2

الفصل الثاني
أيقظه والده بلطف، ودفعه نحو الحمام، كان مريد يريد أن يكمل نومه، لا يريد أن يستيقظ في هذا الوقت المبكر من اليوم، لكن كان يتحتم على والده اصطحابه حتى لا يتركه وحيداً في المنزل، بدأ الولد في ارتداء ملابسه، لاحظ والده أنه قد تأخر عن المألوف ليجد الطفل أمام المرآه يهندم نفسه، ويصفف خلصات شعره الأمامية بعناية، ثم يلتقط زجاجة العطر من أمامه وينثر عطرها على جسده.
نظر إليه متعجباً، أيعقل أن طفل في هذا السن تتغير أحواله بين يومٍ وليلة، ثم راجع نفسه هامساً
-لم يمر سوى عدة أيامٍ على أزمته، كان بين يدي الرحمن، ولم يكن أحد ينتظر عودته إلى الحياة، لندعه يحيا يومين، لن أثقل عليه
ثم دفعه الفضول كي يعرف هل تغير الولد كلياً أم أن تلك الهبه التي منحت له زالت منذ أن رحل عن المقابر، فردد قائلاً بصوت مرتفع بعد أن اصطنع بأنه يمسك بالمصحف ويرتل منه
"وقيله يارب إن هؤلاء قومٍ فاسقين
ليجد الطفل يدفعه عما يقول وهو لازال ماسكاً بمشطه
-"لا يؤمنون"، قوم لا يؤمنون يا والدي
ولا تحاول مرة أخرى اختباري بطريقٍ غير مباشر فأنت تحفظ القرآن عن ظهر قلبٍ أكثر مني، ولا يمكن لك أن تخطأ خطأً مثل هذا
شعر راضي بالخجل، ابتسم بداخله ثم ترجل بهدوء إلى الخارج، ليتبعه مريد، كان السائق ينتظرهما بالأسفل، صارت الأماكن مألوفة لديهم، وزالت ملامح الدهشة حين النظر إليها، فقط هو ذلك الشعور بالنشوة حيال وجودهم هنا، ثم التأمل في وجوه المارة، لكلٌ منهم قصة
ربما لم يأتي أحدهم إلى هذا المكان إلا بعد أن مر بما مروا به أوشبيهه، أو ما هو أسوء من ذلك، لكن يمنح الله لعباده الابتلاء على قدر تحملهم له، فكلما اشتد فقد بلغت قوة الشخص ذروتها لاحتماله، كما تمنحه كل بلية قوة إضافية تجعل كل ما يأتي من شر وبلاء من بعدها هين.
كما كانت حياتهما، لم يكن مريد يدرك ماذا سيفعل في الشركة، ربما كان غاضباً من أجل تلك الرحلة مجهولة الهوية ماذا سيفعل هو بين الأوراق وبذلات الموظفين، وأوامر ونواهي، وصوت أقدام تهرول هنا وهناك، كل هذا لا يليق، ولا يحبذ لدى طفلٌ مثله، ربما يمنحوه بعض الحلوى كي يهدأ قليلاً، أو كي لا يبكي كما يظنون.
لم يستبق مريد الأحداث حاول أن يتمتع بالشمس التي يفوح منها رائحة الأمل، نزل مع والده جلس ينتظر في مكتبه يتجول بعينيه في كل ركنٍ، يدفعه فضوله أن يعرف كل تلك الكتب عما تتحدث، لكنه لم يجد القراءة بعد، ربما بعض الألعاب ستفي بالغرض.
دخل راضي إلى مكتب أشعب، تناسى أمر الطفل ظل لساعة أو اثنتين حاول أن يستحضر كل قوى عقله كي يدرك كيف صارت أمور العمل بعد أن رحل حتى يتمكن من انجازه على نحوٍ جيد.
بدأ الطفل يترجل في الغرفة لا شيء يغيره للإطلاع عليه أوراقٌ متراسة وأقلام، وجهاز لا يعلم هويته، ومكتبة مكتزة بالكتب، وباب المكتب مغلق، ذهب مريد نحوه حاول فتحه ودس رأسه بخجل إلى الخارج فإذا بأحد الموظفين يلمحه من بعيد فيشير إليه للحضور فيهرول مسرعاً نحوه
-أنت مريد ابن السيد راضي
أومأ رأسه
-نعم أنا مريد
-اسمك مميز يا مريد، ولكن لماذا أنت محبوساً في المكتب هكذا، أتريد أن تمرح قليلاً، اجلس هنا وسأعلمك لعبة على الكمبيوتر خاصتي تهون عليك اليوم حتى ينتهي والدك من عمله
أدخلت كلمات الموظف السرور على قلب مريد، أخيراً قد صار من بين الناس من يريد اللعب معه، الآن قد أصبحوا يسعون لإرضاءه، بعد أن كان منفوراً، والناس تخاف أن يلعب أطفالهم معه
بات يحادث نفسه وهو يتأمل بعجب ذلك الجهاز بشاشته الصغيرة الذي يشبه التلفاز ولديه لوحة مفاتيح كبيرة، كان يوضح الموظف بأنه جهاز كمبيوتر،
-الآن مع المال صار كل شيء تحت يدي، والحياة صارت يسيرة، كل ما آمرهم به الآن سيلبى دون تفكير، ولكن حينما كنت في حالٍ مزرية، حينما كنت بين الحياة والموت لم يعرني أحد اهتمامه، فالمال إذاً هو الفيصل في الأمر.
بات مريد يعتبر بأن تلك هي القاعدة العامة والأساسية في التعامل مع البشر، المال، يحميه سلطة ثم تملك كل شيء، ويصبح الجميع خدماً وجواري تحت أقدامك.
تركه الموظف ورحل ليكمل باقي الأوراق المطلوبة منه، وجلس مريد بهدوء يستكشف ذلك الجهاز، يقرب أنامله الصغيرة من لوحته فإذا به يهوي متعثراً في تلك الأسلاك، يحاول أن يشد قدمه منها فلا يستطيع فيصرخ ليحضر من كانوا قريبين منه يحاولوا أن يخلصوا قدمه من الأسلاك.
فإذا بأحدها قد انقطع، كان الموظف قد انتهى من عمله وأتى ليجلس مكانه مرة أخرى، فإذا به يجد الكثير من زملائه يحاولون إنقاذ الموقف، موقف مصدوماً على ما حل بجهازه
-ما هذا كيف سأكمل باقي عملي، وكيف سأرسل باقي الملفات إلى زملائي، هل سيتوقف اليوم على هذا، أحضروا الموظف المنوط بالإصلاحات بسرعة
ثم دفع رأسه بيده وكأنه قد تذكر شيء، فأشار إلى من رحلوا للبحث عنه بالعودة
-نسيت لقد طلب من المدير إجازة لأسبوعين، ولن يأتي قبل انتهاء إجازته
كان مريد منذ اللحظة الأولى يحاول أن يعتذر له عما صدر منه، ويؤكد له بأن ذلك قد حدث دون قصد، لكن الموظف قد تجاهله ولم يرد عليه من شدة غضبه، فثار مريد في الرجل
-ماذا بك يا رجل، لقد اعتذرت لك أكثر من مرة، ولم تحاول أن تطيب خاطري، أو تسمعني، لم تصدق حتى بأن ما صدر هو قدر ليس لي يد فيه، لم تحاول حتى أن تطمئن على ما حل بي
-لا تخف يا ولد، أنت بخير كما أرى، من أصابه كل السوء هو جهازي وعملي
هكذا رد عليه الموظف بفظاظة، ثم فكر مريد لبرهة وأكمل بثقة وهو يشير إلى عامل البوفية :
-هل يمكنك أن تحضر لي شريطاً لاصقاً
نظر الرجل إليه بتعجب من طلبه ثم قال
-نعم يا ولدي، سأحضره في الحال
وقف الموظف ينظر إلى راضي باستهزاء
-أرني كيف ستحل الموقف
أحضرها الرجل في غضون دقائق، نزل مريد إلى حيث الأسلاك، حاول أن يفصلها عن بعضها ليجد السلك المقطوع، فلما توصل إلى قطعتيه امعن النظر قربهما إلى بعضهما ولف حولهما لصقاً كثيفا حتى كاد القطع أن يختفي ثم قام عن مكانه، وأشار إلى الموظف أن يبدأ بتشغيل الجهاز وتركه وترجل بثقة للعودة إلى مكتب أبيه مرة أخرى
ضغط الموظف على زر الكمبيوتر بثقة أنه لن يعمل، فإذا بصوت تشغيله يصعق أذنيه الكبيرة وجعله يشعر بالخجل من زملائه الذين ظلوا يشهدوا الموقف منذ البداية فصرخ في وجههم
-اذهبوا جميعاً إلى أعمالكم، لا تعطلوا العمل.
جلس مريد على نفس الكرسي، لم ينتظر أن يخرج مرة أخرى بعيداً عنه، حتى لا يقع في مزيد من المشاكل مع هؤلاء الحمقى.
انتباه الملل مرة أخرى، الوقت يمر ببطء، ولا حراك في المكتب إنه اليوم الأول لوالده في العمل يقضيه بين المكاتب كي يدرك كيف يدار العمل سريعاً، ظل يتأفف حتى جلس على تلك الأريكة التي يكسوها الجلد شعر حيالها بالراحة فمال بجسده عليها وغط في نومٍ عميق
دخل راضي إلى المكتب لم يلحظ ذلك الصمت السائد في المكتب، ولم يبحث حتى أين ذهب الولد، هو يعلم جيداً أنه لن يضل الطريق هنا، ظل يبحث عن الأوراق على مكتبه حتى هرول نحو الأريكة حينما هوى جسد مريد بقوة أرضاً، حتى بكى الطفل من شدة الألم
ضمه إلى صدره، والطفل يتأوه
-مريد، ماذا حدث يا بني، وما الذي جعلك تنام هنا، هيا أستيقظ، أجلس هنا ولن أتأخر عليك مرة أخرى، سأحاول الانتهار سريعاً من عملي.
الطفل ينظر إليه وهو يفتح عيناه بصعوبة، كان مستغرقاً في نومه لكن ربما نسي أين هو، لذا ترك لجسده حرية التحرك والميل في كل اتجاه حتى دفعته الأريكة أرضاً.
جلس مريد متكأً بصعوبة، يحاول كل مرة أن يغلبه النوم لكنه يقاوم خشية أن يتدرحج جسده مرة أخرى، غاب عنه والده ساعة اثنتان هو لا يدرك، هو فقط شعر بأنه لم يفكر به، أو حتى أحضر لأجله أي طعام لم يلحظ أنه لم يطعم شيئاً منذ الصباح
صار منهمكاً في عمله من يومه الأول، مر يومه بسلام شعر راضي بالجوع فأوقف السائق أمام مطعمٍ قريب من المنزل نزل أشترى الطعام دونما يسأله حتى ماذا يريد، هو فقط يريد أن يهرول كي يصل مسرعاً، دخلا إلى الشقة وساد الصمت كلما حاول مريد أن يخبر والده بما حدث في يومه يجد عيناه وفكره في عالمٍ آخر، بين تلك الأوراق
جلسا على الطاولة كالغرباء فقد مريد الأمل في أن يتحدث إليه والده، فأكل بحزن ونظر إلى والده ثم أعاد الكرسي مكانه ونهض ارتسمت على وجهه الابتسامة مرة أخرى حينما ناداه والده
-مريد، حبيبي، سأضطر لتركك هنا في الشقة حتى أبدأ دروس القيادة، لن يستمر السائق طويلاً معنا
انطفئت الابتسامة على وجه الطفل، داعبه والده مازحاً وهو يمسك بأذنه اليمنى
-عليك أن تحذر يا ولد، لا تتسبب في جلب المشاكل، كل شيء موجود هنا الطعام والتلفاز واللعب، سأشغل التلفاز على قنوات الكارتون ستحبها كثيراً
أمسك بالريموت لبرهة، ثم جلب مفاتيحه وأغلق الباب لم يترك للطفل فرصة أن يهرول نحوه يحتضنه أو حتى يعترض أن يُترك وحيداً، فقط وجد مريد الباب يغلق في وجهه فتراجع للخلف خطوة ينظر إلى تلك الشقة الفسيحة لم يترك بمفردة فيها أو في مثيلتها قط
لم يجد بداً من محاولة تضييع وقته أمام التلفاز حتى يعود والده، فجلس وارتسمت علامات الدهشة على وجهه تلك الألوان والأشخاص التي تتحرك أمامه على التلفاز، حيوانات لطيفة، بعيونٍ بريئة، ورسوم أخرى تلك الدهشة لم تدم طويلاً، تلك اللحظات التي تمر على الفرد وهو بمفرده تمر ثقيلة، مميتة، كأنها لا تمر
اتكأ برأسه على تلك الوسادة وشعر بصقيعٍ يتخلل جسده، فرك جسده بيده، وبدأ ينفث في يده لعلعه يشعر بالحرارة، ربما لم يكن الجو بارداً تماماً، لكن جلوسه وحيداً هيأ له الأمر، حينها شعر بالحسرة، تذكر لياله في المقابر، لم تكن ليلة لتمر وهو بعيداً عن حضن أبيه، لم يكن ليتركه يأسى بمفرده، كان دوماً قريباً إليه ومنه، ينصت إليه، ينظر إلى عينيه فيعرف ماذا دهاه.
كان يتمنى أن ينهض ليحضر غطاء لكن الخوف قد تملك قلبه شعر أنه ليس بمفرده في المكان لكنه لم يكترث، ظل يتأمل تلك الرسوم ولباسها، وذلك الترفيه التي تحيا فيه أطعمة من ألوان شتى، وحدائق كل هذا لحيوانات في الغابة أو أطفال داخل التلفاز أم هم فقد حرم عليهم حتى أن يستنشقوا هواءً دون غبار، أو أن يترجلوا بين عبير الأزهار لا عبير هناك سوى عبير الموت يفوح مع كل ذرة في المكان ليس فقط لمن واراهم الثرى بل حتى لمن لازالوا على قيد الحياة.
تحول ذلك الصقيع البارد إلى حرارة تدفعه دفعاً نحو الماء، لكن الرهبة لازالت تسيطر على قلبه يخشى أن يدخل الحمام بمفرده، كان يدخله ووالده موجود لأنه يشعر بالونس، وأن لا أحد يمكنه أن يصيبه بأذى ما دام والده لازال هنا.
الحرارة تشتد على جسده، والعرق يسيل وعيناه تتجول من حوله في الغرفة يريد أن ينهض لكن هناك شيء يدفعه ألا يفعل، همسات باتت تطرق على أذنه، لا يفهم فحواها ولكنها صارت متكررة حتى كاد يجن، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم نهض بحذر، يتلفت كل خطوة للخلف حتى اقترب من الحمام وتلك الطرقة الواصلة بين باقي الشقة تسمرت قدماه ولا تريد أن تتقدم، ينظر نحو الأريكة يتمنى أن يعود ليغلق عينيه ولا يتحرك
لكن قدماه كانت تدفعه إلى الداخل، كأن أحداً يمسك بها من الأسفل، ارتعد قلبه وردد في داخله وهو ينظر للأعلى
-يارب، لا، لا أريد أن أشعر بما كان هناك، لا تجعل اللعنة تحل علي مرة أخرى، أجعلهم يتركوني، ادفعهم عني، لقد تركني والدي ولكنك لن تتركني أعلم يقيناً بذلك
بدأ الطفل يتمالك نفسه وكأن قوة قد دفعت بداخله
-علي أن أتماسك حتى لا يتملكوا مني أكثر من ذلك، كلما علموا بوهني وخوفي مما يفعلوا ازدادوا في أفعالهم.
تنهد بقوة وحاول أن يعود للخلف تثاقلت قدماه، لكنه رفعها بقوة فإذا بوجهٍ مخيف يحملق به، ويردد
-إلى أين يا صغير، لن تفلت مني تلك المرة.
فبثق الطفل في وجهه من الرهبة التي تملكته، وجاهد قدماه حتى تحركا فانطلق نحو تلك الغرفة القريبة فكانت غرفة والده أغلق الباب وراءه مسرعاً وتنهد بقوة يزفر رهبة الموقف لكنهم لم يتركوه يلفظ أنفاسه بحرية، تكالبوا عليه، ظلالهم باتت تملؤ الغرفة، وأصواتهم الغاضبة ادت أن تصم أذنيه
لم يسمح لهم بالمزيد من التراهات التي يفعلونها لإخافته، ظل يصرخ بكل ما أوتي من قوة ويجري في الغرفة فيتعثر في كل شيء ويدفع كل شيء أرضاً حتى دفع وسادة والده، ووقعت تلك اللفائف على قدمه فأوقفت كل شيء لونها كان ملفتاً له، لم يرى مثيلتها من قبل، شعر بأنها تشع ضوءً خافتاً
انحني لالتقاطها فدفعوه للأمام حتى لا يمسك بها، فهوى جسده أرضاً وعيناه لازالت معلقة بها، لا يأبه بما فعلوه ولا محاولاتهم البائسة لأذيته، يزحف نحو اللفائف تاركاً تلك الأشياء التي تسقط فوق رأسه وجسده حتى أمسك بها أخيراً فبدأ يسمع صراخاً يهز أرجاء الغرفة وبدأ كل شيء يتلاشى من حوله رويداً رويدا
ابتلع ريقه بصعوبة لم يستطع أن يتحرك من مكانه، يسمع أصواتاً بالخارج فإذا به لم يكترث لها، لقد حل التعب على كل جزء من جسده، لم يعد يأبه ما الذي سوف يحدث فيما بعد لن يحدث أكثر مما حل به
ولكن يتركهم ليقضوا عليه كما كادوا أن يفعلوا بالسابق
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي