا ببرود وبمنتهى البساطة وكأنه قاتل مأجور يتكلم عن أحد ضحاياه
هل يهمك أمره ؟!
اتسعت عيناها أكثر و فغرت فمها لفترةٍ من الوقت عاجزة على النطق بحرف , حتى تمكنت من الهتاف أخيرا بصدمة
أنا لا
انتظر بصبرٍ على الجانب الآخر من الهاتف , حتى هتفت أخيرا بصعوبة
إنه والد بناتي أنت لن تعاقبه وحده , بل ستعاقب طفلتين لا ذنب لهما فيما اقترفه والدهما
صدرت عنه ضحكة لم تحمل أي مرح , زادت من خوفها ثم قال بهدوء
ماذا إن تهجم أحدهم على واحدة من ابنتيكِ وتحرش بها
شحب وجهها تماما حتى حاكى وجوه الموتى , الا أنها ردت دون تردد
أقتله
أجابها قاسم بهدوء أكبر
لكنه قد يكون والدا لأطفالٍ آخرين لا ذنب لهم كذلك هذا هو ما لن تفكري فيه حين يقدم حيوان على التحرش بأي منهما
أطبقت عينيها بشدة وهي تعض على شفتها بقوة جرحتها ثم همست بصوتٍ متداعٍ متكسر
هل تحرش أقصد هل حاول
قاطعها قاسم بكلمة واحدة قاسية باترة
نعم
أفلت من بين شفتيها نفسا مرتجفا , شبه باكيا وهي تهمس لنفسها بصوت مختنق
يا الهي !
رافعة أصابعها على فكها البارد الشاحب , غير مصدقة للمصيبة المحدقة بالجميع , ثم همست أخيرا بصوتٍ مختنق
أرجوك لا تتهور فكر في نفسك على الأقل أنا
صمتت والدموع تتجمع في مقلتيها تعجزها عن متابعة كلماتها المتعثرة المتوسلة فأخذت نفسا آخر وهمست بألم
أنا يجب أن أنهي الاتصال الآن
ثم أغلقت الهاتف لتضعه جانبا وهي ترفع أصابعها المرتعشة على فمها مغمضة عينيها تبكي بصمت كتفاها تهتزان بقوة مع شهقات نحيبها المتألم والذي كتمته طوال النهار ثم لم تلبث أن صرخت بقوة وغضب من بين دموعها الحارقة الغزيرة
اللعنة عليك لماذا عدت الآن ؟! كنا قد انتهينا من قذاراتك , ما ذنب ابنتيك ؟! ما ذنبهما ؟!
دفنت وجهها بين كفيها و تركت لنفسها حرية البكاء بقوة علها تتخلص من خوفها و غضبها و نقمتها عليه
واستمر بها الحال لبضعة دقائق حتى تحول بكائها الى تنهداتٍ خافتة مجهدة فبقت جالسة لفترة على حافة السرير محدقة بالأرض قبل أن تنظر الى الهاتف , ثم أمسكت به من جديد
تحاول الاتصال بدرة علها تكون قد استيقظت الآن فهي لا تجيب منذ الصباح ...
وضعت الهاتف على أذنها تستمع الى الرنين المتواصل بصبر و هي تهز ساقها بعصبية
وما أن سمعت إشارة الرد حتى استقامت وفردت ظهرها بلهفة متوقعة سماع صوت درة , لكن الصوت الرجولي المعروف فاجأها قائلا بتنهد
مرحبا يا سيدة سلوان معكِ قاسم مجددا .
أبعدت الهاتف عن أذنها تنظر إليه بدهشة بالغة , ثم أعادته قائلة بصدمة و تشكك
سيد قاسم ! هل هاتف درة في حوزتك ؟!
أجابها قاسم باقتضاب
هذا ما يبدو
عقدت حاجبيها للحظة , ثم سألت برهبة
لماذا ؟!
رد عليها باختصار
لأنها نائمة هل هناك شيء آخر سيدة سلوان ؟!
بدت أكثر ترددا , الا أنها قالت بخفوت متوتر
لا سأحاول الاتصال بها فيما بعد شكرا لك
أجابها قاسم بهدوء
شرفتِ
لكن و قبل أن ينهي الاتصال سألته بسرعة
لكن كيف عرفت أنني أنا المتصلة ؟!
مطت شفتيها وهي تدرك مدى غباء السؤال , فمن المؤكد أنه قرأ الاسم مع الاتصال , الا أنه أجابها ببساطة قائلا
مجرد استنتاج موفق فاتصال برقمٍ صاحبه مُسَجل باسم احم عفوا شريكة الخيبة
انعقد حاجباها بشدة وهي تسأله بصوتٍ غاضب محتد
هل هذا ما تسجلني به ؟!
لم يجب قاسم , بينما تمالكت سلوان نفسها وأغمضت عينيها آخذة نفسا طويلا ثم أضافت بثبات
عامة شكرا لك سأحاول فيما بعد
ثم أغلقت الاتصال وشردت بعينيها تضرب بالهاتف فوق راحتها مفكرة ترى ما هي خطوة حسين القادمة ؟!
رفعت وجهها ناظرة الى السقف بملامح شاحبة مرهقة , ثم همست بصوتٍ يائس
ليته يفعل ما أتقنه لوقتٍ طويل الهروب من مسؤوليته , سيجنبنا الكثير من المآسي إن فعل
......
تسمرت الحدقتان الواسعتان على شاشة الهاتف , الممسكة به الأصابع الجميلة بدت وكأنها تمثال صامت أبدع في نحته فنان رسم تعبيرا على ملامح الوجه الفاتنة فوضع فيه كل قدرته وطاقاته
تمثال جميل ساكن لامرأة تحب العين النظر الى فتنتها الهادئة لكن خلف تلك الهالة من السكون , يوجد تعبير غريب في الحدقتين الجميلتين تعبير وكأنه سائل متدفق من حمم لاهبة بطيئة
فوهتا بركانان تنظران الى الشاشة بين أصابعها بينما هي تجلس فوق سطح مكتبها في جمود تام وكأن ما تشاهده يمثل كل ما يهمها في الحياة بأسرها بل الحياة نفسها
تراقب جمع من الوجوه الضاحكة اللاهية يصرخون بصخبٍ مفزع في بهجة و جنون ومع كل صرخةٍ عابثة , كان اظفرها يتحرك فوق الشاشة يخدش أحد الوجوه ببطىء شديد
مرة بعد مرة وبضغطٍ أكبر
و مع كلِ خدشٍ من اظفرها لهذا الوجه تنطبق شفتاها المكتنزتان أكثر و تزداد الحمم في السائل المتحرك ببطء عبر حدقتيها
صراخ عالٍ بصوتٍ أجش مجنون بنشوة التهور
هذه هي الحياة
أغمضت عينيها فسترت فوهتي البركان و احتجزت الحمم السائلة الثخينة
هذه هي الحياة
عبارة حاولت التأقلم معها منذ فترة طويلة , كما أمرها كل من حولها بنبراتٍ هادئة رتيبة و مقيتة
هذه هي الحياة يا شغف ليست عادلة كل الوقت , حاولي التعايش معها
ربما لم تتمكن العينان الجميلتان الواسعتان من رؤية المزيد , الا أن أذنها لا تزال تسمع الهرج و صرخات الإبتهاج وكأنها كانت نصالٍ حادة تغرس في جسدها , حتى أنها أرجعت رأسها للخلف مغمضة عينيها كاشفة عن عنقها الغض .. تستقبل كل ضربةٍ حادة متمثل في صيحة فرح أو ضحكة جنون .تنحر هذا العنق ببطىءٍ مؤلم مؤلم
فغرت الشفتان الجميلتان وهمست بالكلمة التي كانت تجتاح كيانها بأكمله
مؤلم مؤلم
بإمكانها الاستماع للأبد لكن انتهى الفيديو الذي كانت تشاهده على أحد مواقع التواصل و بدأ يعرض نفسه من جديد فأصبح مكررا فاقدا لنفس الألم الذي تستشعره كلما شاهدت فيديو مماثل لأول مرة
فتحت عينيها أخيرا و هي تنظر الى المشاهد المكررة , وتحرك حلقها ببطء , بينما اختفت الحمم السائلة من عينيها و تركتهما باردتين خاويتين ميتتين
أغلقت الفيديو أخيرا و نهضت من مكانها بسرعة جعلتها تشعر بدوارٍ مفاجئ ثم جالت بعينيها في أنحاء غرفتها بحدقتين زائغتين وعلى الرغم من اتساع تلك الغرفة الأنيقة الفخمة , الا أنها شعرت و كأن جدرانها تكاد أن تنطبق فوق صدرها و تضيق بها لدرجة أحست معها بألمٍ حقيقي في أضلعها وكأنها على وشك التحطم .. فرفعت يدها الى صدرها وهي ترجع رأسها للخلف مستنشقة نفسا عميقا علها تتخلص من هذا الضيق لكن دون جدوى , فاتجهت الى جارورٍ صغير بجوار الفراش فتحته و أخرجت منه قرصا من أحد أقراص الأدوية تناولته بسرعة ثم اتجهت الى النافذة وفتحتها مخرجة رأسها منها بسرعة و كأنها على وشك السقوط لكنها في الحقيقة كانت تحاول فقط أن تتنفس بصورة طبيعية
كانت تشهق فعليا كي تسطيع التنفس مغمضة عينيها وساقها تهتز بقسوة بينما قبضتها تضرب
ببطء على زجاج النافذة و بطريقة رتيبة لكنها كانت ضرباتٍ قوية , عاجزة لشخص محتجز داخل نفسه غير قادر على القيام بأي شيء
ومضت بضعة دقائق وهي ممسكة بإطار النافذة , مترنحة برأسها خلفها و شعرها يتهدل حول وجهها .. خصلاته تتطاير بلطفٍ , وكأنها تربت على وجنتيها بحنانٍ تطالبها بالرفق بنفسها
لكنها لم تهدأ , بل كان ضيق التنفس يزداد مما جعلها تبتعد عن النافذة تتحرك بخطواتٍ عصبية خرقاء باحثة عن شيء أي شيء أو ربما شخص
ثم نظرت الى هاتفها مجددا , فاتجهت إليه وأمسكت به تبحث عن رقمٍ لتتصل به بينما عيناها تلمعان بقسوة وما أن وصلها الصوت الخشن اللطيف يسألها بحنان على الرغم من نبرة الإجهاد فيه
ما أخبارها الحلوة ؟
لكن مزاحه الحنون لم يؤثر فيها , بينما جعلتها القسوة الناتجة عن الألم و ضيق التنفس تهتف بعنفٍ مبالغ فيه
أين أنت ؟!
ساد الصمت لبضعة لحظات , ثم سمعت صوته يجيب بهدوء فقد روح الدعابة فيه
في العمل أين يمكنني أن أكون غير ذلك ؟!
زاد حنقها فهتفت بحدة
أي عملٍ هذا و حتى هذه الساعة ؟! جميع الأزواج في بيوتهم الآن , بينما أنت لم تعد ككل يوم
عاد الصمت مجددا , ثم قال بنبرة جادة
هذا في عالمكم يا شغف , أما في عالمي يظل الرجال يعملون من مكانٍ لآخر حتى يتساقطون من التعب آخر الليل علما بأن الساعة لم تتجاوز الثامنة مساءا بعد
كانت قد أغمضت عينيها وهي تهز رأسها بنفاذ صبر حتى أنها تأففت مع نهاية كلماته بصوتٍ عالٍ ثم هتفت بحدة
كفى كفى كلاما عن عالمنا و عالمكم وتلك الفوارق التي تصلح لكتابة مقالٍ ممل في جريدة لا رغبة لي في قراءته أريدك أن تأتي الآن الآن حالا
عاد الصمت الموتر , ثم قال أخيرا بخفوت و بصوت أجش
وأنا أيضا أريدك
كانت الابتسامة ظاهرة في تلك النبرة الخشنة الخافتة , لكنها لم تتجاوب معها بل هتفت بعصبية أكبر
توقف يا خاطر أنا أريدك هنا الآن , تعال حالا
أجابها بصوتٍ قاطع مفاجئ
لا يمكنني لدي عمل
صمتت وقد برقت عيناها بقسوة وزمت شفتيها تتنفس بسرعة و انفعال , ثم سألت ببرودٍ حاد
أي عملٍ هذا الذي لا تستطيع تركه الآن حين أطلب منك ؟! هل توظفت في مكانٍ ثابت دون علمي ؟! بالطبع لا اذن يمكنك أن تترك ما تفعل وتأتي حالا
لم يرد عليها على الفور , بل ظل صامتا حتى كادت أن تضرب الهاتف في الجدار من شدة الحنق
ثم سألها بصوتٍ غريب
ماذا بكِ يا شغف ؟! هل أنتِ بخير ؟!
صمتت صمتت وهي تتحرك ببطء حتى قابلت صورتها في المرآة أمامها و هالها رؤية تلك المرأة ذات النظرات الغاضبة بدرجةٍ مرعبة
ظلت تنظر الى عينيها والهاتف على أذنها
هل أنا بخير ؟! لا لست بخير أنا لست بخير و لن أكون بخير مطلقا
وجدت نفسها تقول بصوتٍ خفيض عميق
لا أنا لست بخير أنا أحتاجك , أرجوك تعال الآن
عقد حاجبيه و الهاتف على أذنه وشفتاه تنطقان باسمها بصوتٍ خفيض مما جعلها تغمض عينيها و تتابع قائلة
أنا يمكنني أن آتي إليك , أخبرني بمكانك
لكن و قبل أن يرد سمعت جلبة بجواره وكأنه صوت باب سيارة يغلق ثم صوت امرأة تقول بوقار
هل تأخرت عليك يا خاطر ؟
بهتت ملامحها فجأة وصمتت تماما أما خاطر فأسرع يقول بهدوء وبصوتٍ هامس
يجب أن أنهي الاتصال الآن يا شغف أراكِ ليلا لا تخرجي , حاولي أن ترتاحي فقط حتى أعود
ثم أغلق الخط دون أن ينتظر سماع إجابتها فأخفضت الهاتف ببطء واقفة مكانها في منتصف الغرفة , تحدق في الفراغ بنظراتٍ خاوية
شيء ما يضغط صدرها بقوة يجعلها غير قادرة على النوم أو الراحة تنهض لتجلس ثم تقوم و تدور في الغرفة لتستلقي من جديد وبعد المكالمة مع خاطر زاد هذا الإحساس و تضاعف الضغط على صدرها
لذا ألقت بالهاتف فوق السرير بإهمال , ثم خرجت من الغرفة غير قادرة على تحمل احتجاز نفسها بداخل جدرانها أكثر من هذا
أما على الجانب الآن بعد أن أنهى الاتصال ووضع الهاتف جانبا وبينما كانت تثبت حزام الأمان حولها , سألته مبتسمة
هل كنت تكلم زوجتك ؟!
ابتسم خاطر يجيبها بتهذيب
نعم
أومأت برأسها وقالت بلطف
لا أظنك كنت متزوجا حين كنت تعمل مندوبا لشركة الشحن ولا تسألني عن السبب , فأنا نفسي لا أعرف أظن أن الزواج يمنح الرجل مظهرا من تحمل المسؤولية
ضحك خاطر وهو يحرك السيارة قائلا بهدوء
كنت ولا زلت أحمل مسؤولية أسرة مكونة من ثلاث أولاد ووالدهم لكنك محقة , لم أكن متزوجا
سألته مبتسمة ابتسامة عريضة
زوج حديث اذن !! حديث جدا مبارك يا خاطر , عسى أن يرزقكما الله بالذرية الصالحة قريبا
لم يستطع منع ابتسامة ساخرة من الظهور على شفتيه وهو يركز عينيه على الطريق أمامه فقالت بهدوء و جدية
لكما مني دعوة خاصة إن شاء الله حدد موعدا كي أحتفل بكما
ارتفع حاجبا خاطر للحظة مجفلا , ثم لم يلبث أن قال بصوتٍ مبهم لا يحمل تعبير
شكرا جدا هذا كرم بالغ منكِ لكن لا أظننا زوجان من النوع القابل على الاختلاط بالبشر
كان دورها ليرتفع حاجباها وهي تسأله بدهشة
لماذا يا خاطر ؟! اندمجا مع الناس وقوما بتكوين صداقاتٍ أسرية ابدأ من الآن ببناء مجتمع صغير جميل يكبر فيه أطفالك مستقبلا إن شاء الله
عادت الابتسامة الساخرة مجددا لكنها كانت تحمل نوعا من المرارة , فاكتفى بها دون أن يجد ردا مقنعا ثم سأل بهدوء مغيرا الموضوع
أي ساعة تنتهي زيارتك كي اصطحبك ؟
توقف ساهر مكانه وهو يتأكد من وجودها بالفعل نعم إنها هي لقد عادت هويدا
وجد نفسه يبتسم رغما عنه , لكن نظراته دارت من حولها وهو يلمح فيها تغييرا غريبا
هي هويدا نفس الملامح و الشعر لكن الشعر بدا مصففا بطريقة راقية فوق ظهرها
والملامح مبتسمة بهدوءٍ باهت دون روح وهي تومئ برأسها لكل من يلقي لها التحية
ترتدي فستانا كلاسيكيا أبيض اللون يجعلها تبدو مناسبة للمكان تماما للمرة الأولى
لم يهتم بما ترتديه أو بطريقة تصفيف شعرها كل ما كان يهمه هو سبب هذا الهدوء الفاتر المحدق بها
وجد نفسه يقترب منها ببطىء وهو يغلق الحاسوب ليضعه تحت ذراعه
يقترب يقترب ثلاث خطوات بعد وسيصل إليها
أغمضت عينيها للحظاتٍ تكاد أن تشم عطره وحين فتحتهما كان قد وصل و توقف بين أفراد المجموعة المحيطة بها .
كانت تستمع بأذنٍ صماء لمهندسة تتكلم معها بسرعة ضاحكة تحاول أن تستوعب ما تقوله , لكن كل ذهنها كان مع هذا الذي يقف على جانبها يراقبها
وحين عجزت عن التحمل رمقته بنظرة من طرف عينيها , فلمحها وتلاقت أعينهما
ابتسمت ابتسامة مشاغبة حطمت تلك الهالة الفاترة الكريهة التي تسيطر عليها ..
تبا متى تنتهي تلك المهندسة من الكلام والثرثرة لا أفهمها وكل ما أريده هو أن ألقي عليه نظرة واحدة فقط .
وبالفعل انتهت من الكلام أخيرا وحيتها مودعة فظلت هويدا واقفة مكانها توليه ظهرها مغمضة عينيها , لكنها انتفضت على ملمس كفٍ غليظة فوق ظهرها وصوتٍ عصبي يقول بخفوت
هل هناك آخرون يودون إلقاء السلام عليكِ ؟! طبعا يشعرون بافتقاد العنصر الوحيد المسلي لهم
استدارت قليلا وهي تقول بهدوءٍ خافت
اخفض صوتك يا محسن من فضلك , إن كنت مجبرة على تحمل إهاناتك في البيت فعلى الأقل اعفني منها هنا وأمام زملائي
بدأ يتذمر عادته مكلما نفسه , لكنها لم تهتم بل التفتت أخيرا ونظرت الى ساهر ثم أخذت نفسا عميقا ملأ صدرها استطاع أن يلمحه وكأنها تحت سطح الماء منذ فترة طويلة و الآن فقط خرجت للهواء
ابتسم رغم عنه و قال بهدوء
أطلتِ الغيبة يا هويدا
رمقته بنظرة مختلسة , ثم أبعدت شعرها عن وجهها وأجابت بصوتها الأجش الجذاب
كيف حالك ؟
أومأ نصف إيماءة و ابتسامته تزداد عمقا لكن صوتا ذكوريا منفرا قال فجأة بفظاظة
هويدا المصعد فتح أبوابه منذ دهر , ألن تدخلي ؟! تأخرنا
تنهدت تنهيدة طويلة بطيئة ثم أخفضت رأسها وتقدمت الى المصعد تعرج قليلا إثر إصابتها منذ شهر
بينما رمقه مرافقها بنظرة مقتضبة وسأل بخشونة ودون اهتمام
هل ستدخل المصعد ؟!
تعرف عليه ساهر على الفور , إنه الفظ قريبها لكن لماذا يرافقها ويحاصرها بهذا الشكل وكأنه لا يريد لها أن تتصل بالناس
تكلم ساهر قائلا بتهذيب وهو يشير إليه كي يتقدمه
نعم كنت نازلا تفضل
دخل محسن الى المصعد تبعه ساهر وما ان أغلق أبوابه حتى سألها بخشونة
هل تناولتِ دوائك ؟!
نقل ساهر عينيه بينهما عاقدا حاجبيه , بينما ركزت هي عينيها على أرقام المصعد المضيئة
وفجأة أخفضتهما لتنظر الى عينيه المحدقتين فيها ثم قالت بصوتها الأجش مشيرة الى محسن
تتذكر محسن ابن خالتي
بينما هي تشير بيدها اليمنى إليه , لمح ساهر الحلقة الذهبية تزين اصبعها مما جعله يتسمر مكانه , ثم يسارع بالنظر الى اصبع محسن وبالفعل كان يضع نفس الحلقة
تراجع ساهر خطوة حتى استند بظهره الى مرآة المصعد يحدق فيها بملامح لا تنم عن شيء فارغة تماما
بدا محسن غير متذكرا ساهر مطلقا خاصة وهو يسألها مجددا بخشونة أكبر
هل تناولتِ دوائك ؟
ردت هويدا متنهدة قائلة بصوتٍ فاتر رتيب
نعم يا محسن تناولت دواء مضاد الاكتئاب وأقراص الهلوسة وذاك الدواء ما كان اسمه ؟!! الذي يمنعني من الانتحار ؟
أفلت نفس متأوه من بين شفتي ساهر لا صوت له , بينما أشاح محسن بوجهه قائلا بحنق بالغ
رائع تصميمك على افتعال الفضائح مذهل
لم تهتم له هويدا , بل كانت تنظر الى ساهر من تحت رموشها ثم تابعت بصوتها الأجش قائلة بدعابة
تلك الأقراص تجعلني أشعر بالدوار و الغثيان حقا
شتم المدعو محسن بصوتٍ غير مسموع بينما تكلم ساهر بجدية قائلا
سلامتك يا هويدا
مطت شفتيها و هي تهز كتفها قائلة مبتسمة
على الأقل حدت من خطورتي على المجتمع كما اقترح الجميع
لم يرد ساهر , بل بدت عيناه عميقتين وهو يراقب حركات أصابعها و هي ترتفع الى جبهتها وما أن فتح المصعد أبوابه حتى تقدمت عدة خطوات الا أنها تعثرت وهي ترمش بعينيها عدة مرات مما جعل كلا من ساهر ومحسن يسارعان لإسنادها الا أن محسن قال ببرود
تدبرت الأمر شكرا لك
وكان هذا فيه إشارة واضحة لأن يتركها و بالفعل تركها ساهر وتراجع للخلف بينما مالت بجسدها تسند الى محسن قائلة بصوتٍ خفيض
لا أرى بوضوح
لم يسمع ساهر رد محسن و لم يتحرك من مكانه حتى عاد المصعد وأغلق أبوابه وهو في الداخل لم يتحرك , عيناه معلقتان بالأرقام المضيئة ثم أغمضهما بشعورٍ كئيب
.....
أمسكت بهاتفها الموضوع جانبا ثم اتصلت بالرقم الذي دأبت على الاتصال به منذ الصباح مراتٍ يجيب بهدوء وصبر ومراتٍ أخرى يتجاهلها
أما هذه المرة فرد عليها بصوتٍ عادي
مرحبا مجددا سيدة سلوان
حكت سلوان شعرها بتوتر , ثم قالت بصوتٍ متلعثم مضطرب
أهلا سيد قاسم أعرف أنني ربما أكون قد أزعجتك كثيرا اليوم , لكنك حتى الآن تبدو غير واضحا في المعلومات التي أطلبها بخصوص درة
سمعت تنهيدته البطيئة التي تدل على قرب نفاذ الصبر , الا أنه حين تكلم كان صوته هادئا وهو يجيبها
إنها بخير بضعة كدمات على الوجه , وجرح في مؤخرة الرأس احتاج للتقطيب ضعيفة قليلا و بحاجة للتغذية لكنها في المجمل بخير , يمكنك الاطمئنان
رمشت بعينيها متوترة , لكنها قالت بصوتٍ صارم قليلا
نعم , هذا ما قلته منذ فترة , لكن منذ أن خرجت بها من المشفى قبل حتى أن يخبرني السيد عبد اللطيف بما حدث معها وأنت تتجنب اخباري عن مكان اصطحابك لها كان يفترض بك أن تأتي بها الى هنا , كي أتمكن من رعايتها لكن مرت ساعات وأنا حتى الآن لا أعرف أين هي حتى !
ساد الصمت لبضعة لحظات , ثم سألها بصوتٍ بدا أكثر صرامة وخطورة و إن ظل هادئا
لماذا اصطحبها الى بيت زوجك يا سيدة سلوان ؟!
زادت العصبية بداخلها , فهتفت بقلق غاضبة
لأنها لا تملك في الدنيا سوانا ! ويفترض بها أن تكون معنا بعد تعرضها لحادثٍ كهذا
حين تكلم مجددا كان صوته مشتدا , عنيفا مكتوما بطريقة جعلتها تجفل
درة لا تملككما يا سيدة سلوان , لا أنتِ ولا زوجك بالأخص زوجك كما أنكما لا تملكانها وفي ظرفٍ كهذا أرفض أن تواجه أيا كان , خاصة مجرد رجل عابر كان يعرض الزواج عليها من باب الشفقة
هتفت سلوان باستياء وغضب
لم يعرض عليها عامر الزواج من باب الشفقة !
رد عليها بجفاء قائلا
قد لا تجدين خطبا في الدفاع عن رغبة زوجك في الزواج من امرأة أخرى لدافع آخر غير الشفقة لكنني لا أحب هذا وأفضل عدم سماعه
اختنقت الكلمات في حلقها وهي تشعر بأنه يحتجزها في زاوية ضيقة كي لا تجادله طويلا
محاولا جرها الى غيرة أنثوية لطالما شعرت بها تجاه درة لكن الآن لم تشعر بها مطلقا !
كان الظرف الذي تمر به درة أقوى من غيرتها
أو ربما تحولت علاقتهما الى رابطٍ أكبر من مجرد منافسة نسائية حول رجل !.
نهضت سلوان من مكانها ببطء وقالت بصوتٍ حازم قوي
إن كنا لا نملكها يا سيد قاسم , فأنت بوجهٍ خاص لا تملكها أيضا وأرجو أن تحكم ضميرك و لا تستغل ما حدث لها كي تجبرها على ما
قاطعها بصوتٍ هادئ ساخر
أجبرها ! درة الآن نائمة كالأطفال وفي أمانٍ تام
هتفت سلوان بحنق وعصبية
اذن أين هي ؟!
رد عليها قاسم متنازلا بهدوء
عدت بها الى بلدتها
توقفت سلوان مكانها مجفلة تفكر في ما قاله , ثم سألت بقلق
الى بلدتها ؟! لكن من لها هناك ؟! ما أعرفه أن لا مكان لها سوى
أجابها قاسم زافرا من جديد
سيدة سلوان درة بخير تماما , وهذا ما أنتِ في حاجة لمعرفته أما بالنسبة لمكان تواجدها فهذا أمر عائد لها فهي ليست طفلة , أنتِ أمها
شعرت بغضبٍ يفوق قدرتها على الرد بتعقل , لذا آثرت أن تغلق الاتصال معه في هذه اللحظة كي لا تتهور في وقتٍ لا يتحمل أي منه لذا استجمعت سيطرتها على أعصابها وأخذت نفسا عميقا وسألته سؤالا كانت تريد سؤاله منذ ساعات
حسنا اذن أنا سأكلمها بنفسي لكن قبلا هل تعرف أي معلوماتٍ عن مكان حسين ؟ طليقنا طليقي
ساد صمت طويل ضاعف من خوفها بل رعبها
فتحت فمها لتهتف مكررة السؤال بأعصابٍ منهارة , الا أنه سبقها وقال بصوتٍ خفيض مرعب
إن كنت أعرف لكنتِ سمعتِ الآن خبره
تحرك حلقها وهي تبتلع ريقها بصعوبة هامسة بتلعثم ترمش بعينيها
خبره !ماذا . ماذا تقصد بالتحديد ؟!
أجابها هادئا , جامد النبرات بطريقةٍ مفجعة
خبر موته
اتسعت عيناها بذهول لعدة لحظات محاولة استيعاب ما سمعته للتو ثم لم تلبث أن قالت متعثرة في حروفٍ مضطربة
أنت أنت بالتأكيد تبالغ , أليس كذلك ؟! أنت لن تقتله أو تصيبه إصابة خطيرة أليس كذلك ؟! سيد قاسم لماذا لا تجيب ؟!
أجابها بعد لحظات سائلا ببرود وبمنتهى البساطة وكأنه قاتل مأجور يتكلم عن أحد ضحاياه
هل يهمك أمره ؟!
اتسعت عيناها أكثر و فغرت فمها لفترةٍ من الوقت عاجزة على النطق بحرف , حتى تمكنت من الهتاف أخيرا بصدمة
أنا لا
انتظر بصبرٍ على الجانب الآخر من الهاتف , حتى هتفت أخيرا بصعوبة
إنه والد بناتي أنت لن تعاقبه وحده , بل ستعاقب طفلتين لا ذنب لهما فيما اقترفه والدهما
صدرت عنه ضحكة لم تحمل أي مرح , زادت من خوفها ثم قال بهدوء
ماذا إن تهجم أحدهم على واحدة من ابنتيكِ وتحرش بها
شحب وجهها تماما حتى حاكى وجوه الموتى , الا أنها ردت دون تردد
أقتله
أجابها قاسم بهدوء أكبر
لكنه قد يكون والدا لأطفالٍ آخرين لا ذنب لهم كذلك هذا هو ما لن تفكري فيه حين يقدم حيوان على التحرش بأي منهما
أطبقت عينيها بشدة وهي تعض على شفتها بقوة جرحتها ثم همست بصوتٍ متداعٍ متكسر
هل تحرش أقصد هل حاول
قاطعها قاسم بكلمة واحدة قاسية باترة
نعم
أفلت من بين شفتيها نفسا مرتجفا , شبه باكيا وهي تهمس لنفسها بصوت مختنق
يا الهي !
رافعة أصابعها على فكها البارد الشاحب , غير مصدقة للمصيبة المحدقة بالجميع , ثم همست أخيرا بصوتٍ مختنق
أرجوك لا تتهور فكر في نفسك على الأقل أنا
صمتت والدموع تتجمع في مقلتيها تعجزها عن متابعة كلماتها المتعثرة المتوسلة فأخذت نفسا آخر وهمست بألم
أنا يجب أن أنهي الاتصال الآن
ثم أغلقت الهاتف لتضعه جانبا وهي ترفع أصابعها المرتعشة على فمها مغمضة عينيها تبكي بصمت كتفاها تهتزان بقوة مع شهقات نحيبها المتألم والذي كتمته طوال النهار ثم لم تلبث أن صرخت بقوة وغضب من بين دموعها الحارقة الغزيرة
اللعنة عليك لماذا عدت الآن ؟! كنا قد انتهينا من قذاراتك , ما ذنب ابنتيك ؟! ما ذنبهما ؟!
دفنت وجهها بين كفيها و تركت لنفسها حرية البكاء بقوة علها تتخلص من خوفها و غضبها و نقمتها عليه
واستمر بها الحال لبضعة دقائق حتى تحول بكائها الى تنهداتٍ خافتة مجهدة فبقت جالسة لفترة على حافة السرير محدقة بالأرض قبل أن تنظر الى الهاتف , ثم أمسكت به من جديد
تحاول الاتصال بدرة علها تكون قد استيقظت الآن فهي لا تجيب منذ الصباح ...
وضعت الهاتف على أذنها تستمع الى الرنين المتواصل بصبر و هي تهز ساقها بعصبية
وما أن سمعت إشارة الرد حتى استقامت وفردت ظهرها بلهفة متوقعة سماع صوت درة , لكن الصوت الرجولي المعروف فاجأها قائلا بتنهد
مرحبا يا سيدة سلوان معكِ قاسم مجددا .
أبعدت الهاتف عن أذنها تنظر إليه بدهشة بالغة , ثم أعادته قائلة بصدمة و تشكك
سيد قاسم ! هل هاتف درة في حوزتك ؟!
أجابها قاسم باقتضاب
هذا ما يبدو
عقدت حاجبيها للحظة , ثم سألت برهبة
لماذا ؟!
رد عليها باختصار
لأنها نائمة هل هناك شيء آخر سيدة سلوان ؟!
بدت أكثر ترددا , الا أنها قالت بخفوت متوتر
لا سأحاول الاتصال بها فيما بعد شكرا لك
أجابها قاسم بهدوء
شرفتِ
لكن و قبل أن ينهي الاتصال سألته بسرعة
لكن كيف عرفت أنني أنا المتصلة ؟!
مطت شفتيها وهي تدرك مدى غباء السؤال , فمن المؤكد أنه قرأ الاسم مع الاتصال , الا أنه أجابها ببساطة قائلا
مجرد استنتاج موفق فاتصال برقمٍ صاحبه مُسَجل باسم احم عفوا شريكة الخيبة
انعقد حاجباها بشدة وهي تسأله بصوتٍ غاضب محتد
هل هذا ما تسجلني به ؟!
لم يجب قاسم , بينما تمالكت سلوان نفسها وأغمضت عينيها آخذة نفسا طويلا ثم أضافت بثبات
عامة شكرا لك سأحاول فيما بعد
ثم أغلقت الاتصال وشردت بعينيها تضرب بالهاتف فوق راحتها مفكرة ترى ما هي خطوة حسين القادمة ؟!
رفعت وجهها ناظرة الى السقف بملامح شاحبة مرهقة , ثم همست بصوتٍ يائس
ليته يفعل ما أتقنه لوقتٍ طويل الهروب من مسؤوليته , سيجنبنا الكثير من المآسي إن فعل
......
تسمرت الحدقتان الواسعتان على شاشة الهاتف , الممسكة به الأصابع الجميلة بدت وكأنها تمثال صامت أبدع في نحته فنان رسم تعبيرا على ملامح الوجه الفاتنة فوضع فيه كل قدرته وطاقاته
تمثال جميل ساكن لامرأة تحب العين النظر الى فتنتها الهادئة لكن خلف تلك الهالة من السكون , يوجد تعبير غريب في الحدقتين الجميلتين تعبير وكأنه سائل متدفق من حمم لاهبة بطيئة
فوهتا بركانان تنظران الى الشاشة بين أصابعها بينما هي تجلس فوق سطح مكتبها في جمود تام وكأن ما تشاهده يمثل كل ما يهمها في الحياة بأسرها بل الحياة نفسها
تراقب جمع من الوجوه الضاحكة اللاهية يصرخون بصخبٍ مفزع في بهجة و جنون ومع كل صرخةٍ عابثة , كان اظفرها يتحرك فوق الشاشة يخدش أحد الوجوه ببطىء شديد
مرة بعد مرة وبضغطٍ أكبر
و مع كلِ خدشٍ من اظفرها لهذا الوجه تنطبق شفتاها المكتنزتان أكثر و تزداد الحمم في السائل المتحرك ببطء عبر حدقتيها
صراخ عالٍ بصوتٍ أجش مجنون بنشوة التهور
هذه هي الحياة
أغمضت عينيها فسترت فوهتي البركان و احتجزت الحمم السائلة الثخينة
هذه هي الحياة
عبارة حاولت التأقلم معها منذ فترة طويلة , كما أمرها كل من حولها بنبراتٍ هادئة رتيبة و مقيتة
هذه هي الحياة يا شغف ليست عادلة كل الوقت , حاولي التعايش معها
ربما لم تتمكن العينان الجميلتان الواسعتان من رؤية المزيد , الا أن أذنها لا تزال تسمع الهرج و صرخات الإبتهاج وكأنها كانت نصالٍ حادة تغرس في جسدها , حتى أنها أرجعت رأسها للخلف مغمضة عينيها كاشفة عن عنقها الغض .. تستقبل كل ضربةٍ حادة متمثل في صيحة فرح أو ضحكة جنون .تنحر هذا العنق ببطىءٍ مؤلم مؤلم
فغرت الشفتان الجميلتان وهمست بالكلمة التي كانت تجتاح كيانها بأكمله
مؤلم مؤلم
بإمكانها الاستماع للأبد لكن انتهى الفيديو الذي كانت تشاهده على أحد مواقع التواصل و بدأ يعرض نفسه من جديد فأصبح مكررا فاقدا لنفس الألم الذي تستشعره كلما شاهدت فيديو مماثل لأول مرة
فتحت عينيها أخيرا و هي تنظر الى المشاهد المكررة , وتحرك حلقها ببطء , بينما اختفت الحمم السائلة من عينيها و تركتهما باردتين خاويتين ميتتين
أغلقت الفيديو أخيرا و نهضت من مكانها بسرعة جعلتها تشعر بدوارٍ مفاجئ ثم جالت بعينيها في أنحاء غرفتها بحدقتين زائغتين وعلى الرغم من اتساع تلك الغرفة الأنيقة الفخمة , الا أنها شعرت و كأن جدرانها تكاد أن تنطبق فوق صدرها و تضيق بها لدرجة أحست معها بألمٍ حقيقي في أضلعها وكأنها على وشك التحطم .. فرفعت يدها الى صدرها وهي ترجع رأسها للخلف مستنشقة نفسا عميقا علها تتخلص من هذا الضيق لكن دون جدوى , فاتجهت الى جارورٍ صغير بجوار الفراش فتحته و أخرجت منه قرصا من أحد أقراص الأدوية تناولته بسرعة ثم اتجهت الى النافذة وفتحتها مخرجة رأسها منها بسرعة و كأنها على وشك السقوط لكنها في الحقيقة كانت تحاول فقط أن تتنفس بصورة طبيعية
كانت تشهق فعليا كي تسطيع التنفس مغمضة عينيها وساقها تهتز بقسوة بينما قبضتها تضرب
ببطء على زجاج النافذة و بطريقة رتيبة لكنها كانت ضرباتٍ قوية , عاجزة لشخص محتجز داخل نفسه غير قادر على القيام بأي شيء
ومضت بضعة دقائق وهي ممسكة بإطار النافذة , مترنحة برأسها خلفها و شعرها يتهدل حول وجهها .. خصلاته تتطاير بلطفٍ , وكأنها تربت على وجنتيها بحنانٍ تطالبها بالرفق بنفسها
لكنها لم تهدأ , بل كان ضيق التنفس يزداد مما جعلها تبتعد عن النافذة تتحرك بخطواتٍ عصبية خرقاء باحثة عن شيء أي شيء أو ربما شخص
ثم نظرت الى هاتفها مجددا , فاتجهت إليه وأمسكت به تبحث عن رقمٍ لتتصل به بينما عيناها تلمعان بقسوة وما أن وصلها الصوت الخشن اللطيف يسألها بحنان على الرغم من نبرة الإجهاد فيه
ما أخبارها الحلوة ؟
لكن مزاحه الحنون لم يؤثر فيها , بينما جعلتها القسوة الناتجة عن الألم و ضيق التنفس تهتف بعنفٍ مبالغ فيه
أين أنت ؟!
ساد الصمت لبضعة لحظات , ثم سمعت صوته يجيب بهدوء فقد روح الدعابة فيه
في العمل أين يمكنني أن أكون غير ذلك ؟!
زاد حنقها فهتفت بحدة
أي عملٍ هذا و حتى هذه الساعة ؟! جميع الأزواج في بيوتهم الآن , بينما أنت لم تعد ككل يوم
عاد الصمت مجددا , ثم قال بنبرة جادة
هذا في عالمكم يا شغف , أما في عالمي يظل الرجال يعملون من مكانٍ لآخر حتى يتساقطون من التعب آخر الليل علما بأن الساعة لم تتجاوز الثامنة مساءا بعد
كانت قد أغمضت عينيها وهي تهز رأسها بنفاذ صبر حتى أنها تأففت مع نهاية كلماته بصوتٍ عالٍ ثم هتفت بحدة
كفى كفى كلاما عن عالمنا و عالمكم وتلك الفوارق التي تصلح لكتابة مقالٍ ممل في جريدة لا رغبة لي في قراءته أريدك أن تأتي الآن الآن حالا
عاد الصمت الموتر , ثم قال أخيرا بخفوت و بصوت أجش
وأنا أيضا أريدك
كانت الابتسامة ظاهرة في تلك النبرة الخشنة الخافتة , لكنها لم تتجاوب معها بل هتفت بعصبية أكبر
توقف يا خاطر أنا أريدك هنا الآن , تعال حالا
أجابها بصوتٍ قاطع مفاجئ
لا يمكنني لدي عمل
صمتت وقد برقت عيناها بقسوة وزمت شفتيها تتنفس بسرعة و انفعال , ثم سألت ببرودٍ حاد
أي عملٍ هذا الذي لا تستطيع تركه الآن حين أطلب منك ؟! هل توظفت في مكانٍ ثابت دون علمي ؟! بالطبع لا اذن يمكنك أن تترك ما تفعل وتأتي حالا
لم يرد عليها على الفور , بل ظل صامتا حتى كادت أن تضرب الهاتف في الجدار من شدة الحنق
ثم سألها بصوتٍ غريب
ماذا بكِ يا شغف ؟! هل أنتِ بخير ؟!
صمتت صمتت وهي تتحرك ببطء حتى قابلت صورتها في المرآة أمامها و هالها رؤية تلك المرأة ذات النظرات الغاضبة بدرجةٍ مرعبة
ظلت تنظر الى عينيها والهاتف على أذنها
هل أنا بخير ؟! لا لست بخير أنا لست بخير و لن أكون بخير مطلقا
وجدت نفسها تقول بصوتٍ خفيض عميق
لا أنا لست بخير أنا أحتاجك , أرجوك تعال الآن
عقد حاجبيه و الهاتف على أذنه وشفتاه تنطقان باسمها بصوتٍ خفيض مما جعلها تغمض عينيها و تتابع قائلة
أنا يمكنني أن آتي إليك , أخبرني بمكانك
لكن و قبل أن يرد سمعت جلبة بجواره وكأنه صوت باب سيارة يغلق ثم صوت امرأة تقول بوقار
هل تأخرت عليك يا خاطر ؟
بهتت ملامحها فجأة وصمتت تماما أما خاطر فأسرع يقول بهدوء وبصوتٍ هامس
يجب أن أنهي الاتصال الآن يا شغف أراكِ ليلا لا تخرجي , حاولي أن ترتاحي فقط حتى أعود
ثم أغلق الخط دون أن ينتظر سماع إجابتها فأخفضت الهاتف ببطء واقفة مكانها في منتصف الغرفة , تحدق في الفراغ بنظراتٍ خاوية
شيء ما يضغط صدرها بقوة يجعلها غير قادرة على النوم أو الراحة تنهض لتجلس ثم تقوم و تدور في الغرفة لتستلقي من جديد وبعد المكالمة مع خاطر زاد هذا الإحساس و تضاعف الضغط على صدرها
لذا ألقت بالهاتف فوق السرير بإهمال , ثم خرجت من الغرفة غير قادرة على تحمل احتجاز نفسها بداخل جدرانها أكثر من هذا
أما على الجانب الآن بعد أن أنهى الاتصال ووضع الهاتف جانبا وبينما كانت تثبت حزام الأمان حولها , سألته مبتسمة
هل كنت تكلم زوجتك ؟!
ابتسم خاطر يجيبها بتهذيب
نعم
أومأت برأسها وقالت بلطف
لا أظنك كنت متزوجا حين كنت تعمل مندوبا لشركة الشحن ولا تسألني عن السبب , فأنا نفسي لا أعرف أظن أن الزواج يمنح الرجل مظهرا من تحمل المسؤولية
ضحك خاطر وهو يحرك السيارة قائلا بهدوء
كنت ولا زلت أحمل مسؤولية أسرة مكونة من ثلاث أولاد ووالدهم لكنك محقة , لم أكن متزوجا
سألته مبتسمة ابتسامة عريضة
زوج حديث اذن !! حديث جدا مبارك يا خاطر , عسى أن يرزقكما الله بالذرية الصالحة قريبا
لم يستطع منع ابتسامة ساخرة من الظهور على شفتيه وهو يركز عينيه على الطريق أمامه فقالت بهدوء و جدية
لكما مني دعوة خاصة إن شاء الله حدد موعدا كي أحتفل بكما
ارتفع حاجبا خاطر للحظة مجفلا , ثم لم يلبث أن قال بصوتٍ مبهم لا يحمل تعبير
شكرا جدا هذا كرم بالغ منكِ لكن لا أظننا زوجان من النوع القابل على الاختلاط بالبشر
كان دورها ليرتفع حاجباها وهي تسأله بدهشة
لماذا يا خاطر ؟! اندمجا مع الناس وقوما بتكوين صداقاتٍ أسرية ابدأ من الآن ببناء مجتمع صغير جميل يكبر فيه أطفالك مستقبلا إن شاء الله
عادت الابتسامة الساخرة مجددا لكنها كانت تحمل نوعا من المرارة , فاكتفى بها دون أن يجد ردا مقنعا ثم سأل بهدوء مغيرا الموضوع
أي ساعة تنتهي زيارتك كي اصطحبك ؟