الفصل ٨
شهقت سلوان بصوتٍ عالٍ الا أنها كتمت شهقتها بكفها بكل قوتها واتسعت عيناها بصدمةٍ عنيفة
أما عامر فأجاب بصوتٍ شديد الهدوء أقرب للسخرية وكأن الاقتراح لم يزعجه
أخبرتك أن زواجي بسلوان دائما وأن حياتي معها مستمرة سلوان ليست نزوة إن كان هذا ما لا تزال تظنه أو تتمناه
رد علام بقسوة
ليس ما أتمناه لأنه ما أنا متأكد منه في المستقبل , لكن حتى هذا الحين و حتى تتعقل وتخرجها من حياتك كما تعقلت بخصوص المشفى أعد نيجار الى عصمتك لا سبيل آخر
رفعت سلوان كلتا كفيها تغطي بهما وجهها أسفل عينيها المتسعتين أما عامر فسأل باستهزاء مزدري
وهل تتنازل نيجار و تقبل بأن تكون زوجة ثانية وسلوان الأولى مكانة و أهمية ؟!
كانت سلوان تنتفض بشدة من قمة رأسها وحتى أخمص قدميها و توشك على أن تسقط أرضا وسمعت علام يجيب بغضب بارد جليدي
عليها أن تتنازل وسيجبرها والدها على القبول
ابتسم عامر ابتسامة عريضة بينما برقت عيناه بقسوةٍ وتشفي الا أنه أجاب في النهاية بصوتٍ غريب
سأفكر في الأمر
أطبقت سلوان عينيها وهي تهز رأسها يمينا و يسارا بعدم تصديق كاتمة فمها بيدها وحين وجدت أنها لن تستطيع أن تظل صامتة أكثر ابتعدت عن الباب بسرعة مهرولة على أطراف قدميها لكن ما أن ابتعدت بما يكفي حتى أوشكت أن ترتطم بخاطر فوقفت مكانها تنظر إليه بعجزٍ ثم سارعت تبعد عينيها المبللتين عنه و هي تتمتم بشيء بصوتٍ خفيض وكأنه اعتذار
انعقد حاجبا خاطر بشدة ثم سألها بقلق
ماذا حدث ؟!
تمكنت من الرد بصعوبةٍ أشبه بالاستحالة وهي تشير للمكتب بإشارة واهية
لا لا شيء انهم يتكلمون بهدوء أظن زوجتك بخير فقط زوجي ووالده يتحدثان بعد اذنك , يجب أن أصعد لأرى ابنتي
ثم أسرعت تهرب من أمامه والدموع تنساب على وجنتيها ببطء وبغزارة , و أخذت تسرع الخطى حتى تحول صعودها على السلم جريا فوق درجاته
راقبها خاطر بملامح مضطربة غير مرتاحة , ثم أعاد عينيه الى باب المكتب مجددا
شيء واحد هو أكيد منه , هو أن خلافاتِ قومٍ كهؤلاء , يُسحق فيها الضعاف أمثال سلوان دون رحمة فهم على الأرجح لن يلحظوا وجودها من الأساس بينما يتم دهسها بالأقدام
لكن ماذا عنه ؟!
ليس ضعيفا ليسحق لكنه اكتشف أن لديه قلبا يمكن أن يُقتل دون رحمة أيضا وحين تنتهي القصة , ربما تبتسم له شغف ابتسامتها الهادئة و تمد له يدها مصافحة مع اعتذارٍ رقيق و تأكيد بأنها لم تقصد إيذاؤه الى هذا الحد
......
ظلت في جلستها شاردة متسعة العينين وقبضتيها على فمها الفاغر فلم تسمع دخوله من الغرفة ووقوفه ينظر إليها عاقدا حاجبيه وهو غير مرتاح لعينيها الحمراوين الواسعتين ونظرات الخوف بهما !
تكلم عامر بصوتٍ خفيض أجش
بحثت عنكِ في غرفتنا فلم أجدك ماذا تفعلين هنا ؟
انتفضت داخليا جراء سماع صوته لكنها نجحت في إظهار الثبات ظاهريا و هي ترفع عينيها الواسعتين إليه تبادله النظر لبضعة لحظات جعلته يتجهم أكثر , ثم همست أخيرا بصوتٍ فاتر أجوف
أجلس بجوار ابنتي
نظر عامر من خلفها الى روان النائمة , ثم سار إليها ببطء حتى جلس بمحاذاة سلوان ومال الى الصغيرة يقبل وجنتها برفق ثم أخذ يداعب شعرها برفق و هي تراقبه شاعرة بألمٍ عنيف في صدرها وحين استقام همس بصوتٍ خافت دون أن يرفع عينيه عن روان
إنها بخير
ردت سلوان بصوتٍ متشنج وكأنها تنطق الكلمات بصعوبة
هل كان يفترض بها ألا تكون بخير !
رفع عامر عينيه إلى سلوان يقيم تعبيرات وجهها لبضعة لحظات , ثم استقام مقتربا منها أكثر قبل أن يقول بجدية
بالنسبة لما حدث , لم يكن هناك احتمال لإصابة روان بأي مكروه لم أكن لأحضرك أنتِ والبنتين هنا لو شككت في الأمر للحظة
ردت سلوان بنبرة بدت عصبية أكثر من صوتها العادي
انطلقت رصاصة و طفلتي موجودة يا عامر
شبك أصابعه مطرقا برأسه وهو يقول بخشونة
وأنا ابنه الوحيد و كنت واقفا أمامه , كان يهددنا فقط ولم يكن ليصيب أي منا , على الأقل لن يخاطر بالمساس باسمه لأجل أي شيء صدقيني
لأجل أي شيء وكنت أنا هذا الشيء الذي لا يستحق أن يخاطر باسمه لأجله , مجرد نكرة
ودت أن تقول هذا الا أنها آثرت أن تتكلم بجدية عوضا عن هذا
حتى ولو كان ما تقول صحيحا , فإن أسلوب التهديد بالأسلحة والطلقات ليس المناخ المناسب لتعيش فيه بناتي
رفع وجهه وقال بصوتٍ قاطع
لن يتكرر هذا مطلقا , بل لن يمسك أحد بأي سوء و هذه كلمة مني ثقي بها
نظرت سلوان الى عينيه طويلا , وعلى الرغم من القساوة البادية فيهما جراء الحوار العنيف الذي تبادله مع والده منذ قليل والذي لا يزال تاركا آثاره عليه الا أن طول فترة تحديقها بعينيه جعلتهما تركزان عليها , وتتحركان فوق ملامحها فوق عينيها , وجنتيها , شفتيها لتستقران هناك للحظات , ثم رفع أصابعه يلمسهما برقة ورأت ابتسامة باهتة ترتسم على فمه ببطء بينما هو شارد في تفاصيل وجهها
وعلى الرغم من عذوبة تلك اللحظات الا أنها قطعتها تسأله بفتور
هل يمكنك أن تعطيني كلمتك بالفعل في ألا يمسني سوء هنا وأنا زوجتك يا عامر ؟
أجفل ناظرا إليها بدهشة , عاقدا حاجبيه ثم سألها بصوتٍ أجش صارم
هل تشكين في هذا ؟!
لم ترد على الفور , بل ظلت عينيها على عينيه طويلا وهي التي لم تكن تستطيع مبادلة أحد النظر لأكثر من ثلاث ثوانٍ فقط وسألت متابعة ببطء مشددة على كل حرف
جسديا فقط ؟!
ازداد انعقاد حاجبيه أكثر وأكثر ووجدت فجأة ذراعه تضم خصرها اليه بقوة بينما رفعت كفه الأخرى ذقنها ونظر الى عينيها طويلا متجهما قبل أن يرد بإصرار
ونفسيا وذهنيا وكل شيء الا تثقين بي ؟!
لم تهتز على الرغم من الأمان الخائن الذي شعرت به بين ذراعيه ثم ردت ببطىء
هل يتعين علي الثقة بك ؟! لم أعرفك سوى من فترة وجيزة وتجاربي مع البشر عادة ليست مبشرة
انقبضت أصابعه بشدة على ذقنها وهو ينظر الى عينيها بغضب ثم همس من بين أسنانه بغضب
تستحقين صفعة على هذا الكلام يا عمتي سلوان لكن و بما أنني وعدتك للتو الا يصيبك أي سوء , على الأقل جسديا لذا لدي عقاب أشهى
أخفض وجهه و قبلها بقوة مما جعلها تطبق عينيها وهي تتشبث بأصابعها في ساعده ارتفع ذراعها ببطء لتحيط بها عنقه , الا أنها سرعان ما انتفضت فجأة وأبعدته عنها مما جعله يسألها بدهشة دون أن تستقر أنفاسه بعد
ماذا حدث ؟!
نظر الى روان ثم ابتسم قائلا بمداعبة
نعم , صحيح كادت عذوبتك أن تنسيني قوانين الأم الصارمة
ثم أمسك بكفها وحاول جذبها قائلا بصوتٍ أجش خفيض
تعالي الى غرفتنا
سمرت سلوان نفسها و رفضت التحرك مما جعله ينظر إليها بتعجب فأخفضت وجهها المضطرب وهمست بصوتٍ متباعد
أحتاج اعذرني , أنا مرتبكة قليلا بسبب ما حدث , هلا سمحت لي بالنوم بجوار روان الليلة
ظهر في عينيه شيء أخافها , أشبه بالغضب جعلها ترتبك وتراجع ما نطقت به , هل كان طلبها شديد الوقاحة ؟! ما باله ينظر إليها بهذا الشكل !
كانت صامدة و هادئة الى حد ما و ثابتة على موقفها لكن نظرته لها أخافتها وجعلها تتلعثم و تصحح دون تفكير
أقصد أنني
هدر بها فجأة متشنجا
أنكِ ماذا ؟! هل هذا طلب طبيعي في ثاني ليلة من زواجنا ؟! هل هناك ما يشعرك بالنفور ؟!
ازداد شحوب وجهها وهي تنظر إليه بعينين واسعتين وفم فاغر قليلا حتى أنها تراجعت واستندت بمرفقيها على السرير خوفا من غضبه
هل لاحظ ليلة أمس عدم ارتياحها لجرأته الزائدة عن الحد ؟! لكنها كانت حريصة في أن تخبئ مشاعرها تماما كي لا تضايقه لكنه على الأرجح شعر بهذا , لكنها لم تشعر بالنفور تماما فقط أن تلك الجرأة لا تناسب طبعها و ما تفضله ليس هذا طبعها أو شخصها
همست سلوان مرتبكة وهي ترمش بعينيها
أنا كنت فقط
لم تعرف بماذا تجيب , فما كان منه الا أن تركها بسرعة ونهض واقفا قفزا و كأن ثعبان لدغه ووقف مشرف عليها بملامح غريبة بينما كان يتنفس بسرعة ثم قال أخيرا بصوتٍ غامض
كما تريدين
ثم تركها و خرج من الغرفة , وتركها نصف مستلقية على السرير تراقب انصرافه المندفع بذهول
وساد صمت كئيب في الغرفة جعلها ترجع رأسها للخلف مغمضة عينيها بشدة وهي تلعن لسانها المتلعثم الذي لا يجيد الكلام لو كانت أجادت نطق جملة واحدة منطقية لربما استطاع فهم احساسها لكنه ظل يستنتج سريعا و يتكلم مع نفسه وهي أمامه تتلعثم كالبلهاء
ماذا تفعل الآن ؟! ما هو التصرف الأمثل ؟!
هل تتجاهله و تترك الليلة تمر لتفكر بهدوء في كارثة احتمال عودته لطليقته دون أخذ رأيها ؟!
أم تلحق به و تحاول أن تشرح له سبب إجفالها بالإضافة للاعتراف بسماعها ما دار في المكتب أم تركز في الكلام عن عدم اعتيادها هذا النوع من العلاقات الغريب عليها ؟!
شعرت برأسها يدور في الكثير من الأشياء و قلبها ينبض بعنف وخوف و عقلها يرتج بجنون فأسقطت رأسها تدفنه في السرير متأوهة بصوتٍ مكتوم وصمتت للحظات تحاول استرجاع ما كانت لتنصحها به جدتها
كانت لتنصحها بألا تعترف بسماعها ما دار بينه وبين والده وتنتظر لحين يفاتحها برغبته في العودة لطليقته فربما أثار إلحاحها عناده لذا الأفضل أن تصمت حاليا بذكاء المرأة التي تريد الحفاظ على بيتها وزوجها
أما عن علاقتهما الزوجية , فعليها أن ترضي زوجها بشتى الوسائل كما يحب هو لا كما ترتاح هي
فهي لن تنسى ما برر به حسين رغبته في تطليقها وكلامه عن عدم قدرتها على إرضائه وفتورها
استقامت سلوان لتجلس ببطء على حافة السرير ناظرة أمامها بعينين واسعتين كبيرتين
ثم همست ببطء
ليس عدلا كل هذا ليس عدلا
وعلى الرغم من هذا نهضت من مكانها ببطء تجر قدميها حتى وصلت الى باب الغرفة و التفتت تراقب روان بنظراتٍ شاردة للحظات قبل أن تغلق الباب وتذهب الى غرفتهما
...........
في غرفة المكتب كان نصيبها من التهديد والترهيب لم ينفذ بعد فبعد خروج عامر ظلت مكانها واقفة تولي خالها ظهرها بملامح صلبة باردة وعينين ميتتين بينما وجنتها حمراء ملتهبة
ووقف هو كذلك صامتا يراقبها و يده فوق سطح المكتب وملامحه متجهمة و عيناه ضيقتان ثم قال أخيرا بصوتٍ متجبر رغم خفوت نبرته
يبدو أنكِ نسيتِ اتفاقا كنا سبق وعقدناه في هذه الغرفة تحديدا منذ سنوات
ضحكت شغف ضحكة ساخرة لم تطل عينيها الجليديتين ودون أن تستدير إليه سألته مستهزئة باستهانة
أتسمي جلستك الحنونة معي بعد نجاحي اتفاقا ؟! الإتفاق يا خالي العزيز هو قرار مشترك بين طرفين وهذا بالتأكيد ما لم يحدث لقد أقررت أنت شيئا , و افترضت موافقتي عليه
رد عليها علام بشدة و بصوتٍ مخيف
لست أنا من أقررت , بل الحق والعدل
استدارت اليه متسعة العينين ذاهلة , وهي تضحك سائلة
الحق ! العدل ! بأي شرع ؟!
هدر خالها قائلا بحدة مدافعا
شرع المنطق
أصدرت صوتا عاليا هازئا الا أنها لم تكن قادرة على الابتسام ولو ساخرة حتى
شرع المنطق ! ابتدع شرعا جديدا كما يسير كل شيء وفق قانونه الخاص !
كتفت شغف ذراعيها وهي تدلكهما ببطء متذكرة هذه الجلسة التي يتحدث عنها , بل في الواقع لم تنساها من الأساس لم تنساها يوما أو لحظة
فتلك الجلسة كانت لحظة فارقة في حياتها كانت إحدى الصدمتان اللتان ضربتا حياتها للأبد
نظرت شغف الى أرجاء المكتب القديم بملامح كارهة على الرغم من انهزام عينيها
كانت يومها عائدة بعد ظهور النتيجة و نجاحها بتفوق وكانت على غير عادتها تجري بعينين تبرقان سعادة ولهفة ولم يكن هذا طبعها , بل لم تشعر قبلا بمثل هذه اللهفة الا في مرات نجاحها وتفوقها فقط
بين جدران هذا البيت العريق القديم لم تعرف سوى الهدوء والاختباء خلف الكتب للتفوق فقط لا غير
كانت مُختَبِئة بل مُخَبَئَة
كان خالها يحرص على تخبئتها عن مجتمعه و ابقائها داخل جدران البيت وقد ساعد اسم والدها الملحق باسمها في أن تظل غير معروفة الصلة بعائلة داشاي للكثيرين إن لم يكن معظمهم
عاشت طفولتها ومراهقتها بل و بداية شبابها دون أصدقاء تقريبا فقط نسيبة ابنة عمتها
ولم تكن تعرف الحياة و المشاعر الا في الأوقات القليلة التي كان يسمح لها فيها بزيارة والدها
هناك في البيت الضيق المتهالك كانت تلعب وتصعد برج الحمام وتستمع الى والدها وهو يعزف على أوتار العود وكان صوته شجيا مطربا كانت تعشق الاستماع اليه بينما تمارس شغفها الخاص في الرسم بجواره
أحيانا يقضيان طول فترة الزيارة في تلك الجلسة فوق برج الحمام وأحيانا لا يتكلمان حتى
كل منهما يرى شغفه في الآخر وهذا كان أكثر من كافيا
حاول علام كثيرا منعها من زيارة والدها , الا أن عبد الرحيم للمرة الأولى في حياته قاتل في شيء واحد فقط
أن تظل ابنته على صلة به ولو على فتراتٍ متباعدة وكان شرسا مستميتا في الدفاع عن حقه فيها
بخلاف حقه في أمها !
لطالما رأت شغف في والدها العاشق البطل والمتيم الذي واجه الجميع و تزوج ابنة الأكابر بينما هو من القاع كالقصص و الأفلام
تمنت يوما أن تجد عاشقا مثله وكما يقولون احذر مما تتمنى !
لم تعرف أبدا حتى وقتها كيف انفصلا , فكلا منهما كان يرفض سرد التفاصيل , و يكتفي بالصمت كلما سألت عن قصة عشقهما التي سيخلدها التاريخ كقيس وليلى روميو و جوليت عبد الرحيم و ناردين
مجرد اجتماع الاسمين كان مضحكا حتى الأسماء كانت متناقضة غريبة في اقترانهما
لكنها كانت تراها قصة العشق التي يضرب بها المثل
كل ما غنى عبد الرحيم كان لأجل ناردين تلك الجميلة الفاتنة سليلة عائلة داشاي , بينما هو مجرد عاملا بسيطا لدى والدها, ولم يكن جامعيا حتى تماما كالأفلام
كم تمنت لو عرفت تفاصيل بداية عشقهما لتوثقها فوق الصفحات , لكنها لم تكن بارعة في الكتابة ابن خالها هو العاشق في الكتابة , كانت تتمنى أن تمليه قصة عشقهما ليسطرها في رواية
المعضلة الوحيدة انها لم تمتلك يوما التفاصيل كل ما تعرفه أنها ثمرة عشقهما والدليل القاطع على تلك القصة المجهولة , حتى أن عبد الرحيم هو من اختار اسمها مقتبسا من وهج شعوره بناردين
عبارة والدها كانت ترن في أذنها دائما اتبعي شغفك يا شغف ولو لآخر حدود الكون
بينما كبرت على دفع أمها لها بكل قوة كي تتفوق وتلتحق بكلية الطب كان الأمرة بالنسبة لها حياة أو موت كلية الطب هي الأمل المنشود لأمها دون رحمة أو تهاون رقة أمها كانت تختفي ما أن ترتاح شغف عن الدراسة قليلا و كأن حالة عصبية تنتابها لتتابع دون توقف وتتفوق وتلتحق بكلية الطب
لم يكن يسمع لهما صوتا خارج غرفتهما لكن داخلها كانت ناردين تقترب بفمها من أذن شغف و هي خلف مكتبها تدرس تشد على ذراعها وتهمس من بين أسنانها مشددة
لن أقبل سوى بكلية الطب يا شغف وإن أخفقت ستعيدين المحاولة .
وكانت النتيجة شابة منطوية منكبة على دراستها باهتة الحياة في بيت داشاي , تتعلم أصول التعامل برقي دون أن تستخدمها فعليا نظرا لوحدتها
وفنانة شغفها الرسم و الاستماع لعزف والدها على العود تصعد برج الحمام حتى تكاد أن تلامس السماء و تحلق فيها في الحي الفقير المليء بالحياة و الصراخ , الضحك والدموع والعويل
لكنها كانت مختلفة عن كل بيئة منهما غريبة , محط الأنظار دائما
يوم التحاقها بالطب كانت كارثة وحلت على بيت داشاي لقد سجل خالها بنفسه رغبات بعيدة كل البعد عنها , الا أن ناردين بصمت و بعينين جاحظتين تنظران بطرفهما عدلت الرغبات , و فوجىء علام بوضعه أمام الأمر الواقع وأن شغف باتت مسجلة في كلية الطب و انتهى الأمر
وارتاحت ناردين نوعا ما لكن ضغطها لم يخف , بل تحول الى المشفى الهدف الأساسي والأكبر
مشفى داشاي التي كانت مصيرا حتميا لمستقبل عامر ابن خالها و الذي كان يتفوق قبلها دون ضغط أو مجهود فقد كان محبا للدراسة ومن بعدها دراسة الطب ثم نبغ في الجراحة من الواضح أن الجراحة كانت شغفه كالكتابة تماما بهدوء بكل هدوء و كأن الحياة كانت بالنسبة له بسيطة متوازنة دون أي أعباء
وبدأ تفوق شغف عاما بعد عام حتى بلغت عامها العشرين هذا العام كان محوريا في حياتها
تفوقت فيه وصدمت فيه وفيه تعرفت على آدم
هذا العام و بعد ظهور نتيجتها عادت للبيت جريا متلهفة أن تخبر ناردين كالعادة علها ترى في عينيها بعض اللهفة والحياة بعضا من السعادة الحقيقية , بخلاف اللهفة للهدف الأكبر
لن تنسى أنها رأت علام داشاي قبل ناردين ولن تنسى نظرته حين أخبرته بنجاحها بكل سعادة
ظل صامتا يحدق فيها بعينين واسعتين مفكرتين , متجهمتين طويلا و كأنه نسي أنها تقف أمامه ثم قال أخيرا بنبرة غامضة
تعالي معي الى المكتب يا شغف
لحقت به بصمتٍ محتارة حتى دخلت وجلست على الكرسي المقابل لمكتبه و بقى صامتا للحظات ثم رفع عينيه الى عينيها أخيرا بنظرته الغامضة التي لم تفهمها وقتها وقال ببطء
لماذا تتفوقين يا شغف ؟!
ارتفع حاجباها بدهشة , الا أنها ظنته سؤالا أدبيا فأجابت تهز كتفها بصوتٍ خافت
أتفوق لأنني يجب أن أتفوق
ضاقت عيناه و كرر السؤال مجددا بنبرة أشد و أقوى
لماذا التفوق بمثل هذا الإصرار يا شغف ؟! لن تلتحقي بطاقم التدريس في الكلية اذن لما التفوق الى هذا الحد ؟! ما هو الهدف الذي تسعين إليه ؟!
فغرت فمها قليلا وعادت تهز كتفها ثم قالت بخفوت
هدفي هو المشفى , أقصد العمل في المشفى مشفى داشي
ضرب علام سطح المكتب بقبضته بكل قوته مما جعلها تنتفض شاهقة وهو يهدر عاليا
على جثتي
تراجعت في مقعدها وهي تنظر إليه بذهول لا تعلم ما الذي أصابه فجأة ثم تمكنت من القول أخيرا بصوتٍ محتار
ورثت أمي نصيبا في المشفى , ولكونها ليست طبيبة فقد كان حلمها أن
قاطعها علام هادرا بقسوة وعنف
أن تستلمي نصيبها و تعملي في المشفى و تكوني مساوية لابني عامر أليس كذلك ؟!
ارتعشت شغف داخليا بشدة , فقد كانت المرة الأولى التي يخاطبها فيها خالها بهذه الطريقة , على الرغم من أنه لم يكن ودودا معها أبدا وتشك أنه كان ودودا مع أي مخلوق لكنه كان دائما هادئا مسيطرا على انفعالاته يعاملها بتحفظ لكنه لم يقسو عليها من قبل
هذه المرة كان غريبا منفعلا غاضبا
ربما لأن المشفى كانت تمر بحالة من حالات الضيق المادي وكان يخشى خسارتها مما جعله عصبيا متوترا
ربما
لكنه حين تكلم كان قد تمالك نفسه و شبك أصابعه ناظرا إليها ثم قال ببطء وبصرامة
هذا ليس حقك يا شغف أتقبلين على نفسك حقا , ليس حقك ؟!
انعقد حاجباها بشدة وهي تمد رأسها للأمام محاولة الاستيعاب ثم تراجعت و قالت بفتور باهت
لأمي نصيب , و أنا طبيبة لذا من الطبيعي بعد عمرٍ طويل أن
قاطعها علام قائلا بخشونة
للحق وجوه عدة
رفعت حاجبها وسألت ببطء
أي وجوه ؟! إنها أنصبة وحقوق
تراجع علام في مقعده و دار بكرسيه قليلا مبعدا وجهه عنها ثم سألها بصوتٍ متباعد جاف دون أن ينظر إليها
ألم تسألي نفسك يوما يا شغف عن ظروف زواج أمك ووالدك ؟
ظلت صامتة لفترة ثم أجابت بجفاء
سألت كثيرا و لم أصل الى التفاصيل لكن أيا كانت تلك التفاصيل , هل هذه هي المشكلة ؟! أنها أحبت رجلا ليس من مستوى عائلة داشي وتزوجته فيتم حرمانها و ابنتها من حقها الشرعي ؟!
التفت ناظرا اليها محدقا في عينيها بنظراتٍ أخافتها ثم أجاب مشددا
ليت القصة كانت بمثل هذا الرقي
علمت لحظتها أن ما ستسمعه في اللحظة التالية سيغير حياتها للأبد , و بالفعل تابع علام يقول
ببطء مخفضا عينيه
لم تحب أمك عبد الرحيم مطلقا , ولم تكن بينهما أي قصة ما لم أكن راغبا في أن تطلعي عليه يوما هو بداية القصة ولم نكن لنصل الى هذه النقطة لولا إصرار والدتك على اقحامك في مكانٍ ليس بمكانك و ليس من حقك والدك ما كان الا غطاءًا مجرد غطاء لخطأ كبير اقترفته والدتك بحق شرفها
رمشت شغف بعينيها تطبقهما بضعة لحظات قبل أن تفتحهما وتنظر اليه تهز رأسها قليلا , ثم سألت بصوتٍ غريب وكأن حلقها خشن غير مستوي
ماذا تقصد ؟
أخفض علام عينيه ثم أجاب قاطعا دون تردد
زيجة والدتك بوالدك كانت للستر مجرد عاملا تقاضى مبلغا ليتزوج بها حيث كانت في مرحلة متقدمة من حملٍ غير شرعي , استحال اجهاضه
لا تزال الصمت الذي طاف حولها كصراخٍ مدوي كاد أن يفتك برأسها و هي تنظر إليه بملامح باهتة هادئة ظاهرة صارخة بجنونٍ في داخلها يوازي جنون الشخص الذي يحادثها وحين وجدت صوتها سألت بنبرة بعيدة باهتة حيث كانت لا تزال تحت تأثير الصدمة لم تغضب حتى أو تنفعل
هل تريد القول , أنني ابنة غير شرعية ؟!
زم علام شفتيه وهو يرد بنبرة مزدرية متقززة
للأسف لا
رمشت بعينيها مجددا وهي تهز رأسها محاولة الفهم , سألت بغباء
هل قلت للأسف ثم لا ؟! هل ما سمعته صحيحا ؟!
رفع عينيه إليها ثم قال بجفاء جليدي
بلى قلت للأسف لا لقد تم تدبير سفر والدتك ووالدك كي تلد في الخارج وولد الطفل ميتا لكن والدتك لم تكتفي بما اقترفته من جريمة بل عزمت على معاقبة الجميع و قد أصابتها حالة من النقمة فهربت وهي بالخارج مع والدك بعد أن سلبت عقله و أجبرته على مساعدتها و اللحاق بها كالأعمى في كل مكان حاولنا البحث عنها لإعادتها لكنه كان يساعدها مغيبا وحين عثرنا عليها بعد فترة طويل كُنتِ أنتِ قد ولِدتِ وكانت صدمتنا بكِ أكبر من الصدمة الأولى على الأقل في المرة الأولى كانت تدعي أنها زلت بدافع من الحب , أما ما فعلته لاحقا كان مقززا وثمرته كانت فتاة لم تكن سوى ثمرة تمرد أحمق , أهوج
تدخل جدك و قتها و هدد والدك و أجبره على طلاقها بكل الوسائل حتى نجح في النهاية , لكنها لم تتخلى عنكِ وهددت بفضح الجميع إن أجبروها على تركك وانتهى الأمر بتقبلك بيننا محاولين قدر الإمكان ابعادها عن الاختلاط بالناس
شعرت شغف بأن صدرها يضيق ببطء و أنها باتت غير قادرة على التنفس محدقة في الأرض بعينين واسعتين و فم مفتوح يحاول استنشاق أكبر قدرٍ من الهواء وساد الصمت بينهما الى أن تابع علام قائلا بخفوت
أعلم أن السؤال الذي سأسأله سيكون مؤلما جارحا لكن أنا مضطر لسؤاله
, هل تتساوين في الحقوق و الأنصبة مع ابني الذي تعبت في تربيته حتى بات جديرا بتولي مكانه في المشفى ؟! هل تجدين أن لكِ حقا بالفعل ؟!
نظرت اليه شغف منتفضة عاجزة عن الرد مذهولة بينما أضاف ببطء أكبر
لم يكن المشفى هدف والدتك مطلقا من قبل أن تلدك , حتى أنها لم تلتحق بكلية الطب بل كانت تنجح بالكاد وما رسخت في عقلك هدف المشفى الا تكملة لنوبات تمردها و انتقامها الغبي من الجميع تريد فرضك على المشفى للتشفي في اجبارها على الزواج من والدك من قبل و جدك لم يفعل ما فعل الا سترا لها وليكون لابنها والدا ولو بالاسم فقط
صمت مجددا ثم قال بصوتٍ عنيفٍ محتد
كان جدك رجعي التفكير و التصرف , لو كان ترك حرية التصرف لي , لكنا عرضنا الطفل للتبني في الخارج و انتهى الأمر دون أن يعلم أحد بما حدث و دون الحاجة لأن تتزوج و نجعلها تتحكم بنا هي ووالدك
شعرت بالدوار ورأت أرفف الكتب تدور من حولها بسرعة حتى أنها أخفضت رأسها رافعة يدها تظن الكتب ستتساقط فوق رأسها و من بعيد وصلها صوت علام يسألها مجددا
هل تظنين أن لكِ حقا و أنك تتساوين بإبني يا شغف ؟!
رفعت وجهها و فتحت عينيها الغائرتين ناظرة إليه طويلا ثم وجدت لسانها يهمس ببطء و بهدوءٍ ميت
لا
صرخة من باب غرفة المكتب جعلتها تلتفت لترى أمها تنقل عينيها بينهما مذعورة صارخة
علاااام لااااااا لقد عاهدتني
أي شكٍ داخلها وقتها في كلامه , قُتِل في مهده و هي تنظر الى ملامح الذعر على وجه أمها مع صوت صرختها الحقيقة صرخت مع صرختها وسمعت خالها يجيب بقسوة
عاهدتك على أن تبعديها عن المشفى تماما فهذا ليس حقها , ما كانت الا نزوة غبية , بأي حقٍ تشارك ابني
لم تسمع المزيد يومها , لأنها ببساطة سقطت من فوق الكرسي مغشيا عليها
و عاشت بعدها فترة عصيبة , لم ينجح في إخراجها منها سوى آدم
أغمضت شغف عينيها وقد عاد بها الواقع الى وقوفها الآن تولي خالها ظهرها تشدد من ضم نفسها و كأنها تشعر بالبرد وجاءها صوت علام وقد تغير الآن عن الذكرى القديمة بأن ناله بعض الوهن و الكبر لكن نفس التسلط والجبروت
تعيدين نفس قصة والدتك دون أن تدرين عقلك الباطن يسيرك في خطٍ تدركين نهايته تماما , ما بين التمرد والرغبة في الانتقام تنتهكين حقا ليس حقا لكِ
استدارت اليه ببطء حتى واجهته وابتسمت
هي أيضا تغيرت , لم تعد نفس الفتاة المهذبة الانطوائية بل امرأة باردة الملامح زجاجية العينين
على شفتيها ابتسامة ساخرة , ثم أجابت هازئة بعفوية وهي تومئ برأسها بطريقة مسرحية
ليس عقلي الباطن فقط , أنا بالفعل أكرر قصة أمي فهي الوحيدة التي نالت منكم في مقتل كنت لأهنئها لو كانت لا تزال على قيد الحياة لكن للأسف , لقد قضيت عليها بعد أن أفشيت سرها وقضيت على والدي من بعدها
ضحكت بصوتٍ عالٍ وهي تهز رأسها هاتفة تسعل بعدم تصديق
هل تصدق يا خالي , رغم أنك ربيتني في بيتك , الا أنك ذات يوم و بخبرٍ واحد منك تسببت في تدمير حياتي وقناعاتي ومرض والدتي ورحيلها ثم مرض أبي من بعدها كل هذا دون أن يتلطخ اصبعا من أصابعك الذهبية
عادت لتضحك بصوتٍ عالٍ رنان , وهو ينظر إليها متجهما ثم سألها ببطء
هل تلقين على اللوم في كل هذا ؟! ربما تلقين اللوم علي أيضا فيما يخص ابنك !! لما لا فأنتِ بهذا الشكل تمنحين نفسك التبرير لنهب حق ليس حقك
خفتت ضحكاتها حتى صمتت , الا أنها ظلت مبتسمة ابتسامة ساخرة و موجعة
مؤلمة لمن يراها فما بال من يبتسمها ! ثم قالت أخيرا ببرود
نعم نظريتك الخاصة في الحق , لا أزال أتذكرها حتى يومنا هذا
اقترب منها حتى قال في النهاية بصوتٍ غريب
هل تصدقين أنني أحببتك يا شغف , لم أكن لأبقيكِ في البيت و أشرف على تربيتك لو أنني لم أحبك , لكن الحق شيء آخر
رفعت وجهها و نظرت اليه مبتسمة ثم أجابت ببساطة
نظرية خاصة أخرى عن الحب يجب أن يكون لك قاموس خاص يا خالي
زفر بقوة و بدا منهكا الا أنه تمكن من القول بصلفٍ و تسلط
اطردي الحيوان الذي تسحبينه معكِ في كل مكان ولنتفاهم
اختفت ابتسامة شغف للحظات وبدت ملامحها ناقمة وكأنه شتم والدها للتو ! وفي نفس الوقت إنه خاطر ! رمشت بعينيها قليلا , في كل الأحوال لقد أثار غضبها فتمكنت من الابتسام مجددا و سألته ساخرة ببراءة
أطرده من بيته ؟! ألم تفهم يا خالي ؟! لقد بعته نصيبي !
أغمض علام عينيه مثلها ثم هدر من بين شفتيه
توقفي عن هذا الخداع يا شغف , أعلم أنكِ لن تفرطي في شيء تملكينه لمطلق غريب اطرديه وربما نتفاهم حينها
ضحكت عاليا وهي تلوح بكفيها ثم هتفت من بين ضحكاتها وهي تنحني للأمام بسعادة
ألا تصدقني ؟! أقسم بالله يا خالي بعته نصيبي أقسم بالله هل أريك أوراق ملكيته ؟!
تسمر علام مكانه للحظات وأخذت عيناه تتسعان ببطء حتى جحظتا بصدمة وهو يسأل بصوتٍ خافت مرعب
هل فعلتِها ؟!
ازداد صوت ضحكاتها علوا حتى أصابته بالجنون ممتزجا بالهذيان فرفع يده و صفعها مجددا بكل قوته مما جعلها تترنح حول نفسها متأوهة وقبل أن تستقر فوق عقبيها ضربها مجددا , وتوالت الصفعات وهو يصرخ فيها حتى صرخت برعب محاولة الجري الى الباب وهي ترفع ذراعيها لتحمي نفسها من صفعاته
خاطر خاطر
أما عامر فأجاب بصوتٍ شديد الهدوء أقرب للسخرية وكأن الاقتراح لم يزعجه
أخبرتك أن زواجي بسلوان دائما وأن حياتي معها مستمرة سلوان ليست نزوة إن كان هذا ما لا تزال تظنه أو تتمناه
رد علام بقسوة
ليس ما أتمناه لأنه ما أنا متأكد منه في المستقبل , لكن حتى هذا الحين و حتى تتعقل وتخرجها من حياتك كما تعقلت بخصوص المشفى أعد نيجار الى عصمتك لا سبيل آخر
رفعت سلوان كلتا كفيها تغطي بهما وجهها أسفل عينيها المتسعتين أما عامر فسأل باستهزاء مزدري
وهل تتنازل نيجار و تقبل بأن تكون زوجة ثانية وسلوان الأولى مكانة و أهمية ؟!
كانت سلوان تنتفض بشدة من قمة رأسها وحتى أخمص قدميها و توشك على أن تسقط أرضا وسمعت علام يجيب بغضب بارد جليدي
عليها أن تتنازل وسيجبرها والدها على القبول
ابتسم عامر ابتسامة عريضة بينما برقت عيناه بقسوةٍ وتشفي الا أنه أجاب في النهاية بصوتٍ غريب
سأفكر في الأمر
أطبقت سلوان عينيها وهي تهز رأسها يمينا و يسارا بعدم تصديق كاتمة فمها بيدها وحين وجدت أنها لن تستطيع أن تظل صامتة أكثر ابتعدت عن الباب بسرعة مهرولة على أطراف قدميها لكن ما أن ابتعدت بما يكفي حتى أوشكت أن ترتطم بخاطر فوقفت مكانها تنظر إليه بعجزٍ ثم سارعت تبعد عينيها المبللتين عنه و هي تتمتم بشيء بصوتٍ خفيض وكأنه اعتذار
انعقد حاجبا خاطر بشدة ثم سألها بقلق
ماذا حدث ؟!
تمكنت من الرد بصعوبةٍ أشبه بالاستحالة وهي تشير للمكتب بإشارة واهية
لا لا شيء انهم يتكلمون بهدوء أظن زوجتك بخير فقط زوجي ووالده يتحدثان بعد اذنك , يجب أن أصعد لأرى ابنتي
ثم أسرعت تهرب من أمامه والدموع تنساب على وجنتيها ببطء وبغزارة , و أخذت تسرع الخطى حتى تحول صعودها على السلم جريا فوق درجاته
راقبها خاطر بملامح مضطربة غير مرتاحة , ثم أعاد عينيه الى باب المكتب مجددا
شيء واحد هو أكيد منه , هو أن خلافاتِ قومٍ كهؤلاء , يُسحق فيها الضعاف أمثال سلوان دون رحمة فهم على الأرجح لن يلحظوا وجودها من الأساس بينما يتم دهسها بالأقدام
لكن ماذا عنه ؟!
ليس ضعيفا ليسحق لكنه اكتشف أن لديه قلبا يمكن أن يُقتل دون رحمة أيضا وحين تنتهي القصة , ربما تبتسم له شغف ابتسامتها الهادئة و تمد له يدها مصافحة مع اعتذارٍ رقيق و تأكيد بأنها لم تقصد إيذاؤه الى هذا الحد
......
ظلت في جلستها شاردة متسعة العينين وقبضتيها على فمها الفاغر فلم تسمع دخوله من الغرفة ووقوفه ينظر إليها عاقدا حاجبيه وهو غير مرتاح لعينيها الحمراوين الواسعتين ونظرات الخوف بهما !
تكلم عامر بصوتٍ خفيض أجش
بحثت عنكِ في غرفتنا فلم أجدك ماذا تفعلين هنا ؟
انتفضت داخليا جراء سماع صوته لكنها نجحت في إظهار الثبات ظاهريا و هي ترفع عينيها الواسعتين إليه تبادله النظر لبضعة لحظات جعلته يتجهم أكثر , ثم همست أخيرا بصوتٍ فاتر أجوف
أجلس بجوار ابنتي
نظر عامر من خلفها الى روان النائمة , ثم سار إليها ببطء حتى جلس بمحاذاة سلوان ومال الى الصغيرة يقبل وجنتها برفق ثم أخذ يداعب شعرها برفق و هي تراقبه شاعرة بألمٍ عنيف في صدرها وحين استقام همس بصوتٍ خافت دون أن يرفع عينيه عن روان
إنها بخير
ردت سلوان بصوتٍ متشنج وكأنها تنطق الكلمات بصعوبة
هل كان يفترض بها ألا تكون بخير !
رفع عامر عينيه إلى سلوان يقيم تعبيرات وجهها لبضعة لحظات , ثم استقام مقتربا منها أكثر قبل أن يقول بجدية
بالنسبة لما حدث , لم يكن هناك احتمال لإصابة روان بأي مكروه لم أكن لأحضرك أنتِ والبنتين هنا لو شككت في الأمر للحظة
ردت سلوان بنبرة بدت عصبية أكثر من صوتها العادي
انطلقت رصاصة و طفلتي موجودة يا عامر
شبك أصابعه مطرقا برأسه وهو يقول بخشونة
وأنا ابنه الوحيد و كنت واقفا أمامه , كان يهددنا فقط ولم يكن ليصيب أي منا , على الأقل لن يخاطر بالمساس باسمه لأجل أي شيء صدقيني
لأجل أي شيء وكنت أنا هذا الشيء الذي لا يستحق أن يخاطر باسمه لأجله , مجرد نكرة
ودت أن تقول هذا الا أنها آثرت أن تتكلم بجدية عوضا عن هذا
حتى ولو كان ما تقول صحيحا , فإن أسلوب التهديد بالأسلحة والطلقات ليس المناخ المناسب لتعيش فيه بناتي
رفع وجهه وقال بصوتٍ قاطع
لن يتكرر هذا مطلقا , بل لن يمسك أحد بأي سوء و هذه كلمة مني ثقي بها
نظرت سلوان الى عينيه طويلا , وعلى الرغم من القساوة البادية فيهما جراء الحوار العنيف الذي تبادله مع والده منذ قليل والذي لا يزال تاركا آثاره عليه الا أن طول فترة تحديقها بعينيه جعلتهما تركزان عليها , وتتحركان فوق ملامحها فوق عينيها , وجنتيها , شفتيها لتستقران هناك للحظات , ثم رفع أصابعه يلمسهما برقة ورأت ابتسامة باهتة ترتسم على فمه ببطء بينما هو شارد في تفاصيل وجهها
وعلى الرغم من عذوبة تلك اللحظات الا أنها قطعتها تسأله بفتور
هل يمكنك أن تعطيني كلمتك بالفعل في ألا يمسني سوء هنا وأنا زوجتك يا عامر ؟
أجفل ناظرا إليها بدهشة , عاقدا حاجبيه ثم سألها بصوتٍ أجش صارم
هل تشكين في هذا ؟!
لم ترد على الفور , بل ظلت عينيها على عينيه طويلا وهي التي لم تكن تستطيع مبادلة أحد النظر لأكثر من ثلاث ثوانٍ فقط وسألت متابعة ببطء مشددة على كل حرف
جسديا فقط ؟!
ازداد انعقاد حاجبيه أكثر وأكثر ووجدت فجأة ذراعه تضم خصرها اليه بقوة بينما رفعت كفه الأخرى ذقنها ونظر الى عينيها طويلا متجهما قبل أن يرد بإصرار
ونفسيا وذهنيا وكل شيء الا تثقين بي ؟!
لم تهتز على الرغم من الأمان الخائن الذي شعرت به بين ذراعيه ثم ردت ببطىء
هل يتعين علي الثقة بك ؟! لم أعرفك سوى من فترة وجيزة وتجاربي مع البشر عادة ليست مبشرة
انقبضت أصابعه بشدة على ذقنها وهو ينظر الى عينيها بغضب ثم همس من بين أسنانه بغضب
تستحقين صفعة على هذا الكلام يا عمتي سلوان لكن و بما أنني وعدتك للتو الا يصيبك أي سوء , على الأقل جسديا لذا لدي عقاب أشهى
أخفض وجهه و قبلها بقوة مما جعلها تطبق عينيها وهي تتشبث بأصابعها في ساعده ارتفع ذراعها ببطء لتحيط بها عنقه , الا أنها سرعان ما انتفضت فجأة وأبعدته عنها مما جعله يسألها بدهشة دون أن تستقر أنفاسه بعد
ماذا حدث ؟!
نظر الى روان ثم ابتسم قائلا بمداعبة
نعم , صحيح كادت عذوبتك أن تنسيني قوانين الأم الصارمة
ثم أمسك بكفها وحاول جذبها قائلا بصوتٍ أجش خفيض
تعالي الى غرفتنا
سمرت سلوان نفسها و رفضت التحرك مما جعله ينظر إليها بتعجب فأخفضت وجهها المضطرب وهمست بصوتٍ متباعد
أحتاج اعذرني , أنا مرتبكة قليلا بسبب ما حدث , هلا سمحت لي بالنوم بجوار روان الليلة
ظهر في عينيه شيء أخافها , أشبه بالغضب جعلها ترتبك وتراجع ما نطقت به , هل كان طلبها شديد الوقاحة ؟! ما باله ينظر إليها بهذا الشكل !
كانت صامدة و هادئة الى حد ما و ثابتة على موقفها لكن نظرته لها أخافتها وجعلها تتلعثم و تصحح دون تفكير
أقصد أنني
هدر بها فجأة متشنجا
أنكِ ماذا ؟! هل هذا طلب طبيعي في ثاني ليلة من زواجنا ؟! هل هناك ما يشعرك بالنفور ؟!
ازداد شحوب وجهها وهي تنظر إليه بعينين واسعتين وفم فاغر قليلا حتى أنها تراجعت واستندت بمرفقيها على السرير خوفا من غضبه
هل لاحظ ليلة أمس عدم ارتياحها لجرأته الزائدة عن الحد ؟! لكنها كانت حريصة في أن تخبئ مشاعرها تماما كي لا تضايقه لكنه على الأرجح شعر بهذا , لكنها لم تشعر بالنفور تماما فقط أن تلك الجرأة لا تناسب طبعها و ما تفضله ليس هذا طبعها أو شخصها
همست سلوان مرتبكة وهي ترمش بعينيها
أنا كنت فقط
لم تعرف بماذا تجيب , فما كان منه الا أن تركها بسرعة ونهض واقفا قفزا و كأن ثعبان لدغه ووقف مشرف عليها بملامح غريبة بينما كان يتنفس بسرعة ثم قال أخيرا بصوتٍ غامض
كما تريدين
ثم تركها و خرج من الغرفة , وتركها نصف مستلقية على السرير تراقب انصرافه المندفع بذهول
وساد صمت كئيب في الغرفة جعلها ترجع رأسها للخلف مغمضة عينيها بشدة وهي تلعن لسانها المتلعثم الذي لا يجيد الكلام لو كانت أجادت نطق جملة واحدة منطقية لربما استطاع فهم احساسها لكنه ظل يستنتج سريعا و يتكلم مع نفسه وهي أمامه تتلعثم كالبلهاء
ماذا تفعل الآن ؟! ما هو التصرف الأمثل ؟!
هل تتجاهله و تترك الليلة تمر لتفكر بهدوء في كارثة احتمال عودته لطليقته دون أخذ رأيها ؟!
أم تلحق به و تحاول أن تشرح له سبب إجفالها بالإضافة للاعتراف بسماعها ما دار في المكتب أم تركز في الكلام عن عدم اعتيادها هذا النوع من العلاقات الغريب عليها ؟!
شعرت برأسها يدور في الكثير من الأشياء و قلبها ينبض بعنف وخوف و عقلها يرتج بجنون فأسقطت رأسها تدفنه في السرير متأوهة بصوتٍ مكتوم وصمتت للحظات تحاول استرجاع ما كانت لتنصحها به جدتها
كانت لتنصحها بألا تعترف بسماعها ما دار بينه وبين والده وتنتظر لحين يفاتحها برغبته في العودة لطليقته فربما أثار إلحاحها عناده لذا الأفضل أن تصمت حاليا بذكاء المرأة التي تريد الحفاظ على بيتها وزوجها
أما عن علاقتهما الزوجية , فعليها أن ترضي زوجها بشتى الوسائل كما يحب هو لا كما ترتاح هي
فهي لن تنسى ما برر به حسين رغبته في تطليقها وكلامه عن عدم قدرتها على إرضائه وفتورها
استقامت سلوان لتجلس ببطء على حافة السرير ناظرة أمامها بعينين واسعتين كبيرتين
ثم همست ببطء
ليس عدلا كل هذا ليس عدلا
وعلى الرغم من هذا نهضت من مكانها ببطء تجر قدميها حتى وصلت الى باب الغرفة و التفتت تراقب روان بنظراتٍ شاردة للحظات قبل أن تغلق الباب وتذهب الى غرفتهما
...........
في غرفة المكتب كان نصيبها من التهديد والترهيب لم ينفذ بعد فبعد خروج عامر ظلت مكانها واقفة تولي خالها ظهرها بملامح صلبة باردة وعينين ميتتين بينما وجنتها حمراء ملتهبة
ووقف هو كذلك صامتا يراقبها و يده فوق سطح المكتب وملامحه متجهمة و عيناه ضيقتان ثم قال أخيرا بصوتٍ متجبر رغم خفوت نبرته
يبدو أنكِ نسيتِ اتفاقا كنا سبق وعقدناه في هذه الغرفة تحديدا منذ سنوات
ضحكت شغف ضحكة ساخرة لم تطل عينيها الجليديتين ودون أن تستدير إليه سألته مستهزئة باستهانة
أتسمي جلستك الحنونة معي بعد نجاحي اتفاقا ؟! الإتفاق يا خالي العزيز هو قرار مشترك بين طرفين وهذا بالتأكيد ما لم يحدث لقد أقررت أنت شيئا , و افترضت موافقتي عليه
رد عليها علام بشدة و بصوتٍ مخيف
لست أنا من أقررت , بل الحق والعدل
استدارت اليه متسعة العينين ذاهلة , وهي تضحك سائلة
الحق ! العدل ! بأي شرع ؟!
هدر خالها قائلا بحدة مدافعا
شرع المنطق
أصدرت صوتا عاليا هازئا الا أنها لم تكن قادرة على الابتسام ولو ساخرة حتى
شرع المنطق ! ابتدع شرعا جديدا كما يسير كل شيء وفق قانونه الخاص !
كتفت شغف ذراعيها وهي تدلكهما ببطء متذكرة هذه الجلسة التي يتحدث عنها , بل في الواقع لم تنساها من الأساس لم تنساها يوما أو لحظة
فتلك الجلسة كانت لحظة فارقة في حياتها كانت إحدى الصدمتان اللتان ضربتا حياتها للأبد
نظرت شغف الى أرجاء المكتب القديم بملامح كارهة على الرغم من انهزام عينيها
كانت يومها عائدة بعد ظهور النتيجة و نجاحها بتفوق وكانت على غير عادتها تجري بعينين تبرقان سعادة ولهفة ولم يكن هذا طبعها , بل لم تشعر قبلا بمثل هذه اللهفة الا في مرات نجاحها وتفوقها فقط
بين جدران هذا البيت العريق القديم لم تعرف سوى الهدوء والاختباء خلف الكتب للتفوق فقط لا غير
كانت مُختَبِئة بل مُخَبَئَة
كان خالها يحرص على تخبئتها عن مجتمعه و ابقائها داخل جدران البيت وقد ساعد اسم والدها الملحق باسمها في أن تظل غير معروفة الصلة بعائلة داشاي للكثيرين إن لم يكن معظمهم
عاشت طفولتها ومراهقتها بل و بداية شبابها دون أصدقاء تقريبا فقط نسيبة ابنة عمتها
ولم تكن تعرف الحياة و المشاعر الا في الأوقات القليلة التي كان يسمح لها فيها بزيارة والدها
هناك في البيت الضيق المتهالك كانت تلعب وتصعد برج الحمام وتستمع الى والدها وهو يعزف على أوتار العود وكان صوته شجيا مطربا كانت تعشق الاستماع اليه بينما تمارس شغفها الخاص في الرسم بجواره
أحيانا يقضيان طول فترة الزيارة في تلك الجلسة فوق برج الحمام وأحيانا لا يتكلمان حتى
كل منهما يرى شغفه في الآخر وهذا كان أكثر من كافيا
حاول علام كثيرا منعها من زيارة والدها , الا أن عبد الرحيم للمرة الأولى في حياته قاتل في شيء واحد فقط
أن تظل ابنته على صلة به ولو على فتراتٍ متباعدة وكان شرسا مستميتا في الدفاع عن حقه فيها
بخلاف حقه في أمها !
لطالما رأت شغف في والدها العاشق البطل والمتيم الذي واجه الجميع و تزوج ابنة الأكابر بينما هو من القاع كالقصص و الأفلام
تمنت يوما أن تجد عاشقا مثله وكما يقولون احذر مما تتمنى !
لم تعرف أبدا حتى وقتها كيف انفصلا , فكلا منهما كان يرفض سرد التفاصيل , و يكتفي بالصمت كلما سألت عن قصة عشقهما التي سيخلدها التاريخ كقيس وليلى روميو و جوليت عبد الرحيم و ناردين
مجرد اجتماع الاسمين كان مضحكا حتى الأسماء كانت متناقضة غريبة في اقترانهما
لكنها كانت تراها قصة العشق التي يضرب بها المثل
كل ما غنى عبد الرحيم كان لأجل ناردين تلك الجميلة الفاتنة سليلة عائلة داشاي , بينما هو مجرد عاملا بسيطا لدى والدها, ولم يكن جامعيا حتى تماما كالأفلام
كم تمنت لو عرفت تفاصيل بداية عشقهما لتوثقها فوق الصفحات , لكنها لم تكن بارعة في الكتابة ابن خالها هو العاشق في الكتابة , كانت تتمنى أن تمليه قصة عشقهما ليسطرها في رواية
المعضلة الوحيدة انها لم تمتلك يوما التفاصيل كل ما تعرفه أنها ثمرة عشقهما والدليل القاطع على تلك القصة المجهولة , حتى أن عبد الرحيم هو من اختار اسمها مقتبسا من وهج شعوره بناردين
عبارة والدها كانت ترن في أذنها دائما اتبعي شغفك يا شغف ولو لآخر حدود الكون
بينما كبرت على دفع أمها لها بكل قوة كي تتفوق وتلتحق بكلية الطب كان الأمرة بالنسبة لها حياة أو موت كلية الطب هي الأمل المنشود لأمها دون رحمة أو تهاون رقة أمها كانت تختفي ما أن ترتاح شغف عن الدراسة قليلا و كأن حالة عصبية تنتابها لتتابع دون توقف وتتفوق وتلتحق بكلية الطب
لم يكن يسمع لهما صوتا خارج غرفتهما لكن داخلها كانت ناردين تقترب بفمها من أذن شغف و هي خلف مكتبها تدرس تشد على ذراعها وتهمس من بين أسنانها مشددة
لن أقبل سوى بكلية الطب يا شغف وإن أخفقت ستعيدين المحاولة .
وكانت النتيجة شابة منطوية منكبة على دراستها باهتة الحياة في بيت داشاي , تتعلم أصول التعامل برقي دون أن تستخدمها فعليا نظرا لوحدتها
وفنانة شغفها الرسم و الاستماع لعزف والدها على العود تصعد برج الحمام حتى تكاد أن تلامس السماء و تحلق فيها في الحي الفقير المليء بالحياة و الصراخ , الضحك والدموع والعويل
لكنها كانت مختلفة عن كل بيئة منهما غريبة , محط الأنظار دائما
يوم التحاقها بالطب كانت كارثة وحلت على بيت داشاي لقد سجل خالها بنفسه رغبات بعيدة كل البعد عنها , الا أن ناردين بصمت و بعينين جاحظتين تنظران بطرفهما عدلت الرغبات , و فوجىء علام بوضعه أمام الأمر الواقع وأن شغف باتت مسجلة في كلية الطب و انتهى الأمر
وارتاحت ناردين نوعا ما لكن ضغطها لم يخف , بل تحول الى المشفى الهدف الأساسي والأكبر
مشفى داشاي التي كانت مصيرا حتميا لمستقبل عامر ابن خالها و الذي كان يتفوق قبلها دون ضغط أو مجهود فقد كان محبا للدراسة ومن بعدها دراسة الطب ثم نبغ في الجراحة من الواضح أن الجراحة كانت شغفه كالكتابة تماما بهدوء بكل هدوء و كأن الحياة كانت بالنسبة له بسيطة متوازنة دون أي أعباء
وبدأ تفوق شغف عاما بعد عام حتى بلغت عامها العشرين هذا العام كان محوريا في حياتها
تفوقت فيه وصدمت فيه وفيه تعرفت على آدم
هذا العام و بعد ظهور نتيجتها عادت للبيت جريا متلهفة أن تخبر ناردين كالعادة علها ترى في عينيها بعض اللهفة والحياة بعضا من السعادة الحقيقية , بخلاف اللهفة للهدف الأكبر
لن تنسى أنها رأت علام داشاي قبل ناردين ولن تنسى نظرته حين أخبرته بنجاحها بكل سعادة
ظل صامتا يحدق فيها بعينين واسعتين مفكرتين , متجهمتين طويلا و كأنه نسي أنها تقف أمامه ثم قال أخيرا بنبرة غامضة
تعالي معي الى المكتب يا شغف
لحقت به بصمتٍ محتارة حتى دخلت وجلست على الكرسي المقابل لمكتبه و بقى صامتا للحظات ثم رفع عينيه الى عينيها أخيرا بنظرته الغامضة التي لم تفهمها وقتها وقال ببطء
لماذا تتفوقين يا شغف ؟!
ارتفع حاجباها بدهشة , الا أنها ظنته سؤالا أدبيا فأجابت تهز كتفها بصوتٍ خافت
أتفوق لأنني يجب أن أتفوق
ضاقت عيناه و كرر السؤال مجددا بنبرة أشد و أقوى
لماذا التفوق بمثل هذا الإصرار يا شغف ؟! لن تلتحقي بطاقم التدريس في الكلية اذن لما التفوق الى هذا الحد ؟! ما هو الهدف الذي تسعين إليه ؟!
فغرت فمها قليلا وعادت تهز كتفها ثم قالت بخفوت
هدفي هو المشفى , أقصد العمل في المشفى مشفى داشي
ضرب علام سطح المكتب بقبضته بكل قوته مما جعلها تنتفض شاهقة وهو يهدر عاليا
على جثتي
تراجعت في مقعدها وهي تنظر إليه بذهول لا تعلم ما الذي أصابه فجأة ثم تمكنت من القول أخيرا بصوتٍ محتار
ورثت أمي نصيبا في المشفى , ولكونها ليست طبيبة فقد كان حلمها أن
قاطعها علام هادرا بقسوة وعنف
أن تستلمي نصيبها و تعملي في المشفى و تكوني مساوية لابني عامر أليس كذلك ؟!
ارتعشت شغف داخليا بشدة , فقد كانت المرة الأولى التي يخاطبها فيها خالها بهذه الطريقة , على الرغم من أنه لم يكن ودودا معها أبدا وتشك أنه كان ودودا مع أي مخلوق لكنه كان دائما هادئا مسيطرا على انفعالاته يعاملها بتحفظ لكنه لم يقسو عليها من قبل
هذه المرة كان غريبا منفعلا غاضبا
ربما لأن المشفى كانت تمر بحالة من حالات الضيق المادي وكان يخشى خسارتها مما جعله عصبيا متوترا
ربما
لكنه حين تكلم كان قد تمالك نفسه و شبك أصابعه ناظرا إليها ثم قال ببطء وبصرامة
هذا ليس حقك يا شغف أتقبلين على نفسك حقا , ليس حقك ؟!
انعقد حاجباها بشدة وهي تمد رأسها للأمام محاولة الاستيعاب ثم تراجعت و قالت بفتور باهت
لأمي نصيب , و أنا طبيبة لذا من الطبيعي بعد عمرٍ طويل أن
قاطعها علام قائلا بخشونة
للحق وجوه عدة
رفعت حاجبها وسألت ببطء
أي وجوه ؟! إنها أنصبة وحقوق
تراجع علام في مقعده و دار بكرسيه قليلا مبعدا وجهه عنها ثم سألها بصوتٍ متباعد جاف دون أن ينظر إليها
ألم تسألي نفسك يوما يا شغف عن ظروف زواج أمك ووالدك ؟
ظلت صامتة لفترة ثم أجابت بجفاء
سألت كثيرا و لم أصل الى التفاصيل لكن أيا كانت تلك التفاصيل , هل هذه هي المشكلة ؟! أنها أحبت رجلا ليس من مستوى عائلة داشي وتزوجته فيتم حرمانها و ابنتها من حقها الشرعي ؟!
التفت ناظرا اليها محدقا في عينيها بنظراتٍ أخافتها ثم أجاب مشددا
ليت القصة كانت بمثل هذا الرقي
علمت لحظتها أن ما ستسمعه في اللحظة التالية سيغير حياتها للأبد , و بالفعل تابع علام يقول
ببطء مخفضا عينيه
لم تحب أمك عبد الرحيم مطلقا , ولم تكن بينهما أي قصة ما لم أكن راغبا في أن تطلعي عليه يوما هو بداية القصة ولم نكن لنصل الى هذه النقطة لولا إصرار والدتك على اقحامك في مكانٍ ليس بمكانك و ليس من حقك والدك ما كان الا غطاءًا مجرد غطاء لخطأ كبير اقترفته والدتك بحق شرفها
رمشت شغف بعينيها تطبقهما بضعة لحظات قبل أن تفتحهما وتنظر اليه تهز رأسها قليلا , ثم سألت بصوتٍ غريب وكأن حلقها خشن غير مستوي
ماذا تقصد ؟
أخفض علام عينيه ثم أجاب قاطعا دون تردد
زيجة والدتك بوالدك كانت للستر مجرد عاملا تقاضى مبلغا ليتزوج بها حيث كانت في مرحلة متقدمة من حملٍ غير شرعي , استحال اجهاضه
لا تزال الصمت الذي طاف حولها كصراخٍ مدوي كاد أن يفتك برأسها و هي تنظر إليه بملامح باهتة هادئة ظاهرة صارخة بجنونٍ في داخلها يوازي جنون الشخص الذي يحادثها وحين وجدت صوتها سألت بنبرة بعيدة باهتة حيث كانت لا تزال تحت تأثير الصدمة لم تغضب حتى أو تنفعل
هل تريد القول , أنني ابنة غير شرعية ؟!
زم علام شفتيه وهو يرد بنبرة مزدرية متقززة
للأسف لا
رمشت بعينيها مجددا وهي تهز رأسها محاولة الفهم , سألت بغباء
هل قلت للأسف ثم لا ؟! هل ما سمعته صحيحا ؟!
رفع عينيه إليها ثم قال بجفاء جليدي
بلى قلت للأسف لا لقد تم تدبير سفر والدتك ووالدك كي تلد في الخارج وولد الطفل ميتا لكن والدتك لم تكتفي بما اقترفته من جريمة بل عزمت على معاقبة الجميع و قد أصابتها حالة من النقمة فهربت وهي بالخارج مع والدك بعد أن سلبت عقله و أجبرته على مساعدتها و اللحاق بها كالأعمى في كل مكان حاولنا البحث عنها لإعادتها لكنه كان يساعدها مغيبا وحين عثرنا عليها بعد فترة طويل كُنتِ أنتِ قد ولِدتِ وكانت صدمتنا بكِ أكبر من الصدمة الأولى على الأقل في المرة الأولى كانت تدعي أنها زلت بدافع من الحب , أما ما فعلته لاحقا كان مقززا وثمرته كانت فتاة لم تكن سوى ثمرة تمرد أحمق , أهوج
تدخل جدك و قتها و هدد والدك و أجبره على طلاقها بكل الوسائل حتى نجح في النهاية , لكنها لم تتخلى عنكِ وهددت بفضح الجميع إن أجبروها على تركك وانتهى الأمر بتقبلك بيننا محاولين قدر الإمكان ابعادها عن الاختلاط بالناس
شعرت شغف بأن صدرها يضيق ببطء و أنها باتت غير قادرة على التنفس محدقة في الأرض بعينين واسعتين و فم مفتوح يحاول استنشاق أكبر قدرٍ من الهواء وساد الصمت بينهما الى أن تابع علام قائلا بخفوت
أعلم أن السؤال الذي سأسأله سيكون مؤلما جارحا لكن أنا مضطر لسؤاله
, هل تتساوين في الحقوق و الأنصبة مع ابني الذي تعبت في تربيته حتى بات جديرا بتولي مكانه في المشفى ؟! هل تجدين أن لكِ حقا بالفعل ؟!
نظرت اليه شغف منتفضة عاجزة عن الرد مذهولة بينما أضاف ببطء أكبر
لم يكن المشفى هدف والدتك مطلقا من قبل أن تلدك , حتى أنها لم تلتحق بكلية الطب بل كانت تنجح بالكاد وما رسخت في عقلك هدف المشفى الا تكملة لنوبات تمردها و انتقامها الغبي من الجميع تريد فرضك على المشفى للتشفي في اجبارها على الزواج من والدك من قبل و جدك لم يفعل ما فعل الا سترا لها وليكون لابنها والدا ولو بالاسم فقط
صمت مجددا ثم قال بصوتٍ عنيفٍ محتد
كان جدك رجعي التفكير و التصرف , لو كان ترك حرية التصرف لي , لكنا عرضنا الطفل للتبني في الخارج و انتهى الأمر دون أن يعلم أحد بما حدث و دون الحاجة لأن تتزوج و نجعلها تتحكم بنا هي ووالدك
شعرت بالدوار ورأت أرفف الكتب تدور من حولها بسرعة حتى أنها أخفضت رأسها رافعة يدها تظن الكتب ستتساقط فوق رأسها و من بعيد وصلها صوت علام يسألها مجددا
هل تظنين أن لكِ حقا و أنك تتساوين بإبني يا شغف ؟!
رفعت وجهها و فتحت عينيها الغائرتين ناظرة إليه طويلا ثم وجدت لسانها يهمس ببطء و بهدوءٍ ميت
لا
صرخة من باب غرفة المكتب جعلتها تلتفت لترى أمها تنقل عينيها بينهما مذعورة صارخة
علاااام لااااااا لقد عاهدتني
أي شكٍ داخلها وقتها في كلامه , قُتِل في مهده و هي تنظر الى ملامح الذعر على وجه أمها مع صوت صرختها الحقيقة صرخت مع صرختها وسمعت خالها يجيب بقسوة
عاهدتك على أن تبعديها عن المشفى تماما فهذا ليس حقها , ما كانت الا نزوة غبية , بأي حقٍ تشارك ابني
لم تسمع المزيد يومها , لأنها ببساطة سقطت من فوق الكرسي مغشيا عليها
و عاشت بعدها فترة عصيبة , لم ينجح في إخراجها منها سوى آدم
أغمضت شغف عينيها وقد عاد بها الواقع الى وقوفها الآن تولي خالها ظهرها تشدد من ضم نفسها و كأنها تشعر بالبرد وجاءها صوت علام وقد تغير الآن عن الذكرى القديمة بأن ناله بعض الوهن و الكبر لكن نفس التسلط والجبروت
تعيدين نفس قصة والدتك دون أن تدرين عقلك الباطن يسيرك في خطٍ تدركين نهايته تماما , ما بين التمرد والرغبة في الانتقام تنتهكين حقا ليس حقا لكِ
استدارت اليه ببطء حتى واجهته وابتسمت
هي أيضا تغيرت , لم تعد نفس الفتاة المهذبة الانطوائية بل امرأة باردة الملامح زجاجية العينين
على شفتيها ابتسامة ساخرة , ثم أجابت هازئة بعفوية وهي تومئ برأسها بطريقة مسرحية
ليس عقلي الباطن فقط , أنا بالفعل أكرر قصة أمي فهي الوحيدة التي نالت منكم في مقتل كنت لأهنئها لو كانت لا تزال على قيد الحياة لكن للأسف , لقد قضيت عليها بعد أن أفشيت سرها وقضيت على والدي من بعدها
ضحكت بصوتٍ عالٍ وهي تهز رأسها هاتفة تسعل بعدم تصديق
هل تصدق يا خالي , رغم أنك ربيتني في بيتك , الا أنك ذات يوم و بخبرٍ واحد منك تسببت في تدمير حياتي وقناعاتي ومرض والدتي ورحيلها ثم مرض أبي من بعدها كل هذا دون أن يتلطخ اصبعا من أصابعك الذهبية
عادت لتضحك بصوتٍ عالٍ رنان , وهو ينظر إليها متجهما ثم سألها ببطء
هل تلقين على اللوم في كل هذا ؟! ربما تلقين اللوم علي أيضا فيما يخص ابنك !! لما لا فأنتِ بهذا الشكل تمنحين نفسك التبرير لنهب حق ليس حقك
خفتت ضحكاتها حتى صمتت , الا أنها ظلت مبتسمة ابتسامة ساخرة و موجعة
مؤلمة لمن يراها فما بال من يبتسمها ! ثم قالت أخيرا ببرود
نعم نظريتك الخاصة في الحق , لا أزال أتذكرها حتى يومنا هذا
اقترب منها حتى قال في النهاية بصوتٍ غريب
هل تصدقين أنني أحببتك يا شغف , لم أكن لأبقيكِ في البيت و أشرف على تربيتك لو أنني لم أحبك , لكن الحق شيء آخر
رفعت وجهها و نظرت اليه مبتسمة ثم أجابت ببساطة
نظرية خاصة أخرى عن الحب يجب أن يكون لك قاموس خاص يا خالي
زفر بقوة و بدا منهكا الا أنه تمكن من القول بصلفٍ و تسلط
اطردي الحيوان الذي تسحبينه معكِ في كل مكان ولنتفاهم
اختفت ابتسامة شغف للحظات وبدت ملامحها ناقمة وكأنه شتم والدها للتو ! وفي نفس الوقت إنه خاطر ! رمشت بعينيها قليلا , في كل الأحوال لقد أثار غضبها فتمكنت من الابتسام مجددا و سألته ساخرة ببراءة
أطرده من بيته ؟! ألم تفهم يا خالي ؟! لقد بعته نصيبي !
أغمض علام عينيه مثلها ثم هدر من بين شفتيه
توقفي عن هذا الخداع يا شغف , أعلم أنكِ لن تفرطي في شيء تملكينه لمطلق غريب اطرديه وربما نتفاهم حينها
ضحكت عاليا وهي تلوح بكفيها ثم هتفت من بين ضحكاتها وهي تنحني للأمام بسعادة
ألا تصدقني ؟! أقسم بالله يا خالي بعته نصيبي أقسم بالله هل أريك أوراق ملكيته ؟!
تسمر علام مكانه للحظات وأخذت عيناه تتسعان ببطء حتى جحظتا بصدمة وهو يسأل بصوتٍ خافت مرعب
هل فعلتِها ؟!
ازداد صوت ضحكاتها علوا حتى أصابته بالجنون ممتزجا بالهذيان فرفع يده و صفعها مجددا بكل قوته مما جعلها تترنح حول نفسها متأوهة وقبل أن تستقر فوق عقبيها ضربها مجددا , وتوالت الصفعات وهو يصرخ فيها حتى صرخت برعب محاولة الجري الى الباب وهي ترفع ذراعيها لتحمي نفسها من صفعاته
خاطر خاطر