الفصل ١٢

كان من بين أحاديثه المرحة أحيانا و الجادة أحيانا أخرى مع والدها في غرفة المشفى يختلس النظر إليها في لمحة وأخرى
مراتٍ كان يتابع حواره بعدها بسلاسة , ومراتٍ كان يتلجلج في الكلمات و تتعثر الأحرف على شفتيه للحظة
لا يمكن لرجل مثله أن يخطئ نظرات الإعجاب في عيني امرأة أبدا ومع ذلك نظرات هويدا مختلفة
لم تكن كنظرات مراهقة هائمة مع ابتسامة حمقاء على شفتيها ! بل كانت عادة ما تنظر إليه بحاجبين منعقدين وعينين ضيقتين شديدتي التركيز و كأنها تقوم بحل المعضلة الأكثر صعوبة في الكون !
وكأن الحرف الذي ينطقه , تسجله و تردده مرارا قبل أن ينطق الحرف التالي
ملامحها المتجهمة وهي تنظر إليه بعمق لهي أكثر الملامح ولها رآها في حياته كلها
وحين يفلت زمام الأمور من بين يديها تماما , تخرج من بين شفتيها ضحكة غير مُسَيطَر !
أخفض وجهه قليلا وهو يتكلم ملامسا أصابع راحتيه ببعضهما , وقد فاجأه شعورا محرجا صادما بال رضا !
أمام هذا الاعتراف شعر بالغضب من نفسه بل بالصدمة !! , كيف له أن يحس إحساسا مماثلا مستغلا مرض انسانة شديدة الطيبة مثل هويدا ! لكن لم يملك حيلة , فنظراتها تجعله يشعر أنه الرجل الأهم في الكون بل الوحيد
حمدا لله أن أفكار البشر مخفية فلن يشرفه أن يطلع أحد على حقيقة أنانية مشاعره
الامتنان هذا هو الشعور الوحيد الذي ينبغي له أن يشعر به تجاه هويدا لا غير
نعم إنه الامتنان فقط
رفع رأسه على صوت رنين هاتف عبد السلام , الذي أجاب بصوتٍ وقور ثم نظر إليهما و تمتم قائلا على مضض وهو يرمقهما غير مرتاحا
مضطر للإجابة على هذا الاتصال سأترككما دقيقة
ثم خرج وهو ينظر إليهما بطرفِ عينيه يود لو يخبره أن يغادر فقد أدى الواجب وأكثر لكنه على ما يبدو ينوي أن يمكث قليلا بعد !
سمع ساهر صوت باب الغرفة يغلق بعد خروج عبد السلام , فشعر بالراحة و اغتنم الفرصة ليتكلم مع هويدا فمال للأمام مستندا بمرفقيه الى ركبتيه وهو ينظر إليها قائلا بصرامة محدقا بعينيها
اذن !
أجفلت هويدا من شرودها المتجهم في وجهه , والعالي التركيز جدا ثم انتبهت الى كلمته فأجابت بتردد دون أن تبتسم
اذن ماذا ؟!
لم يبتسم ولم تلن ملامحه , بل تابع بنفس الجدية الغاضبة
سبق و طلبت منكِ الا تقودي السيارة فلماذا فعلتِ ؟!
عقدت حاجبيها أكثر قليلا و هي تنظر إليه بطرف عينيها , ثم فتحت فمها تنوي قول شيئا الا أنها على ما يبدو غيرت رأيها و قالت شيئا آخر فتكلمت بتردد
وهل يفترض بي أن أمتثل لطلباتك ؟!
تراجع وجهه قليلا وارتفع حاجباه وهو يشعر بأنها قد أحرجته للتو , ولم يتوقع هذا منها مطلقا
لذا تنحنح مخففا من خدش كبريائه وقال بصلابة
حين يتعلق الأمر بسلامتك , أعتقد أن عليكِ الامتثال لمن
صمت فجأة عاقدا حاجبيه متجنبا النظر إليها , الا أنها حثته سائلة
الامتثال لمن ؟!
تنحنح مجددا ! وحاول الكلام بصورة طبيعية وكأن ما يقوله عفويا تلقائيا كي لا تأخذ كلامه بمعنى آخر وتتعلق بالأوهام أكثر
لمن يهتمون بسلامتك
ظلت تنظر إليه للحظات متجهمة من تحت نظارتها ذات الإطار الأسود , مركزة بقو ثم قالت ببطء
( حين يتعلق الأمر بسلامتي , عليً الامتثال لمن يهتمون بسلامتي أنت لا تجيد الكلام في مواقف الواجبات الاجتماعية !
ضحك ضحكة مهتزة , مع شعورا بالراحة لتفسيرها البسيط والذي جانب الصواب في الواقع
فقد كان سيقول
حين يتعلق الأمر بسلامتك عليكِ الامتثال لمن يهتمون بكِ والفارق ضخم جدا لمن يريد أن يراه ضخم أو ربما هو وحده من يراه ضخما !
عاد يهز رأسه منفعلا من تناقض أفكاره ومشاعره ثم نظر إليها و قال بعد لحظات بصوتٍ جاد ثابت
هويدا لماذا لم تحترمي النصيحة ؟
لازالت تنظر الى عينيه مدققة وهو من يحيد بعينيه ثم قالت أخيرا بتردد و كأنها تكلم مخبولا
أنت لم تطلب مني ألا أقود بل طلبت مني الا أقود وأنا في مثل هذه الحالة , وكنت متكدرة قليلا وقتها
شيء آخر جذاب فيها شيء غريب جدا
هو ذاك الصوت الأجش !
صوتها ليس أنثويا ناعما كصوت طفلة , بل هو صوت أجش قوي النبرات حين تقرر الكلام في عبارة طويلة ثابتة وهذه النبرة أكثر جاذبية من النبرات الأنثوية ذات الغنج والدلال
تنحنح للمرة الثالثة وهو يشتم نفسه حيال غباء أفكاره ثم قال مدعيا الهدوء و الاتزان
اذن ها أنا أطلبه منكِ صراحة
صمت للحظة , ثم مال للأمام مجددا ناظرا الى عينيها متابعا , مشددا على كل كلمة بجدية
لا تقودي السيارة مجددا يا هويدا
لم تتغير ملامحها وهي تسأله بنبرة بدت خطيرة كمن يريد تهديد من يعارض
أتظن أنني غير مؤهلة للقيادة ؟! وأن ظروفي لا
رفع ساهر اصبعه يلوح به نفيا وهو يقول بصرامة
لا هذا أسلوب الضغط العاطفي هذا لن يفلح معي , فأنا لست والدك يا طائر الهدهد لن تنجحي في إشعاري بتأنيب الضمير ومراجعة كلماتي كي لا أجرحك خوفا على فتاتي المدللة مرهفة الحس
ارتفع حاجباها متفاجئة فشعر بالرضا أكثر وقد نال منها ثم لم تلبث أن ضحكت ضحكة عالية قوية , الا أنها سرعان ما تأوهت بعنف من الوجع الذي لحقها مما جعل ساهر يميل إليها سائلا بجدية وقلق
هل تتألمين ؟!
رمقته بطرف عينيها المغضنتين , فابتسم بحرج وهو يتابع بخفوت
سؤال غبي جدا اذن هل استدعي لكِ طبيبا أو ممرضة ؟
هزت رأسها نفيا وهي تهمس لاهثة
لن يتمكنوا من فعل شيء فمنذ إفاقتي بعد الخروج من غرفة الجراحة أخذت قدرا من المسكنات قادرة على إرقاد سبعة أحصنة لكنني لازلت اتألم
قطب ساهر جبينه وهو يرى جبهتها بدأت تتعرق , حتى أنها خلعت نظارتها و ألقت بها بإهمال فوق الطاولة المجاورة ودون أن يشعر امتدت يده وكأنه ينوي مسح قطرات العرق عنها , لكنه سرعان ما استوعب ما كان ناويا على فعله , فابعد يده بسرعة قبل أن تمسها ذاهلا , و حمد الله أنها كانت مغمضة العينين من الوجع فلم ترى يده الممتدة الى جبهتها !
تنحنح للمرة الرابعة , ثم سألها بعد فترة و قد تمالك نفسه
متى دخلت المشفى بالضبط ؟ وماذا حدث ؟
ظلت هويدا صامتة للحظات دون أن تفتح عينيها ثم لم تلبث أن فتحتهما ببطء ناظرة الى السقف وأجابت ببطء بصوتها الأجش
ليلة أمس كنت أتجول بسيارتي قليلا , فلم أنتبه في الظلام الى عابرٍ مر أمامي فجأة مما جعلني أحيد بقوة وارتطم بشجرة أعتقد أنني أصبت بالإغماء بعدها و حين أفقت وجدت نفسي وقد خرجت من غرفة الجراحة وعبد السلام في انتظاري
ساد صمت قصير ,و قد أظلمت عيناها بحزنٍ شديد حتى أنها رفعت يدها الى صدرها الممزق لكن ساهر لم يلحظ حركتها وهو يقول بخفوت
أستطيع تخيل ما شعر به وقتها
نظرت هويدا إليه , ثم همست بصوتٍ ثقيل
لا لن تستطيع , فأنت لم تفقد زوجتك التي لم تعشق امرأة غيرها في حياتك ولم تترك لك منها , سوى جزئا من الكل جزئا ضعيفا , معطوب النفس لكنه بات سببا لتمسكك بالحياة بعد أن كنت تتمنى اللحاق بها من شدة الألم هذا الجزء هو أنا لذا خوفه من أن يفقدني يجعله يعاني كل يوم في اسبوعه وكل ساعةٍ في هذا اليوم لكنه في نفس الوقت من أكثر الرجال قوة وإرادة فلم يسمح لهذا الخوف أن يمنعني من الحياة والسفر والقيادة , كاتما مخاوفه ببسالة كي لا ينقصني أي شيء عمن حولي
اكتشف أنه مفتونا بهذا الصوت الأجش و هي تتكلم بهذه الطريقة عن والدها لا يعلم هل والدها المحظوظ بها أم أنها هي المحظوظة
ابتسم ساهر بنفسه مفكرا حتى على المرضِ لا تخلو من الحسدِ !
لكن هويدا ووالدها حالة خاصة جدا من البشر , يستحقان الحسد بكل تأكيد , و لا علاقة للحسد بالمادة أبدا
بل لأنهما يمتلكان ما لا يملكه معظم البشر حتى حب والده لأمها قصير العمر على ما يبدو , لكنه عاش فيه ما لم يعشه الكثيرون في حياة طويلة
راقب عينيها تنغلقان بضعف وتألم فخاف أن تنام بهذه السرعة ! مما جعله يسألها بسرعة
أخبرني السيد عبد السلام أن الجراحة بسيطة , وأنها لن تترك أثرا
ابتسمت على الرغم من شعورها بالنعاس وقالت بصوت هامس
نعم سمعته كنت معكما في الغرفة
شعر بالحرج مجددا , وكأنها مصممة اليوم أن تلزمه حده لكنه لم يستطع أن يكبح ابتسامة لاحت فوق شفتيه
سرعان ما اختفت وهو يصعق فجأة ناظرا الى خطين من الدموع انسابا من تحت جفنيها المطبقين فسأل مجددا بقلق
هل تتألمين الى هذه الدرجة يا هويدا ؟! ربما ينبغي أن
لكنها قاطعته قائلة بصوتها الأجش المختنق
نعم أتألم بشدة , و سبق أن أخبرتك , بأنه لا أحد يمكنه أن يخفف ألمي
شعر بأنها تقصد شيء آخر , شيء يعرفه متأكد منه
وعلى الرغم من أنه كان ينبغي به أن يصمت تماما , الا أنه سألها بخشونة
أين ذهبتِ بسيارتك ليلة أمس يا هويدا قبل الحادث مباشرة ؟
فتحت عينيها تنظر إليه بفزع فاغرة فمها قليلا من نبرة التحقيق في صوته , مما جعل نبضها يتسارع بجنون
لكن وقبل أن تجيبه وصله صوت عبد السلام يقول ببساطة
يفترض بك أن تكون مع عروسك في هذه اللحظة يا ساهر , لا نريد أن تبدأ حياتك في المشافي , فقد لا يكون هذا فألا حسنا
شعر ساهر وكأن دلوا من الماء البارد قد سقط على رأسه لكنه تمالك نفسه سريعا وقال متظاهرا بالمزاح
يفترض بنا فعلا أن نكون سويا في هذه اللحظة , في العمل فبعد الأيام التي تغيبتها , و بما أنها استلمت العمل منذ يومين فقط فكلا منا لم يستطع الحصول على إجازة لشهر العسل
وهو ينطق كلمته الأخيرة كان ينطقها بمرارٍ كالعلقم ونظرة عينيه على عيني هويدا المغمضتين , بينما قال عبد السلام بجدية
يمكنكما أخذ أربعة أيام مدفوعة الأجر هدية مني لكما هيا اذهب الى الشركة واصطحب زوجتك واسعدا ببداية حياتكما
انعقد حاجبا ساهر بشدة وهو ينظر أرضا , أما هويدا فهتفت فجأة بألم و بنبرة أجفلت ساهر في مكانه
أبي أنا أتألم
اقترب منها عبد السلام حتى وقف بجوارها ومد يده يمسح مقدمة شعرها بحنان قائلا
ابنتي القوية لا تهتف بهذا الشكل يا طائر الهدهد ستكونين بخير
أبعدت وجهها الى الجهة البعيدة عن ساهر وقالت لاهثة دون أن تفتح عينيها
أرجوك استدعِ أحدا أحتاج الى المزيد من المسكن
وجد ساهر نفسه ينهض من مكانه قائلا بصوتٍ باهت أجوف
ينبغي بي المغادرة بالفعل أعتذر إن كنت قد أرهقتك
لم يرد عبد السلام وهو يتابع ملامسة شعر ابنته , ولم تفتح عينيها و تنظر إلى ساهر فأدرك كم كان ظالما قاسيا في مجيئه الى هنا بل أقرب الى التوحش في إيذاء مخلوقة كهذه
نهض ساهر ببطء وهو يلقي عليها نظرة أخيرة حزينة ثم استدار عنها متجها الى الباب , لكن و قبل أن يخرج دخل الى الغرفة رجلا متجهما دون أن يطرق الباب , سائلا دون ترحيب
ما الأمر يا عمي ؟ ما الذي حدث ؟ أخبرتني أمي بما حدث منذ ساعة
سأله عبد السلام بنبرة من يمضغ حبة الحبهان
ما دامت أخبرتك بما حدث فلماذا تسأل ؟
زم الرجل شفتيه ممتعضا , بينما تمالك عبد السلام نفسه ونظر الى ساهر قائلا باقتضاب
الا زلت هنا يا ساهر ؟! اذن أعرفكما , ساهر هذا محسن , محسن هذا ساهر
نظر كلا منهما للآخر بصمت و فضول من جهة ساهر , ونظرة لا مبالية تحوي بعض التعجرف من جهة محسن وحين ساد الصمت طويلا , تابع عبد السلام على مضض
ابن خالة هويدا
أومأ ساهر مرحبا , الا أنه كان يومئ للفراغ فقد أشاح محسن بوجهه دون اهتمام ناظرا إلى هويدا و يداه في خصره سائلا بفظاظة
والآن ماذا فعلتِ بنفسك ؟!!
رفع عبد السلام يده الى فكه وهو ينظر الى سقف الغرفة طالبا الصبر و القوة على تحمل هذا اللزج مذكرا نفسه بمحاسنه والعجيب أن اسمه محسن , يبدو أنه كان أمنية لم تتحقق مع الأسف
فتحت هويدا عينيها الحمراوين ببطء تنظر الى ساهر الواقف خلف محسن ثم قالت متابعة تخاطب ساهر متجاهلة سؤال محسن الفظ بصوتٍ أجش خفيض
وخطيبي
ساد صمت فوق رؤوس الجميع داخل الغرفة بعد إعلانها الضعيف , مما جعل والدها ينظر إليها مصدوما عاقدا حاجبيه بشدة , رافضا الرد بينما تفاجأ محسن فاغرا فمه للحظات , وعينيه لم تبديا الفرحة بقرارها مطلقا أما ساهر فقد نظر إليها ذاهلا , وهي بادلته النظر للحظة مبتسمة على الرغم من عينيها الحمراوين والدموع البادية بهما , ثم قالت برفق مخاطبة محسن
وهذا المهندس ساهر , زميل لي من أيام الدراسة و
لكن محسن قاطعها يقول بحدة
الى متى سيظل كل ما تقومين به , تهورا غير مدروسا فكري ولو للحظة , استخدمي عقلك قليلا و
لم يبقى ساهر لسماع المزيد بل اندفع خارجا من الغرفة محترما قرارها , فقد وضعت هويدا النهاية الشجاعة لأحد أعراض حالتها الهوس الغير منطقي بشخص ما
لكن لماذا يشعر الآن بمثل هذا الإحباط عوضا عن الشعور بالراحة !
أما عبد السلام فبعد خروج ساهر من الغرفة , اندفع الى محسن ممسكا بمقدمة قميصه فجأة متكلما من بين أسنانه
اسمع يا ولد أنا لا أطيقك منذ أن كنت طفلا , أعود من عملي لأجدك جالسا مكاني تتناول في طبقي و خالتك تطعمك في فمك , وكنت أتحملك إكراما لها فقط ولازلت أتحملك بعد وفاتها إكراما لذكراها , بينما أنا لا أطيقك و أكتم في نفسي لكن أن تهين ابنتي بهذا الشكل وأمام أحد زملائها فهذا الذي لن أسمح به مطلقا
أمسك محسن بقبضة عبد السلام المتشبثة بقميصه بقوة وقال بحرج متلعثما
وحد الله يا عمي أنا لم أقصد , لكنك مؤكد توافقني الرأي في أنها تتخذ قرارات متهورة دون تفكير أنا أخاف عليها من عقلها ليس إلا
هزه عبد السلام بقوة هاتفا
والله العقل الوحيد الذي عليك الخوف منه هو عقلك أنت يا متخلف الا تعلم أبسط القواعد في التعامل مع الجنس اللطيف !
هتف محسن محتدا
وهل تعتبر ابنتك يا عمي جنسا لطيفا ! إنها نكبة بشرية
اكتفى عبد السلام عند هذا الحد فاخذ يدفعه بعنف هادرا
اخرج من هنا , هيا اخرج ابنتي مرت بجراحة منذ ساعات ولا ينبغي لها أن تتعرض لأي تلوث وأنت بكتيريا بشرية غير مرغوب فيها هيا أخرجك قبل أن تجد قدمي تلقي بمؤخرتك خارج الغرفة
سمر محسن نفسه في مكانه بكل قوته وهتف باستياء
يا عمي اهدأ أعتذر , أعتذر يا عمي لم أقصد سحبت كل ما قلته
توقف عبد السلام ناظرا إليه بغضبٍ ناري لعدة لحظات , ثم لم يلبث أن نفض يديه عنه بقوة وهو هتف من بين شفتيه
أعوذ بالله من أمثالك
أخذ نفسا عميقا محاولا تهدئة نفسه , ثم أمسك بكتفيه وأطاحه حتى أجلسه على أقرب كرسي رميا وقال محذرا
اجلس هنا , لتقم بالواجب تجاه ابنة خالتك , ثم ارحل بسرعة مفهوم ؟
لم يرد محسن بل عدل من قميصه باستياء ناقلا عينيه من عبد السلام الى هويدا والتي ما أن رآها تبكي بصوت مكتوم رافعة كفيها الى وجهها تهرب بعينيها عنهما , حتى أشار إليها ناظرا الى عبد السلام هاتفا بحدة
تفضل ها قد دخلت في إحدى نوباتها دون أن نمس طرفا لها هل هذه تصرفاتٍ منطقية !
تعالى صوت نحيب هويدا بقوةٍ حتى ارتجف جسدها بشدة مما جعل عبد السلام يقترب منها وضمها الى صدره مقبلا شعرها بحنان ومحسن ينظر إليها بحنق , ثم قال أخيرا بفظاظة
متى آتي بأمي لخطبتها رسميا ؟
رفع عبد السلام وجهه إليه بملامح كارهة ناقمة , وكذلك هويدا نظرت اليه من بين بكائها الصامت وهي ترتعش بشدة فشعر وكأنه زاد الموقف سوءا , مما جعله يتراجع سائلا بصوتٍ أخف نبرة
كيف حالك الآن يا هويدا ؟ هل أنتِ بخير ؟!
رفعت هويدا وجهها الى عيني والدها مستغيثة , فرمقها بنظرةٍ تعني
أنكِ تسرعتِ يا ابنتي , رغم موافقتي تسرعتِ و أنتِ لستِ مستعدة بعد
أغمضت هويدا عينيها منتحبة و هي تريح وجهها المكدوم فوق صدر والدها بينما محسن يرمقهما بحنق ثم قال أخيرا
يا هويدا أنا على أتم الاستعداد لرعايتك , لكن عليك أن تبذلي المزيد من الجهد كي تكوني انسانة مسؤولة متزنة هل ترين تصرفاتك منطقية ؟
ربت عبد السلام على وجنة هويدا برفق وأبعدها عنه قليلا , ثم تناول سماعة الهاتف الداخلي للغرفة و طلب منه رقما , قال بعدها
نعم من فضلك أريد فردين من الأمن ليصطحبا ابن خالة المريضة لخارج المشفى و لا يسمحان بدخوله مطلقا حتى خروجها نعم , شكرا
اتسعت عينا محسن وهو يهتف بقوة محتدا
كف عن هذا المزاح يا عمي , توقف عن هذه التصرفات عمي أنت تمزح بلا شك عمي
أما عبد السلام فقد تجاهله تماما ناظرا الى عيني ابنته وقال بهدوء
علينا التحدث سويا بجدية لكن بعد خروج هذا الانسان من هنا
......
الخروج للعمل في حالتها كان ضربا من الخيال لكنها كانت أقوى مما حدث
هل يمكن للإنسان أن يجبر نفسه على الحركة وهو ميت ؟!
هذا هو ما كانت تشعر به في تلك اللحظة , فقد قتل ساهر روحها بتصرفه و بكت المتبقي من ساعات الليل الحالكة و حتى أشرقت شمس الصباح كانت قد نضبت دموعها تماما وبقت جسدا بلا روح

كانت معجزة أن تجبر نفسها على النهوض ببطء , يداها تمتدان لتخلعان القميص الحريري الذي باء اغراءه بالفشل فشلا ذريعا
لكن الاكتشاف المرعب لم يكن اغراء القميص الذي فشل بل عشق السنوات الطويلة الذي لم يكن له سيطرة على الموقف ليلة أمس !
توقفت يداها عن الحركة وهي تزرر قميصها الأبيض الناصع أمام المرآة و نظرت الى عينيها الغائرتين المنعكستين وهالها أن ترى بهما شخصا غيرها !!
امرأة مختلفة فقدت الثقة في قوة العشق التي تسيطر على حبيبها و تجعله يغفر لها كل الخطايا !
بداخلها كانت هناك قناعة لم تعترف بها لمخلوق من قبل وهي أن ساهر خاتم في اصبعها , تديره كما تشاء يسيره عشقه العنيف , وهي في المقابل تتصرف بالعقل لمصلحتهما سويا
ولهذا كانت ترى في علاقتهما أساسا للكمال علاقة لا يشوبها شائبة
و هذا لا يعني أنها لا تحبه , بل على العكس تعشقه بكل جوارحها , لكن الفراق بينهما أن العشق كان يسير عقله , بينما عقلها يسير عشقها
لكنها لم تحسب حسابا آخر أن الغضب الأعمى الآن يسير عقله و عشقه !!
أغمضت عينيها و هي ترفع يدها الى صدرها الموجوع وهي تتذكر كل لحظة ألم ليلة أمس !
كانت قد بنت قبلها أحلاما طويلة عن عاطفة محمومة ستجمعهما بين جدران هذا المكان الخاوي
وربما سيشعل خواؤه النار بينهما اكثر لا لم تكن باردة كما يظن البعض , بل كانت لديها المشاعر و كل ما يتمناه أي رجل لكن ساهر قضى على تلك الأحلام كلها لليلة انتظرتها سنوات طويلة
فتحت عينيها مجددا تنظر الى صورتهما المنعكسة في المرآة لكن حين فعلت كانت النظرة بهما أقسى وأكثر تصميما و غضبا أسودا
ستكرر لنفسها مجددا
لقد وصلت الى هذه المرحلة و وقع الضرر و انتهى الأمر فلن يفدها أن تخسر أكثر , لتتابع طريقها كما بدأته والا إن تراجعت فستخسر ما حققته ولن تربح شيئا , فساهر غاضب منها و سوف يظل كذلك لوقتٍ لا يعلمه الا الله
ارتدت سترتها والتقطت حقيبتها لتتجه الى باب الشقة بساقين متثاقلتين و عينين غائرتين
كيف لها أن تواجه الناس بعد ما حدث ؟!
بعد أن كان الجميع ينظرون بحسد الى علاقتها بساهر وعشقهما العنيف دون حتى أن ينطقا بكلمة فنظرات أعينهما تفضحهما في كلِ مكان
متأكدة أن ساهر سيتكتم حول ما فعله ليلة أمس لكن هل تفضحهما أعينهما في الهجر الآن بعد أن كانت تفضحان عشقهما ؟!
فتحت الباب و خرجت منتظرة وصول المصعد وحين فتح أبوابه لم يكن خاليا بل كانت هناك شابة من سنها أو أكبر قليلا تقف بثقة و خيلاء , ترمقها بفضول وحين طال تردد نسيبة للحظة بادرت الشابة قائلة بأناقة
تفضلي
تشجعت نسيبة و رفعت ذقنها و دخلت المصعد قبل أن يغلق أبوابه ووقفت متمسكة بحقيبتها ترمق تلك الشابة بطرفِ عينيها
كانت الشابة تماثل البناية في الفخامة بكل شقة فيها كانت تنتمي الى المكان بشكل مذهل
غامت عينا نسيبة وهي تتعرف على الاسم الشهير للحذاء الذي ترتديه و الذي يفوق راتبها مرة و نصف
حقيبة يدها شديدة الأناقة تتبع نفس الاسم
يا الله ! حتى المشغولات الذهبية التي تزين جيدها و أذنيها تحمل اسما شهيرا مرصعا بالماسات الدقيقة البراقة
البنطال الأقصر قليلا من الكاحلين والقميص الحريري القصير فوقه إنها مثال للفخامة بكل ما ترتدي !
حمدت نسيبة ربها أنها تمسك بالحقيبة ذات الاسم المعروف لكنها و مع ذلك لا توازي حقيبة الشابة , بل لا تكاد تقاربها
تطوعت الشابة لكسر الصمت متسائلة بابتسامة جميلة
عفوا , هل أنت ساكنة جديدة في البناية ؟! فلا أحد يخرج في مثل هذا الموعد من البناية الا إن كان أحد ساكنيها
أجفلت نسيبة للحظة لكنها تمكنت بقوة جبارة من استدعاء أكثر ابتساماتها ثقة و اعتدادا بالنفس وقالت بنبرة مماثلة
نعم , لقد انتقلنا الى هنا أنا و زوجي ليلة أمس فقط
سألتها المرأة الشابة مرحبة
أهلا بكما جميعنا انتقلنا الى هنا حديثا لأن البناية جديدة لكن فخامتها تستحق , وأين كنتما تسكنان قبلا ؟
رمشت نسيبة بعينيها و قد ألجمها السؤال المفاجئ فلم تجد الفرصة للبحث عن إجابة مناسبة تتهرب بها عن الجواب الحقيقي , فسارعت تقول دون تفكير
لم نكن أقصد , كان زفافنا ليلة أمس
اتسعت عينا الشابة وهي تهتف بلطف
عروس جديدة !! كم هذا جميل !!
صمتت للحظة ثم سألتها عاقدة حاجبيها بحيرة
زفافكما ليلة أمس ! , لكن لماذا لستما الآن على متن طائرة لقضاء شهر العسل بعيدا ؟!
رفعت نسيبة أصابعها تبعد بها شعرها الناعم عن جبهتها الباردة كقطعة من الجليد و تمكنت من القول بهدوء ظاهري
زفافنا كان مفاجئا كنوع من الصدمة لجميع معارفنا تعلمين أردنا القيام بحركة جديدة , و الآن نقوم بالتجهيز لرحلة كبيرة حتى أنني ذاهبة الآن لعملي كي أتمكن من أخذ إجازة كافية فيما بعد
ضحكت الشابة بعينين واسعتين وقالت بإعجاب
تعجبيني أنا أعشق التجديد في كل شيء و أحب الأفكار الجديدة الخارجة عن المعتاد و كل ما هو تقليدي ربما لأن طبيعة عملي تعتمد على ذلك , فأنا أمتلك شركة للدعاية و الإعلان شهرتها تعتمد على أفكارها الغير تقليدية و أنتِ ؟ما هو عملك ؟
على الرغم من أنها كانت دائما تجيب كل ما يخص دراستها بفخر شديد , مرفوعة الرأس تتألق عيناها و هي ترى الإعجاب بتفوقها في حيها القديملكنها الآن شعرت بالتخاذل وهي تجيب بصوتٍ خفيض
مهندسة في شركة عبد السلام عدوي , بالطبع تسمعين عنها أليس كذلك ؟
ردت الشابة بثقة مصدرة صوتا منبهرا
بالطبع إنها في الواقع ليست شركة واحدة , بل مجموعة كبيرة بخلاف المصنع لكن على ما يبدو أنكِ تملكين توصية كبيرة للعمل في هذه المجموعة
ردت نسيبة باقتضاب
أنا وهويدا ابنة عبد السلام عدوي صديقتان منذ أيام الدراسة
ردت الشابة قائلة بنعومة
رائع في الحقيقة أنا أقدر جدا أصحاب المستوى الكريم , يظهر ذلك على تعاملهم و أناقتهم
ابتسمت نسيبة دون رد و هي تشعر أن المصعد قد أطال رحلته الى الأبد لكن الشابة تابعت بأسف
لكن على الأقل كنتِ زينتِ مدخل البناية بالورود آآآه لقد سبقك منذ شهرين زفاف رقية ابنة السفير قدري الباسل ليتكِ كنتِ رأيتِ المدخل , فقد تم تزيينه بورودٍ بيضاء فريدة , بكامله مع الشموع والأنوار بدا المكان مبهرا لقد تم التجهيز له عدة أسابيع , بخلاف حفلِ زفاف أسطوري
ابتلعت نسيبة ريقها ثم قالت مبتسمة بترفع
كما قلتِ , كلها أفكار تقليدية فكرنا أنا وزوجي خارج الصندوق
ضحكت الشابة وهي تقول موافقة بعد أن توقف المصعد أخيرا وفتح أبوابه
معكِ حق , عامة سررت بالتعرف عليكِ وسررت أكثر بوجود عروس جديدة معنا في البناية بالمناسبة نقوم أنا والفتيات بعمل حفلاتٍ عديدة بالتناوب في كل شقةٍ مرة بعضها بسيط كحفل شاء وحفلاتِ صنوف الطعام و أحيانا حفلاتٍ راقصة في حالة توفر شقة غاب الزوج عنها
ضحكت مجددا عاليا , لكن نسيبة لم تشاركها سوى بابتسامة مهتزة وتابعت الشابة تقول ببساطة
ما أن تشبعين من زوجك , حتى تنضمي الى جدولنا ويكون لكِ نصيب من الحفلات في شقتك
بهتت ملامح نسيبة حتى شحبت تماما و غارت عيناها أكثر و هي تتخيل ملامح فتيات وزوجات البناية حين يدخلن شقتها الخاوية الفارغة والتي تعجز حتى عن شراء مزهرية ثمينة لها , بخلاف الأثاث من الأساس
مدت الشابة يدها مصافحة وهي تقول بذهول ضاحكة
لقد نسينا أن نتعرف حرفيا وسرقنا الكلام الممتع أنا مادلين الشرقاوي
أمسكت نسيبة بكفها بأصابع باردة مرتعشة وهي تقول بخفوت
نسيبة المهندسة نسيبة
رفعت مادلين يدها الى نسيبة ملوحة ثم خرجت الى بهو البناية و كعبا حذائها الرائع يقرعان الأرض المصقولة بثقة و خيلاء و شعرها يتمايل معها بأناقة
و ما كادت نسيبة تتحرك خطوتين , ناظرة بحسرة الى مادلين حتى تسمرت مكانها فاغرة الفم بذعر متسعة العينين وهي ترى أمها تدخل من باب البناية حاملة معها حقيبة السوق ممتلئة لآخرها
ترتدي إحدى عباءاتها البسيطة والمزينة بالخرز وفي قدميها خفا أرضيا أسود اللون
أسرعت نسيبة تختبئ خلف أحدى الزوايا الرخامية , ثم رأت بعينيها الواسعتين مادلين تتجاوز أمها , لكنها توقفت للحظة واستدارت للخلف رافعة النظارة السوداء عن عينيها متسائلة عمن تكون هذه المرأة ثم تابعت طريقها و قد هداها تفكيرها الى الاستنتاج المنطقي
و تعلم جيدا ما هو الظن الذي ظنته مادلين دون الحاجة للكلام لقد ظنت أمها احدى السيدات اللاتي يساعدن في نظافة البيوت أسبوعيا أو يوميا
ولماذا الشك ؟! ألم تقم زوجة عمها بهذا العمل لمدة سنوات بعد وفاة زوجها !
كانت تنظف البيوت أسبوعيا حتى تخرج أولادها من الجامعات وكانت ترتدي نفس عباءات أمها بل وتبتاعانها من نفس المحل سويا
ما أن تأكدت نسيبة من اختفاء مادلين حتى اندفعت خارجة من خلف الزاوية لتمسك بمعصم أمها وتشدها الى المصعد المفتوح وتسارع بغلقه
شهقت رجاء بقوة وهي تنفخ في فتحة عنق العباءة من شدة الفزع ثم هتفت بخوف
بسم الله الرحمن الرحيم ماذا بكِ يا نسيبة , لقد كدتِ أن تقتليني من شدة الرعب , لماذا تختبئين خلف الجدران بهذا الشكل ؟
نظرت إليها نسيبة بعينين حادتين مخيفتين ثم همست برجاءٍ خافت على الرغم من شراسة نبرته
هلا أجلنا الكلام لحين الدخول الى شقتي ؟ أرجوكِ
رمقتها أمها متعجبة , ثم انتظرت بالفعل لحين فتحت نسيبة باب الشقة و أشارت لها أن تدخل دون كلام و بملامح قاتمة وبعد أن أغلقت الباب خلفهما توجهت الى أمها وهتفت من بين أسنانها وهي ترفع قبضتيها الى فمها بغيظ
يا أمي بالله عليكِ لماذا تفعلين بي هذا ؟! ألم أشتري لكِ حلتين انيقتين غاليتي الثمن بحذاءٍ لكل منهما ؟! لماذا تأتين هنا بهذه العباءة وذاك الخف ؟!
امتقع وجه رجاء بشدة وهي تنظر الى شراسة ابنتها في الكلام معها لأول مرة في حياتها فقالت بصوتٍ خافت مصدوم
أتخجلين بأمك يا نسيبة ؟!
تنهدت نسيبة تنهيدة طويلة مكبوتة , انتهت بتأوهٍ عالٍ أشبه بالأنين .. ثم لم تلبث أن هتفت بعينين باكيتين و شفتين متصلبتين
يا أمي بالله عليكِ لا تبدئي بهذا أنا لن أتحمل كلمة واحدة إضافية , الجميع يكرهني و ناقم علي , فلا تبدأي أنتِ أيضا
ثم انفجرت في البكاء , مما جعل قلب أمها ينتفض لوعة فوضعت حملها الثقيل أرضا ثم اتجهت اليها و ربتت على كتفها هاتفة بقلق
ما الذي حدث يا نسيبة طمئنيني يا ابنتي , كيف كانت ليلتك مع ساهر
رفعت نسيبة وجهها المبلل بالدموع و بعينين جامدتين قالت مصممة
قبل أن أجيبك , أجيبيني أنتِ لماذا لم ترتدي أي من الملابس التي ابتعتها لكِ ؟! هل قصرت معكِ لترتدي عباءة قديمة رخيصة ؟!
ردت رجاء و هي تنظر الى نفسها بحرج ووجهٍ ممتقع ثم قالت بخفوت
يا ابنتي أحمل معي حقيبة تحوي الأواني الساخنة , طيور وطواجن خفت أن تتلف الملابس الجديدة , ولم أكن آتية للزيارة كنت سأنصرف سريعا فلماذا أستهلكها و قد ينسكب عليها شيء !!
أطبقت نسيبة عينيها بشدة و عضت على شفتيها و هي تهز ساقها بسرعةٍ قصوى حتى صرخت في النهاية
يا أمي استهلكيها حتى تتهالك , و اتلفيها و أنا سأبتاع لكِ غيرها لكن بالله عليكِ لا ترتدي الملابس القديمة هنا
عقدت رجاء حاجبيها وهي تنظر الى ابنتها بعتابٍ شديد الا أن نسيبة صرخت وهي تضرب الأرض بقدمها بغضب
لا تنظري الي بهذه الطريقة , لن أقبل أن تظهريني بمظهر الشريرة لمجرد أن طلبت منكِ ارتداء ملابس جديدة بالله عليكم كيف تفكرون , فتحاكموني و تحكمون علي ؟! أنا تعبت
ثم انفجرت في بكاءٍ مرير أفزع أمها التي حاولت ضمها الى صدرها هاتفة
لا اله الا الله والله ما هذا الا أثر عين حاسدة , فالجميع كانوا ينظرون اليك انت و ساهر و يشهقون حقدا بكل وضوح كنت أعلم أن العين ستصيبك
ابتعدت نسيبة دافعة ذراعي أمها صارخة بنحيبٍ قوي
ليس هذا تأثير حسد يا أمي , بل هو تفكيركم الذي يرفض فكرة الصعود لمستوى أعلى و كأنها جريمة و كأن من يطمح للتحسين من نفسه لهو وغد عديم الأصل اذن ينبغي علينا أن نظل حتى آخر العمر لا نعرف سوى الطريق الضيق بترابه والذي لم يعرف الرصف حتى يومنا هذا ولا نرتدي الا من محل " حودة ملابسكو
ردت أمها متلعثمة
يا ابنتي هدئي نفسك الأمر لا يستحق , وأقسم لك الا آتي لزيارتك الا بالحلة الجديدة أو إن أردتِ فلن آتي ابدا
لكن نسيبة هتفت وهي شير الى الحقيبة صارخة وهي تبكي بقوة كالأطفال
وماذا عن هذه ؟! حقيبة السوق ! تأتين بحقيبة السوق يا أمي ؟! لماذا تفعلين بي هذا ؟!
صمتت أمها لبضعة لحظات ثم سألت بصوتٍ حائر متردد
يا نسيبة كنتِ دائمة الثقة بنفسك حد الغرور وكنتِ تفخرين بما حققتهِ أمام أبناء حيك , فما الذي تغير الآن و جعلك تشعرين بأن قيمتك لا تتجاوز ثمن الحلة التي ترتدين ؟!
أجفلت نسيبة قليلا من سؤال أمها حتى أن بكائها تراجع قليلا وظل السؤال يطوف في رأسها طويلا
لطالما كانت واثقة في نفسها بترفع حد الغرور !! أما هذا الشعور بالدونية الذي تشعر به الآن لم تشعر به من قبل !! وطعمه شديد المرارة , واحساسه مقيت
سكنت في النهاية وهي تنظر الى أمها بعينين محتقنتين فارغتين ثم قالت بصوتٍ ميت
لأنني كنت أعلى ممن حولي أما الآن أنا أقل
هتفت أمها غير مصدقة
ما عاش من يقل هذا ! ابنتي المهندسة نسيبة التي ينظر إليها جميع سكان الحي بنظرات الفخر والحسد كيف تكون أقل من أي مخلوق !
هتفت نسيبة تئن بيأس
أنتِ لم تري ساكني هذه البناية ومستواهم يا أمي ولم تري كذلك زملائي في شركة عبد السلام أنا لا أستطيع مجاراتهم أبدا
ردت عليها أمها قائلة برفق
وأثناء دراستك في الكلية كان لديكِ زميلاتٍ أعلى منكِ ماديا و على الرغم من ذلك كنتِ واثقة بنفسك أمامهن
مسحت نسيبة دموعها و هي تقول بأسى
كنت متفوقة , أكثر منهن ذكاءًا أحظى بحب شابٍ لم يجدوا مثله في محيطهم أما الآن لا أجد ما يزيدني شيئا , وبات الشيء الوحيد الذي يحدد قيمة الناس هو الاسم الشهير الذي تحمله ملابسهم , هذا في حد ذاته بطاقة تعارف أكثر من كافية
ضربت رجاء كفا على كف وهي تشعر بالذعر الداخلي فمن تقف أمامها ليست ابنتها أبدا لقد مسها مسا من الضعف و الاهتزاز لم تعرفهما قبلا
ثم أدركت نفسها فنظرت تجاه غرفة النوم و سألت بقلق
هل سمع ساهر كلامنا ؟!! صحيح أخبريني , أين كنتِ ذاهبة في صبيحة زفافك ؟!
ردت نسيبة ضاحكة ضحكة ساخرة مريرة
ساهر !! اطمئني , فساهر لم ينم هنا من الأساس
ضربت رجاء صدرها و هي تصرخ بفزع
لم ينم هنا ؟ّ!! بتِ عروسا في شقتك وحيدة ؟! أخبريني ما الذي حدث .
وما أن أخبرتها نسيبة بما حدث بكلماتٍ مقتضبة حتى تحولت قلق أمها الى هلع , وباتت تدور في أرجاء الشقة ضاربة وجنتيها وفخذيها بكفيها صارخة كالمجنونة
يا مصيبتك يا نسيبة يا بنت رجاء يا مصيبتك يا نسيبة يا بنت رجاء
رفعت نسيبة كفها الى جبهتها مطرقة برأسها وهي تقول بصوتٍ صارم مشتد
كفى يا أمي
الا أن أمها لم تتوقف عن العويل وهي تضرب وجنتيها
ستتطلقين يا نسيبة في أول يوم زواج لك سمعتك ستنهار و تصبح على كل لسان
صرخت نسيبة و هي تبعد كفها عن جبهتها
لن يتطلق أحد يا أمي كفى عويلا , ستُسمعِين الجيران
لكن رجاء صرخت بذعر وهي تضرب صدرها
الحمد لله أنني منعت بعض نساء الحي من المجيء لتهنئتك اليوم في الصباحية لكن ماذا عن الغد و بعد الغد ؟!
أمسكت نسيبة بذراع أمها بين أصابع حادة كالمخالب و همست من بين أسنانها بقسوة
ممنوع منعا باتا أن تأتي أي من نساء الحي الى هذه البناية يا أمي , إياكِ أن تكوني قد أعلمتِ أي منهن بالعنوان إياكِ
نظرت اليها أمها بعينيها الفزعتين وهتفت
انسي نساء الحي الآن واسمعيني جيدا يا نسيبة ستذهبين الى البيت الذي استأجره زوجك بكل أدب و تحاولين تهدئة الأوضاع معه بأي وسيلة حتى إن اقتضى الأمر أن تعودي معه الى شقة أمه نفسها هل فهمتِ ؟!!
صرخت نسيبة بقوة أقرب الى الهستيريا
لا لن أسمح له أن يهدم كل ما بنيته حتى الآن
الا أن رجاء قبضت بكفها فوق وجنتي ابنتها وهزت رأسها بقوة صارخة بعينين مخيفتين
بل ستفعلين , أنتِ في حالة من الغباء حتى بتِ لا تدركين أنكِ بما تفعلين على وشكِ خسارة كل شيء وأولها زوجك ساهر
صمتت نسيبة قليلا و هي تنظر الى أمها لاهثة بعينين عاجزتين أما رجاء فتابعت قائلة
وبالنسبة له , فعند زيارتنا لوالدته سيكون لنا كلام آخر
.......
سارت نسيبة بين أروقة الشركة بحثا عنه , تعلم أنه يفترض به أن يكون هنا اليوم بخلاف الأيام التي ينبغي أن يتواجد بها في موقع العمل
لكنه ليس موجودا توقفت للحظة و هي تفكر بنظرة شاردة
أتراه لن يأتي اليوم منفعلا بما حدث ليلة أمس !
تراجعت خطوتين حتى استندت بظهرها الى الجدار وفي عينيها بريق خاطف
أتراه نادم ؟! نادم على ما فعله بها , أم يحرقه الشوق لإتمام زواجه بها و يشعر بالحسرة لتضييعه ليلة أمس ؟! أتراه غير قادرا على مواجهتها ؟!
وفي أثناء شرودها بعينين تتألقان ببعض الحياة سمعت كلام بعض الموظفين عن حادث ما , فعقدت حاجبيها وسألتهم مقاطعة
أي حادث تتكلمون عنه ؟!
أجابتها إحدى المهندسات
ابنة السيد عبد السلام تعرضت لحادث ونقلت للمشفى
همست نسيبة بعدم تصديق
هويدا !
بينما نظر إليها شاب وسألها
ألست أنتِ خطيبة المهندس ساهر الذي يعمل معنا ؟
أومأت نسيبة برأسها ببطئ محاولة تجاوز تفصيل بسيط للغاية , وهو أنها زوجته الآن لكن نظرا للظروف أغفلا عن إخبار الجميع بخبر الزواج المفاجئ ولم يقوما بدعوة العاملين بالشركة , مجرد دعوة الى عبد السلام وابنته فآثرت الصمت ثم سألته باهتمام
نعم و كنت أبحث عنه
رد عليها الشاب قائلا
أعتقد أنه يقوم بزيارة الآنسة هويدا فقد سألني عن عنوان المشفى وبدا مهتما لم ينتظر فقد اتفقنا على زيارتها في مجموعة واحدة بعد يومين وبعد موعد الانصراف من العمل
شعرت نسيبة وكأن جمودا قد حول ملامح وجهها الى قناعٍ حجري خالٍ من المشاعر بينما كان بداخلها وهجٍ لحريقٍ بدأ يستعر ببطء وما الذي قد يخمده ؟!
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي