الفصل السادس والثلاثون

مر اليوم ذاك على تلك الحال لا يزالان متخاصمان كل واحد يحمل شيء من الحسرة والعتاب في قلبه للآخر فكيف يعقل أن ينفجر أميرالذي لا يتحمل أن تصيبها نسمة صيف حارقة  بها بتلك الطريقة وكيف استطاعت هي أن تجرحه بما تلفظت من كلمات،هو بمكتبه وهي بالقصر أغلب وقتها تقضيه بغرفتها تتجنب الكل ثم مر اليوم الثاني والثالث والرابع على تلك الحال لم يتغير شيء الجفاء سيد الموقف وكم كان صعبا عليهما تجرع مرارة القرب والبعد في ذات اللحظة لكن كبريائه وكبريائها لم يسمح ولم يتنازل ،لا حديث دار ولا نقاش بينهم يعود كل ليلة بعد تعب يوم طويل يرهق نفسه قصدا في العمل كي  ينام مباشرة حين يعود فيضع رأسه على وسادته ويكتفي بقول (تصبحين على خير) فقط بينما هي فقد حاولت أن تحادثه أكثر من مرة لكنها تتراجع وتتركه في كل مرة خائفة أن يتكرر ما حدث أو يجرحها بالكلام أو لربما تجرحه هي بشيء قد لا ينسى وأحيانا كانت تتظاهر بأنها نائمة لكنه يعرف جيدا أنها ليست كذلك وأنها لا تهنأ إلا بقربه فلا تسمع له في تلك الليلة همسا وهكذا حتى انقضى قرابة أسبوع بحاله العشيقان معا في نفس الغرفة وكل منهما في مكان بعيد عن الآخر.


اقتصر حديثهم البسيط بتلك الأيام ليكون جله في كلمة صباح الخير أو كيف حالك فقط أو لربما تعدى الحديث ليطلب منها شيء أو يشكرها على قهوة أحضرتها له أو لباس جهزته له كعادتها لم تغير من الأشياء التي تفعل له لكنها صامتة من تثرثر فوق رأسه وتشيى إلى كل تفصيلة حتى ربطة العنق وتسريحة الشعر تتدخل بها لكن الآن فقط يراقب أنفاسها ولو اقتربت لربما سمع دقات قلبها لكثرة الهدوء بتلك الغرفة وهكذا خيمت غيوم سوداء فوق سماء  العاشقين تقوم بعزلهم عن بعضهما البعض وقلب كل واحد منهما عند الآخر وروحه داخل جسده.
اختارت ريحان خلال تلك الأيام العزلة،لم تكن تخاطب أحدا إلا قليلا واكتفت برعايتها لأوزجي فقط وتكملة تحفيظها القرآن الكريم كما وعدتها محاولة أن لا تحسسها بشيء وحتى سونا لم تشأ إزعاجها بعد أن أصبحت تتجنبها في كل مرة تحاول الحديث معها فلم التدخل بأي شيء بعدها قد يزيد من غضبها أو حزنها كما فعلت مسبقا.

كانت أياما صعبة على كليهما،لم ينل منها أمير أي يوم راحة لا لجسده ولا لفؤاده التعب أما عشقه فقد بدأت تتعب شيء فشيء فقد أصبحت أغلب الوقت شاردة وشاحبة الوجه لقلة غذائها واختلائها بنفسها بل أحيانا يفاجئها الدوار فجأة وهي تسير فيختل توازنها وتكاد تقع ثم تعود وتأخذ نفسا عميقا وتكمل وجهتها لكنها كعادتها لم تكن لتستسلم قط فهي عاشت ما هو أكبر وأوجع قبلا وتلك الرياح الهوجاء التي هبت فجأة على حياتها الهادئة وعلاقتها الطيبة هي وأمير لا تساوي شيء أمام الأعاصير التي واجهتها قبلا وحيدة دون سند أو كتف أو ذراعين تمسك بها ما إن رماها الإعصار بعيدا،لقد اكتسبت مناعة تمكنها من الابتسام وقلبها يحترق وتمكنها من الوقوف ورجلاها مكسورتان.

جاء اليوم الذي قبل نهاية الأسبوع وقد كان في ذلك اليوم عيد ميلاد صديقة أوزجي بالمدرسة.
كانت ريحان بغرفتها تتجهز للخروج يومها فقد قررت الذهاب مع أوزجي ومليكة للتسوق لشراء فستان جديد وهدية لصديقة اوزجي بعد أن ألحت عليها الصغيرة أن ترافقها لتختار لها ما يناسب صديقتها.
ارتدت فستانا باللون الأزرق الملكي بسيط وتركت شعرها منسدلا على كتفيها بالأصل لم يكن لها مزاج لتتزين فقط تريد إن تقضي هذا المشوار سريعا وتعود للقصر لتنطوي على نفسها فنظرت لانعكاسها بالمرآة وزفرت بحنق قائلة:
إلى متى سنبقى هكذا أمير؟ الله المستعان.
جهزت نفسها سريعا وأمسكت بحقيبتها لتأتي اوزجي إليها من غرفتها راكضة فرحة تردد في الرواق بحماس وبصوت عال:
انا جاهزة أنا جاهزة هيا هيا لنذهب سريعا ليس لدينا وقت.

ابتسمت ريحان حين سمعت صوتها وحمساها فتلك الأميرة فقط من جعلها تبتسم وأحيانا تضحك مقهقهة في تلك الأيام ثم انحنت إليها سريعا حين دخلت كي تحملها فرحة بها لكنها فجأة أحست بدوار في رأسها وإشارة ألم مثل الكهرباء ضربته جانبا فأنزلت أوزجي سريعا وعادت للخلف مباشرة لترمي جسدها على السرير جالسة وهي تشد على رأسها بكلتا يديها متألمة.

نظرت إليها أوزجي بخوف لتقترب منها وتمسك يدها وضمتها بقوة قائلة:
مابك حبيبتي ماذا حدث معك؟
نظرت ريحان إليها وابتسمت تدرك أنها خائفة ثم مسحت على وجنتها الناعمة وتحدثت بصوت متثاقل محاولة أن تظهر أنها بخير لتقول:
بخير حبيبتي بخير لا تقلقي مجرد دوار بسيط فقط لا ترتعبي اتفقنا؟ لترد أوزجي:
لكنك تألمت فجأة وأنزلتني

هنا دخلت مليكة عليهما مستعجلة لتردد:
أنا أصبحت جاهزة أرجو أن لا أكون قد تأخرت عليكما هيا صغيرتي لنذهب فمشوارنا طويل لكن انتبهت لريحان ولون وجهها الشاحب وكيف كانت تضع يدها على رأسها وتضغط على جبينها متألمة لتسرع ناحيتها وتقول بتوتر:
ريحان ابنتي أنت بخير؟
ردت ريحان مبتسمة:
بخير خالة بخير لا تقلقي أنت أيضا أنا فقط لتقاطعها اوزجي عن الحديث وتخاطب مليكة قائلة:
ليست بخير أنا أعرف هي فقط تتظاهر بأنها كذلك لقد دار رأسها فجأة حين حملتني ثم أنزلتني سريعا وجلست على السرير حتى كادت تقع
نظرت ريحان للصغيرة لتبتسم لها قائلة:
لا تبالغي أوزجي ليس لهذه الدرجة
اقتربت مليكة من ريحان أكثر ووضعت يدها على جبينها تجس حرارتها ثم مسحت على شعرها قليلا وخاطبتها:
ريحان أنت على هذه الحالة منذ أيام أصلا لا تظني أنني لم ألاحظ أنت مريضة وتكابرين قلت لأترك على راحتك لكن يبدو أنني أخطأت يجب أن ناخذك للمشفى هيا.
ردت ريحان على عجل تمسك بيدها:
لا لا لايوجد داع خالتي أنا بخير أوزجي تبالغ أصلا كله بسبب قلة الأكل والنوم تراه فقط ضغط الدم انخفض سآخذ شيء مالحا وأكون ونخرج اتفقنا؟ لترد مليكة قائلة:
ريحان جسمك له عليك حق وما تفعلينه بنفسك لا يجوز انظري كم أصبحت هزيلة ولونك مائل للصفرة كأنك حبة ليمون اهتمي بصحتك حبيبتي ليس هكذا انظري لقد أصبح رأسك يدور كل حين دون سبب وقد تقعين أو يحصل معط شيء أسوء وتتأذين أكثر لا سمح الله.

سكتت ريحان ونظرت إلى الصغيرة التي بادلتها نظرة حزن ورجاء فرق قلبها لحالها ثم نظرت لمليكة قليلا وأخذت نفسا عميقا لتقول حينها:
حسنا سأفعل خالة أعدك سأهتم بصحتي وأكلي الذي أهملته جيدا والآن دعينا نخرج كي لا نتأخر هيا هناك فساتين أميرات في انتظارنا(وغمزت للصغيرة بعينها ما جعلها تضحك) لكن مليكة لم تكن لتوافق بسهولة لتخالفها قائلة:
لا دعينا نذهب للمشفى أولا رجاء ابنتي حالك لا يعجبني لكن ريحان أمسكت بيدها وضمتها لتبتسم قائلة:
أنا بخير صدقيني لا يوجد شيء مجرد دوار لنذهب مشوارنا فقط يكفي خوفا يا صاحبة القلب الحنون أنت.
ضحكت مليكة وردت:
هكذا إذا أصبحت صاحبة القلب الحنون لا بأس أكلت عقلي بكلماتك لكن لعلمك حين نعود سأجلسك أمامي وأطعمك بيدي غصبا يكفي دلالا أليس كذلك أوزجي؟ فردت أوزجي قائلة:
أصلا سنأكل شيء في المول أنا منذ الآن أشعر بالجوع لتومأ ريحان بالموافقة مبتسمة
تحركن نحو الحديقة لكن قبل أن يخرجن نظرت اليهما اوزجي وأمسكت يد ريحان توقفها لتقول:
لحظة ريحان أتتني فكرة
نظرت كل من ريحان ومليكة لبعضهما باستفهام لتكمل أوزجي قائلة:
لم لانذهب لزيارة بابا؟انا اصلا لااراه منذ أيام وأريد أن أريه فستاني الذي ساشتريه يعني نكمل مشوارنا ومن هناك للشركة نجعلها مفاجأة بالتأكيد سيفرح.

نظرت ريحان لمليكة لتبادلها الأخرى نظرة رجاء سكتت ريحان قليلا ثم نظرت لأوزجي لتقول مبتسمة:
ليكن كذلك صغيرتي ننهي تسوقنا ومن هناك إلى بابا ثم أعادت النظر لمليكة التي لم تنطق بشيء لتقول:
لاجلها فقط سأفعل.

توجهن بعدها للمول للتسوق محل يليه محل وفساتين مختلفة التصاميم والألوان الزاهية فاختارت أوزجي بمساعدة ريحان فستانين بدل الواحد واحد باللون الأحمر وواحد آخر باللون الفيروزي كل واحد أحلى من الثاني ثم اشترت هدية لصديقتها لتأخذن طريقهم إلى الشركة بعدها ورغم تعب ريحان إلا أنها ذهبت مع أوزجي ولم تشأ أن تكسر بخاطرها.

في الشركة كان أمير جالسا يعمل بمكتبه كعادته لكنه وجد خللا في بعض الأوراق ما جعله يقوم من مكانه متجها لمكتب والده ليريه ذلك.

خرج من مكتبه لكنه توقف مكانه دون حركة حين رأى كمال يودع والده وهو يخرج من مكتبه.

وقف هناك متسمرا ينظر ولم يقترب خطوة أكثر حتى.

التفت كمال الناحية الأخرى متوجها للخارج لكن أمير اقترب منه سريعا بعد أن اقفل والده باب مكتبه ليقف بمحاذاته قائلا:
أنت ما سبب وجودك هنا بالشركة؟

توقف كمال والتفت لأمير وعدل من هندامه ثم تحدث بابتسامة ساخرة ليقول:
عمل
فرد أمير بنفس الضحكة الساخرة:
هههه عمل قلت لي إذا وأي عمل هذا الذي ظهر من العدم فجأة؟ لا ولن يجمعنا أي عمل معك
ليرد كمال:
والدك من دعاني وانا لبيت دعوته واتفقنا هكذا فقط

نظر أمير إليه بغضب وهو يشد على قبضته بينما الموظفين ينظرون هناك فانتبه لمن حوله ولنظراتهم وتعجبهم ثم قال:
لنتحدث في مكتبي.
رد كمال بكل برود:
تفضل سيد أمير لا مانع لدي أصلا يوجد لدي وقت للحديث معك.

دخلوا المكتب وبدؤا نقاشهم الحاد مباشرة.

في هذه الأثناء وصلت ريحان واوزجي الشركة لتقررا النزول دون مليكة التي بقيت تنتظرهم بالسيارة.

توجهتا لمصعد الشركة لكن ما ان دخلتا حتى تمسكت اوزجي بساق ريحان وضمتها بقوة خائفة مرددة:
هل سنركب المصعد في كل مرة ألا يكفينا المول؟

نزلت ريحان الى مستواها لتقول:
لا تخافين وانا بجانبك؟ أخبرتك أن لا شيء سيحدث لا تقلقي مجرد دقيقة نكون عند بابا،تعالي ساحملك ليزول الخوف ثم قامت بحملها والضغط على زر الصعود للطابق الذي يوجد به مكتب أمير فأوزجي تعرف رقمه.

في مكتب أمير كان كمال يخاطبه وكل حين تعلو أصواتهم أكثر ونقاشهم يزداد حدة ليتحدث كمال ويقول:
تظن أني مثلك إذا نعم هي أختي وسيأتي  يوم وأخبرها بكل شيء دون أن أكسرها أو أحزنها سيأتي الوقت المناسب واأعيدها لعائلتها سيأتي اليوم وآخذها منك وأحررها من سجنك واحتضنها  لأحميها بكل نفس تأخذه وصدقني حين يأتي  ذلك اليوم ساخبرها حقيقتك وحينها فقط ستكرهك حد الموت أمير تارهون.

اقترب أمير من كمال وشد ياقة قميصه بشدة يعقد حاجبيه وعروق رقبته بارزة ليقول بغضب:
اسمع هي كلمة واحدة لن  تأخذ مني عشق ولو على جثتي فهمت؟ ستواجهني وتقتلني قبل أن تفعلها وأكاذيبك هذه وفرها لنفسك ما بيننا أكبر من أن يؤثر عليه أو ينهيه أمثالك لن يصدقك أحد مهما تلفظت من تفاهات.
رد كمال غاضبا يحاول فك نفسه:
اترك قميصي ثم دفع أمير عنه ليكمل:
اسمع أنت ياهذا كل الأدلة التي تثبت ذلك معي وأيضا هههه موضوع قتلك هذا صدقني أفعلها بسهولة وأنهيك لا تقلق بهذا الشأن ما أوقحك وما أجبنك ماذا تريد منها أكثر ماذا؟إن كنت حقا تحبها كما تدعي  لما لا تتجرأ وتخبرها حقيقتك أنك وراء كل ما حدث لها لما لا تتشجع وتواجهها وتقول أنك أنت من أحضرها الكازينو وانك السبب في كل الألم الذي عاشته وأنت من تسبب لها بكل ذلك الأذى فقط بحجة أن تنتقم لاختك؟وياليتك تأكدت أنها ليست ابنة ديمير أنت احرقت روح فتاة بريئة طيبة بدم بارد إنك شيطان اقسم إنك شيطان يستحيل أن  تكون بشرا،بفعلتك ظلمتها مرتين وطعنتها مرتين بدل الواحدة وأحرقت روحها مرتين بدل الواحدة لكن لا بأس سآخذها منك وستعود نكرة كما كنت
لقد ظهرت الحقيقة للعلن وكشف الستار وشبح الخوف الذي كان يهرب منه أمير هاهو الآن يقف أمامه لكن هذه المرة كبر وأصبح أضخم وأبشع،ذلك الذنب الذي يلاحقه أينما ذهب يبدو أنه لن يتركه يهنئ بحبه يوما.
اتسعت عيون أمير لما سمع من كمال وتجمد الدم بعروقه ودب الخوف كل أنحاء جسده وأتى أمامه كل ما صنع بها تلك الأيام من قسوة وجور وكيف كان يهينها وكيف كان يسحبها إلى تلك الغرفة المشؤومة ويحاول لمسها أو تقبيلها قصرا وكيف كانت تصرخ وتقاوم وتحاول أن لا تستسلم رغم ضعفها ليبدأ قلبه بالإعتصار ألما حتى أوجعه فهو لم ينس يوما ما صنع بتلك البريئة لكنه ندم وتاب وعاد لخالقه وكفر عن أخطائه وخير الخطائين هم التوابون كما أخبرنا قرآننا الكريم كما أنه عشقها حد الجنون وأصبحت  نفسه الذي يأخذه ونبضه الذي يحييه ودمه الذي ينتقل في شرايينه وابتسامته وهناءه وطمأنينته وإن غابت يختنق لا محالة لكن فجأة فتحت اوزجي باب المكتب على والدها وهي تناديه:
بابا أتينا
التفت أمير وكمال ناحيتها مباشرة لينصدم أمير بريحان واقفة عند باب المكتب فتسمر مكانه منصدم لا يستوعب أنها فعلا هي فشعر بقشعريرة أصابت جسده واتسعت عيناه على مصرعيهما لكن قبل أن يتلفظ وينطق اسمها من شفتيه سقطت ريحان مغشيا عليها أرضا.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي