الغرفة الخامسة

ممر طويل على جانبيه مجموعة من الغرف المُوصدة بالأبواب داخل كل منها بطل أو بطلة يمتلك روايةً لا يعلم تفاصيلها سوى اللَّه ، ولا يخبرنا صاحبها إلا بما يريد هو أن نعلمه ، ممر مليء بالأسرار والغموض وأحيانًا الصرخات ، ممر أسند ظهري على جدرانه لأنني يومًا كنت أمتلك روايةً ، لم يحْن الوقت لأعرفكم بنفسي مسبقًا أنا أُدعى جاسم حمدان ودعت عقدي الثاني منذ عامين ، منذ سنوات مراهقتي وأنا أحافظ على لياقتي البدنية ، فقد التحقت بالچيم المجاور لمنزلنا القديم حتى بدأت أعوامي المصيرية فكنت من إحدى طلاب الشعبة العلمية واجتهدت حتى حصلت على المجموع اللازم للالتحاق بكلية الطب النفسي جامعة القاهرة ، ثم انتقلت للعيش مؤخرًا في تلك العاصمة المزدحمة ومن ثم أنهيت خدمتي العسكرية في فرقة الصاعقة المصرية نظرًا لجسدي الممشوق ومن ثم تم تعييني في هذه المشفى ، فقابلت بها عيونًا لم ولن أنساها قط ، عيونًا أحيت ما مات بداخلي من سنوات أحيت أشياءًا لم أكن أعلم بوجودها من الأساس جعلتني أتخطى أزمات عانيت منها عمرًا كاملاً ولم أشفى منها حتى الآن ، بغيابها عادت الأزمات مرة ثانيةً وكأنها كانت الطبقة العازلة بين وبين محيطي ..
لا أعلم كيف جعلت تلك المريضة لساني يلفظ سيرتها مرةً أخرى لكنها كانت جميلة كالقمر يضيء من حوله برغم عتمته ، يَسّر العين رغم أرضه المليئة بالصخور ..
أخذت نصيبها الكامل من اسمها ..
أدرت عيني يمينًا فإذا بفتاة جميلة تسند ظهرها على طرف الجدار وتنظر إليّ فسألتها هل أنتي مريضة الغرفة الخامسة؟
ارتجفت أطرافها قليلاً ثم قالت :-
= مريضة الغرفة الخامسة :- هل تنعتون هنا المرضى بلفظ المرضى !!
- الطبيب :- عذرًا ولكنها حقيقتك..
= ومتى ستعترف أنت بحقيقتك ؟
- لا أعلم ، ولكني أشعر بمشارف ثمة تغيير سيحدث لي !
= هل تغيير بالفعل أم رجوع لحالة سابقة ؟
-لا أعلم تحديدًا ولكن لا عليكِ ، بماذا تشعرين اليوم ؟
= بالرفض
- عفوًا !!
= كل شيء يشعرني بالرفض ، لم يتقبلني أحد مثلما تقبلته أنا ، لم تتقبلني عائلتي يومًا ، لم يتقبل أحد أن يصبح لي طموح وأن أسعى لتحقيقه ، لم يتقبل أحد موهبتي حتى لجأت لدفنها بجوار أحلامي الكثيرة ..
- مثلي تمامًا ..
= هل تعتقد أنك قُبلت بالرفض من قِبل خطيبتك السابقة ؟
- لا تاللَّه ألف لا ، فلم يتقبلني أحد مثلما هي فعلت ولكن ..
= ولكن ماذا ؟
- دعينا نجعل الحوار مهتمًا أكثر بكِ وبحالتكِ.
= حسنًا ، كما أخبرتك لم يتقبل أحد احتياجاتي ، لم يفهموا متطلباتي وكأنهم أرادوا أن يجعلوني نسخة مصغرة تحقق أحلامًا فشلوا هم يومًا في تحقيقها ..
عندما كنت في السابعة اكتشفت صدفةً أنني أمتلك صوتًا فنيًا فأخبرت أبي فقام بتعنيفي منذ الصفعة الرابعة وأنا أقسمت بداخلي ألا أقبل على الغناء ثانيةً لكنني في عمر العشرين وجدت شخصًا يدندن خلسةً بصوت قوي موهوب في الشرفة ، الغريب أن أبي كان هذا الشخص وعندما واجهته بالأمر قال لي أن جدي أخبره أن الغناء يقلل من قيمة الشخص
ويجعله سلعةً ..
- هل لي بمقطع عذب صغير؟
= ليس عندي ما يمنع ولكن إذا أقنعتِ شخصًا بات قرب الثلاثين عامًا يترنم في الخفاء ..
- أشعر أني سمعت هذا الحوار من قبل ولكن ذاكرتي لا تساعدني
= حمدًا للَّه أنها لا تساعدك
- عفوًا !!
= عندما كبرت والتحقت بالجامعة لم تكن بإختياري ولكن لا بأس فلم تزعجني كثيرًا بل كانت سببًا في بعدي عن البيئة الرافضة لي كانت سببًا في تعليمي أشياءًا لم أكن أعلم بوجودها من الأساس لكن للأسف لم يستطع شيء أن يجعلني مُعافًا مما عانيت ، أرهقتني الدروب ولم تساندني النهاية ..
- ولكن لكل شيء حل ، فما كان داء بلا دواء !
= نعم لقد سمعت هذه الشعارات مرارًا ولكن يوجد أدواء ترهق الجسد وتملأه بالندوب فإن رحل الداء لن ترحل أثاره الجانبية فكم من مريض تعافى من مرضه ولم يتعافى من عواقبه ..
- كل هذه الفلسفة بسبب أن والدك منعك من الغناء؟
= من ذاق الخذلان من أهله لن يتعافى أبدًا ..
- لا أقتنع بهذا ، نعم الأهل لهم جانب كبير للتأثير في شخصيتك ولكن ليس بهذا الحد !
= لن تقتنع أبدًا
- لأنه لا يوجد أحد يعاني من شيء لسنوات !
= قد يعيش الإنسان عمرًا كاملاً في محاولة تعافي من أشياء لم يخبر بها أحدًا بل نجح في إخفاء تداعياتها كأنها لم تكن ..
- تتحدثين هكذا لأنكِ مريضة.
حسـنـًا هذه الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها فجميعنـا مرضى نفسيين بدرجات مـتفاوتة ..

_ جيهان سيد ❤️
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي