خلف أبواب الجحيم

سارة محمد`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-11ضع على الرف
  • 4K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

1

الفصل الأول
-لا أستطيع يا ولدي أن أترك روحي هناك وأعيش بدونها
هكذا كان يهمس راضي بداخله، يبتسم بخبث، يحاول أن يهدأ الطفل وليوم لأيامٍ، ربما يحالفه حظه ولا يعود، وربما يجذبه مغناطيس العشرة للعودة إلى هناك مرة أخرى.
لم تسعفهم السيارة الوصول إلى منزلهم الجديد بسرعة كبيرة، لكن ذلك الوقت كان كفيلاً كي يظل راضي شارد الذهن يفكر فيما عليه أن يفعل، وكيف له أن يوفي كل متطلبات الحياة الجديدة، لقد نسي كيف تكون حياة العاصمة
ثماني سنوات كانت كفيلة بأن تجعله الآن ينظر إلى الشوارع من نوافذ السيارة كأنه قد بُعث من قبره للتو، ينظر إلى تلك البيانات الشاهقة والشوارع المرصوفة، يتعجب،
متى حدث كل هذا، وكيف، وكيف لي أن أعاصر كل هذا، أو أن يحتمل عقلي كل هذا التغيير، من قبرٍ إلى مدينة دون تدرج، علي أن أدرك جيداً أن هذا ليست بالحلم، إنها حقيقة علي أن أمحو ما حل بي مسبقاً، علي أن أكافح من أجل ولدي، وابني حياة جديدة، وأتعلم من جديد ربما تبدل أسلوب العمل كما تغير كل شيء هنا
هكذا كان راضي يهمس في نفسه، يحمل على عاتقه الماضي الذي لا يريد تركه وشأنه، وذلك الحاضر الذي لا يصدق وجوده، وذلك المجهول الذي لم يأتي بعد، متيقناً بأن الحياة لا زالت تخبئ له في جعبتها المزيد.
ظل يعد على أنامله ما يجب عليه توفيره، مأكل وملبس، ومصاريف ايجار، ومدرسة، ثم ماذا، هذه السيارة سيتحصل سائقها على ربع مرتبه، فعليه أن يتعلم القيادة بدلاً عنه
لازال متخبطاً، لا يصدق ما يحدث له، ذلك الصمت الذي ساد السيارة وابنه الذي ارتسمت على وجهه ملامح الدهشة لأول مرة منذ أن ولد يتطلع إلى كل هذا الكم من المدن والشوارع، أناسٌ يترجلون في الشوارع بهيئة غير الذي اعتاد على رؤيتها، وحلوى وألعاب لم يرى مثيلتها ولا في أحلامه، لم يبعد ناظريه عن النافذة لم يحاول حتى أن يطلب من والده أياً مما رأى
كل ما مر به طفلٍ مثله علمه ألا يتمنى، وإن همست نفسه بشيء عليه أن يكبت جماحها، ولا يسمح لها بالخوض في الحديث عن الرغبة، مسموحاً لها أن تشاهد فقط، وتتأمل، ثم تبعد ناظريها كأنها لم ترى شيئاً
لم يترك الولد لأفكاره عن المستقبل نصيباً من رحلته إلى المنزل، بل ترك لغدٍ يوماً آخر يحياه دون أن يفكر فيما يمكن أن يحدث، هكذا كان يهمس دوماً
-كيف للحياة أن تصعقني ويداي ممسكة بسلكٍ عاري.
السائق قد عرف مسبقاً إلى أين سيصطحبهم، فلم يسأله راضي مجدداً، حتى إذا انعطف السائق يميناً بعيداً عن ذلك الكوبري، وبدأ يهدأ من سرعته هنا شرع راضي بأنه اقترب
يشعر بتصارع نبضاته وكأنه يقدم إلى اختبار عليه تخطيه، وكيف لا وهو ذاهب إلى منزله، خطوة أولى هي من تقرر كيف ستكون حياته بداخله فإما لمسة سكينة يستشعرها ليبقى طيلة حياته يشعر بالأمان بين جدرانه، أو قبضة أولى تمكن منه الرهبة كلما خطت قدماه إليه
توقفت السيارة في أطراف مدينة راقية، ساد الهدوء أرجائها، وأوراق الأشجار تكسو شوارعها، ابتسم راضي، وانتابه شعور بأنه لن يبتعد بعيداً عما عاشه في ذلك القصر الفاره
شكر السائق وصعد هو ومريد شقة في الطابق الثاني تطل وجهتها على النيل، فتح راضي الباب وهو متردد في الدخول إلى الشقة، ظل واقفاً أمام الباب لحظات لكن فضول الطفل كي يرى مسكنهم الجديد هو من أمسك بيد والده ودفعه للداخل
رأى بأن الأمر لم يكن يستحق كل هذا الخوف، مجرد منزل جديد، لا قبضة أو شعور بالراحة دخل وهرول الطفل إلى الداخل لكنه نادى عليه خشي أن يتعرقل في أي شيء، أضاء الأنوار
عيناه لمعت على أثاث الشقة كان يسير في كل ركنٍ يضيء نوره، ويملي النظر منه، شكر الله وهوى بجسده نحو تلك الأريكة، منفضاً عنه كل ذلك الألم، والحرمان، تاركاً الطفل يستكشف كل مكانٍ بنفسه
ربما ظن راضي بأنه قد يستريح هنا، لكن لعنة الفكر هوت به من جديد، تلك الشقة الفارهة، والأثاث الراقي كيف يمكنه أن يسدد كل هذا، من راتبه الذي لا يعلم عنه شيئاً، هل سيظل يحيا منتظراً أن يغدق عليه أشعب من النعم التي تفيض عليه من كل جانب، لقد ظل طيلة حياته حتى في أسوء ظروفه لا يرتضي بأن يقدم أحدهم مساعدة له، لا يحب أن يطلب من شخص أي شيء، لكنه قد تحير في امر نفسه، كيف له أن يتغير هكذا، أن يسعد بشيءٍ لم يتعب لأجله، هل كانت الراحة هي كل ما يتمنى بعد هذا الشقاء
ظل يحادث نفسه مستنكراً
أليس من حقي أن أحيا في سكينة، بلا شقاء، ألم أساعد صديقي هذا طيلة حياتًه، لقد أتى وقت رد الجميل، علي الآن أن أسترخي واسترح قليلاً بعيداً عن ضجيج ما عانيت في كل تلك السنوات، أليس لكل شيء جزاء، ربما ما أنا عليه الآن هو جزاء صبري، أراد الله لي أن أستريح قليلاً قبل أن تفيض روحي إليه
هو يردد تلك الكلمات بينه وبين نفسه، يتصارع معها كذباً، وهو غير مقتنع بما يحاكيها به، يحاول أن يخرج من مأزق تأنيب ضميره على فعلته، ويتمنى من الله أن ينتهي كل هذا البؤس الذي حل برأسه، يلح بشدة ورأسه معلق بالسماء أن يستريح من عناء الفكر، ذلك الصراع الناشب داخل رأسه ولكن كلما استراح من فكرة ملحه، ترغب غيرها في البروز داخل عقله، كيف له أن يظل لعدة دقائق وحيداً دون أن يفكر في ولده مريد
هو لا يدري أنه قد رحل في عالمٍ آخر لا يرى فيه شيء سوى أن يتعرف كل شيء في عشه الجديد
أول مكانٍ قد بحث مريد عنه هو غرفته، انبهر بكل ما فيه رغم اختلاف أثاثها والألعاب التي تحتويها نسبة إلى ما كان عليه القصر إلا أنه شعر بألفةٍ تجاهها جعلته نسي أمر والده وظل يفتش في كل ركن عن لعبة جديدة، يبحث في دولاب الغرفة، وتحت السرير، يفتح أدراج ذلك المكتب، ولا يعلم ما ذلك الجهاز الذي وضع عليه ظل يضغط أزراره غير آبه، ولا مكترثٍ كي يعرف كيف يعمل.
حتى اهتدي به الأمر أنه صرخ منادياً والده
-أبي تعالى إلى هنا
انتفض الأب من مكانه بعد أن استكان جسده، هرول يبحث عنه، وعن مصدر الصوت، استند على باب الغرفة ونظر إليه سعيداً
-أراك وجدت ما يشغلك يا مريد
-تعالى يا أبي أنظر ماذا وجدت
كان الولد منهمكاً بتلك الملابس التي تملأ دولابه، وسترات جديدة كأنها قد فُصِلت لأجله، لكن راضي لفت نظره لفافة من الورق، كانت مخبأه تحت الملابس ولم يشعر بها الطفل
حاول أن يحملها دون أن يراها الولد لكنه لم يجد بداً من ذلك فمريد يجلس أمامها مباشرةً، فتركها وابتسم في وجهه
-جميعها رائعة كأنت يا بني، ولكن علينا أن نذهب إلى الحمام نغتسل من عناء الطريق كي ننام في هدوء
قبل الطفل والده، حمل ملابس قد اختارها لنفسه وذهب، ترجل وراءه راضي كي يشغل له المياه، ويجعله يلهو ولو لوقتٍ قصير كي يعلم سر تلك اللفافة
ترك الطفل وهرول بفضولٍ نحوها، كان ينحني ليلتقطها ويدور بعلقه ألف فكرة، هي لفافات قد اعتاد رؤيتها، يعلم ماهيتها جيداً، لكن ربما خانته ذاكرته، ربما هي مجرد عقود أو أوراقٍ هامة نسيها من سكن من قبله
لم يترك للفضول طريقاً لينخر في عقله أكثر من هذا، أمسك بها، وجلس على ركبتيه يحاول أن يفك تلك العقدة التي رُبِطت بها اللفافة، وإذا بهاتفه يرن
-يا لحظك لقد وقعت قرعتك في تلك الشقة
ارتسمت على وجه راضي ألوان الدهشة
-نعم يا أشعب هي شقة راقية جداً بأثاثٍ باهظ الثمن ولكن لقد قلت بأنني تخيرت الشقة من شركات الاستثمار
رد ضاحكاً
-لكني لم أخبرك بأن تلك الشركات تحت قبضتي أنا، ولكل شقة لي فيها مغامرات، لكنك قد حصلت على الشقة الأقرب إلى قلبي، لم ألحظ أنها هي وأنا أمنح الموظف الورقة، لو كنت أعلم لم أكن لأتركها لك
ثم بالغ في ضحكاته
-أمزح معك يا رجل، إن قدرك غالي ونفيس يا راضي وتستحق كل ثمين.
أغلق هاتفه ولازالت الحيرة تنهش في عقله، يسمع خطوات ولده يخرج من الحمام دس اللفافة في ملابسه، فإذا بالولد يلتف ببشكير أبيض ويقف لوالده
-ما رأيك يا أبي ، ألا أشبه أولاد الأثرياء، الذين نراهم ف التلفاز.
اقترب منه واحتضنه بشدة
-بلى يا ولدي أنت أفضل منهم، إنك أفضل طفلٍ عندي في العالم بأسره.
جلسا يتسامرا في أمر الشقة، وحياتهم المقبلة وتناسا راضي أمر اللفافة، قام راضي بترتيب ملابسه، وتخيرا سوياً ملابس مريحة للنوم، جلس إلى جواره كاد مريد أن يفتح باب الذكريات من جديد لكن والده حادثه بحزم
-مريد، تلك الفترة من حياتنا لا نريد لها أن تعاد مرة أخرى، علينا فقط أنا نحيا وكأننا أتينا إلى الدنيا اليوم، نتألقم على حياةٍ جديدة، بعالمٍ نظن بأنه جيد، وكل ما مضى هو لنتعلم منه، نرك قيمة ما سرنا عليه، نحمد الله على ما وهبنا من نعم، وألا ننسى أن ذلك التراب الذي غُمرنا فيه لسنوات، عودتنا إليه لا محاله، كما بدأنا منه، فنجعل صوب أعيننا بأن كل شيء هالك، أتدرك ما أقول يا مريد
أومأ الطفل برأسه ثم أدار وجهه وسحب الغطاء وغط في نومٍ عميق، ابتسم راضي قبله وبدأ يلامس شعره، ثم أسند رأسه على الوسادة، لا يدري أينام الآن، أم أن عليه أن ينتظر قليلاً، لازال الوقت طويلاً على نومه ربما كل هذا الوقت قد مر ولم تتعدى الساعة الثامنة
عليه أن يحاول الآن أن يبدأ في مراسم الغفلة حتى لا يباغته الوقت وينفلت من بين يده، في مكانٍ ربما لا يمنحه النوم من ليلته الأولى، تأكد من أن الولد نائم بعيداً عن الطرف، وأغلق النور، وتركه وخرج، يبحث عن غرفته
أمسك بريموت الشاشة المقابلة لفراشه، بدأ يقلب في قنواتها واحدة تلو الأخرى، كل شيء يراه هو جديد بالنسبة له كيف له أن يعتاد كل تلك الأمور بسهولة وبين يومٍ وليلة
تواترت الأفكار بين ماضي وحاضر، ثم اندفعت في رأسه دفعة واحدة، حتى كاد أن يجن، كل شيء يمر بوخزة في قلبه، ألم متتابع حتى يكاد قلبه أن يتوقف، تنهد بقوة وحاول ان يزفر كل ذلك الفكر من رأسه مع ثاني أكسيد الكربون الخارج من صدره، ربما يطهر ما يعبأ ما بين الضلوع من أسى.
ألقى بالريموت بعد أن أغلق الشاشة، وضغط على زر الإضاءة بجانب الوسادة، ومال بجنبه يستعدي النوم الذي جافاه، لكنه شعر بعدم الراحة، وكأن شيئاً يوخزه في جنبه لم يدرك ما هو دفع يده بداخل قميصه أخرجه ووضعه تحت الوسادة ثم غط في نومٍ عميق
لم تراوده الأحلام في ليلته الأولى لعلهم أرادوا له أن يستريح قليلاً من عناء الأحلام التي باتت تقلقه كل ليله، لا يدرك كم من الوقت قد مر عليه دون أن يحرك ساكناً، لكنه انتفض على صوت شخصٍ يصرخ في وجهه نيرانٍ تأكلني
بات يبحث بشغف عن الصوت وصاحبه فإذا به لا يجد شيئاً، دفع برأسه في الحائط، وكاد أن يُجن شعر برعشة أصابت جسده وبدأ يحاور نفسه
-منذ متى والأحلام تهزني هكذا، قد شاهدت ما لم يتحمله بشر نائماً ومتيقظاً، فكيف لي أن ترتعد يداي من حلمٍ كهذا مجرد صوتٍ يصرخ في وجهي، ربما انتفضت لأني أعلم بأن هناك خلف أبوابنا التي نأوي إليها أناسٌ يصرخون من هول ما صُنِعَ بهم، وتلك اليد الممتدة دوماً لدفع الضرر عنهم، باتت مبتورة، لا تجيد الصفع على وجه المعتدين
قد أُغدِق على صاحبها بالنعم فألفها، وتولى عن أي ألم مهما صغر شأنه، صار ممن يمشون خلف الجدران، خوفاً من هول الجحيم الذي ينبعث منها يتوارى من بعيد خلف ستائر السلطة، الصمت يعم كامل جوارحه حتى قلبه قد طبع عليه كي لا يرى ولا يسمع ما قد اعتاد أن يشعر به حينما كان هو
حتى قلب حبيبته قد حرم عليه من أن ترك هناك، وترك من يتألم يعيش منفرداً بحزنه وأساه وسخطه على الظلم.
لم يكترث بذلك الشعاع الذي اخترق زجاج النافذة، يغلق عينيه رغم عنه لكنه لازال متأثراً بصوت الصراخ، لم يكن صراخ مألوف لديه بل كان صراخاً وكأن شخصاً تصعد روحه إلى السماء بروية، حتى أصبح كل أهل الأرض يستمعون إلى أنينه.
رغم كل تلك الساعات التي قد نامها، لكنه لازال يشعر بألمٍ في رأسه لكن عليه النهوض، كي يبدأ في سداد ذلك الرغد الذي يحيا فيه، لم يفكر بعد كيف سيترك ولده مريد كل تلك المدة، لكن ربما اهتدى في البداية إلى اصطحابه إلى الشركة، عليه أن يوقظه حتى يستطيع أن يوصيه بما يجب فعله حتى لا يغضب صاحب الشركة من وجوده ويقرر عليه وجوب عدم اصطحابه مرة أخرى.
ترجل إلى الحمام وجسده يترنح، دفع بجسده مرة واحدة تحت الماء البارد عله يدفع عنه كل ذلك الكسل، يعيد إليه نشاطه كي يعمل بجد، ربما يهون عليه ذلك الصراع الدائر بين جنباته، أو حتى يجعل ضميره يستريح قليلاً أو ياخذ غفوة حتى يستعيد قوته للحرب والصراع من جديد
مريد لازال نائماً، كأنه قد ألف ذلك الفراش لا يريد أن يتركه، يخاف أن يستيقظ ويأتي يوماً آخر ليدفعه بعيداً عنه، نهاية أمره قد ارتضى وجوده هنا، وتعلق قلبه، حتى وإن كانت حياته في القصر هي المنشودة في أحلامه، لكن حياته هنا هي الدائمة، ومهما كانت فهي أهون من تلك الغرفة التي لم ينال منها إلا جحيماً ينحر في جسده حتى هلكت روحه الصغيرة، والآن فقد قرر هذا الطفل الصغير بداخله ألا عودة لما مضى، ولن يسمح بأحد أن يجعله يتراجع عن حياته أو أن يُحسِن وضعه فيها.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي