الفصل ١٥
فتحت درة عينيها بصعوبة على صوتٍ هادئ يناديها بخفوت
درة استيقظي , لقد وصلنا
رمشت درة بعينيها وهي تنظر حولها , فلم ترى سوى حديقة وسماء الباب بجوارها مفتوح وقاسم منحنيا إليها وجهه قريبا من وجهها فقالت بإرهاق
أين نحن ؟!
مد لها يده وأجابها باقتضاب
اخرجي وانظري بنفسك
عقدت حاجبيها , الا أنها رفعت يدها بذهنٍ ناعس ووضعتها في يده , فأطبق عليها و جذبها لتتحرك وما أن فعلت حتى تأوهت من الألم النابض في مؤخرة رأسها الا أنه لم يتركها بل وضع يده الأخرى تحت ذراعها وأسندها حتى وقفت على قدميها مستندة بيدها الأخرى على صدره وحين نظرت حولها فغرت فمها غير مصدقة الحديقة البوابة البيت
فتطوع قاسم قائلا بهدوء
بيت الحاج رحيم كان في انتظارك
أغمضت عينيها متأوهة بصوت صفير متعب مجهد
بيت الحاج رحيم إنها في أمانٍ الآن , لا يمكن لمخلوق أن يؤذيها هنا وحين شعرت به يتحرك بها فتحت عينيها وهمست
لكن يا قاسم الحاج رحيم رحمه الله لن أستطيع أن
قاطعها قائلا بنبرة فاترة
البيت به عدة نساء يعملن فيه لن نكون بمفردنا
تبعته وهو يجذبها معه برفق وحاولت الاعتراض بضعف
اذن هلا نزلت الغرفة التي كنت أسكنها قديما في الحديقة
لم يرد عليها قاسم , بل شدها ثم قال بجفاء
أغلقت الغرفة منذ سنوات وتحولت الى مخزن لا يحوي سوى الغبار وأشياء لا قيمة لها
دخلت معه الى البيت ونظرت اليه تجيل عينيها بين أرجائه لم يتغير به حجر واحد ,
كل زاوية كما هي تماما رائحته وروحه و الذكريات تتحرك من حولها
طرفت عينيها بدموعٍ حبيسة وهي تنظر باتجاه غرفة مكتب الحاج رحيم فقد أوشكت أن تقسم بأنها تسمعه يناديها كي تدخل وتلقي إليه التحية بعد فراق طويل
التفت قاسم إليها وراقبت عيناه الدموع المحتجزة خلف جفنيها وهي تنظر الى باب المكتب
ثم قال بصوتٍ أجش مقتضب
تعالي لترتاحي
تحركت معه وهي لا تزال تشعر وكأنها نائمة لم تستيقظ بعد لكن و قبل وصولهما للسلم خرجت سيدة ترتدي جلبابا بسيطا وهتفت بحرارة
مرحبا يا سيد قاسم مرحبا يا درة , أهلا بعودتك وكأن السنوات لم تمر
نظرت درة الى المرأة ثم أخفضت وجهها وهي تتذكر آثار الصفعات عليه , فسألتها هاتفة و هي تضع يدها على صدرها
أنا خالتك أم فوزي ألا تتذكريني ؟! قطع يد من فعل بكِ هذا يا ابنتي
تكلم قاسم قائلا بحسم
ليس الآن يا أم فوزي درة بحاجة للراحة
هتفت أم فوزي تقول متفهمة بحرارة
بالطبع , بالطبع لقد جهزت لها الغرفة كما طلبت
أمسك قاسم بكفها وسحبها معه كي تصعد السلم فوجدت صوتها أخيرا و هي تقول بحرج
ماذا ستظن الآن ؟!
ابتسم قاسم وأجاب بسخرية
لن تقول شيئا اعتاد بيت الحاج رحيم على استقبال عابري السبيل
كتمت درة أنفاسها , الا أنها لم تستطع رد الإهانة فقد وجدت نفسها تقف معه أمام غرفة , فتح لها باب ثم أشار لها كي تدخل فتقدمت بخطواتٍ متعثرة ونظرت فيها ببطء تعرف تلك الغرفة , فلم تكن مستغلة من قبل الا أنه دخلتها عدة مرات
ومع تجول عينيها أبصرت صورتها في المرآة وقاسم يقف خلفها فانعقد حاجبيها ألما و أخفضت وجهها وكأنما السيطرة التي فرضتها على نفسها طوال اليوم قد انهارت فجأة فانحنت على نفسها وشهقت باكية بصوتٍ عالٍ وتوالت الشهقات ممتزجة بنحيبٍ كالعويل ولم تشعر بالذراعين اللتين جذبتاها الى صدرٍ رحب ضمها بقوة حتى بللته بدموعها الغزيرة
أغمض عينيه بشدة و كفاه تشدان على ظهرها تدفعانها دفعا الى صدره وهو يشعر بكل انتفاضة من انتفاضات جسدها المرتعش وكأنما هي لم تتغير , نفس الجسد الضعيف ظاهريا لكنه يحمل داخله طاقات من القوة الغبية تجعلها تقدم على كل ما تستطيع من تهور
ما بين الغضب الذي يجيش بصدره , و اللهفة و السعادة التي يشعر بها و هي على صدره جسده يقسم الا يحررها من قيده مطلقا
صدر تأوه من بين شفتيه , الا أنه كان دون صوت ساخنا , كلهيب النار ودون أن يفتح عينيه , بينما تشكلت الشفتان القاسيتان لتهمسا بالاسم الذي دمغ روحه منذ سنواتٍ طويلة
درة
لكن لحسن الحظ ضاعت همسته على صخور نحيبها العالي مما جعله ينتبه الى ما يفعل
رفع قاسم وجهه عن خصلات شعرها فجأة , متجهم الملامح مظلم العينين بعذابٍ غاضب وسعادة مشينة بقربها منه الى هذا الحد !
فأمسك بكتفيها يبعدها عنه بالقوة , لكن وجهها سقط أمامه تبكي بشهقاتٍ خافتة وخصلات شعرها تخفي ملامحها المكدومة عن عينيه السوداوين , مما جعله يقول بخشونة ونبرة متحشرجة غاضبة
درة
لكنها لم ترد عليه , وكأنها لم تسمعه فلم ترفع وجهها واستمر جسدها ينتفض بقوة , فنادى بصوتٍ أعلى و أقسى
درة
لم تتجاوب مرة أخرى لبضعة لحظات , ثم رآها ترفع يدها تلمس بها أعلى أنفها بين عينيها وكأنها تحاول تمالك نفسها , لكنها عاجزة تماما عن فعل ذلك
كل عصب في جسده كان يشارك جسدها الانتفاض مع كل شهقة تخرج من بين شفتيها والغضب بداخله يتزايد و يتضخم على نحو مخيف فرفع رأسه لأعلى زاما شفتيه بقسوة محاولا هو نفسه تمالك نفسه
قبل أن يأمرها بذلك
ثم جذبها برفق حتى أجلسها على حافة السرير الموجود في الغرفة , ثم جثا أمامها دون أن يحرر كتفيها لكنها استمرت منخفضة الوجه تبكي بصوتٍ مكتوم , فهزها قليلا وهو يقول بعنف
درة ارفعي رأسك و انظري لي
حاولت لكنها لم تستطع , وكأنها تعاني صدمة متأخرة فهزها مجددا وهو يقول بشدة
درة يجب أن نتكلم , أفيقي قليلا و انتبهي الي
ظلت مطرقة قليلا , ثم رفعت وجهها ببطء شديد حتى التقت أعينهما و كأنهما واحتين محترقتين في ليلٍ لا قمر فيه لا ضوء سوى لهيب النار المستعرة بألم
ثم تمكن من القول أخيرا بصوتٍ هادئ , قاسٍ لا يحمل أي مشاعر من تلك المخيفة التي تظهر في عينيه
أعلم أنكِ غير قادرة على الكلام الآن , لكنني في حاجةٍ لبعض المعلومات منكِ لذا حاولي تمالك نفسك قليلا
استمرت في البكاء رغم انخفاض حدته وهي تنظر الى عيني قاسم ثم قالت أخيرا بصوتٍ مجهد بطيء
الصداع تضاعف لا أستطيع التحمل
ظل قاسم صامتا لبعض الوقت وهو يتأملها بملامح جامدة لكن اللحظات , طالت وطالت
ثم قال أخيرا بصوتٍ أجش صارم
سيستمر ليومٍ أو اثنين عليكِ اعتياده , حتى مع أقراص المسكن الذي وصفه الطبيب
أطرق برأسه للحظة , ثم عاد وقال بصوتٍ أكثر حسما , لا يقبل التراجع
الآن أجيبيني على بعض الأسئلة
تأوهت درة وهي تميل برأسها هامسة
بالله عليك يا قاسم , الا تشعر كم أتألم ؟!
ساد الصمت مجددا , ثم قال بصوتٍ فاتر
أشعر , أكثر مما تتخيلين
انخفض كتفاها فجأة وبقى وجهها محني و شعرها متساقط وقد سكن جسدها تماما
حينها فقط تابع قاسم بهدوء
أجيبيني على بعض الأسئلة , ثم سأتركك لترتاحي بعدها
حين بقت على صمتها , اعتبرها موافقة فسأل بصوتٍ أجش
الآن أخبريني , كيف تمكن هذا الحيوان من دخول الشقة ؟! سبق وقلتِ أنكِ استيقظت ووجدتهِ
صمت و قد تجهمت ملامحه وبدا غير قادرا على المتابعة أكثر , بينما ارتجفت درة و سرى تيار من النفور والتقزز عبر جسدها كله والذكرى تعود اليها من جديد
ثم همست وكأنها تتقيأ شاعرة بالغثيان
كان بجواري على السرير يداه تتحركان من فوقي يحاوطني ك
قاطعها قاسم وهو ينهض واقفا فجأة , يوليها ظهره
دون تفاصيل
ابتلعت المتبقي من كلماتها بالفعل مع نبرة صوته الصادمة , فانتبهت بصعوبة الى ما كانت تقوله وكأنها شعرت بحاجةٍ مفاجئة في بصق ما في نفسها علها تتمكن من التخلص من الشعور بهذا الغثيان لصرخت أيضا إن استطاعت لكن صوت قاسم جعلها تصمت تماما
رفعت عينيها المرهقتين تختلس النظر اليه حيث وقف أمام النافذة ينظر منها و يداه في خصره و قد غشاه الضوء وجعل منه مجرد ظلا أسودا ضخما ,
تكلم أخيرا و سأل مجددا بصوتٍ مقتضب رغم أنه بدا مشحون و كأنه على حافة الانفجار
كيف دخل ؟! هل لديكِ فكرة ؟! أتكون ضرتك , سلوان قد أعطته المفتاح لسبب ما ؟!
حين ظلت درة صامتة لفترة طويلة استدار قاسم اليها , يرمقها بحاجبين منعقدين ثم تابع قائلا بصوتٍ غريب
لدي إحساس يخبرني أن ما سأسمعه لن يعجبني أليس كذلك ؟! أهي سلوان ؟! .هل أعطته ال
اضطرت درة الى رفع رأسها وقاطعته قائلة بنبرة حادة نافذة الصبر
لا يزال المفتاح معه يا قاسم منذ أن كانت الشقة ملكه
ساد صمت مطبق , ثم بدأت عيناه تتسعان بالتدريج و بتعبير مخيف داخلهما جعلها تسبل جفنيها متوقعة ما سيحدث وحين تكلم قاسم مد كفه قائلا بصوتٍ خفيض
اسمحي لي , باستيعاب ما تقصدين هنا هل ألم تقومي بتغيير قفل الباب بعد أن أصبحتِ المالكة للشقة ؟!
ظلت صامتة مغمضة عينيها , منتظرة وعلى الرغم من توقعها لما سيحدث الا أنها انتفضت مذعورة على صرخته الغاضبة
بالله عليكِ هل ما أسمعه حقيقي ؟! يمتلك نفس المفتاح اللعين ؟! هل أنتِ غبية ؟!
صرخت فجأة بعصبية
لا تصرخ هكذا , ألا ترى أنني أشعر بصداعٍ فظيع
اقترب منها بسرعة و انحنى اليها مشيرا بإصبعه هادرا
أتعرفين ما هو الفظيع ؟! الفظيع أن يضطر الرجل الى التعامل مع امرأة مثلك متهورة , غبية , عنيدة تظن نفسها قادرة على اقتحام الحياة بكل شرورها ومساوئها , بينما هي في الحقيقة لا تمتلك أدنى قدر من العقل أو القدرة على مجرد عبور طريق ضيق
حاولت النهوض وهي تقول بغضبٍ مشتعل
أنا لا أسمح لك
الا أن دفعة من يديه على كتفيها أسقطتها على السرير فتأوهت ناظرة إليه بعينين متسعتين وفم فاغر , بينما هدر يقاطعها بعنف
لن أنتظر الإذن منكِ كي أخبرك رأيي بكِ بوضوحٍ تام
ظلت تحدق فيه بهلع بينما عيناه , لا ترحمان خوفها وانتفاضة الصدمة التي لا تزال فريسة تحت تأثيرها الى أن زفر أخيرا بكبتٍ مشتعل قبل ن يجذبها من ذراعها كي تستقيم في جلستها مجددا بفظاظة وعدم لياقة فجلست واضعة يديها على ركبتيها , مطرقة بوجهها كمذنبة تتنفس باهتزاز مضطرب
أما هو فحك فمه و فكه بكفه , بعصبية بالغة مستديرا عنها وعم السكون بينهما , الى أن قالت أخيرا بخفوت باهت
كان قد فر هاربا بالفعل خارج البلاد ولم نتخيل أن يعود مجددا , مع كل تلك الديون التي تنتظره باختصار أغفلنا عن هذه النقطة معك حق في اتهامي بالحماقة
في الواقع لم يكن كل الغضب موجها إليها , بل كان معظمه موجها إلى نفسه
في اللحظة , التي أجبره فيها على كتابة التنازل عن الشقة لدرة , كيف ترك لها حق التصرف في أمر بالغ الأهمية كمفتاح الشقة ! لماذا لم يغيره بنفسه ؟! كان عليه أن يفعل كان عليه أن يعرف بأنه لا يمكن الاعتماد عليها مطلقا
ما حدث كان بسببه الغضب بداخله تجاهها جعله ينهي المهمة ويغادر دون أن يواجهها ويتأكد من سلامة وضعها كان عليه أن يفعل , لكنه كان يكرهها في تلك الأيام كما لم يكره سواها من قبل !
نعم كان يكرهها وإن كان هناك شعورا يفوق الكره فهو ما كان يحسه تجاهها
عاد لينظر من النافذة مثقل الكتفين , ثم سألها بصوتٍ ميت , تقريبا غير مسموع
هل تمادى معكِ ؟!
سمعت سؤاله بصعوبة , ونظرت الى ظهره بينما كانت ملامحه جامدة كقناعٍ بارد وهو ينظر من النافذة فسألته بحزن
أما قلت , دون تفاصيل ؟!
لم ترى وجهه وهو يغمض عينيه لكنها سمعت صوته البارد يسأل مجددا و كأنه يسأل عن أمرٍ عابر كالطقس
هل فعل ؟
تحرك حلقها وهي تبتلع غصة مؤلمة ثم قالت بخفوت
تقرير الفحص في المشفى , لم يذكر مدى الانتهاك و الإهانة اللذان شعرت بهما نعم لقد تمادى تمادى على نحوٍ يجعلني أرتعب كلما تذكرت صوت المفتاح في الباب , ثم شعوري بجسد رجلٍ مستلقٍ بجواري دون أي وجه حق أما صفعاته فكانت انتقامية مقيتة أعتقد , إن كانت سلوان هي الموجودة في الشقة لكانت قد نالت نفس المصير
لم يرد , بل ظل صامتا مما جعلها بعد فترة ترفع وجهها لتنظر الى ظهره بعينين غائرتين عميقتين
لكنها أجفلت مع صوت طرقة على باب الغرفة المفتوح , فالتفت كلا منهما الى أم فوزي التي كانت تحمل في يدها حقيبة صغيرة وهي تقول بحذر ناقلة عينيها بينهما
عذرا يا سيد قاسم لقد أحضرت حقيبة درة من السيارة
أشار الى السرير و أجاب بفتور و بملامح لا تنم عن شيء
ضعيها على الفراش , وحضري لها شيئا لتأكله
رفعت درة كفها وهمست بسرعة وبنبرة إعياء
لا , لا أستطيع أن أضع شيئا في فمي أرجوك كل ما أحتاجه هو النوم فحسب
لم يبد مهتما , مجرد ايماءة من رأسه ثم اتجه الى الباب قائلا باقتضاب
افعلي ما يريحك أنا مضطر للخروج الآن
وجدت نفسها تسأله مجددا وكما فعلت في المشفى
هل ستخرج ؟!
توقف والتفت إليها رافعا حاجبه متسائلا
أظن أن هذا ما قلته , هل لديكِ إعتراض ؟!
انعقد حاجباها قليلا بحرج , الا أنها رفعت وجهها الشاحب وردت بقنوط مستاءة
هذا بيتك , قصدت فقط بعد إعادة تفكير أن وجودي هنا لم يكن فكرة صائبة على الأرجح , ربما لو تمكنت من إيصالي الى شقتي
ابتسم لمحت تلك الابتسامة الساخرة الجليدية التي ارتسمت على شفتيه , و التي جعلت صدرها ينقبض بعدم راحة
لكنه حين تكلم بدا صوته هادئا منطقيا و مهذبا جدا
الكلام عن شقتك سابق لأوانه نظرا لأن مفتاحها لا يزال مع أحد المجرمين في تلك اللحظة
نهضت من مكانها قائلة بخفوت وتوتر غير واثقة تماما من قوة عزيمتها في تلك اللحظات بالذات
سأعمل على تغييره بمجرد وصولي تعلمت الدرس جيدا
ابتسم مجددا , نفس الابتسامة القاسية , الا أنه رد ببساطة وكأنه يقنعها
لا أظنك ستكونين قادرة على النوم في سريرك لفترة
مجرد التفكير في سريرها يجعلها ترتعد وتشعر بالغثيان من جديد لكن لا بديل لديها , عليها التغلب على هذه المحنة و العودة الى حياتها سريعا لم تكن يوما في حاجة الى مساعدته ولن تبدأ الآن
لذا حاولت الكلام مجددا آخذة نفسا عميقا كي تتمكن من الكلام بنبرة متزنة
قاسم أنا
الا أنه قاطعها قائلا بصوتٍ عابر وهو يتأملها بتفحص
متى كانت آخر مرة تناولتِ فيها طعاما حقيقيا ؟!
أجفلت للحظة من التغيير المفاجئ للموضوع فأبعدت شعرها خلف أذنها ببطىء قائلة وبصوتٍ خفيض
لماذا تسأل ؟!
ضاقت عيناه وهو يتأملها مجددا و بتفحص أكبر ثم أجاب ببرود لا مبالي
لقد نقص وزنك كثيرا
تورد وجهها قليلا وهي تختلس النظر الى أم فوزي التي كانت تنقل عينيها بينهما بفضول شديد , تكاد أن تكون فاغرة فمها وهي تستمع الى كل حرفٍ من الحوار فلم تستطع الرد و صمتت مطبقة شفتيها وهي تشتمه في داخل عقلها بكل الشتائم التي عرفتها في حياتها كاملة
وهو من جهته لم ينتظر منها جوابا , بل اتجه الى باب الغرفة قائلا ببساطة
اقترح عليكِ أن تنالي قسطا كبيرا من النوم الآن , وحين تستيقظين ستأكلين حتما
فتحت فمها لتجادله , الا أنه كان قد خرج بالفعل متجاوزا أم فوزي التي استدارت قليلا تحدق به أثناء مغادرته ثم نظرت الى درة مجددا ولا يزال فمها فاغرا الى أن تمالكت نفسها وسألت باهتمام وهي تقترب من درة واضعة الحقيبة فوق السرير
هل تحتاجين الى مساعدة يا درة ؟ هل أساعدك في تبديل ملابسك ؟
تكبدت درة ابتسامة صغيرة وهي تهز رأسها نفيا , فتابعت أم فوزي قائلة بتعاطف
ربما تحتاجين الى وضع بعض الثلج على تلك الكدمات ؟!
اقتربت درة من السرير و جلست عليه شاعرة بالدوار ثم قالت بصوتٍ خافت مجهد
لقد قاموا في المشفى بما يجب شكرا لكِ يا أم فوزي , أنا فقط أحتاج للنوم
ثم وجدت نفسها تستلقي ممددة لتضع رأسها على الوسادة و كأنها تظن ملايين الأطنان ومن خلف جفنيها المتراخيين رأت الستار يسحب حتى عم الظلام الغرفة فكان وكأنه قوة جبارة تسحبها الى عالمٍ بعيد مع صوتٍ أجوف يهمس لها
ستكونين بخير لن يمسك سوء هنا
وكأنما كان هذا هو كل ما تحتاج لسماعه قبل أن تضع كل أسلحتها جانبا و تضيع محلقة في هذا العالم المريح الهادئ
........
كان يقلب الشاي في كوب زجاجي فوق حاجز شرفةٍ حجرية قديمة وهو يقف مستندا إليها ناظرا منها الى أسطح البيوت القديمة والفقيرة شارد الذهن , بعيد النظرات
ينبغي له في تلك اللحظة , أن يكون في كامل تركيزه , فقد زاد ضغط العمل على كاهله خلال شهر واحد وأصبح مرهقا ذهنيا و جسديا وعوضا عن التركيز بصورة كاملة , يجد نفسه ما أن يعود الى شقته الصغيرة منحصر التفكير في ثلاث نساء
والدته التي لا تزال في المشفى تتلقى علاجا مكثفا , كلما بشره الطبيب بقرب خروجها , مرت بانتكاسة جديدة !
يتناوب في البقاء معها في المشفى مع أخته رحاب وفي أثناء بقاءه معها لا تتوقف عن الكلام الأقرب الى الثرثرة وبعض الهذيان الخفيف عن الاثنتين المسيطرتين على تفكيره
نسيبة وهويدا
تخبره أن كلا منهما تزورها دون انقطاع وإن كان هذا لا يدهشه من نسيبة , حيث أن الواجب يجبرها على زيارة حماتها لكن الدهشة الحقيقية تنتابه ما أن يسمع بزيارة هويدا لها
فهو لم يرها منذ شهرٍ كامل فقد انقطعت عن العمل لسببٍ مجهول وكان ليشعر بالقلق عليها لولا زيارتها الخفية لوالدته لكنه لم يرها في المشفى مطلقا , وكأنها تتعمد تجنبه بمهارة فائقة
فهي تحفظ جدول وجوده بالساعة والدقيقة وبدقةٍ متناهية , تقوم بزيارتها في وقت غيابه
لذا في مرة من المرات , تجرأ على الدخول الى مكتب عبد السلام عدوي سائلا عنها و عن سبب اختفائها
ودون أن يرفع عبد السلام وجهه عن شاشة حاسوبه تكلم بهدوء متحفظ
هويدا معتادة على الغياب لفترة ثم الظهور مجددا لا تقلق يا ساهر
هل في فترات الغياب تلك , تعاني من نوباتِ الاكتئاب ؟!
هل تتناول أقراصا , ترهقها جسديا وتدمرها عصبيا ؟!
أراد السؤال عن الكثير لكنه لم يستطع كل ما فعله هو أن ابتسم ابتسامة رسمية , ثم خرج من المكتب و أغلق الباب خلفه
شعر برغبةٍ كبيرة في الاتصال بها و الكلام معها , ومعرفة سبب انقطاعها عن المجيء للعمل , لكنه لم يجده تصرفا لائقا , خاصة بعد زواجه
زواجه !
صدرت من حلقه ضحكة ساخرة وهو يردد الكلمة كمزحة هزلية
انقضى شهر كامل والذي كان يفترض به أن يكون شهر العسل
انقضى شهر العسل دون أن يدخل بزوجته حب العمر
شهر كامل لم يرها سوى مراتٍ قليلة في الأيام التي يتواجد بها في الشركة , لا موقع العمل وتلاقيا في المشفى مراتٍ أخرى محاولين اتقان الدور أمام والدته وادعاء السعادة التامة
لقد أقسم عليها بالطلاق إن حاولت جر والدته كي تجبره على الرضوخ أو أفشت لها طبيعة علاقتهما الحالية
علاقتهما
من كان يتخيل أن يكون هذا هو شكل زواج ساهر ونسيبة , بعد قصة السنوات الطويلة
بداخله تمنى خلال هذا الشهر أن تطرق بابه حاملة معها حقيبة ملابسها
نعم , تمنى بصدقٍ أن يحدث هذا عله يتغلب على تلك الأزمة ويحاول قتل النفور الذي تولد في نفسه تجاهها
لكنها لم تأتِ أبدا وهذا ما توقعه وكان متأكدا منه
لقد اتخذت نسيبة قرار صراع القوى على أنها لم تسلم بانفصالهما مطلقا , فكما أتقنت الدور أمام والدته فعلت نفس الشيء في العمل
فبعد المرة الأخيرة و شجارهما العلني سويا اتخذت أسلوبا جديدا تماما و توقفت عن استعطافه واستجداء شهامته واتبعت استخدام جاذبيتها وسحر تعاملها الأنيق معه أمام الجميع تطيل النظرات الى عينيه وكأنها تذكره بأيام حبهما الطويلة
ارتشف ساهر من كوب الشاي وهو يغمض عينيه مستقبلا نسيم الليل اللطيف عله يهدئ قليلا من تداخل أفكاره
صوت رنين جرس الباب جعله ينتبه فجأة عاقدا حاجبيه
من تراه ؟!
توجه الى الباب وفتحه متوقعا أن يكون أحد الجيران البسطاء , لكنه صدم برؤيتها أمامه
واقفة بكل جمالها و بكامل أناقتها مبتسمة برقة مشبكة أصابعها كتلميذة هاربة لتقابل حبيبها الأكبر سنا
ساقها مائلة عن الأخرى وعيناها في عينيها دعوة لا يقاومها حجر
تكلم ساهر قائلا بنبرة خاوية
نسيبة !
تألقت أسنانها وهي توسع ابتسامتها هامسة
ألن تدعوني لدخول
صمتت قليلا وهي تنظر من فوق كتفه الى الشقة خلفه والتي تشبه الى حدٍ كبير بيت والديها مما جعلها تشعر تلقائيا بالنفور والذكرى العطنة تملأ أنفاسها الا أنها احتفظت بابتسامتها متابعة بهدوء
شقتك
أخفض ساهر عينيه ناظر الى أصابعها ثم قال بنبرة عادية لا تحمل ترحيب
أرى أنكِ جئت دون حقيبة ملابسك
تألقت عيناها خبثا وهي ترد همسا
ربما لن نحتاجها
أعطت عيناها المعاني الخفية والكثير من الوعود الدافئة , لكنها لم تجد أي تجاوب في عينيه الناظرتين إليها دون انفعال على الرغم من أنها قد تحولت خلال الشهر الماضي الى امرأة أقرب بعارضة أزياء لشدة ما تحافظ على أناقتها و اهتمامها بانتقاء ملابسها العصرية
لكنها في نفس الوقت كانت قد خسرت الكثير من الوزن و هذا هو الدليل الوحيد على تأثرها بانهيار العلاقة بينهما مع الظلال تحت عينيها والتي لم تنجح المساحيق الفاتحة في إخفائها
همست أخيرا وقد بهتت ابتسامتها مع امتداد صمته
ألن تسمح لي بالدخول ؟! حقا يا ساهر ؟!
ابتعد عن الباب و تحرك للداخل يوليها ظهره دون ترحيب فتبعته زامة شفتيها وهي تغلق الباب خلفها ثم سارت في المكان الضيق وهي تنظر إليه بقرف محدقة في السقف المتآكل والدهان المتقشر والأرض ذات المربعات الرخيصة
أهذا هو الجحر الذي يريد مني الخضوع و السكن فيه ؟! أهذا هو المنطق ؟!
أعادت نظرها المزدري الى ظهر ساهر الذي دخل الى الشرفة وتابع شرب كوب الشاي دون أن يهتم بوجودها مما جعلها تلحقه متهادية الى أن خرجت الى الشرفة ووقفت بجواره ناظرة الى البيوت القديمة بنفس النظرة خالية المشاعر أو الحنين تمط شفتيها وهي تكاد أن تشتم الفقر
نعم للفقر رائحة خبيثة خانقة
استدارت نسيبة عن هذا المشهد الكئيب بالنسبة لها واستندت بظهرها الى حاجز الشرفة تنظر الى ساهر طويلا ثم همست بصدق
اشتقت لك يا ساهر ويؤلمني ما وصل إليه حالنا
لم تتغير ملامحه ولم يظهر عليها أي تأثر بل قال دون أن ينظر إليها
لا أرى الألم ظاهرا عليكِ يا نسيبة
ابتسمت بثقة وهي تسأله
ألأنني أهتم بأناقتي وثبات شخصي أمام الجميع ؟! ألم تعرف حبيبتك الصغيرة بعد يا ساهر ؟! أنا لست شغف التي جعل الحزن منها إنسانة أقرب الى المسخ ولست هويدا , التي جعل منها العشق اليائس أضحوكة
ضغطت أصابعه فوق الكوب الزجاجي حتى كاد أن يتحطم لكنه سيطر على ملامحه وهو ينظر الى البعيد
مفكرا في هويدا كلام نسيبة عنها أبعد ما يكون عن الحقيقة وفي الحقيقة الرضا بداخله كلما فكر في حبها له يجعل منه هو الأضحوكة أمام نفسه لا هي
مالت نسيبة إليه وقالت متابعة بهدوء
أنا لا أظهر انكساري حتى بيني وبين نفسي , أتابع وأقاوم وأصلح الصدع بداخلي
ارتشف ساهر رشفة أخرى ثم قال بجمود
بعض الصدوع , لا علاج لها فما أن تحدث حتى يتوجب على ساكني جدرانها الرحيل , قبل أن تتوسع و ينتهي بهم الحال تحت أنقاض المحاولاتِ الفاشلة
زفرت نسيبة نفسا طويلا بطيئا ثم تنهدت واستندت الى حاجز الشرفة بمرفقيها ورمقته بنظرة طويلة الى أن سألت في النهاية بنبرة حازمة
الى متى تنوي الاستمرار في هذا الوضع يا ساهر ؟! ألا ترى أنك تظلمني ظلما بينا بما تفعله معي ؟! شابة أخرى غيري إن مرت بصدمة الهجر في ليلة زفافها لما تمكنت من تجاوز الأمر مطلقا
تكلم ساهر قائلا ببساطة
حين أتيتِ الى هنا الليلة لم أغلق بابي في وجهك أهلا بكِ إن أردتِ البقاء و محاولة البدء من جديد واعدك أن أحاول جاهدا نسيان الخذلان الذي وجدته منكِ
عضت على شفتها بقسوة وهي تغمض عينيها شاعرة بالغضب بينما رمقها ساهر بنظرةٍ ساخرة وهو يتابع ببساطة
الا أنني لا أظنك أتيتِ الى هنا تقودك النوايا الطيبة للبدء في هذا المكان المتواضع الذي لا يليق بشخصك
فتحت عينيها تنظر إليه بنظرةٍ ثاقبة ثم قالت بجدية
لا لن أستطيع يا ساهر , لن أتمكن من العودة الى العطن بعد أن عرفت معنى الفخامة صدقني لم يعد الأمر اختيارا , بل عجزا وعدم مقدرة أنا لن أستطيع حتى وإن أردت ما تطلبه ينافي طبيعة البشر
لم يرد عليها على الفور , بل ظل صامتا للحظاتٍ طويلة ثم سألها دون تعبير ودون أن يستدير إليها
اذن ما هو سبب مجيئك الليلة ستخيبين ظني , إن أخبرتني أنكِ تصدقين بالفعل أنني قد أعود معكِ الى شقتك
رفعت نسيبة ذقنها وقالت بصلابة
أتيت الليلة لأن لي حقوق عندك وأنا لا أنوي التنازل عن حقوقي يا ساهر
ارتفع حاجبه وهو ينظر إليها نظرة جانبية بسخرية ثم سألها ببساطة
هل تتحدثين عن الواجبات الزوجية بمثل هذه العملية ؟ أم أنني أتخيل ؟!
ردت نسيبة ببطء شديد
الواجبات الزوجية لا تعني بالضرورة الفراش يا ساهر بل تعني الإنفاق كذلك
التفت اليها ذاهلا متسع العينين , فاغر الفم في ابتسامة ساخرة غاضبة وغير مصدقة فبادلته النظر بثبات غير عابئة بالسخرية الظاهرة على ملامحه بوضوح وتابعت كي لا تدع مجالا للشك
لماذا لا تنفق علي بصفتي زوجتك ؟! لا أظنك وصلت الى هذا الحد من عقابك اليائس
أخفض رأسه وهو يضحك دون صوتٍ يهز رأسه غير مصدقا بالفعل واستمر يضحك بخفوتٍ حتى سعل أخيرا ثم قال بصوتٍ أجش ساخر
لا بأس معكِ حق , سأخصص لكِ مبلغا يكفي مصروف البيت ومصروفك الخاص
ثم نظر إليها سائلا
هل أنتِ راضية الآن ؟!
عضت جانب شفتها بطريقة يعرفها جيدا وهي تسبل جفنيها مفكرة ثم رفعتهما لتنظر الى عينيه قائلة
أنا أحتاج الى مساعدتك المادية يا ساهر
عقد حاجبيه سائلا دون أن يفقد ابتسامته
ماذا تقصدين بالضبط ؟!
أجابته نسيبة بخفوت دون أن تحيد بعينيها عن عينيه
تعرف أنه تم تعيني براتبٍ أقل مما تقاضيته أنت أقل بكثير في الحقيقة و نحن نعلم السبب , لكن دعنا ألا نتطرق الى هذا الموضوع المهم أن
الا أن ساهر استقام في وقفته وقال مقاطعا بصوتٍ هادئ خطير
راتبي أكبر لأنني أمتلك خبرة سنوات لا تملكين منها شيئا فهل لديكِ أسباب أخرى لا أعرفها ؟!
تعمدت نسيبة اصدار ضحكة استهجان واضحة , الا أنها قالت بنبرة أكثر صرامة
محتمل لنعد الى موضوعنا راتبي بأكمله أقل من القسط الشهري للشقة , و بفارق كبير لا يمكنني تدبيره لذا تجاوزت فترة الدفع هذا الشهر دون القدرة على السداد
ضاقت عيناه أكثر وساد صمت مطبق لم يقطعه سوى صوت حشرات الليل وحين وجد صوته سألها بهدوء حذر
والمطلوب ؟!
عادت لتسبل جفنيها ثم قالت دفعة واحدة بنبرة هادئة
أريد مصروف البيت ومصروفي الخاص وفارق المبلغ المطلوب لتسديد القسط الشهري ومبلغ إضافي أحاول منه تأثيث الشقة شهريا بالتدريج لقد تعبت حقا من الخواء الموجود فيها
فغر ساهر فمه قليلا , ثم تراجع رأسه للخلف وهو ينفجر ضاحكا من كل قلبه
رمقته نسيبة وهو يضحك بمثل هذا الانفعال دون أن تتغير ملامحها و انتظرته بكل صبرٍ حتى ينتهي وبالفعل بدأت ضحكاته تخفت , حتى صمت تماما و انتهى بالنظر إليها طويلا وهو يهز رأسه متعجبا شاردا
حينها فقط تكلمت قائلة ببرود
لا أرى أن ما قلته مضحكا الى هذه الدرجة !
أجابها ساهر بصوتٍ غريب
هذا من وجهة نظرك
أومأت نسيبة بوجهها وهي تفكر بحنق , ثم رفعت عينيها الى عينيه وقالت بهدوء
هل تعرف قيمة التضحية التي قمت بها كي أحافظ على هذه الشقة يا ساهر ؟! لقد تخليت عن التدريس في الجامعة لأجل ذلك وأنت من أجبرني على هذا حين رفضت إكمال أقساطها
صمتت للحظة ثم رفعت يدها الى صدرها هاتفة بعنف مفاجئ وهي تضرب صدرها بأصابعها
هل تتذكر أهمية التدريس في الجامعة بالنسبة لي أم أنك ببساطة نسيت كما نسيت الكثير بيننا ؟! لقد ضحيت بحلمي لأجل الحفاظ عليها ولن أسمح لك أو لأي مخلوق أن يفقدني هذه الشقة بعد أن تخليت عن هذا الحلم لأجلها
ساد صمت ثقيل بينهما بعد أن انتهت من مرافعتها وهي تلهث بانفعال ثم فجأة رفعت كفيها ملتصقين أمامه وهمست متابعة بصوتٍ ميت
أتوسل إليك يا ساهر الا تُفقدني الشقة الآن أرجوك
لا تعلم كم من الوقت مر وهو واقف ينظر إليها بطريقة غريبة ثم قال أخيرا بهدوء
أنا حاليا أدفع علاج والدتي المستمر كما أنني أدخر دفعات شهرية كي أرد لهويدا المبلغ الذي دفعته لجراحتها وتقريبا لن يتبقى سوى المصروف الذي سأحدده لكِ
هتفت نسيبة عاقدة حاجبيها
هل طالبتك هويدا بالمال ؟!
ارتفع حاجباه وهو يسألها ببساطة
وهل يجب أن تفعل كي أبدأ في رده لها ؟!
صرخت نسيبة فجأة بصوتٍ عالٍ تردد صداه فوق الأسطح
لماذا تفعل بي هذا ؟! لماذا ؟!! أتدخر من راتبك كي تعيد مبلغا يعد قطرة في بحر ما يمتلكون ودون أن تطالبك هويدا باسترداده متسببا بذلك في خسارتي للشقة التي أملكها و التي لن أمتلك مثلها في حياتي كلها و لو قضينا عمرا فوق العمر نعمل كالثيران دون راحة ! هل هذا هو العدل من وجهة نظرك ؟!
مال ساهر بوجهه حتى بات قريبا من وجهها يكاد أن يلامسه ثم همس بخفوت بطيء متلذذ
العدل حبيبتي الصغيرة أنني حتى وأن كنت أمتلك المال , فلن أدفع أقساط شقتك الثمينة يكفيني أنني دفعت لك المقدم وعدة أقساط اعتبريها هدية مني و تعويضا سخيا على السنوات التي انتظرتِني خلالها , أما الباقي فهو مسؤوليتك الخاصة هذه الشقة ملكك و لا تخصني في شيء وأنا لست أحمقا للدرجة التي تجعلني أتابع الدفع في شيء لا أملكه
كانت تنتفض أمامه وجسدها يرتعش بشدة في تشنجاتٍ رافقت نظرات القسوة والقهر في عينيها المبللتين ثم ودون كلمة واحدة , أومأت برأسها قبل أن تندفع من أمامه لتخرج من هذه الشقة الصغيرة , صافقة الباب خلفها بكل قوتها
أما ساهر فقد استدار لينظر الى الأسطح المتناثرة أمامه وهو يرتشف من كوبه لكن الشاي كان قد تحول الى مشروبٍ بارد كريه المذاق
درة استيقظي , لقد وصلنا
رمشت درة بعينيها وهي تنظر حولها , فلم ترى سوى حديقة وسماء الباب بجوارها مفتوح وقاسم منحنيا إليها وجهه قريبا من وجهها فقالت بإرهاق
أين نحن ؟!
مد لها يده وأجابها باقتضاب
اخرجي وانظري بنفسك
عقدت حاجبيها , الا أنها رفعت يدها بذهنٍ ناعس ووضعتها في يده , فأطبق عليها و جذبها لتتحرك وما أن فعلت حتى تأوهت من الألم النابض في مؤخرة رأسها الا أنه لم يتركها بل وضع يده الأخرى تحت ذراعها وأسندها حتى وقفت على قدميها مستندة بيدها الأخرى على صدره وحين نظرت حولها فغرت فمها غير مصدقة الحديقة البوابة البيت
فتطوع قاسم قائلا بهدوء
بيت الحاج رحيم كان في انتظارك
أغمضت عينيها متأوهة بصوت صفير متعب مجهد
بيت الحاج رحيم إنها في أمانٍ الآن , لا يمكن لمخلوق أن يؤذيها هنا وحين شعرت به يتحرك بها فتحت عينيها وهمست
لكن يا قاسم الحاج رحيم رحمه الله لن أستطيع أن
قاطعها قائلا بنبرة فاترة
البيت به عدة نساء يعملن فيه لن نكون بمفردنا
تبعته وهو يجذبها معه برفق وحاولت الاعتراض بضعف
اذن هلا نزلت الغرفة التي كنت أسكنها قديما في الحديقة
لم يرد عليها قاسم , بل شدها ثم قال بجفاء
أغلقت الغرفة منذ سنوات وتحولت الى مخزن لا يحوي سوى الغبار وأشياء لا قيمة لها
دخلت معه الى البيت ونظرت اليه تجيل عينيها بين أرجائه لم يتغير به حجر واحد ,
كل زاوية كما هي تماما رائحته وروحه و الذكريات تتحرك من حولها
طرفت عينيها بدموعٍ حبيسة وهي تنظر باتجاه غرفة مكتب الحاج رحيم فقد أوشكت أن تقسم بأنها تسمعه يناديها كي تدخل وتلقي إليه التحية بعد فراق طويل
التفت قاسم إليها وراقبت عيناه الدموع المحتجزة خلف جفنيها وهي تنظر الى باب المكتب
ثم قال بصوتٍ أجش مقتضب
تعالي لترتاحي
تحركت معه وهي لا تزال تشعر وكأنها نائمة لم تستيقظ بعد لكن و قبل وصولهما للسلم خرجت سيدة ترتدي جلبابا بسيطا وهتفت بحرارة
مرحبا يا سيد قاسم مرحبا يا درة , أهلا بعودتك وكأن السنوات لم تمر
نظرت درة الى المرأة ثم أخفضت وجهها وهي تتذكر آثار الصفعات عليه , فسألتها هاتفة و هي تضع يدها على صدرها
أنا خالتك أم فوزي ألا تتذكريني ؟! قطع يد من فعل بكِ هذا يا ابنتي
تكلم قاسم قائلا بحسم
ليس الآن يا أم فوزي درة بحاجة للراحة
هتفت أم فوزي تقول متفهمة بحرارة
بالطبع , بالطبع لقد جهزت لها الغرفة كما طلبت
أمسك قاسم بكفها وسحبها معه كي تصعد السلم فوجدت صوتها أخيرا و هي تقول بحرج
ماذا ستظن الآن ؟!
ابتسم قاسم وأجاب بسخرية
لن تقول شيئا اعتاد بيت الحاج رحيم على استقبال عابري السبيل
كتمت درة أنفاسها , الا أنها لم تستطع رد الإهانة فقد وجدت نفسها تقف معه أمام غرفة , فتح لها باب ثم أشار لها كي تدخل فتقدمت بخطواتٍ متعثرة ونظرت فيها ببطء تعرف تلك الغرفة , فلم تكن مستغلة من قبل الا أنه دخلتها عدة مرات
ومع تجول عينيها أبصرت صورتها في المرآة وقاسم يقف خلفها فانعقد حاجبيها ألما و أخفضت وجهها وكأنما السيطرة التي فرضتها على نفسها طوال اليوم قد انهارت فجأة فانحنت على نفسها وشهقت باكية بصوتٍ عالٍ وتوالت الشهقات ممتزجة بنحيبٍ كالعويل ولم تشعر بالذراعين اللتين جذبتاها الى صدرٍ رحب ضمها بقوة حتى بللته بدموعها الغزيرة
أغمض عينيه بشدة و كفاه تشدان على ظهرها تدفعانها دفعا الى صدره وهو يشعر بكل انتفاضة من انتفاضات جسدها المرتعش وكأنما هي لم تتغير , نفس الجسد الضعيف ظاهريا لكنه يحمل داخله طاقات من القوة الغبية تجعلها تقدم على كل ما تستطيع من تهور
ما بين الغضب الذي يجيش بصدره , و اللهفة و السعادة التي يشعر بها و هي على صدره جسده يقسم الا يحررها من قيده مطلقا
صدر تأوه من بين شفتيه , الا أنه كان دون صوت ساخنا , كلهيب النار ودون أن يفتح عينيه , بينما تشكلت الشفتان القاسيتان لتهمسا بالاسم الذي دمغ روحه منذ سنواتٍ طويلة
درة
لكن لحسن الحظ ضاعت همسته على صخور نحيبها العالي مما جعله ينتبه الى ما يفعل
رفع قاسم وجهه عن خصلات شعرها فجأة , متجهم الملامح مظلم العينين بعذابٍ غاضب وسعادة مشينة بقربها منه الى هذا الحد !
فأمسك بكتفيها يبعدها عنه بالقوة , لكن وجهها سقط أمامه تبكي بشهقاتٍ خافتة وخصلات شعرها تخفي ملامحها المكدومة عن عينيه السوداوين , مما جعله يقول بخشونة ونبرة متحشرجة غاضبة
درة
لكنها لم ترد عليه , وكأنها لم تسمعه فلم ترفع وجهها واستمر جسدها ينتفض بقوة , فنادى بصوتٍ أعلى و أقسى
درة
لم تتجاوب مرة أخرى لبضعة لحظات , ثم رآها ترفع يدها تلمس بها أعلى أنفها بين عينيها وكأنها تحاول تمالك نفسها , لكنها عاجزة تماما عن فعل ذلك
كل عصب في جسده كان يشارك جسدها الانتفاض مع كل شهقة تخرج من بين شفتيها والغضب بداخله يتزايد و يتضخم على نحو مخيف فرفع رأسه لأعلى زاما شفتيه بقسوة محاولا هو نفسه تمالك نفسه
قبل أن يأمرها بذلك
ثم جذبها برفق حتى أجلسها على حافة السرير الموجود في الغرفة , ثم جثا أمامها دون أن يحرر كتفيها لكنها استمرت منخفضة الوجه تبكي بصوتٍ مكتوم , فهزها قليلا وهو يقول بعنف
درة ارفعي رأسك و انظري لي
حاولت لكنها لم تستطع , وكأنها تعاني صدمة متأخرة فهزها مجددا وهو يقول بشدة
درة يجب أن نتكلم , أفيقي قليلا و انتبهي الي
ظلت مطرقة قليلا , ثم رفعت وجهها ببطء شديد حتى التقت أعينهما و كأنهما واحتين محترقتين في ليلٍ لا قمر فيه لا ضوء سوى لهيب النار المستعرة بألم
ثم تمكن من القول أخيرا بصوتٍ هادئ , قاسٍ لا يحمل أي مشاعر من تلك المخيفة التي تظهر في عينيه
أعلم أنكِ غير قادرة على الكلام الآن , لكنني في حاجةٍ لبعض المعلومات منكِ لذا حاولي تمالك نفسك قليلا
استمرت في البكاء رغم انخفاض حدته وهي تنظر الى عيني قاسم ثم قالت أخيرا بصوتٍ مجهد بطيء
الصداع تضاعف لا أستطيع التحمل
ظل قاسم صامتا لبعض الوقت وهو يتأملها بملامح جامدة لكن اللحظات , طالت وطالت
ثم قال أخيرا بصوتٍ أجش صارم
سيستمر ليومٍ أو اثنين عليكِ اعتياده , حتى مع أقراص المسكن الذي وصفه الطبيب
أطرق برأسه للحظة , ثم عاد وقال بصوتٍ أكثر حسما , لا يقبل التراجع
الآن أجيبيني على بعض الأسئلة
تأوهت درة وهي تميل برأسها هامسة
بالله عليك يا قاسم , الا تشعر كم أتألم ؟!
ساد الصمت مجددا , ثم قال بصوتٍ فاتر
أشعر , أكثر مما تتخيلين
انخفض كتفاها فجأة وبقى وجهها محني و شعرها متساقط وقد سكن جسدها تماما
حينها فقط تابع قاسم بهدوء
أجيبيني على بعض الأسئلة , ثم سأتركك لترتاحي بعدها
حين بقت على صمتها , اعتبرها موافقة فسأل بصوتٍ أجش
الآن أخبريني , كيف تمكن هذا الحيوان من دخول الشقة ؟! سبق وقلتِ أنكِ استيقظت ووجدتهِ
صمت و قد تجهمت ملامحه وبدا غير قادرا على المتابعة أكثر , بينما ارتجفت درة و سرى تيار من النفور والتقزز عبر جسدها كله والذكرى تعود اليها من جديد
ثم همست وكأنها تتقيأ شاعرة بالغثيان
كان بجواري على السرير يداه تتحركان من فوقي يحاوطني ك
قاطعها قاسم وهو ينهض واقفا فجأة , يوليها ظهره
دون تفاصيل
ابتلعت المتبقي من كلماتها بالفعل مع نبرة صوته الصادمة , فانتبهت بصعوبة الى ما كانت تقوله وكأنها شعرت بحاجةٍ مفاجئة في بصق ما في نفسها علها تتمكن من التخلص من الشعور بهذا الغثيان لصرخت أيضا إن استطاعت لكن صوت قاسم جعلها تصمت تماما
رفعت عينيها المرهقتين تختلس النظر اليه حيث وقف أمام النافذة ينظر منها و يداه في خصره و قد غشاه الضوء وجعل منه مجرد ظلا أسودا ضخما ,
تكلم أخيرا و سأل مجددا بصوتٍ مقتضب رغم أنه بدا مشحون و كأنه على حافة الانفجار
كيف دخل ؟! هل لديكِ فكرة ؟! أتكون ضرتك , سلوان قد أعطته المفتاح لسبب ما ؟!
حين ظلت درة صامتة لفترة طويلة استدار قاسم اليها , يرمقها بحاجبين منعقدين ثم تابع قائلا بصوتٍ غريب
لدي إحساس يخبرني أن ما سأسمعه لن يعجبني أليس كذلك ؟! أهي سلوان ؟! .هل أعطته ال
اضطرت درة الى رفع رأسها وقاطعته قائلة بنبرة حادة نافذة الصبر
لا يزال المفتاح معه يا قاسم منذ أن كانت الشقة ملكه
ساد صمت مطبق , ثم بدأت عيناه تتسعان بالتدريج و بتعبير مخيف داخلهما جعلها تسبل جفنيها متوقعة ما سيحدث وحين تكلم قاسم مد كفه قائلا بصوتٍ خفيض
اسمحي لي , باستيعاب ما تقصدين هنا هل ألم تقومي بتغيير قفل الباب بعد أن أصبحتِ المالكة للشقة ؟!
ظلت صامتة مغمضة عينيها , منتظرة وعلى الرغم من توقعها لما سيحدث الا أنها انتفضت مذعورة على صرخته الغاضبة
بالله عليكِ هل ما أسمعه حقيقي ؟! يمتلك نفس المفتاح اللعين ؟! هل أنتِ غبية ؟!
صرخت فجأة بعصبية
لا تصرخ هكذا , ألا ترى أنني أشعر بصداعٍ فظيع
اقترب منها بسرعة و انحنى اليها مشيرا بإصبعه هادرا
أتعرفين ما هو الفظيع ؟! الفظيع أن يضطر الرجل الى التعامل مع امرأة مثلك متهورة , غبية , عنيدة تظن نفسها قادرة على اقتحام الحياة بكل شرورها ومساوئها , بينما هي في الحقيقة لا تمتلك أدنى قدر من العقل أو القدرة على مجرد عبور طريق ضيق
حاولت النهوض وهي تقول بغضبٍ مشتعل
أنا لا أسمح لك
الا أن دفعة من يديه على كتفيها أسقطتها على السرير فتأوهت ناظرة إليه بعينين متسعتين وفم فاغر , بينما هدر يقاطعها بعنف
لن أنتظر الإذن منكِ كي أخبرك رأيي بكِ بوضوحٍ تام
ظلت تحدق فيه بهلع بينما عيناه , لا ترحمان خوفها وانتفاضة الصدمة التي لا تزال فريسة تحت تأثيرها الى أن زفر أخيرا بكبتٍ مشتعل قبل ن يجذبها من ذراعها كي تستقيم في جلستها مجددا بفظاظة وعدم لياقة فجلست واضعة يديها على ركبتيها , مطرقة بوجهها كمذنبة تتنفس باهتزاز مضطرب
أما هو فحك فمه و فكه بكفه , بعصبية بالغة مستديرا عنها وعم السكون بينهما , الى أن قالت أخيرا بخفوت باهت
كان قد فر هاربا بالفعل خارج البلاد ولم نتخيل أن يعود مجددا , مع كل تلك الديون التي تنتظره باختصار أغفلنا عن هذه النقطة معك حق في اتهامي بالحماقة
في الواقع لم يكن كل الغضب موجها إليها , بل كان معظمه موجها إلى نفسه
في اللحظة , التي أجبره فيها على كتابة التنازل عن الشقة لدرة , كيف ترك لها حق التصرف في أمر بالغ الأهمية كمفتاح الشقة ! لماذا لم يغيره بنفسه ؟! كان عليه أن يفعل كان عليه أن يعرف بأنه لا يمكن الاعتماد عليها مطلقا
ما حدث كان بسببه الغضب بداخله تجاهها جعله ينهي المهمة ويغادر دون أن يواجهها ويتأكد من سلامة وضعها كان عليه أن يفعل , لكنه كان يكرهها في تلك الأيام كما لم يكره سواها من قبل !
نعم كان يكرهها وإن كان هناك شعورا يفوق الكره فهو ما كان يحسه تجاهها
عاد لينظر من النافذة مثقل الكتفين , ثم سألها بصوتٍ ميت , تقريبا غير مسموع
هل تمادى معكِ ؟!
سمعت سؤاله بصعوبة , ونظرت الى ظهره بينما كانت ملامحه جامدة كقناعٍ بارد وهو ينظر من النافذة فسألته بحزن
أما قلت , دون تفاصيل ؟!
لم ترى وجهه وهو يغمض عينيه لكنها سمعت صوته البارد يسأل مجددا و كأنه يسأل عن أمرٍ عابر كالطقس
هل فعل ؟
تحرك حلقها وهي تبتلع غصة مؤلمة ثم قالت بخفوت
تقرير الفحص في المشفى , لم يذكر مدى الانتهاك و الإهانة اللذان شعرت بهما نعم لقد تمادى تمادى على نحوٍ يجعلني أرتعب كلما تذكرت صوت المفتاح في الباب , ثم شعوري بجسد رجلٍ مستلقٍ بجواري دون أي وجه حق أما صفعاته فكانت انتقامية مقيتة أعتقد , إن كانت سلوان هي الموجودة في الشقة لكانت قد نالت نفس المصير
لم يرد , بل ظل صامتا مما جعلها بعد فترة ترفع وجهها لتنظر الى ظهره بعينين غائرتين عميقتين
لكنها أجفلت مع صوت طرقة على باب الغرفة المفتوح , فالتفت كلا منهما الى أم فوزي التي كانت تحمل في يدها حقيبة صغيرة وهي تقول بحذر ناقلة عينيها بينهما
عذرا يا سيد قاسم لقد أحضرت حقيبة درة من السيارة
أشار الى السرير و أجاب بفتور و بملامح لا تنم عن شيء
ضعيها على الفراش , وحضري لها شيئا لتأكله
رفعت درة كفها وهمست بسرعة وبنبرة إعياء
لا , لا أستطيع أن أضع شيئا في فمي أرجوك كل ما أحتاجه هو النوم فحسب
لم يبد مهتما , مجرد ايماءة من رأسه ثم اتجه الى الباب قائلا باقتضاب
افعلي ما يريحك أنا مضطر للخروج الآن
وجدت نفسها تسأله مجددا وكما فعلت في المشفى
هل ستخرج ؟!
توقف والتفت إليها رافعا حاجبه متسائلا
أظن أن هذا ما قلته , هل لديكِ إعتراض ؟!
انعقد حاجباها قليلا بحرج , الا أنها رفعت وجهها الشاحب وردت بقنوط مستاءة
هذا بيتك , قصدت فقط بعد إعادة تفكير أن وجودي هنا لم يكن فكرة صائبة على الأرجح , ربما لو تمكنت من إيصالي الى شقتي
ابتسم لمحت تلك الابتسامة الساخرة الجليدية التي ارتسمت على شفتيه , و التي جعلت صدرها ينقبض بعدم راحة
لكنه حين تكلم بدا صوته هادئا منطقيا و مهذبا جدا
الكلام عن شقتك سابق لأوانه نظرا لأن مفتاحها لا يزال مع أحد المجرمين في تلك اللحظة
نهضت من مكانها قائلة بخفوت وتوتر غير واثقة تماما من قوة عزيمتها في تلك اللحظات بالذات
سأعمل على تغييره بمجرد وصولي تعلمت الدرس جيدا
ابتسم مجددا , نفس الابتسامة القاسية , الا أنه رد ببساطة وكأنه يقنعها
لا أظنك ستكونين قادرة على النوم في سريرك لفترة
مجرد التفكير في سريرها يجعلها ترتعد وتشعر بالغثيان من جديد لكن لا بديل لديها , عليها التغلب على هذه المحنة و العودة الى حياتها سريعا لم تكن يوما في حاجة الى مساعدته ولن تبدأ الآن
لذا حاولت الكلام مجددا آخذة نفسا عميقا كي تتمكن من الكلام بنبرة متزنة
قاسم أنا
الا أنه قاطعها قائلا بصوتٍ عابر وهو يتأملها بتفحص
متى كانت آخر مرة تناولتِ فيها طعاما حقيقيا ؟!
أجفلت للحظة من التغيير المفاجئ للموضوع فأبعدت شعرها خلف أذنها ببطىء قائلة وبصوتٍ خفيض
لماذا تسأل ؟!
ضاقت عيناه وهو يتأملها مجددا و بتفحص أكبر ثم أجاب ببرود لا مبالي
لقد نقص وزنك كثيرا
تورد وجهها قليلا وهي تختلس النظر الى أم فوزي التي كانت تنقل عينيها بينهما بفضول شديد , تكاد أن تكون فاغرة فمها وهي تستمع الى كل حرفٍ من الحوار فلم تستطع الرد و صمتت مطبقة شفتيها وهي تشتمه في داخل عقلها بكل الشتائم التي عرفتها في حياتها كاملة
وهو من جهته لم ينتظر منها جوابا , بل اتجه الى باب الغرفة قائلا ببساطة
اقترح عليكِ أن تنالي قسطا كبيرا من النوم الآن , وحين تستيقظين ستأكلين حتما
فتحت فمها لتجادله , الا أنه كان قد خرج بالفعل متجاوزا أم فوزي التي استدارت قليلا تحدق به أثناء مغادرته ثم نظرت الى درة مجددا ولا يزال فمها فاغرا الى أن تمالكت نفسها وسألت باهتمام وهي تقترب من درة واضعة الحقيبة فوق السرير
هل تحتاجين الى مساعدة يا درة ؟ هل أساعدك في تبديل ملابسك ؟
تكبدت درة ابتسامة صغيرة وهي تهز رأسها نفيا , فتابعت أم فوزي قائلة بتعاطف
ربما تحتاجين الى وضع بعض الثلج على تلك الكدمات ؟!
اقتربت درة من السرير و جلست عليه شاعرة بالدوار ثم قالت بصوتٍ خافت مجهد
لقد قاموا في المشفى بما يجب شكرا لكِ يا أم فوزي , أنا فقط أحتاج للنوم
ثم وجدت نفسها تستلقي ممددة لتضع رأسها على الوسادة و كأنها تظن ملايين الأطنان ومن خلف جفنيها المتراخيين رأت الستار يسحب حتى عم الظلام الغرفة فكان وكأنه قوة جبارة تسحبها الى عالمٍ بعيد مع صوتٍ أجوف يهمس لها
ستكونين بخير لن يمسك سوء هنا
وكأنما كان هذا هو كل ما تحتاج لسماعه قبل أن تضع كل أسلحتها جانبا و تضيع محلقة في هذا العالم المريح الهادئ
........
كان يقلب الشاي في كوب زجاجي فوق حاجز شرفةٍ حجرية قديمة وهو يقف مستندا إليها ناظرا منها الى أسطح البيوت القديمة والفقيرة شارد الذهن , بعيد النظرات
ينبغي له في تلك اللحظة , أن يكون في كامل تركيزه , فقد زاد ضغط العمل على كاهله خلال شهر واحد وأصبح مرهقا ذهنيا و جسديا وعوضا عن التركيز بصورة كاملة , يجد نفسه ما أن يعود الى شقته الصغيرة منحصر التفكير في ثلاث نساء
والدته التي لا تزال في المشفى تتلقى علاجا مكثفا , كلما بشره الطبيب بقرب خروجها , مرت بانتكاسة جديدة !
يتناوب في البقاء معها في المشفى مع أخته رحاب وفي أثناء بقاءه معها لا تتوقف عن الكلام الأقرب الى الثرثرة وبعض الهذيان الخفيف عن الاثنتين المسيطرتين على تفكيره
نسيبة وهويدا
تخبره أن كلا منهما تزورها دون انقطاع وإن كان هذا لا يدهشه من نسيبة , حيث أن الواجب يجبرها على زيارة حماتها لكن الدهشة الحقيقية تنتابه ما أن يسمع بزيارة هويدا لها
فهو لم يرها منذ شهرٍ كامل فقد انقطعت عن العمل لسببٍ مجهول وكان ليشعر بالقلق عليها لولا زيارتها الخفية لوالدته لكنه لم يرها في المشفى مطلقا , وكأنها تتعمد تجنبه بمهارة فائقة
فهي تحفظ جدول وجوده بالساعة والدقيقة وبدقةٍ متناهية , تقوم بزيارتها في وقت غيابه
لذا في مرة من المرات , تجرأ على الدخول الى مكتب عبد السلام عدوي سائلا عنها و عن سبب اختفائها
ودون أن يرفع عبد السلام وجهه عن شاشة حاسوبه تكلم بهدوء متحفظ
هويدا معتادة على الغياب لفترة ثم الظهور مجددا لا تقلق يا ساهر
هل في فترات الغياب تلك , تعاني من نوباتِ الاكتئاب ؟!
هل تتناول أقراصا , ترهقها جسديا وتدمرها عصبيا ؟!
أراد السؤال عن الكثير لكنه لم يستطع كل ما فعله هو أن ابتسم ابتسامة رسمية , ثم خرج من المكتب و أغلق الباب خلفه
شعر برغبةٍ كبيرة في الاتصال بها و الكلام معها , ومعرفة سبب انقطاعها عن المجيء للعمل , لكنه لم يجده تصرفا لائقا , خاصة بعد زواجه
زواجه !
صدرت من حلقه ضحكة ساخرة وهو يردد الكلمة كمزحة هزلية
انقضى شهر كامل والذي كان يفترض به أن يكون شهر العسل
انقضى شهر العسل دون أن يدخل بزوجته حب العمر
شهر كامل لم يرها سوى مراتٍ قليلة في الأيام التي يتواجد بها في الشركة , لا موقع العمل وتلاقيا في المشفى مراتٍ أخرى محاولين اتقان الدور أمام والدته وادعاء السعادة التامة
لقد أقسم عليها بالطلاق إن حاولت جر والدته كي تجبره على الرضوخ أو أفشت لها طبيعة علاقتهما الحالية
علاقتهما
من كان يتخيل أن يكون هذا هو شكل زواج ساهر ونسيبة , بعد قصة السنوات الطويلة
بداخله تمنى خلال هذا الشهر أن تطرق بابه حاملة معها حقيبة ملابسها
نعم , تمنى بصدقٍ أن يحدث هذا عله يتغلب على تلك الأزمة ويحاول قتل النفور الذي تولد في نفسه تجاهها
لكنها لم تأتِ أبدا وهذا ما توقعه وكان متأكدا منه
لقد اتخذت نسيبة قرار صراع القوى على أنها لم تسلم بانفصالهما مطلقا , فكما أتقنت الدور أمام والدته فعلت نفس الشيء في العمل
فبعد المرة الأخيرة و شجارهما العلني سويا اتخذت أسلوبا جديدا تماما و توقفت عن استعطافه واستجداء شهامته واتبعت استخدام جاذبيتها وسحر تعاملها الأنيق معه أمام الجميع تطيل النظرات الى عينيه وكأنها تذكره بأيام حبهما الطويلة
ارتشف ساهر من كوب الشاي وهو يغمض عينيه مستقبلا نسيم الليل اللطيف عله يهدئ قليلا من تداخل أفكاره
صوت رنين جرس الباب جعله ينتبه فجأة عاقدا حاجبيه
من تراه ؟!
توجه الى الباب وفتحه متوقعا أن يكون أحد الجيران البسطاء , لكنه صدم برؤيتها أمامه
واقفة بكل جمالها و بكامل أناقتها مبتسمة برقة مشبكة أصابعها كتلميذة هاربة لتقابل حبيبها الأكبر سنا
ساقها مائلة عن الأخرى وعيناها في عينيها دعوة لا يقاومها حجر
تكلم ساهر قائلا بنبرة خاوية
نسيبة !
تألقت أسنانها وهي توسع ابتسامتها هامسة
ألن تدعوني لدخول
صمتت قليلا وهي تنظر من فوق كتفه الى الشقة خلفه والتي تشبه الى حدٍ كبير بيت والديها مما جعلها تشعر تلقائيا بالنفور والذكرى العطنة تملأ أنفاسها الا أنها احتفظت بابتسامتها متابعة بهدوء
شقتك
أخفض ساهر عينيه ناظر الى أصابعها ثم قال بنبرة عادية لا تحمل ترحيب
أرى أنكِ جئت دون حقيبة ملابسك
تألقت عيناها خبثا وهي ترد همسا
ربما لن نحتاجها
أعطت عيناها المعاني الخفية والكثير من الوعود الدافئة , لكنها لم تجد أي تجاوب في عينيه الناظرتين إليها دون انفعال على الرغم من أنها قد تحولت خلال الشهر الماضي الى امرأة أقرب بعارضة أزياء لشدة ما تحافظ على أناقتها و اهتمامها بانتقاء ملابسها العصرية
لكنها في نفس الوقت كانت قد خسرت الكثير من الوزن و هذا هو الدليل الوحيد على تأثرها بانهيار العلاقة بينهما مع الظلال تحت عينيها والتي لم تنجح المساحيق الفاتحة في إخفائها
همست أخيرا وقد بهتت ابتسامتها مع امتداد صمته
ألن تسمح لي بالدخول ؟! حقا يا ساهر ؟!
ابتعد عن الباب و تحرك للداخل يوليها ظهره دون ترحيب فتبعته زامة شفتيها وهي تغلق الباب خلفها ثم سارت في المكان الضيق وهي تنظر إليه بقرف محدقة في السقف المتآكل والدهان المتقشر والأرض ذات المربعات الرخيصة
أهذا هو الجحر الذي يريد مني الخضوع و السكن فيه ؟! أهذا هو المنطق ؟!
أعادت نظرها المزدري الى ظهر ساهر الذي دخل الى الشرفة وتابع شرب كوب الشاي دون أن يهتم بوجودها مما جعلها تلحقه متهادية الى أن خرجت الى الشرفة ووقفت بجواره ناظرة الى البيوت القديمة بنفس النظرة خالية المشاعر أو الحنين تمط شفتيها وهي تكاد أن تشتم الفقر
نعم للفقر رائحة خبيثة خانقة
استدارت نسيبة عن هذا المشهد الكئيب بالنسبة لها واستندت بظهرها الى حاجز الشرفة تنظر الى ساهر طويلا ثم همست بصدق
اشتقت لك يا ساهر ويؤلمني ما وصل إليه حالنا
لم تتغير ملامحه ولم يظهر عليها أي تأثر بل قال دون أن ينظر إليها
لا أرى الألم ظاهرا عليكِ يا نسيبة
ابتسمت بثقة وهي تسأله
ألأنني أهتم بأناقتي وثبات شخصي أمام الجميع ؟! ألم تعرف حبيبتك الصغيرة بعد يا ساهر ؟! أنا لست شغف التي جعل الحزن منها إنسانة أقرب الى المسخ ولست هويدا , التي جعل منها العشق اليائس أضحوكة
ضغطت أصابعه فوق الكوب الزجاجي حتى كاد أن يتحطم لكنه سيطر على ملامحه وهو ينظر الى البعيد
مفكرا في هويدا كلام نسيبة عنها أبعد ما يكون عن الحقيقة وفي الحقيقة الرضا بداخله كلما فكر في حبها له يجعل منه هو الأضحوكة أمام نفسه لا هي
مالت نسيبة إليه وقالت متابعة بهدوء
أنا لا أظهر انكساري حتى بيني وبين نفسي , أتابع وأقاوم وأصلح الصدع بداخلي
ارتشف ساهر رشفة أخرى ثم قال بجمود
بعض الصدوع , لا علاج لها فما أن تحدث حتى يتوجب على ساكني جدرانها الرحيل , قبل أن تتوسع و ينتهي بهم الحال تحت أنقاض المحاولاتِ الفاشلة
زفرت نسيبة نفسا طويلا بطيئا ثم تنهدت واستندت الى حاجز الشرفة بمرفقيها ورمقته بنظرة طويلة الى أن سألت في النهاية بنبرة حازمة
الى متى تنوي الاستمرار في هذا الوضع يا ساهر ؟! ألا ترى أنك تظلمني ظلما بينا بما تفعله معي ؟! شابة أخرى غيري إن مرت بصدمة الهجر في ليلة زفافها لما تمكنت من تجاوز الأمر مطلقا
تكلم ساهر قائلا ببساطة
حين أتيتِ الى هنا الليلة لم أغلق بابي في وجهك أهلا بكِ إن أردتِ البقاء و محاولة البدء من جديد واعدك أن أحاول جاهدا نسيان الخذلان الذي وجدته منكِ
عضت على شفتها بقسوة وهي تغمض عينيها شاعرة بالغضب بينما رمقها ساهر بنظرةٍ ساخرة وهو يتابع ببساطة
الا أنني لا أظنك أتيتِ الى هنا تقودك النوايا الطيبة للبدء في هذا المكان المتواضع الذي لا يليق بشخصك
فتحت عينيها تنظر إليه بنظرةٍ ثاقبة ثم قالت بجدية
لا لن أستطيع يا ساهر , لن أتمكن من العودة الى العطن بعد أن عرفت معنى الفخامة صدقني لم يعد الأمر اختيارا , بل عجزا وعدم مقدرة أنا لن أستطيع حتى وإن أردت ما تطلبه ينافي طبيعة البشر
لم يرد عليها على الفور , بل ظل صامتا للحظاتٍ طويلة ثم سألها دون تعبير ودون أن يستدير إليها
اذن ما هو سبب مجيئك الليلة ستخيبين ظني , إن أخبرتني أنكِ تصدقين بالفعل أنني قد أعود معكِ الى شقتك
رفعت نسيبة ذقنها وقالت بصلابة
أتيت الليلة لأن لي حقوق عندك وأنا لا أنوي التنازل عن حقوقي يا ساهر
ارتفع حاجبه وهو ينظر إليها نظرة جانبية بسخرية ثم سألها ببساطة
هل تتحدثين عن الواجبات الزوجية بمثل هذه العملية ؟ أم أنني أتخيل ؟!
ردت نسيبة ببطء شديد
الواجبات الزوجية لا تعني بالضرورة الفراش يا ساهر بل تعني الإنفاق كذلك
التفت اليها ذاهلا متسع العينين , فاغر الفم في ابتسامة ساخرة غاضبة وغير مصدقة فبادلته النظر بثبات غير عابئة بالسخرية الظاهرة على ملامحه بوضوح وتابعت كي لا تدع مجالا للشك
لماذا لا تنفق علي بصفتي زوجتك ؟! لا أظنك وصلت الى هذا الحد من عقابك اليائس
أخفض رأسه وهو يضحك دون صوتٍ يهز رأسه غير مصدقا بالفعل واستمر يضحك بخفوتٍ حتى سعل أخيرا ثم قال بصوتٍ أجش ساخر
لا بأس معكِ حق , سأخصص لكِ مبلغا يكفي مصروف البيت ومصروفك الخاص
ثم نظر إليها سائلا
هل أنتِ راضية الآن ؟!
عضت جانب شفتها بطريقة يعرفها جيدا وهي تسبل جفنيها مفكرة ثم رفعتهما لتنظر الى عينيه قائلة
أنا أحتاج الى مساعدتك المادية يا ساهر
عقد حاجبيه سائلا دون أن يفقد ابتسامته
ماذا تقصدين بالضبط ؟!
أجابته نسيبة بخفوت دون أن تحيد بعينيها عن عينيه
تعرف أنه تم تعيني براتبٍ أقل مما تقاضيته أنت أقل بكثير في الحقيقة و نحن نعلم السبب , لكن دعنا ألا نتطرق الى هذا الموضوع المهم أن
الا أن ساهر استقام في وقفته وقال مقاطعا بصوتٍ هادئ خطير
راتبي أكبر لأنني أمتلك خبرة سنوات لا تملكين منها شيئا فهل لديكِ أسباب أخرى لا أعرفها ؟!
تعمدت نسيبة اصدار ضحكة استهجان واضحة , الا أنها قالت بنبرة أكثر صرامة
محتمل لنعد الى موضوعنا راتبي بأكمله أقل من القسط الشهري للشقة , و بفارق كبير لا يمكنني تدبيره لذا تجاوزت فترة الدفع هذا الشهر دون القدرة على السداد
ضاقت عيناه أكثر وساد صمت مطبق لم يقطعه سوى صوت حشرات الليل وحين وجد صوته سألها بهدوء حذر
والمطلوب ؟!
عادت لتسبل جفنيها ثم قالت دفعة واحدة بنبرة هادئة
أريد مصروف البيت ومصروفي الخاص وفارق المبلغ المطلوب لتسديد القسط الشهري ومبلغ إضافي أحاول منه تأثيث الشقة شهريا بالتدريج لقد تعبت حقا من الخواء الموجود فيها
فغر ساهر فمه قليلا , ثم تراجع رأسه للخلف وهو ينفجر ضاحكا من كل قلبه
رمقته نسيبة وهو يضحك بمثل هذا الانفعال دون أن تتغير ملامحها و انتظرته بكل صبرٍ حتى ينتهي وبالفعل بدأت ضحكاته تخفت , حتى صمت تماما و انتهى بالنظر إليها طويلا وهو يهز رأسه متعجبا شاردا
حينها فقط تكلمت قائلة ببرود
لا أرى أن ما قلته مضحكا الى هذه الدرجة !
أجابها ساهر بصوتٍ غريب
هذا من وجهة نظرك
أومأت نسيبة بوجهها وهي تفكر بحنق , ثم رفعت عينيها الى عينيه وقالت بهدوء
هل تعرف قيمة التضحية التي قمت بها كي أحافظ على هذه الشقة يا ساهر ؟! لقد تخليت عن التدريس في الجامعة لأجل ذلك وأنت من أجبرني على هذا حين رفضت إكمال أقساطها
صمتت للحظة ثم رفعت يدها الى صدرها هاتفة بعنف مفاجئ وهي تضرب صدرها بأصابعها
هل تتذكر أهمية التدريس في الجامعة بالنسبة لي أم أنك ببساطة نسيت كما نسيت الكثير بيننا ؟! لقد ضحيت بحلمي لأجل الحفاظ عليها ولن أسمح لك أو لأي مخلوق أن يفقدني هذه الشقة بعد أن تخليت عن هذا الحلم لأجلها
ساد صمت ثقيل بينهما بعد أن انتهت من مرافعتها وهي تلهث بانفعال ثم فجأة رفعت كفيها ملتصقين أمامه وهمست متابعة بصوتٍ ميت
أتوسل إليك يا ساهر الا تُفقدني الشقة الآن أرجوك
لا تعلم كم من الوقت مر وهو واقف ينظر إليها بطريقة غريبة ثم قال أخيرا بهدوء
أنا حاليا أدفع علاج والدتي المستمر كما أنني أدخر دفعات شهرية كي أرد لهويدا المبلغ الذي دفعته لجراحتها وتقريبا لن يتبقى سوى المصروف الذي سأحدده لكِ
هتفت نسيبة عاقدة حاجبيها
هل طالبتك هويدا بالمال ؟!
ارتفع حاجباه وهو يسألها ببساطة
وهل يجب أن تفعل كي أبدأ في رده لها ؟!
صرخت نسيبة فجأة بصوتٍ عالٍ تردد صداه فوق الأسطح
لماذا تفعل بي هذا ؟! لماذا ؟!! أتدخر من راتبك كي تعيد مبلغا يعد قطرة في بحر ما يمتلكون ودون أن تطالبك هويدا باسترداده متسببا بذلك في خسارتي للشقة التي أملكها و التي لن أمتلك مثلها في حياتي كلها و لو قضينا عمرا فوق العمر نعمل كالثيران دون راحة ! هل هذا هو العدل من وجهة نظرك ؟!
مال ساهر بوجهه حتى بات قريبا من وجهها يكاد أن يلامسه ثم همس بخفوت بطيء متلذذ
العدل حبيبتي الصغيرة أنني حتى وأن كنت أمتلك المال , فلن أدفع أقساط شقتك الثمينة يكفيني أنني دفعت لك المقدم وعدة أقساط اعتبريها هدية مني و تعويضا سخيا على السنوات التي انتظرتِني خلالها , أما الباقي فهو مسؤوليتك الخاصة هذه الشقة ملكك و لا تخصني في شيء وأنا لست أحمقا للدرجة التي تجعلني أتابع الدفع في شيء لا أملكه
كانت تنتفض أمامه وجسدها يرتعش بشدة في تشنجاتٍ رافقت نظرات القسوة والقهر في عينيها المبللتين ثم ودون كلمة واحدة , أومأت برأسها قبل أن تندفع من أمامه لتخرج من هذه الشقة الصغيرة , صافقة الباب خلفها بكل قوتها
أما ساهر فقد استدار لينظر الى الأسطح المتناثرة أمامه وهو يرتشف من كوبه لكن الشاي كان قد تحول الى مشروبٍ بارد كريه المذاق