الفصل ١٣
فتحت مروة الباب , ثم هتفت بسعادة
خاطر أخيرا عدت
تلقى ارتمائها على صدره ضاحكا وهو يقول ممازحا بصوتٍ هادئ
أكلما غبت يومين استقبلتني هذا الاستقبال المسرحي !
ظلت متعلقة بعنقه عدة لحظات قبل أن تبتعد هاتفة بحسرة وهي تغلق الباب خلفه
يبدو أنك و منذ زواجك بشغف , قد نسيتنا تماما
أمسك خاطر بكتفيها قبل أن يدفع فكها متظاهرا بلكمها وهو يقول بغضب غير حقيقي
توقفي عن دراما النساء تلك يا دكتورة لم أغب سوى بضعة أيام ألا يحق لي في بضعة أيامٍ من شهر العسل يا آخر صبري وأول همي ؟
نظرت إليه مروة بعينين واسعتين حائرتين ثم اقتربت منه وسألته بصوتٍ خافت
شهر عسل ؟! هل سويت خلافك مع شغف بهذه السرعة بعد أن طردتها من البيت ؟!
تجنب خاطر الرد عليها وسألها ناظرا الى الغرفة خلف كتفها
كيف حال والدك ؟
ردت مروة مغتاظة من محاولاته التهرب من الجواب
بخير الحمد لله وهو مستيقظ في سريره , تعال لتراه
أمسك بمعصمها قبل أن تتجه الى غرفة والدها واخرج حافظة نقوده من يده قائلا بخفوت
انتظري يا مروة قبل أن أدخل إليه , أعرف أنكم في حاجةٍ ماسة للمال منذ أيام سأعطيكِ الآن مبلغا , صحيح أنه ضئيل لكن خلال الأيام القادمة س
قاطعته مروة تقول بحيرة
ما هذا الكلام يا خاطر ؟! هل نسيت أنك أرسلت لنا المال منذ أيام ؟!
توقف خاطر عما يفعل ونظر اليها قائلا ببطء
أرسلت ماذا ؟!
ردت مروة بحيرة أكبر قائلة
منذ ثلاث أيام تقريبا , جاء شخص الى هنا وقال أنه من طرفك وأعطانا مبلغا كافيا من المال وقال أنك ترسله لنا
فغر خاطر فمه وهو يهتف بغضب و عدم تصديق
هل جننتِ يا مروة ؟! كيف تقبلين بالمال من غريب لمجرد أنه قال أنه من طرفي ؟!
ردت مروة بتردد وقلق وهي تلوح بكفيها
كيف أشك فيمن يعطي مالا ويقول أنه منك ؟! لماذا أفكر أن يدعي أحدا معرفتك ليعطينا مالا ؟!
شتم خاطر بصوتٍ خفيض وهو يرفع رأسه بعينين مظلمتي الخضار وفي ذهنه اسم واحد فقط يستطيع الإقدام على ذلك
ثم نظر الى مروة وأمرها بصوتٍ قاطع حانق
ادخلي و احضريه حالا هيا
بهت وجه مروة وهي تشبك أصابع كفيها بتوتر متلعثمة في كلماتها مما جعل خاطر يقول بصوتٍ خفيض خطير
لا تخبريني أنكم قمتم بصرفه ؟!
فتحت مروة فمها وتكلمت بعجز
أنا لم أصدق أنك أرسلت المال أخيرا يا خاطر , منذ فترة توقفت عن الدروس و انتابني اليأس لكن مع امساك المال في يدي سارعت بدفع ثمن حصص كل المواد بلهفة واشتريت أدوية والدي
سألها خاطر بنبرة بطيئة قاتمة
وماذا ؟
صمتت قليلا ثم تابعت بصوتٍ مترجٍ كي يعذرها
اشتريت فستانا أنا آسفة جدا , لا أعلم كيف أقدمت على هذا وكان يجدر بي أن أدخر كل قرشِ متبقي تحسبا للأيام المقبلة لكن ضعفت وأنا لم أشتري أي قطعة ملابس منذ عام
عضت على شفتها وهو ينظر إليها صامتا , فتابعت بتوسل وهي تمسك بمعصمه
سامحني يا خاطر أرجوك
ظل خاطر صامتا وهو يشعر بقدميه ثقيلتين وكأن حملا فوق كتفيه يجذبه لأسفل وفي لحظات الصمت تلك جاءت عاصفة من خلفه تجري وهي تهتف
خاطر شكرا لك جدا
شعر بذراعين طريتين تلتفان حول خصره من الخلف ووجنة مكتنزة ترتاح على ظهره وصوت شيماء يتابع هتافها الحار
شكرا على هديتك من كل قلبي
عقد خاطر حاجبيه قبل أن يمسك بمعصميها يفكهما عن خصره ويجذبها لتقف أمامه قبل أن يسألها بحذر
أي هدية يا شيماء ؟!
ثم نظر الى مروة التي ازدادت ملامحها قلقا وتطوعت هي للرد بخفوت
الرجل الذي جاء بالمال , كان يحمل معه هديتين الى كل من مكرم وشيماء لعبة الكترونية لمكرم ومصفف شعر لشيماء
فغر خاطر فمه قليلا , بينما سمع صوتا آخرا يهتف من الخلف بفرحةٍ غامرة
ها قد عاد بطل البيت المغوار محقق السعادة , صانع الفرحة مبهج القلوب
وقف مكرم أمام خاطر ثم رفع اصبعي السبابة وهو ينظر الى السماء متابعا
أجبر الله بخاطرك يا خاطر كما أجبرت بخاطرنا وكتب لك في كل خطوة سلامة وهنيئا لك يا فاعل الخير و الثواب في إخوتك
رفع خاطر عينيه الى عيني مروة ثم سألها ببطء
وماذا عنكِ ؟! ألم يحضر لكِ الفارس المجهول هدية أنتِ أيضا ؟!
ظلت صامتة بعجزٍ تام وقد بان اليأس على ملامحها فأخفضت وجهها مما جعل خاطر يسألها بنبرة قوية جعلتها تنتفض
ماذا أحضر لكِ يا مروة ؟!
ردت بنبرةٍ خفيضة دون أن ترفع وجهها
سماعة طبيب
ضاقت عينا خاطر وهو ينظر الى وجهها المنحني طويلا ثم سألها أخيرا بفتور
سمعت مرة أن سماعة الطبيب غالية الثمن جدا فهل هي من هذا النوع الغالي ؟
لم تتحرك للحظات , ثم اضطرت الى أن تومئ برأسها ببطء فسألها خاطر مجددا
هل هي جديدة ؟!
ردت عليه بسرعة و تهور
بل مستعملة لكن استعمال نظيف جدا
ثم صمتت فجأة و أخفضت وجهها مجددا بينما راقبها خاطر طويلا , فهتفت شيماء بعينين تلمعان بسعادة
لم أحصل يوما على هدية كهذه يا خاطر أنه ينام بجواري على الوسادة كل ليلة من شدة فرحتي به
هتف مكرم يقول بلهفة
وأنا أيضا لم أكن لأحلم بهدية كهذه بعد المسدسات البلاستيكية التي كنت تشتريها لي في كل المناسبات
نظر خاطر إليهما بصمت فهاذين الإثنين لم يعيشا طفولة مرفهة أبدا , صحيح أنهما تلفحا بالستر لكن الرفاهيات كانت محرمة عليهما لم يعرفا ناديا أو رياضة لم يجربا الألعاب الحديثة أبدا
واتضح الآن أن كل ما أحضره لهما يوما لم يكن سوى قطعا بلاستيكية رخيصة لا قيمة لها
تكلم خاطر أخيرا قائلا بهدوء
مكرم اذهب الي الغرفة أنت وشيماء أريد مروة بمفردها
نظر اليهما بفضول وحيرة الا أنه استمع لما قاله خاطر وأمسك بذراع أخته ليدخلا من حيث خرجا وبقي خاطر ناظرا الى مروة طويلا ثم سألها قائلا
تعرفين ممن سماعة الطبيب يا مروة
لم يكن سؤالا , بل اقرارا الا أنها همست تجيب بخفوت
كيف لي أن أعرف ؟!
لم يرد خاطر على الفور .ثم قال أخيرا
عيب يا دكتورة لست أنتِ من يدعي الغباء
رفعت وجهها تنظر إليه و قالت بشجاعة زائفة
حسنا السماعة من شغف الهدايا من شغف والمال منك فلم أفكر في الرفض
رد خاطر ببطء
ومن أين لي بمبلغٍ كهذا في مثل هذا الوقت القصير ؟!
هتفت مبررة و هي تلوح بكفيها
لا أعلم وإن كانت من شغف فما المشكلة وهي زوجتك ؟!
هدر خاطر فجأة قائلا
حتى وإن كانت زوجتي لم أكن لأسمح لها بأن تنفق على أسرتي
انتفضت مروة الا أنها هتفت تواجهه
وما أدراني بمشاكلكما يا خاطر ؟! كل ما أعرفه أننا نحتاج الى المال
هتف هو أيضا بغضب
ومنذ متى تخليت عنكم ؟!
هتفت مستاءة وهي تنظر إليه بتوسل
وكيف لي أن أعلم أنت تغيرت منذ تزوجتها , فظننت أنك لن ترسل مالا لفترة طويلة
صمت خاطر للحظة ثم سألها بنبرة باهتة
هل حقا تصدقين ما تقولين يا مروة , أم أنكِ ببساطة شعرتِ بالإغراء أمام المبلغ الكبير والذي سيحل مشاكل أسابيع مقبلة دون قلق أو خوف
نظرت اليه مروة وهمست
وهل تلومني يا خاطر أن قبلت المال وتظاهرت بالتصديق أنه منك بينما في قرارة نفسي أعرف أنه من زوجتك ؟! ليست جريمة كبيرة يا خاطر , في النهاية هي زوجتك
أومأ برأسه وهو يطبق شفتيه بملامح قاتمة ثم قال بعنف مكتوم
منذ أيام طردتها من البيت , ألم يخبرك هذا بأن الوضع حرج بيننا ؟!
هزت مروة كتفيها وعادت لتخفض وجهها هامسة
والآن تقضي معها شهر عسل
رفع خاطر حاجبه وقال بعنف أشد
لكنك بعقلك تدركين و بعينك ترين أن هذا الزواج يعاني خطبا , لذا لا يصلح أن نقبل منها المال
رفعت وجهها و نظرت اليه و سألت
( اذن لماذا أنت معها حتى هذه اللحظة ؟!
صرخ خاطر وهو يضرب بقبضته على سطح الطاولة
لأسبابٍ تخصني أبقى معها لأسبابٍ تخصني لا علاقة لها بالمال ولا يحق لأحد أن يحاكمني بعد كل ما قدمته لهذه الأسرة انظري الى هاتين الورقتين يا مروة انظري اليهما
ثم رفع لها الورقتين اللتين أخرجهما من حافظته ثم صرخ فيها
إنهما أجري كحمَالٍ بالأجرة في يومين كي لا يحتاج أي منكم الى غريب و حتى أجد عملا حقيقيا
تراجعت مروة خطوة وهمست بجزع أمام فورة غضبه
لا أحاكمك يا خاطر ولم أفعل يوما أنا فقط أنا شعرت بثقل النقود بين أصابعي للمرة الأولى ولم أشعر بهذه اللذة منذ منذ أن ابتعنا الحاسوب , كان هذا أكثر أيام حياتي سعادة
صمت خاطر تماما وهو يلهث بتعبٍ وإجهاد ثم قال بعد فترة طويلة يخاطبها , أو ربما يخاطب نفسه
ليتنا ما ابتعناه ليتنا ما فعلنا
سمعا معا صوتا متعبا ينادي باسمه فتسمر مكانه للحظة قبل أن تهمس مروة بعينين دامعتين
أبي يناديك
نظر إليها نظرة طويلة وهو يستند بقبضته الى سطح الطاولة ثم دون كلمة استقام و دخل الى غرفة والده
توقف خاطر عند الباب للحظة ينظر الى والده الممد في الفراش ثم اقترب منه حتى انحنى ليقبل جبهته وكفه قائلا بصوتٍ خفيض
كيف حالك يا حاج أعرف أنك غاضب لتأخرى عن زيارتك بضعة أيام
لم يرد عبد السميع على الفور ثم قال أخيرا
المهم أنك هنا وعدتني الا تتخلى عن إخوتك
جلس خاطر على حافة السرير ممسكا بكف والده متنهدا ثم قال ساخرا
حتى حين حاولت فشلت
شعر فجأة بأصابع والده تشد على يده فنظر الى وجهه المتجهم قبل أن يقول يصوته المجهد الذي فقد عنفوانه و فظاظة الماضي
أريد أن أقول لك شيئا يا خاطر ربما كنت عنيفا معك فيما مضى , وضعت على كتفيك حملا أكبر مما تحتمل زدت الضغط عليك أفرغت بك من شقاء الأيام غضبا و حدة لكن لكن لطالما كنت بالنسبة لي أكثر من عرفت حفاظا على كرامته أمام الجميع
ضحك خاطر ضحكة لا تحمل أي مرح ثم قال بخفوت
أي كرامة يا حاج أنت لا تعلم ما الذي قابلته كل يومٍ من أيام العمل
شدد عبد السميع على كف ابنه أكثر وهتف بصوتٍ جاد خافت
قمة الكرامة , أن تتحمل وتبقى شريفا في عهدٍ كهذا الذي نحياه
رفع خاطر عينيه الخضراوين الى عيني والده ثم سأله ببطء
ما الداعي لهذا الكلام الآن يا حاج ؟!
رد عبد السميع قائلا بغلظة
لا تفقد ما تملك لأجل من لا تملك يا خاطر فهمتني يا ولدي ؟
أسبل خاطر جفنيه و ظل صامتا حتى قال أخيرا بصوتٍ متحشرج
أنا ارتبطت بها يا أبي ارتباطا وثيقا ارتبطت روحي بها وبت غير قادرا على التخلي عنها
تنهد والده برفق وهو يرفع يده ليربت على وجنته قائلا
لا أظنها ستكون لك يا خاطر بل لم أظنها كانت لك من البداية
أغمض خاطر عينيه بقوة بينما اشتدت شفتاه تصلبا وهو يهتف من بينهما بقسوة
لماذا ؟! لماذا ألقت بها الحياة في طريقي اذن تبا لها وللخلل الذي أربكت به حياتي , كنت بالكاد أمضي أيامي فلماذا أتعثر بها
صمت والده للحظات ثم قال بصوتٍ أجش
لا نملك أجوبة على كل ما لا نفهم لكن على الأقل انتفض وارفض ما تشعر في قرارة نفسك أنه ليس لك
فتح خاطر عينيه العميقتين ونظر بعيدا وفي قرارة نفسه يدرك أن النهاية قد اقتربت لا محالة
مهما حاول مقاومة التيار
بعد خروجه من بيت والده طرأت له فكرة جعلته يتسمر فوق درجات السلم , فأخرج الهاتف الذي ابتاعته له بحجة أن تصل إليه ما أن تحتاجه
ثم أخرج من حافظته ورقة طلب الرقم المدون بها و كان رقم المسؤول عن قضيته الخاصة بإيصالات الأمانة التي وقع عليها ولم يحتج الأمر منه سوى بضعة دقائق من الأسئلة
حتى أدرك ما كان يشك به لقد تم تسديد قيمة إيصالات الأمانة بالكامل !!! .....
أغلق خاطر الخط ثم طلب رقما آخر وما أن وصله صوتها العميق الرنان ذو الابتسامة الهادئة
حتى قال آمرا دون مقدمات
أريد أن أراكِ حالا
ردت عليه بنبرة عابثة ذات دلالٍ خاص
الا تنتظر حتى الليل يا زوجي العزيز ؟! هل هاتفك الشوق و أربك كيانك في تلك اللحظة تحديدا ؟!
هدر فيها بقوة
أريد أن أراكِ حالا يا شغف
ردت عليه بهدوءٍ قاطع
تعال الى شاطئ البحر أنا أجلس هناك
أغلق الخط بقوة وهو يزفر بنفاذ صبر قبل أن يستند بمرفقيه الى حاجز السلم ناظرا الى الدوائر الممتدة لأسفل في هيئة طوابق وكأنها دوامة تبتلعه في شرود كئيب
من المفترض به أن يرتاح لكن على العكس , إنه الآن ينظر الى الدوامة التي تحاول شغف إغراقه فيها ببطىء درجة تلو الأخرى نزولا حتى القاع
استمرت وقفته طويلا و تحديقه في القاع يصيبه بالدوار حتى انتصب ليدخل الورقة في حافظته لكن وقعت منها ورقة أخرى على درجات السلم فانحنى ليلتقطها وهو يقرأ ما فيها عاقدا حاجبيه ثم رفع رأسه مفكرا طويلا ووجد نفسه يعاود اخراج الهاتف ليتصل بالرقم المدون في اتصال ثالث
وكان الصوت صوت امرأة صوت امرأة وقورا مما جعله يتردد وتساءل عن هذه الحماقة التي يرتكبها لقد أوصاه والده للتو أن يحافظ على المتبقي من كرامته , وها هو يلقي به من أقرب نافذة .
حين سألت المرأة مجددا عن هوية المتصل , اضطر الى إجابتها بصوتٍ أجش قوي النبرات
السلام عليكم أنا ربما لا تتذكريني , لكن كنتِ قد أعطيتني رقمك , أو على الأصح رقم المرحوم زوجك بعد أن
صمت وهو يحك جبهته بحرج , ثم تابع قائلا بصوتٍ مقتضب
بعد أن حملت لكِ أسطوانة الغاز احم كان هذا منذ
قاطعته قائلة بهدوء
عامل توصيل الطرود الذي جمل لي أسطوانة الغاز اثني عشر طابقا
صمت خاطر للحظة ثم قال متعجبا
لم أظنك ستتذكرين
ردت السيدة وفي صوتها نغمة ابتسامة هادئة وهي تجيبه
المعروف لا يُنسى يا عامل توصيل الطرود
........
على خط الأمواج المتكسر على الرمال إحداهما تهمس سابقني الى ما لا نهاية و الأخرى تصرخ اندفع الى ماء تعال و لا تأبه لأحد وعلى الرمال يقف اثنان أحدهما يسابق و الآخر يبتسم
لم تحتج عيناه أكثر من لحظتين حتى وجدها جاثية على ركبتيها فوق الرمال الرطبة كانت وحيدة هناك و تبدو كبقعة ملونة في هذا الفراغ هادئ الألوان
بفستانها الأسود والوشاح الأحمر حول عنقها وكتفيها وشعرها المتطاير من حول وجهها
أصابعها تجمع الرمال و تلعب بطفولية و على شفتيها ابتسامة واسعة لم يرها حتى اقترب منها وغطاها بظله
يستطيع الوقوف مكانه دهرا فوق الدهر وهو يراقب تلك الابتسامة على شفتيها لكنه تنهد سائلا أخيرا بصوتٍ أجش
ماذا تفعلين يا شغف ؟!
أجابته بصوتٍ مرتاح دون أن ترفع وجهها إليه ودون أن تفقد ابتسامتها
أبني قلعة تعال و ساعدني
أغمض خاطر عينيه وهو يكتم نفسا ساخنا في صدره , محاولا السيطرة على عمق مشاعره
الا أنه تمكن من القول أخيرا ببطء
انهضي وكلميني
لكنها استمرت في بناء القلعة بهمة ونشاط ثم قالت بهدوء
تكلم أنا أسمعك
الا أن صبره كان قد عيل فانحنى ليمسك بذراعيها وجذبها بكل قوته حتى وقفت على قدميها بالقوة فداست على القلعة وهدمتها
نظرت الى موقع قدميها ثم صرخت بحزن
انظر ماذا فعلت !
هزها خاطر بقوة وهو يهتف محتدا
شغف اسمعيني جيدا , ابتعدي عن أسرتي
عقدت حاجبيها وسألته ببراءة
ماذا فعلت ؟!
أغمض عينيه مستغفرا ربه ثم نظر الى عينيها قائلا من بين أسنانه وهو يهزها مرة أخرى
لن ترضي شغفك المريض عن طريق تكبيل أسرتي بخدماتك المادية
ارتسمت على شفتيها ابتسامة أنيقة وهي تسأله بعفوية
فقط أنتِ ؟!
اشتد ضغط أصابعه فوق لحم ذراعيها بقسوة وجذبها إليه حتى اقترب وجهها من وجهه و كاد أن يلامسه فهمس ببطء
ماذا أخذت منك ؟! المال ورفضته المنزل و فعلت ما تريدين إرضاءًا لانتقامك الجنسية ونسيت كل شيء عنها فقمتِ بالدفع بالقوة الجبرية , لكنك بهذا الشكل لا تلعبين اللعبة بإنصاف يا شغف علي أن أقبل لا أن تتحركي سرا وتقنعي نفسك أنني بعتك نفسي , لقد تنازلت عن كل شيء ولم يتبقى سوى
صمت متنفسا بقوة وأنفاسه تداعب بشرة وجهها وهي تسمعه مبتسمة ثم تابعت بعد سكوته
لم يتبقى سواي
أومأ برأسه ببطء شديد وكرر
لم تبقى سواكِ أنتِ كل ما حصلت عليه وكل ما أبتغيه أنا أحبك يا شغف
نظرت شغف الى السماء البعيدة مبتسمة وشعرها يطير حول وجهها بجنون , فهمس خاطر وهو يلامس وجنتها بشفتيه هاتفا بقوة
لا تفسدي ما قلت بكلمة واحدة من كلماتك البغيضة . فقط لا تفعلي الآن
نظرت اليه مبتسمة ثم همست له برقة
سابقني
عقد خاطر حاجبيه وهو يسألها بحيرة
ماذا ؟!
لكنها كانت قد أفلتت من بين كفيه وانطلقت تجري لتستدير هاتفة بضحك عالٍ
سابقني
سُحِرت عيناه برؤيتها وهي تجري فوق الرمال وثوبها يتطاير فوق ركبتيها و شعرها كغيمة من خلفها ساقاها في جمال المرمر ووجد نفسه يبتسم ليتحرك ببطء ثم تسارعت خطاه تدريجيا حتى بدأ يهرول وانطلق يجري خلفها يحاول اللحاق بها بينما هي تلتفت ناظرة إليه و كلما وجدته يقترب حتى صرخت بجنون ضاحكة وزادت من سرعتها حتى لحق بها و أمسك بخصرها بكل قوته و رفعها عن الرمال مما جعلها تتعلق بعنقه فأنزلها ببطء و كل ثناياها تلامس جسده القوي حتى تلاقت أعينهما و كلا منهما يلهث بجنون و على شفتيه ابتسامة فاغرة حتى همست أخيرا بصوتٍ رقيق
لا تتركني أبدا يا خاطر سابقني , إلحق بي ولا تتركني
خاطر أخيرا عدت
تلقى ارتمائها على صدره ضاحكا وهو يقول ممازحا بصوتٍ هادئ
أكلما غبت يومين استقبلتني هذا الاستقبال المسرحي !
ظلت متعلقة بعنقه عدة لحظات قبل أن تبتعد هاتفة بحسرة وهي تغلق الباب خلفه
يبدو أنك و منذ زواجك بشغف , قد نسيتنا تماما
أمسك خاطر بكتفيها قبل أن يدفع فكها متظاهرا بلكمها وهو يقول بغضب غير حقيقي
توقفي عن دراما النساء تلك يا دكتورة لم أغب سوى بضعة أيام ألا يحق لي في بضعة أيامٍ من شهر العسل يا آخر صبري وأول همي ؟
نظرت إليه مروة بعينين واسعتين حائرتين ثم اقتربت منه وسألته بصوتٍ خافت
شهر عسل ؟! هل سويت خلافك مع شغف بهذه السرعة بعد أن طردتها من البيت ؟!
تجنب خاطر الرد عليها وسألها ناظرا الى الغرفة خلف كتفها
كيف حال والدك ؟
ردت مروة مغتاظة من محاولاته التهرب من الجواب
بخير الحمد لله وهو مستيقظ في سريره , تعال لتراه
أمسك بمعصمها قبل أن تتجه الى غرفة والدها واخرج حافظة نقوده من يده قائلا بخفوت
انتظري يا مروة قبل أن أدخل إليه , أعرف أنكم في حاجةٍ ماسة للمال منذ أيام سأعطيكِ الآن مبلغا , صحيح أنه ضئيل لكن خلال الأيام القادمة س
قاطعته مروة تقول بحيرة
ما هذا الكلام يا خاطر ؟! هل نسيت أنك أرسلت لنا المال منذ أيام ؟!
توقف خاطر عما يفعل ونظر اليها قائلا ببطء
أرسلت ماذا ؟!
ردت مروة بحيرة أكبر قائلة
منذ ثلاث أيام تقريبا , جاء شخص الى هنا وقال أنه من طرفك وأعطانا مبلغا كافيا من المال وقال أنك ترسله لنا
فغر خاطر فمه وهو يهتف بغضب و عدم تصديق
هل جننتِ يا مروة ؟! كيف تقبلين بالمال من غريب لمجرد أنه قال أنه من طرفي ؟!
ردت مروة بتردد وقلق وهي تلوح بكفيها
كيف أشك فيمن يعطي مالا ويقول أنه منك ؟! لماذا أفكر أن يدعي أحدا معرفتك ليعطينا مالا ؟!
شتم خاطر بصوتٍ خفيض وهو يرفع رأسه بعينين مظلمتي الخضار وفي ذهنه اسم واحد فقط يستطيع الإقدام على ذلك
ثم نظر الى مروة وأمرها بصوتٍ قاطع حانق
ادخلي و احضريه حالا هيا
بهت وجه مروة وهي تشبك أصابع كفيها بتوتر متلعثمة في كلماتها مما جعل خاطر يقول بصوتٍ خفيض خطير
لا تخبريني أنكم قمتم بصرفه ؟!
فتحت مروة فمها وتكلمت بعجز
أنا لم أصدق أنك أرسلت المال أخيرا يا خاطر , منذ فترة توقفت عن الدروس و انتابني اليأس لكن مع امساك المال في يدي سارعت بدفع ثمن حصص كل المواد بلهفة واشتريت أدوية والدي
سألها خاطر بنبرة بطيئة قاتمة
وماذا ؟
صمتت قليلا ثم تابعت بصوتٍ مترجٍ كي يعذرها
اشتريت فستانا أنا آسفة جدا , لا أعلم كيف أقدمت على هذا وكان يجدر بي أن أدخر كل قرشِ متبقي تحسبا للأيام المقبلة لكن ضعفت وأنا لم أشتري أي قطعة ملابس منذ عام
عضت على شفتها وهو ينظر إليها صامتا , فتابعت بتوسل وهي تمسك بمعصمه
سامحني يا خاطر أرجوك
ظل خاطر صامتا وهو يشعر بقدميه ثقيلتين وكأن حملا فوق كتفيه يجذبه لأسفل وفي لحظات الصمت تلك جاءت عاصفة من خلفه تجري وهي تهتف
خاطر شكرا لك جدا
شعر بذراعين طريتين تلتفان حول خصره من الخلف ووجنة مكتنزة ترتاح على ظهره وصوت شيماء يتابع هتافها الحار
شكرا على هديتك من كل قلبي
عقد خاطر حاجبيه قبل أن يمسك بمعصميها يفكهما عن خصره ويجذبها لتقف أمامه قبل أن يسألها بحذر
أي هدية يا شيماء ؟!
ثم نظر الى مروة التي ازدادت ملامحها قلقا وتطوعت هي للرد بخفوت
الرجل الذي جاء بالمال , كان يحمل معه هديتين الى كل من مكرم وشيماء لعبة الكترونية لمكرم ومصفف شعر لشيماء
فغر خاطر فمه قليلا , بينما سمع صوتا آخرا يهتف من الخلف بفرحةٍ غامرة
ها قد عاد بطل البيت المغوار محقق السعادة , صانع الفرحة مبهج القلوب
وقف مكرم أمام خاطر ثم رفع اصبعي السبابة وهو ينظر الى السماء متابعا
أجبر الله بخاطرك يا خاطر كما أجبرت بخاطرنا وكتب لك في كل خطوة سلامة وهنيئا لك يا فاعل الخير و الثواب في إخوتك
رفع خاطر عينيه الى عيني مروة ثم سألها ببطء
وماذا عنكِ ؟! ألم يحضر لكِ الفارس المجهول هدية أنتِ أيضا ؟!
ظلت صامتة بعجزٍ تام وقد بان اليأس على ملامحها فأخفضت وجهها مما جعل خاطر يسألها بنبرة قوية جعلتها تنتفض
ماذا أحضر لكِ يا مروة ؟!
ردت بنبرةٍ خفيضة دون أن ترفع وجهها
سماعة طبيب
ضاقت عينا خاطر وهو ينظر الى وجهها المنحني طويلا ثم سألها أخيرا بفتور
سمعت مرة أن سماعة الطبيب غالية الثمن جدا فهل هي من هذا النوع الغالي ؟
لم تتحرك للحظات , ثم اضطرت الى أن تومئ برأسها ببطء فسألها خاطر مجددا
هل هي جديدة ؟!
ردت عليه بسرعة و تهور
بل مستعملة لكن استعمال نظيف جدا
ثم صمتت فجأة و أخفضت وجهها مجددا بينما راقبها خاطر طويلا , فهتفت شيماء بعينين تلمعان بسعادة
لم أحصل يوما على هدية كهذه يا خاطر أنه ينام بجواري على الوسادة كل ليلة من شدة فرحتي به
هتف مكرم يقول بلهفة
وأنا أيضا لم أكن لأحلم بهدية كهذه بعد المسدسات البلاستيكية التي كنت تشتريها لي في كل المناسبات
نظر خاطر إليهما بصمت فهاذين الإثنين لم يعيشا طفولة مرفهة أبدا , صحيح أنهما تلفحا بالستر لكن الرفاهيات كانت محرمة عليهما لم يعرفا ناديا أو رياضة لم يجربا الألعاب الحديثة أبدا
واتضح الآن أن كل ما أحضره لهما يوما لم يكن سوى قطعا بلاستيكية رخيصة لا قيمة لها
تكلم خاطر أخيرا قائلا بهدوء
مكرم اذهب الي الغرفة أنت وشيماء أريد مروة بمفردها
نظر اليهما بفضول وحيرة الا أنه استمع لما قاله خاطر وأمسك بذراع أخته ليدخلا من حيث خرجا وبقي خاطر ناظرا الى مروة طويلا ثم سألها قائلا
تعرفين ممن سماعة الطبيب يا مروة
لم يكن سؤالا , بل اقرارا الا أنها همست تجيب بخفوت
كيف لي أن أعرف ؟!
لم يرد خاطر على الفور .ثم قال أخيرا
عيب يا دكتورة لست أنتِ من يدعي الغباء
رفعت وجهها تنظر إليه و قالت بشجاعة زائفة
حسنا السماعة من شغف الهدايا من شغف والمال منك فلم أفكر في الرفض
رد خاطر ببطء
ومن أين لي بمبلغٍ كهذا في مثل هذا الوقت القصير ؟!
هتفت مبررة و هي تلوح بكفيها
لا أعلم وإن كانت من شغف فما المشكلة وهي زوجتك ؟!
هدر خاطر فجأة قائلا
حتى وإن كانت زوجتي لم أكن لأسمح لها بأن تنفق على أسرتي
انتفضت مروة الا أنها هتفت تواجهه
وما أدراني بمشاكلكما يا خاطر ؟! كل ما أعرفه أننا نحتاج الى المال
هتف هو أيضا بغضب
ومنذ متى تخليت عنكم ؟!
هتفت مستاءة وهي تنظر إليه بتوسل
وكيف لي أن أعلم أنت تغيرت منذ تزوجتها , فظننت أنك لن ترسل مالا لفترة طويلة
صمت خاطر للحظة ثم سألها بنبرة باهتة
هل حقا تصدقين ما تقولين يا مروة , أم أنكِ ببساطة شعرتِ بالإغراء أمام المبلغ الكبير والذي سيحل مشاكل أسابيع مقبلة دون قلق أو خوف
نظرت اليه مروة وهمست
وهل تلومني يا خاطر أن قبلت المال وتظاهرت بالتصديق أنه منك بينما في قرارة نفسي أعرف أنه من زوجتك ؟! ليست جريمة كبيرة يا خاطر , في النهاية هي زوجتك
أومأ برأسه وهو يطبق شفتيه بملامح قاتمة ثم قال بعنف مكتوم
منذ أيام طردتها من البيت , ألم يخبرك هذا بأن الوضع حرج بيننا ؟!
هزت مروة كتفيها وعادت لتخفض وجهها هامسة
والآن تقضي معها شهر عسل
رفع خاطر حاجبه وقال بعنف أشد
لكنك بعقلك تدركين و بعينك ترين أن هذا الزواج يعاني خطبا , لذا لا يصلح أن نقبل منها المال
رفعت وجهها و نظرت اليه و سألت
( اذن لماذا أنت معها حتى هذه اللحظة ؟!
صرخ خاطر وهو يضرب بقبضته على سطح الطاولة
لأسبابٍ تخصني أبقى معها لأسبابٍ تخصني لا علاقة لها بالمال ولا يحق لأحد أن يحاكمني بعد كل ما قدمته لهذه الأسرة انظري الى هاتين الورقتين يا مروة انظري اليهما
ثم رفع لها الورقتين اللتين أخرجهما من حافظته ثم صرخ فيها
إنهما أجري كحمَالٍ بالأجرة في يومين كي لا يحتاج أي منكم الى غريب و حتى أجد عملا حقيقيا
تراجعت مروة خطوة وهمست بجزع أمام فورة غضبه
لا أحاكمك يا خاطر ولم أفعل يوما أنا فقط أنا شعرت بثقل النقود بين أصابعي للمرة الأولى ولم أشعر بهذه اللذة منذ منذ أن ابتعنا الحاسوب , كان هذا أكثر أيام حياتي سعادة
صمت خاطر تماما وهو يلهث بتعبٍ وإجهاد ثم قال بعد فترة طويلة يخاطبها , أو ربما يخاطب نفسه
ليتنا ما ابتعناه ليتنا ما فعلنا
سمعا معا صوتا متعبا ينادي باسمه فتسمر مكانه للحظة قبل أن تهمس مروة بعينين دامعتين
أبي يناديك
نظر إليها نظرة طويلة وهو يستند بقبضته الى سطح الطاولة ثم دون كلمة استقام و دخل الى غرفة والده
توقف خاطر عند الباب للحظة ينظر الى والده الممد في الفراش ثم اقترب منه حتى انحنى ليقبل جبهته وكفه قائلا بصوتٍ خفيض
كيف حالك يا حاج أعرف أنك غاضب لتأخرى عن زيارتك بضعة أيام
لم يرد عبد السميع على الفور ثم قال أخيرا
المهم أنك هنا وعدتني الا تتخلى عن إخوتك
جلس خاطر على حافة السرير ممسكا بكف والده متنهدا ثم قال ساخرا
حتى حين حاولت فشلت
شعر فجأة بأصابع والده تشد على يده فنظر الى وجهه المتجهم قبل أن يقول يصوته المجهد الذي فقد عنفوانه و فظاظة الماضي
أريد أن أقول لك شيئا يا خاطر ربما كنت عنيفا معك فيما مضى , وضعت على كتفيك حملا أكبر مما تحتمل زدت الضغط عليك أفرغت بك من شقاء الأيام غضبا و حدة لكن لكن لطالما كنت بالنسبة لي أكثر من عرفت حفاظا على كرامته أمام الجميع
ضحك خاطر ضحكة لا تحمل أي مرح ثم قال بخفوت
أي كرامة يا حاج أنت لا تعلم ما الذي قابلته كل يومٍ من أيام العمل
شدد عبد السميع على كف ابنه أكثر وهتف بصوتٍ جاد خافت
قمة الكرامة , أن تتحمل وتبقى شريفا في عهدٍ كهذا الذي نحياه
رفع خاطر عينيه الخضراوين الى عيني والده ثم سأله ببطء
ما الداعي لهذا الكلام الآن يا حاج ؟!
رد عبد السميع قائلا بغلظة
لا تفقد ما تملك لأجل من لا تملك يا خاطر فهمتني يا ولدي ؟
أسبل خاطر جفنيه و ظل صامتا حتى قال أخيرا بصوتٍ متحشرج
أنا ارتبطت بها يا أبي ارتباطا وثيقا ارتبطت روحي بها وبت غير قادرا على التخلي عنها
تنهد والده برفق وهو يرفع يده ليربت على وجنته قائلا
لا أظنها ستكون لك يا خاطر بل لم أظنها كانت لك من البداية
أغمض خاطر عينيه بقوة بينما اشتدت شفتاه تصلبا وهو يهتف من بينهما بقسوة
لماذا ؟! لماذا ألقت بها الحياة في طريقي اذن تبا لها وللخلل الذي أربكت به حياتي , كنت بالكاد أمضي أيامي فلماذا أتعثر بها
صمت والده للحظات ثم قال بصوتٍ أجش
لا نملك أجوبة على كل ما لا نفهم لكن على الأقل انتفض وارفض ما تشعر في قرارة نفسك أنه ليس لك
فتح خاطر عينيه العميقتين ونظر بعيدا وفي قرارة نفسه يدرك أن النهاية قد اقتربت لا محالة
مهما حاول مقاومة التيار
بعد خروجه من بيت والده طرأت له فكرة جعلته يتسمر فوق درجات السلم , فأخرج الهاتف الذي ابتاعته له بحجة أن تصل إليه ما أن تحتاجه
ثم أخرج من حافظته ورقة طلب الرقم المدون بها و كان رقم المسؤول عن قضيته الخاصة بإيصالات الأمانة التي وقع عليها ولم يحتج الأمر منه سوى بضعة دقائق من الأسئلة
حتى أدرك ما كان يشك به لقد تم تسديد قيمة إيصالات الأمانة بالكامل !!! .....
أغلق خاطر الخط ثم طلب رقما آخر وما أن وصله صوتها العميق الرنان ذو الابتسامة الهادئة
حتى قال آمرا دون مقدمات
أريد أن أراكِ حالا
ردت عليه بنبرة عابثة ذات دلالٍ خاص
الا تنتظر حتى الليل يا زوجي العزيز ؟! هل هاتفك الشوق و أربك كيانك في تلك اللحظة تحديدا ؟!
هدر فيها بقوة
أريد أن أراكِ حالا يا شغف
ردت عليه بهدوءٍ قاطع
تعال الى شاطئ البحر أنا أجلس هناك
أغلق الخط بقوة وهو يزفر بنفاذ صبر قبل أن يستند بمرفقيه الى حاجز السلم ناظرا الى الدوائر الممتدة لأسفل في هيئة طوابق وكأنها دوامة تبتلعه في شرود كئيب
من المفترض به أن يرتاح لكن على العكس , إنه الآن ينظر الى الدوامة التي تحاول شغف إغراقه فيها ببطىء درجة تلو الأخرى نزولا حتى القاع
استمرت وقفته طويلا و تحديقه في القاع يصيبه بالدوار حتى انتصب ليدخل الورقة في حافظته لكن وقعت منها ورقة أخرى على درجات السلم فانحنى ليلتقطها وهو يقرأ ما فيها عاقدا حاجبيه ثم رفع رأسه مفكرا طويلا ووجد نفسه يعاود اخراج الهاتف ليتصل بالرقم المدون في اتصال ثالث
وكان الصوت صوت امرأة صوت امرأة وقورا مما جعله يتردد وتساءل عن هذه الحماقة التي يرتكبها لقد أوصاه والده للتو أن يحافظ على المتبقي من كرامته , وها هو يلقي به من أقرب نافذة .
حين سألت المرأة مجددا عن هوية المتصل , اضطر الى إجابتها بصوتٍ أجش قوي النبرات
السلام عليكم أنا ربما لا تتذكريني , لكن كنتِ قد أعطيتني رقمك , أو على الأصح رقم المرحوم زوجك بعد أن
صمت وهو يحك جبهته بحرج , ثم تابع قائلا بصوتٍ مقتضب
بعد أن حملت لكِ أسطوانة الغاز احم كان هذا منذ
قاطعته قائلة بهدوء
عامل توصيل الطرود الذي جمل لي أسطوانة الغاز اثني عشر طابقا
صمت خاطر للحظة ثم قال متعجبا
لم أظنك ستتذكرين
ردت السيدة وفي صوتها نغمة ابتسامة هادئة وهي تجيبه
المعروف لا يُنسى يا عامل توصيل الطرود
........
على خط الأمواج المتكسر على الرمال إحداهما تهمس سابقني الى ما لا نهاية و الأخرى تصرخ اندفع الى ماء تعال و لا تأبه لأحد وعلى الرمال يقف اثنان أحدهما يسابق و الآخر يبتسم
لم تحتج عيناه أكثر من لحظتين حتى وجدها جاثية على ركبتيها فوق الرمال الرطبة كانت وحيدة هناك و تبدو كبقعة ملونة في هذا الفراغ هادئ الألوان
بفستانها الأسود والوشاح الأحمر حول عنقها وكتفيها وشعرها المتطاير من حول وجهها
أصابعها تجمع الرمال و تلعب بطفولية و على شفتيها ابتسامة واسعة لم يرها حتى اقترب منها وغطاها بظله
يستطيع الوقوف مكانه دهرا فوق الدهر وهو يراقب تلك الابتسامة على شفتيها لكنه تنهد سائلا أخيرا بصوتٍ أجش
ماذا تفعلين يا شغف ؟!
أجابته بصوتٍ مرتاح دون أن ترفع وجهها إليه ودون أن تفقد ابتسامتها
أبني قلعة تعال و ساعدني
أغمض خاطر عينيه وهو يكتم نفسا ساخنا في صدره , محاولا السيطرة على عمق مشاعره
الا أنه تمكن من القول أخيرا ببطء
انهضي وكلميني
لكنها استمرت في بناء القلعة بهمة ونشاط ثم قالت بهدوء
تكلم أنا أسمعك
الا أن صبره كان قد عيل فانحنى ليمسك بذراعيها وجذبها بكل قوته حتى وقفت على قدميها بالقوة فداست على القلعة وهدمتها
نظرت الى موقع قدميها ثم صرخت بحزن
انظر ماذا فعلت !
هزها خاطر بقوة وهو يهتف محتدا
شغف اسمعيني جيدا , ابتعدي عن أسرتي
عقدت حاجبيها وسألته ببراءة
ماذا فعلت ؟!
أغمض عينيه مستغفرا ربه ثم نظر الى عينيها قائلا من بين أسنانه وهو يهزها مرة أخرى
لن ترضي شغفك المريض عن طريق تكبيل أسرتي بخدماتك المادية
ارتسمت على شفتيها ابتسامة أنيقة وهي تسأله بعفوية
فقط أنتِ ؟!
اشتد ضغط أصابعه فوق لحم ذراعيها بقسوة وجذبها إليه حتى اقترب وجهها من وجهه و كاد أن يلامسه فهمس ببطء
ماذا أخذت منك ؟! المال ورفضته المنزل و فعلت ما تريدين إرضاءًا لانتقامك الجنسية ونسيت كل شيء عنها فقمتِ بالدفع بالقوة الجبرية , لكنك بهذا الشكل لا تلعبين اللعبة بإنصاف يا شغف علي أن أقبل لا أن تتحركي سرا وتقنعي نفسك أنني بعتك نفسي , لقد تنازلت عن كل شيء ولم يتبقى سوى
صمت متنفسا بقوة وأنفاسه تداعب بشرة وجهها وهي تسمعه مبتسمة ثم تابعت بعد سكوته
لم يتبقى سواي
أومأ برأسه ببطء شديد وكرر
لم تبقى سواكِ أنتِ كل ما حصلت عليه وكل ما أبتغيه أنا أحبك يا شغف
نظرت شغف الى السماء البعيدة مبتسمة وشعرها يطير حول وجهها بجنون , فهمس خاطر وهو يلامس وجنتها بشفتيه هاتفا بقوة
لا تفسدي ما قلت بكلمة واحدة من كلماتك البغيضة . فقط لا تفعلي الآن
نظرت اليه مبتسمة ثم همست له برقة
سابقني
عقد خاطر حاجبيه وهو يسألها بحيرة
ماذا ؟!
لكنها كانت قد أفلتت من بين كفيه وانطلقت تجري لتستدير هاتفة بضحك عالٍ
سابقني
سُحِرت عيناه برؤيتها وهي تجري فوق الرمال وثوبها يتطاير فوق ركبتيها و شعرها كغيمة من خلفها ساقاها في جمال المرمر ووجد نفسه يبتسم ليتحرك ببطء ثم تسارعت خطاه تدريجيا حتى بدأ يهرول وانطلق يجري خلفها يحاول اللحاق بها بينما هي تلتفت ناظرة إليه و كلما وجدته يقترب حتى صرخت بجنون ضاحكة وزادت من سرعتها حتى لحق بها و أمسك بخصرها بكل قوته و رفعها عن الرمال مما جعلها تتعلق بعنقه فأنزلها ببطء و كل ثناياها تلامس جسده القوي حتى تلاقت أعينهما و كلا منهما يلهث بجنون و على شفتيه ابتسامة فاغرة حتى همست أخيرا بصوتٍ رقيق
لا تتركني أبدا يا خاطر سابقني , إلحق بي ولا تتركني