الفصل الرابع حب من طرف

حب من طرف واحد
طوال فترة غياب القاسم عن المنزل اشغلت ماسة نفسها بدراستها و تعرفت على صديقات جدد واتسعت دائرتها الإجتماعية كثيرا، فقد كانت محبوبة من الجميع فلم تشكل اعاقتها الكلامية أي مشكلة لها في خوض الحياة كالخروج برحلات مدرسية أو تعلم السباحة وركوب الخيل حتى العزف على البيانو وتعلمت رقص الباليه وقد حرصت والدتها على تسجيلها في معهد فنون الدفاع عن النفس فماسة بسبب عجزها أي شخص قد يفكر بها أنها صيد ثمين وفريسة سهلة لذا كان حتاما عليها أن تتأكد بأن ابنتها بإمكانها الدفاع عن نفسها اذا كانت بعيدة عن عينيها، ماسة كانت طفلة سعيدة رغم كل شيء، كانت ترسل الرسائل باستمرار لقاسم بالبريد تستحثه على الإسراع بالعودة وتخبره كم تفتقده وتحدثه عن نشاطاتها التي انغمست بها، ولكنه ابدا لم يرسل لها ردا واحدا قط على رسائلها، فقد كانت رسائله جميعها إلى والديه يحدثهم عن الجامعة ومغامراته وسير دراسته و يختم رسالته دائما بنفس العبارة.
-  بلغو سلامي إلى ماسة ولا تدعوها تهمل دراستها، ابنكم المشتاق لكم كثيرا قاسم .
كانت ماسة تنتظر رسائله بلهفة ولكن على مدار الخمس سنوات الماضية ذبلت لهفتها وما عادت تسأل عنه وتجنبت سماع أخباره ولم تعد ترسل إليه أي رسالة، فقد شعرت ببعده وشعرت كم تغير، كانت تحزن كثيرا كلما ارسل رسالة لوالديه ولا تبدي أي ردة فعل عند سماع أخباره كانت تتصرف ببرود وجمود وفي غرفتها تبكي وتنوح بعيدا عن العيون، ولكن كما يقول المثل (تلك الشعرة التي قسمت ظهر البعير )وكانت رسالة من قاسم هي تلك الشعرة التي كسرت قلبها ودمرت أملها فقد أنهى قاسم دراسته الجامعية منذ عام ولكنه لم يفكر ابدا بالعودة فعلى ما يبدو أنه وجد هناك ما يسعده ويغنيه عن عائلته وعنها ايضا وما اكد لها ذلك هو رسالة منه لوالديه يخبرهم بأنه لن يستطيع العودة الأن، وارسل لهم دعوة لزيارته وكان مرفقا مع الدعوة صورة له برفقة فتاة جميلة جدا بعيون زرقاء وشعر ذهبي وابتسامة خلابة وكتب عبارة صغيرة في زاوية الصورة، "أليست جميلة ،انها كنتك المستقبلية".
حينها أدركت ماسة بأن ما كانت تكنه لقاسم ليس الا تعلقا شديدا نمى مع كل لحظة قضتها بقربه، شعرت بغيرة جعلتها تشعر بالكره الشديد نحو تلك الفتاة الجميلة والخيبة الشديدة نحو الرجل الذي يتأبط ذراعها، ركضت الى ملاذها، تبكي وتتذكر اين أخطئت، قاسم أخبرها بأنه سيعود لأجلها ولكن تلك الفتاة سرقته منها، اغوته وأوقعته بحبالها، ما كأن على قاسم أن يسافر لو لم يسافر لبقي إلى جانبها، ولكن أنه شقيقها الجميع يعرف بأنهما شقيقان، فلا احد يعرف أنها طفلة متبناة، هي تعرف بأنه ليس شقيقها وهو ايضا يعرف بأنها ليست شقيقته ولكن المجتمع الذي يعيشان فيه لا يعرف ذلك، كانت تفكر ودموعها تغمر وجنتيها، لربما قاسم يحبها كشقيقة له ولكن هي بغبائها اعتقدت شيئا اخر، هو قال أنه سيعود لأجلها ولكن لم يقل لها ابدا أنه يحبها، أجل هذه هي الحقيقة، أن قاسم لم يحبها ابدا، وطوال الوقت اعتبرها شقيقة له، ولكن هي غالت في مشاعرها واوهمت نفسها بأنه شعور متبادل، وهنا أدركت بأن تلك الشقراء لا تستحق كرهها وحقدها عليها، تلك الشقراء اخذت ما هو متاح ومقدم لها، وهنا اتخذت ماسة قرارها، هي لن تذرف دمعة واحدة من أجل قاسم، ومن الأن فصاعدا لن تنسى ابدا بأن قاسم شقيقها وهي لا تحل له ابدا ولن تكون له مطلقا، ومع هذا القرار الجديد انطلقت ماسة بخطة حياة جديدة لها خالية من قاسم تماما، كل ما تريده هو الدراسة والاعتماد على نفسها والاستقلال بها، كي لا تحتاج احدا ابدا.
- حبيبتي أواثقة أنك لا تريدين القدوم معنا!؟
هزت ماسة رأسها مؤكدة بشدة مع ابتسامة تلامس شغاف القلب كي يرحل والديها وهم مطمئنين ولا يشعروا بما يعتمل داخلها من مشاعر عاصفة متناقضة، وأشارت بيديها بسرعة.
- أنتم اذهبوا واستمتعوا بوقتكم، أنا سأعتني بكل شيء في غيابكم وأنتظركم بفارغ الصبر، وبلغو قاسم تهانيي الحارة.
كانت الإختبارات على الأبواب وارادت أن تركز على دراستها كي تحصل على منحة دراسية مثل قاسم بمعدل ممتاز، وقد اتفقت حنان مع شقيقتها أن تأتي لتمضي اسبوعان برفقة ماسة والتي هي فترة سفرهما بعيدا عنها، وقد قبلت شقيقتها على مضض، فما لم تعرفه حنان يوما أن شقيقتها هناء كانت تتظاهر بالود نحو ماسة ولكن في غيابها كانت تسيء إليها بكلماتها دائما، ولكن ماسة لم تكن تبالى ولم تجد ابدا داعي لأن تعكر صفو والدتها لسبب تافه كهذا، عدا عن أنها ستتسبب بخلاف بين شقيقتين وهي بغنى عن كل هذا لذا كانت تحتمل وتتجاهل وتصبر لأجل المرأة التي اعتبرتها ابنتها. قاسم تخصص في إدارة الأعمال كي يستطيع إدارة شركة والده واملاكه فهو الوريث الوحيد لهذه الشركة وعليه أن يكون ملما بأمور الإدارة والاقتصاد كما كان والده من قبله، كان شابا وسيما ابتسامته الجذابة كانت تصرع أي فتاة يصادفها و توقعها في غرامه، قاسم كان يعلم جيدا مدى تأثيره لذا كان يتجاهل محاولاتهم اليائسة للتقرب منه مما كان يفقدهم صوابهم فقد كان فارسا لأحلام كل فتاة، فهو طويل ذو منكبين عريضين وخصر متناسق غليظ، وعينيه حادتان كالصقر تغطيهما اهداب سوداء طويلة وكثيفة وأنفه طويل ودقيق خال من أي عيب وفمه غليظ مدبب يغطيه شارب أسود ناعم الملمس قد حرص دائما على تهذيبه وتشذيب لحيته فهو لم يكن يحب اللحية الطويلة ابدا، كان له الكثير من الأعداء من أقرانه من الشباب، بالرغم من أنه لم يسئ لأحدهم قط الا أنهم كرهوه لأنه يملك كل شيء من وجهة نظرهم ونعتوه بالمغرور المتعجرف وكانوا يسيئون له في غيابه ويتملقونه في حضوره ويتقربون ويتوددون إليه وهو كان يعلم هذا جيدا ويتسلى بمواقفهم المتناقضة ويستمتع برؤيتهم يتخبطون لنيل وده وصداقته، قاسم لم يكن متكبرا ابدا ولكن ثقته بنفسه جعلتهم يحقدون عليه ولأنه دائما يكون على صواب وهم على خطأ، ولكن قاسم لم يشغل نفسه بهم فهو بالنهاية تعلم ألا يثق بأحد غير نفسه وألا يصارح أحدا بأفكاره او أسراره التي كان يخفيها حتى عن والديه، كم كان يتوق للعودة إلى منزل العائلة ويتابع حياته من حيث توقف ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
أمضت ماسة أسبوعاً مضنيا مع المرأة التي يفترض أن تكون خالتها، فهي كانت قاسية، فظة، تتعامل مع ماسة كأنها فتاة لقيطة، بالرغم من أنها ليست كذلك ولكن ماسة كانت ترد على كل كلمة جارحة بابتسامة رائعة بريئة، فهي باستطاعتها أن تعكر صفو خالتها أيضاً وتجعل أسبوعها اسوأ من الجحيم، الا أنها أرادت الترفع عن رد الاساءة بالإساءة، وقررت أن تعيش حياتها بسلام رغما عن المنافقين الذين يحيطون بها، ففي ليلة مسائية أعدت ماسة وجبة عشاء لذيذة لها ولخالتها و ركضت الدرجات مسرعة، طرقت باب غرفتها وفتحته بسرعة فلا فائدة من انتظار صوت لن تسمعه ليسمح لها بالدخول، كانت خالتها تسرح شعرها وحينما رأت دخول ماسة المفاجئ تذمرت صارخة.
-  يا الهي لقد أخفتني، ماذا بكي؟!
نزعت ماسة المشط من يد خالتها وأشارت بيدها وهي تقبل أصابعها، لتفهمهما أنها تبدو اكثر من رائعة ومن ثم سحبتها من ذراعها على طول السلم وسط صرخات خالتها المعترضة والتي اضطررت لتجاري خطواتها لئلا تسقط عن السلالم، ولم تتركها ماسة إلا بعد أن وصلت إلى غرفة المعيشة حيث أعدت سفرة شهية من الوجبات السريعة والمقبلات وأيضاً الكثير من التسالي، عبست خالتها ونظرت إليها بدهشة.
- ماذا يحدث؟ هذا ليس من عاداتك، لمن أدين بهذا الشرف؟
هزت ماسة رأسها نافية وأشارت الى قلبها، اي أنها تحبها لذا قامت بهذه المفاجأة، نظرت هناء الى المقبلات وكانت جميعها المفضلة لديها و قد شعرت بالغرور والتفاخر أن ماسة تحاول كسب رضاها بهذه التصرفات، جلست إلى المائدة بتباهي وهي تقول بتكبر وغرور:
- لا تقومي بتلك الإشارات الغبية فأنا لا افهمها على أية حال "ومن ثم تناولت قطعة من المعجنات المحشوة بالجبن وقضمت قطعة صغيرة منها وهي تتابع بنزق" اذا كنتي تقومين بهذه الحركات لأزوجك من ابني قصي فأنتي واهمة اذن "ونظرت إليها بعنجهية وهي تسكب بعض العصير في كأسها بينما ماسة تحدق مليا بشفاهها لتعلم ما الذي تقوله خالتها بالضبط "من المستحيل أن تتزوجي بابني أو ابن أي امرأة أخرى، فلن تخاطر أي امرأة بتزويج ابنها الى بكماء كي لا يتوارث احفادها هذه الاعاقة، حتى اختي نفسها لن تقبل بتزويجك من قاسم لنفس السبب.
لا، ليس هذا السبب، ماسة تعرف ذلك جيدا، أن أمها لا تفكر بهذه الطريقة أبدا، ولكن أختها الشريرة فقط من تفعل ذلك، ماسة تثق بوالدتها، وتعلم جيدا بأن ما يمنع زواجها من قاسم هو رابط الإخوة الذي تربيا عليه، وايضا نظرة المجتمع لعلاقتهما اذ أنها ترعرعت على أنها شقيقته وقلة قليلة من يعلم بأنها متبناه، نفضت ماسة رأسها من الأفكار السوداء التي بدأت تلمع في عقلها بعد كلمات خالتها القاسية، هذه الليلة لن تسمح لشيء أن يعكر مزاجها رمت لخالتها احدى ابتساماتها البريئة وقامت بالضغط على أزرار التشغيل وقفزت فوق الكنبة ووضعت فوق حضنها طبق به تشكيلة من المكسرات والسناكس الخفيفة وأشارت الى الشاشة أمامها وربتت الى جانبها لتدعو خالتها للجلوس ومشاركتها مشاهدة الفيلم حتى أنها اختارت فيلم يناسب ذوق خالتها من ناحية الغموض والدراما، تنهدت خالتها برفق وهي تحدق الى الشاشة وقررت أن تعلن هدنة مؤقته وتسترخي فيها لمشاهدة الفيلم.
نهضت ماسة في الصباح وكعادتها استعدت للذهاب إلى نادي ركوب الخيل فهي تذهب إليه كل جمعة واثنين فقط من الأسبوع وتمضي هناك ستة ساعات تتعلم فيها كيفية ركوب الخيل بمهارة وكيفية الاعتناء بالخيول وتدريبهم على الانصياع لأوامرها فقد كانت تستمتع بوقتها في نادي الخيول اكثر من نادي السباحة، فالبرغم من أنها اتقنت السباحة جيدا الا أنها تذهب مرة واحدة او اثنتين في الشهر الى المسبح الخاص ولكنها كانت تحب أكثر الذهاب إلى البحر وممارسة هوايتها في احضان الأمواج المتلاطمة، ولكن منذ أن شاهدت والدها بالصدفة هناك برفقة زوجته قررت أن لا تعود الى البحر مجددا حتى أنها في ذلك اليوم لم تستطع النوم وعادت لها الكوابيس التي كانت ترافقها في أحلامها، لذا لم تخاطر بالعودة إلى هناك كي لا تصادف احدا من عائلتها مرة ثانية وتخسر عائلتها الجديدة المحبة فقد أتى والدها قبل ثلاثة اعوام متعللا بالاشتياق لها و رغبته برؤيتها، في ذلك اليوم راقبته ماسة بكره شديد فهي تذكره من كوابيسها التي كانت تلازمها، يومها ركضت هاربة من امام نظراته الخبيثة، واتت حنان تسحبها الى داخل المنزل وهي تطلب من زوجها الاهتمام بالأمر، ومن بعد ذلك اليوم لم يعد مجددا، نعم كانت ماسة طفلة سعيدة الحظ بفضل عائلتها الجديدة، بعد انتهاء يومها تقريبا كانت الساعة الثانية ظهرا عادت الى المنزل برفقة لطيف الذي كان يرافق والدتها دائما في تسوقها وقضاء جميع مصالحها، واثناء قيادته السيارة ،اتاه اتصالاً جعل عينيه تتسعا بصدمة وخوف ولكن ماسة لم تنتبه لهذا فهي كانت غارقة في أحلام اليقظة التي اعتمدتها منذ سفر قاسم للدراسة بل وادمنت عليها ايضا، فقد كانت تعيش في أحلام يقظتها كل شيء لم تستطع عيشه في واقع حياتها وكانت سعيدة ومرتاحة لهذا النظام الجديد فلولاه لما استطاعت تخطي غياب قاسم وتخليه عنها بالنهاية لأجل فتاة أخرى.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي