الفصل ٣
مال مستندا بمرفقيه الى ركبتيه , محدقا في الأرض المصقولة البيضاء مشبكا أصابعه وهو يشعر بالعرق البارد يتصبب من جسده
لكن ملامحه كانت هادئة رغم شحوبها وعيناه شاردتان في البعيد
أما أخته فكانت تسير في الرواق ذهابا وعودة ممسكة مصحفا صغيرا بين أصابعها تقرأ فيه بصمت كلما غلبها البكاء تتوقف للحظة تمسح دموعها ثم تتابع بكل عزم .
وحين شعرت بالوهن في ساقيها تقدمت لتجلس بجوار شقيقها ثم رفعت يدها تمسد ظهره المحني برقة هامسة رغم الدموع التي غلبتها
إن شاء الله ستتم الجراحة بخير و خلال أيام ستعود أمي معنا الى البيت و يصبح كل هذا مجرد ذكرى
أومأ ساهر برأسه دون رد وعيناه بعيدتان بينما تابعت رباب مبتسمة ابتسامة كبيرة تحاول بها طمأنة
وسيتم زواجك أخيرا بوجود أمي بيننا ما رأيك أنها هي من ستجلس بجوارك بينما تجلس نسيبة بين المدعوين
لم يرد ساهر , بينما بهتت ابتسامة رحاب وهي تنظر الى ساعة معصمها هامسة بقلق
لماذا تأخرت نسيبة الى هذا الحد ؟! لقد أبلغتها بالموعد
أيضا لم يرد بل ظل صامتا محدقا في الفراغ أمامه وكأنه تمثال مصمت وجهه خالٍ من المشاعر
لكن أذناه التقطتا صوت خطواتٍ أنثوية تقترب منه بتردد خطوات ناعمة , تتحرك قليلا ثم تتوقف ثم تعاود الاقتراب
وبطرف عينيه لمح جسدا أنثويا نحيفا اتخذ المقعد بجواره وشعر بدفئه و رائحته الوردية العطرة .
مما جعله يرفع وجهه قليلا ملتفتا , فقابل أجمل ملامح من الممكن أن يراها في تلك اللحظة
تلك الملامح البسيطة الهادئة وابتسامة على فمها وهي تهمس برقة
ستكون بخير يا ساهر إن شاء الله
لم يشعر بنفسه الا و قد ابتسم وكانت الابتسامة الأولى منذ أيام وسأل بصوتٍ أجش
ظهرتِ أخيرا !
ارتعشت ابتسامتها للحظة , لكنها ردت بخفوت
لم أكن لأتغيب والدتك ستكون بخير
بثوبها القطني الفاتح المنقوش و شعرها المجموع فوق رأسها في فوضى جميلة كانت المشهد الأكثر راحة للقلب في تلك اللحظة
فتكلم سائلا بصوتٍ خفيض
هل أعتذر أم أشكرك ؟
ابتسمت هويدا مجددا و قالت بهدوء
سبق و قدمت الإثنين فلا تبالغ يا باشمهندس
سألها تحت أنظار شقيقته التي تراقب ما يحدث مذهولة بفضول
اذن وصلتك رسالتي ؟
أسبلت جفنيها مجيبة بلطف
و كيف لي أن أعرف موعد الجراحة اذن لو لم أقرأ رسالتك ؟!
ابتسم مجددا وهو يقول بخفوت
آآه و مع ذلك لم تجيبي على الرسالة
شعرت بالحرج و تلونت وجنتاها بشكل ساحر ثم قالت بصوتٍ خافت
لم أكن لأجيب سوى برفض الشكر والاعتذار أما جوابي الحقيقي والفعلي فهو الأعاجيب التي أقدمت عليها كي أتمكن من المجيء اليوم
جذبت رحاب ذراعه بقوة كي تلتفت إليه و تسأله عن تلك الشابة التي يتكلم معها الا أن ساهر جذب ذراعه منها دون أن يستدير إليها بل ظلت عيناه على وجه هويدا المضطرب وسألها بجدية
هل هناك مشكلة ؟!
ابتسمت ابتسامة حزينة و هي تبعد بعض الخصل من شعرها خلف أذنيها ثم ردت بإيجاز
مجرد خلاف في وجهات النظر بيني وبين والدي
سألها ساهر بدهشة واستنكار
هل منعك من الخروج ؟!
رفعت عينيها اليه مندهشة , لكنها ابتسمت مجددا وأجابت بهدوء
لم يكن والدي ليمنعني عن شيء
صمتت لحظة ثم تنهدت متابعة بقنوط
الا القيادة في الواقع لقد منعها عني اليوم صباحا
ارتاحت ملامح ساهر وهو يقول مبتسما براحة
اذن فقد استجاب لطلبي الحمد لله , كنت خائفا على
صمت للحظة أمام ملامح الدهشة و الصدمة التي ظهرت على وجهها و تجولت عيناه فوق تلك الملامح المعبرة طويلا قبل أن يضيف بتلعثم
على المارة في الطريق خائفا على المارة , فأنتِ متهورة قليلا
زمت شفتيها وهي تنظر لعينيه بغضب مكتوم ثم ردت بتشنج
أنت من حرضت والدي علي ؟! وأنا كنت أتساءل عما أصابه هذه الأيام !وبالطبع أخبرته عن المال
ارتبكت ملامح ساهر قليلا , الا أنه قال بخفوت
لم أكن لأبعد والدك عن صورة تخصك يا هويدا افهميني وضعي كان حرجا ومعكِ أنتِ بالذات
شحبت ملامحها و هي تتأمله بقلبٍ يرجف ثم أخفضت جفنيها سائلة
لماذا أنا بالذات ؟! ندمت آلاف المرات منذ أن أخبرتك سرا يخصني لتستخدمه ضدي
عقد حاجبيه بشدة وهتف بقوة
مجددا لم تفهمي يا هويدا
ارتبكت بشدة و نظرت حولها بقلق حتى استقرت عيناها فوق وجه شقيقته المذهولة فاضطرب ساهر و أخفض صوته قليلا ليتابع
اسمعيني يا هويدا دون غضب هذه المرة كما سبق وائتمنتني على سرك , اذن عليك تقبل كلامي دون حرج ما تمرين به لا يعيبك ولا يؤثر بشيء في جمال شخصك لكن عليك تقبل خوف من يحبك عليكِ لم أكن لأستطيع أن أثني والدك عن أمر يخصك , والا ظن أنني أستغلك
رفعت هويدا أصابعها تتلمس بها ذقنها مختلسة النظر إليه بنظراتٍ لم تستطع حجب المشاعر الجارفة فيها
ثم أطرقت بوجهها وقالت بصوتٍ أجش وملامح عابسة غير راضية
بمناسبة القيادة التي تسببت في منعها عني كنت قد أحضرت لوالدتك علبة شوكولاتة الا أنني نسيتها في سيارة الأجرة التي أتيت بها وتذكرت بعد تحركها فجريت خلفها وأنا أنادي السائق ليتوقف لكنه لم يسمعني ولم أحضر غيرها كي لا أتأخر أكثر عن موعد الجراحة
لم تدرك أن ابتسامة كبيرة حنونة ارتسمت على شفتي ساهر وهو ينظر الى وجهها المحني الغاضب
بينما جذبت رحاب ذراعه مجددا منادية اسمه همسا وقد أحرقها الفضول
فاضطر ساهر لأن يقول متنهدا على مضض مشيرا الى أخته
أختي رحاب
أومأت لها هويدا مبتسمة بحرج بينما كانت رحاب لا تزال تنظر اليها مذهولة فاغرة فمها حين تابع ساهر مشيرا الى هويدا ناظرا الى عينيها قائلا بنبرة جعلتها تبادله النظر أسيرة عينيه
هويدا صاحبة الروح الأجمل على الإطلاق
ارتعشت شفتا هويدا وهي تخفض وجهها المحمر بشدة بينما لاحظ ساهر في بضعة ثوانٍ من الشرود فيها أنها لم تكن جميلة الروح فقط بل كانت تمتلك خطا جانبيا لوجهها شديد الجمال و كأنها منحنياتٍ تتماوج بفنٍ ما بين الارتفاع و الانخفاض تماما كمزاجها !
..............
عاد ساهر الى حيث تقف هويدا ورحاب تنتظران بقلق مبتسما ابتسامة كبيرة وعينيه تهتزان وكأنه يطرف بهما كي يتغلب على مشاعره فأمسك بذراع رحاب وخاطب هويدا قائلا بصوتٍ مختنق
الجراحة تمت بخير والآن سيتم نقلها الى غرفة مجهزة
رفعت رحاب كفيها الى وجهها وهي تهتف باكية حامدة الله وشاكرة فضله بينما زفرت هويدا نفسا مرتجفا وهي تهمس قائلة بحرارة
لحمد لله يا ساهر عسى الله أن يتمم شفائها على خير
نظرت رحاب حولها باحثة عن هاتفها قائلة بتلعثم
سأتصل لأطمئن الجميع وسأتصل بنسيبة , بدأت أقلق على غيابها دون اعتذار ألست قلقا يا ساهر ؟! أعرف أن خوفك على أمنا لم يجعلك تفكر في تأخير نسيبة سأتصل بها حالا لعله خير
تفاجأت هويدا و أجفلت هاتفة لنفسها
نسيبة ! صحيح ! ربما كان اليوم الموعد بالفعل !
عقد ساهر حاجبيه وهو يلتقط كلماتها و سألها بخشونة
أي موعد ! هل لديكِ فكرة عن مكان نسيبة ؟
فتحت فمها تود الكلام الا أنها عادت واغلقته تهز كتفها كي لا تزيد من الوضع سوءا فأزداد عبوس ساهر وهو يرمقها بحدة , ثم قال بخشونة و عينيه على عينيها المتهربتين
سأذهب الآن لأطمئن على انتقال والدتي الى الغرفة ثم تخبريني بعدها عما تعرفين عن نسيبة
لكن علا صوت أنثوي بارد رغم نعومته من خلفه فجأة
نسيبة هنا بالفعل يا حبيبي
انتفضت هويدا ناظرة الى نسيبة الواقفة خلف ساهر ترمقها بنظرة حادة مزدرية بينما استدار ساهر إليها و سألها بشك وهو يراها ترتدي لباس رسمي شديد الأناقة مع حذاء بكعب عالٍ وتضع كامل زينتها بما لا يناسب المشفى أو الموقف مطلقا
أين كنتِ ؟!
اقتربت نسيبة من ساهر ورفعت وجهها إليه أمام ناظري رحاب وهويدا قائلة بمحبة وهي تقبل وجنتيه
حمد لله على نجاح الجراحة يا حبيبي لقد سألت عنها في طريقي الى هنا و عرفت الأخبار السارة
استدارت هويدا عن هذا المشهد وهي تداوي بداخلها ألما عنيفا بينما ازداد انعقاد حاجبا ساهر لكنه غالب شكه وقال باقتضاب
لن أستطيع متابعة الكلام الآن علي الاطمئنان على أمي أولا , ثم سنتكلم فيما بعد
وابتعد عنها تلحقه رحاب بلهفة بينما بقت نسيبة واقفة تنظر الى ظهر هويدا بنظرةٍ باردة قاسية ثم تكلمت بسخرية مهينة
عجبا هويدا هنا ! لكن لما لم يفاجئني هذا !
تمالكت هويدا نفسها وأخذت نفسا عميقا قبل أن تستدير إليها ثم قالت بهدوء و بصوتها الأجش المميز
أهلا يا نسيبة حمد لله على سلامة حماتك
لم تهتز عضلة في ملامح نسيبة , بل ظلت العينين تنظران الى عيني هويدا بنظرة حادة مخيفة , ثم اقتربت منها حتى كادت أن تلاصقها وتراجعت هويدا للخلف الا أن اصطدام ساقيها بحافة مقاعد المشفى أوقف تراجعها حينها همست نسيبة بصوتٍ كالخرير وهي ترمق هويدا من قمة رأسها وحتى أصابع قدميها
الا تجدين أن المصادفة غريبة قليلا !يأتيني اتصال بضرورة اجراء المقابلة في نفس موعد جراحة حماتي ونفس الصدفة تأتي بكِ الى هنا بينما أتواجد أنا في شركتكم !
كتمت هويدا نفسا حانقا وتمكنت من رفع وجهها لتقول بفتور
أمر تحديد موعد المقابلة لا يرجع لي أنا فقط طلبت من أبي توظيفك و الباقي عائد له
ابتسمت نسيبة ابتسامة أكثر استهزاءًا وهي تنظر الى ثوب هويدا الذي لا يحمل أي توقيع مشهور وكأنها أتت بملابس البيت بل حتى ملابس بيوت الأغنياء تحمل توقيعاتٍ مشهورة
ثم قالت فجأة بصوتٍ خافت
أنا لا أعاتبك يا هويدا أعرف أن ما تعانينه أمر خارج عن إرادتك
نظرت إليها هويدا بجزع هاتفة
ما أعانيه !
أومأت نسيبة برأسها ببطء و قالت بخفوت هامس أكثر
الجميع يعرف أنكِ تعانين خطبا يا هويدا و هذا ليس ذنبك
أغمضت هويدا عينيها بألم و استدارت بسرعة عنها وصدرها يخفق بعنف مؤلم بينما تابعت نسيبة وهي تمسك بكتفيها هامسة لها
لكن عليكِ تمالك نفسك كي لا يعرفون مشاعرك تجاه ساهر
انتفضت هويدا ناظرة اليها بذهولٍ وبالكاد قدرة ضعيفة على التنفس فقالت نسيبة دون تراجع
في الكلية كان كل زملائنا يعرفون من شدة ملاحقتك له وكنت أتغاضى عن الأمر لكنك كنتِ صغيرة لم تتجاوزي العشرين عاما أما الآن فتصرفاتك ستؤذيكِ و لن تفدك شيئا لأن ساهر لن ينظر إليكِ الا بعين الشفقة وأنا أكره أن أراكِ تضعين آمالا عريضة على وهم مجرد وهم يا حبيبتي زفافنا سيكون خلال أيام
لو كان أي انسان يستطيع إدراك ما شعرت به هويدا في تلك اللحظة العصيبة لرفع لها القبعة منحنيا ومعجبا أمام مقدرتها على رفع وجهها بعد لحظات لتقول بهدوء
أعرف أن زفافكما خلال أيام يا نسيبة ولهذا تحديدا رغبت في تقديم المساعدة لكما عبر توصية مني لوالدي , لتوظيفك مع زوجك في شركته و بناءا عليه فأي شعور بالشفقة أو التعاطف منكِ أو منه فلتحتفظا به لأنكما أولى به مني أنا فقط أقدم مساعدة طلبتِها بنفسك , أما عن وجودي هنا فاسألي ساهر عن سببه
ثم ربتت على ذراع نسيبة قائلة بترفع
أتمنى لكِ التوفيق في نيل الوظيفة , ومن جهتي سأحث والدي بجهد أكبر و الآن أنا مضطرة للمغادرة , بلغي ساهر سلامي وتمنياتي لوالدته بالشفاء
وأمام عيني نسيبة المتسعتين غضبا كلهيبٍ مشتعل مخيف انصرفت هويدا بهدوء على الرغم من أن كل عصب في جسدها كان ينتفض ألما خوفا حرجا وغضبا
ثم انعطفت الى أقرب رواق جانبي ووجدت زجاجة مياه بلاستيكية ممتلئ نصفها على ما يبدو أن أحدهم قد نسيها هنا , فأمسكت بها وأطلت من خلف الجدار ترمق نسيبة عن عبد قبل أن تزم شفتيها وتغمض إحدى عينيها لتهمس من بين أسنانها بقهر
لنرى إن كنتِ تملكين نفس القدرة على التصويب أم فقدتها يا هدهد
وطوحت بذراعها قبل أن تقذفها بالزجاجة بمنتهى المهارة كقذيفة صاروخية انطلقت و ضربت رأس نسيبة التي كانت توليها ظهرها ! فصرخت عاليا و نظرت حولها برعب تحك رأسها المتألم بينما اختفت هويدا بسرعة خلف الجدار وهي تكتم ضحكا هيستيريا وما أن سمعت صوت طرقات كعبي حذاء نسيبة فوق الأرض اللامعة مسرعة تنوي القبض على الفاعل
حتى انطلقت تجري و يداها فوق فمها لتعبر بابا زجاجيا فاصلا و منه دخلت بسرعة الى أقرب مخرج حرائق واستمرت تهبط جريا بعد أن تركت لنفسها حرية الضحك بصوتٍ عالٍ حتى فاضت دموعها .
لكن ملامحه كانت هادئة رغم شحوبها وعيناه شاردتان في البعيد
أما أخته فكانت تسير في الرواق ذهابا وعودة ممسكة مصحفا صغيرا بين أصابعها تقرأ فيه بصمت كلما غلبها البكاء تتوقف للحظة تمسح دموعها ثم تتابع بكل عزم .
وحين شعرت بالوهن في ساقيها تقدمت لتجلس بجوار شقيقها ثم رفعت يدها تمسد ظهره المحني برقة هامسة رغم الدموع التي غلبتها
إن شاء الله ستتم الجراحة بخير و خلال أيام ستعود أمي معنا الى البيت و يصبح كل هذا مجرد ذكرى
أومأ ساهر برأسه دون رد وعيناه بعيدتان بينما تابعت رباب مبتسمة ابتسامة كبيرة تحاول بها طمأنة
وسيتم زواجك أخيرا بوجود أمي بيننا ما رأيك أنها هي من ستجلس بجوارك بينما تجلس نسيبة بين المدعوين
لم يرد ساهر , بينما بهتت ابتسامة رحاب وهي تنظر الى ساعة معصمها هامسة بقلق
لماذا تأخرت نسيبة الى هذا الحد ؟! لقد أبلغتها بالموعد
أيضا لم يرد بل ظل صامتا محدقا في الفراغ أمامه وكأنه تمثال مصمت وجهه خالٍ من المشاعر
لكن أذناه التقطتا صوت خطواتٍ أنثوية تقترب منه بتردد خطوات ناعمة , تتحرك قليلا ثم تتوقف ثم تعاود الاقتراب
وبطرف عينيه لمح جسدا أنثويا نحيفا اتخذ المقعد بجواره وشعر بدفئه و رائحته الوردية العطرة .
مما جعله يرفع وجهه قليلا ملتفتا , فقابل أجمل ملامح من الممكن أن يراها في تلك اللحظة
تلك الملامح البسيطة الهادئة وابتسامة على فمها وهي تهمس برقة
ستكون بخير يا ساهر إن شاء الله
لم يشعر بنفسه الا و قد ابتسم وكانت الابتسامة الأولى منذ أيام وسأل بصوتٍ أجش
ظهرتِ أخيرا !
ارتعشت ابتسامتها للحظة , لكنها ردت بخفوت
لم أكن لأتغيب والدتك ستكون بخير
بثوبها القطني الفاتح المنقوش و شعرها المجموع فوق رأسها في فوضى جميلة كانت المشهد الأكثر راحة للقلب في تلك اللحظة
فتكلم سائلا بصوتٍ خفيض
هل أعتذر أم أشكرك ؟
ابتسمت هويدا مجددا و قالت بهدوء
سبق و قدمت الإثنين فلا تبالغ يا باشمهندس
سألها تحت أنظار شقيقته التي تراقب ما يحدث مذهولة بفضول
اذن وصلتك رسالتي ؟
أسبلت جفنيها مجيبة بلطف
و كيف لي أن أعرف موعد الجراحة اذن لو لم أقرأ رسالتك ؟!
ابتسم مجددا وهو يقول بخفوت
آآه و مع ذلك لم تجيبي على الرسالة
شعرت بالحرج و تلونت وجنتاها بشكل ساحر ثم قالت بصوتٍ خافت
لم أكن لأجيب سوى برفض الشكر والاعتذار أما جوابي الحقيقي والفعلي فهو الأعاجيب التي أقدمت عليها كي أتمكن من المجيء اليوم
جذبت رحاب ذراعه بقوة كي تلتفت إليه و تسأله عن تلك الشابة التي يتكلم معها الا أن ساهر جذب ذراعه منها دون أن يستدير إليها بل ظلت عيناه على وجه هويدا المضطرب وسألها بجدية
هل هناك مشكلة ؟!
ابتسمت ابتسامة حزينة و هي تبعد بعض الخصل من شعرها خلف أذنيها ثم ردت بإيجاز
مجرد خلاف في وجهات النظر بيني وبين والدي
سألها ساهر بدهشة واستنكار
هل منعك من الخروج ؟!
رفعت عينيها اليه مندهشة , لكنها ابتسمت مجددا وأجابت بهدوء
لم يكن والدي ليمنعني عن شيء
صمتت لحظة ثم تنهدت متابعة بقنوط
الا القيادة في الواقع لقد منعها عني اليوم صباحا
ارتاحت ملامح ساهر وهو يقول مبتسما براحة
اذن فقد استجاب لطلبي الحمد لله , كنت خائفا على
صمت للحظة أمام ملامح الدهشة و الصدمة التي ظهرت على وجهها و تجولت عيناه فوق تلك الملامح المعبرة طويلا قبل أن يضيف بتلعثم
على المارة في الطريق خائفا على المارة , فأنتِ متهورة قليلا
زمت شفتيها وهي تنظر لعينيه بغضب مكتوم ثم ردت بتشنج
أنت من حرضت والدي علي ؟! وأنا كنت أتساءل عما أصابه هذه الأيام !وبالطبع أخبرته عن المال
ارتبكت ملامح ساهر قليلا , الا أنه قال بخفوت
لم أكن لأبعد والدك عن صورة تخصك يا هويدا افهميني وضعي كان حرجا ومعكِ أنتِ بالذات
شحبت ملامحها و هي تتأمله بقلبٍ يرجف ثم أخفضت جفنيها سائلة
لماذا أنا بالذات ؟! ندمت آلاف المرات منذ أن أخبرتك سرا يخصني لتستخدمه ضدي
عقد حاجبيه بشدة وهتف بقوة
مجددا لم تفهمي يا هويدا
ارتبكت بشدة و نظرت حولها بقلق حتى استقرت عيناها فوق وجه شقيقته المذهولة فاضطرب ساهر و أخفض صوته قليلا ليتابع
اسمعيني يا هويدا دون غضب هذه المرة كما سبق وائتمنتني على سرك , اذن عليك تقبل كلامي دون حرج ما تمرين به لا يعيبك ولا يؤثر بشيء في جمال شخصك لكن عليك تقبل خوف من يحبك عليكِ لم أكن لأستطيع أن أثني والدك عن أمر يخصك , والا ظن أنني أستغلك
رفعت هويدا أصابعها تتلمس بها ذقنها مختلسة النظر إليه بنظراتٍ لم تستطع حجب المشاعر الجارفة فيها
ثم أطرقت بوجهها وقالت بصوتٍ أجش وملامح عابسة غير راضية
بمناسبة القيادة التي تسببت في منعها عني كنت قد أحضرت لوالدتك علبة شوكولاتة الا أنني نسيتها في سيارة الأجرة التي أتيت بها وتذكرت بعد تحركها فجريت خلفها وأنا أنادي السائق ليتوقف لكنه لم يسمعني ولم أحضر غيرها كي لا أتأخر أكثر عن موعد الجراحة
لم تدرك أن ابتسامة كبيرة حنونة ارتسمت على شفتي ساهر وهو ينظر الى وجهها المحني الغاضب
بينما جذبت رحاب ذراعه مجددا منادية اسمه همسا وقد أحرقها الفضول
فاضطر ساهر لأن يقول متنهدا على مضض مشيرا الى أخته
أختي رحاب
أومأت لها هويدا مبتسمة بحرج بينما كانت رحاب لا تزال تنظر اليها مذهولة فاغرة فمها حين تابع ساهر مشيرا الى هويدا ناظرا الى عينيها قائلا بنبرة جعلتها تبادله النظر أسيرة عينيه
هويدا صاحبة الروح الأجمل على الإطلاق
ارتعشت شفتا هويدا وهي تخفض وجهها المحمر بشدة بينما لاحظ ساهر في بضعة ثوانٍ من الشرود فيها أنها لم تكن جميلة الروح فقط بل كانت تمتلك خطا جانبيا لوجهها شديد الجمال و كأنها منحنياتٍ تتماوج بفنٍ ما بين الارتفاع و الانخفاض تماما كمزاجها !
..............
عاد ساهر الى حيث تقف هويدا ورحاب تنتظران بقلق مبتسما ابتسامة كبيرة وعينيه تهتزان وكأنه يطرف بهما كي يتغلب على مشاعره فأمسك بذراع رحاب وخاطب هويدا قائلا بصوتٍ مختنق
الجراحة تمت بخير والآن سيتم نقلها الى غرفة مجهزة
رفعت رحاب كفيها الى وجهها وهي تهتف باكية حامدة الله وشاكرة فضله بينما زفرت هويدا نفسا مرتجفا وهي تهمس قائلة بحرارة
لحمد لله يا ساهر عسى الله أن يتمم شفائها على خير
نظرت رحاب حولها باحثة عن هاتفها قائلة بتلعثم
سأتصل لأطمئن الجميع وسأتصل بنسيبة , بدأت أقلق على غيابها دون اعتذار ألست قلقا يا ساهر ؟! أعرف أن خوفك على أمنا لم يجعلك تفكر في تأخير نسيبة سأتصل بها حالا لعله خير
تفاجأت هويدا و أجفلت هاتفة لنفسها
نسيبة ! صحيح ! ربما كان اليوم الموعد بالفعل !
عقد ساهر حاجبيه وهو يلتقط كلماتها و سألها بخشونة
أي موعد ! هل لديكِ فكرة عن مكان نسيبة ؟
فتحت فمها تود الكلام الا أنها عادت واغلقته تهز كتفها كي لا تزيد من الوضع سوءا فأزداد عبوس ساهر وهو يرمقها بحدة , ثم قال بخشونة و عينيه على عينيها المتهربتين
سأذهب الآن لأطمئن على انتقال والدتي الى الغرفة ثم تخبريني بعدها عما تعرفين عن نسيبة
لكن علا صوت أنثوي بارد رغم نعومته من خلفه فجأة
نسيبة هنا بالفعل يا حبيبي
انتفضت هويدا ناظرة الى نسيبة الواقفة خلف ساهر ترمقها بنظرة حادة مزدرية بينما استدار ساهر إليها و سألها بشك وهو يراها ترتدي لباس رسمي شديد الأناقة مع حذاء بكعب عالٍ وتضع كامل زينتها بما لا يناسب المشفى أو الموقف مطلقا
أين كنتِ ؟!
اقتربت نسيبة من ساهر ورفعت وجهها إليه أمام ناظري رحاب وهويدا قائلة بمحبة وهي تقبل وجنتيه
حمد لله على نجاح الجراحة يا حبيبي لقد سألت عنها في طريقي الى هنا و عرفت الأخبار السارة
استدارت هويدا عن هذا المشهد وهي تداوي بداخلها ألما عنيفا بينما ازداد انعقاد حاجبا ساهر لكنه غالب شكه وقال باقتضاب
لن أستطيع متابعة الكلام الآن علي الاطمئنان على أمي أولا , ثم سنتكلم فيما بعد
وابتعد عنها تلحقه رحاب بلهفة بينما بقت نسيبة واقفة تنظر الى ظهر هويدا بنظرةٍ باردة قاسية ثم تكلمت بسخرية مهينة
عجبا هويدا هنا ! لكن لما لم يفاجئني هذا !
تمالكت هويدا نفسها وأخذت نفسا عميقا قبل أن تستدير إليها ثم قالت بهدوء و بصوتها الأجش المميز
أهلا يا نسيبة حمد لله على سلامة حماتك
لم تهتز عضلة في ملامح نسيبة , بل ظلت العينين تنظران الى عيني هويدا بنظرة حادة مخيفة , ثم اقتربت منها حتى كادت أن تلاصقها وتراجعت هويدا للخلف الا أن اصطدام ساقيها بحافة مقاعد المشفى أوقف تراجعها حينها همست نسيبة بصوتٍ كالخرير وهي ترمق هويدا من قمة رأسها وحتى أصابع قدميها
الا تجدين أن المصادفة غريبة قليلا !يأتيني اتصال بضرورة اجراء المقابلة في نفس موعد جراحة حماتي ونفس الصدفة تأتي بكِ الى هنا بينما أتواجد أنا في شركتكم !
كتمت هويدا نفسا حانقا وتمكنت من رفع وجهها لتقول بفتور
أمر تحديد موعد المقابلة لا يرجع لي أنا فقط طلبت من أبي توظيفك و الباقي عائد له
ابتسمت نسيبة ابتسامة أكثر استهزاءًا وهي تنظر الى ثوب هويدا الذي لا يحمل أي توقيع مشهور وكأنها أتت بملابس البيت بل حتى ملابس بيوت الأغنياء تحمل توقيعاتٍ مشهورة
ثم قالت فجأة بصوتٍ خافت
أنا لا أعاتبك يا هويدا أعرف أن ما تعانينه أمر خارج عن إرادتك
نظرت إليها هويدا بجزع هاتفة
ما أعانيه !
أومأت نسيبة برأسها ببطء و قالت بخفوت هامس أكثر
الجميع يعرف أنكِ تعانين خطبا يا هويدا و هذا ليس ذنبك
أغمضت هويدا عينيها بألم و استدارت بسرعة عنها وصدرها يخفق بعنف مؤلم بينما تابعت نسيبة وهي تمسك بكتفيها هامسة لها
لكن عليكِ تمالك نفسك كي لا يعرفون مشاعرك تجاه ساهر
انتفضت هويدا ناظرة اليها بذهولٍ وبالكاد قدرة ضعيفة على التنفس فقالت نسيبة دون تراجع
في الكلية كان كل زملائنا يعرفون من شدة ملاحقتك له وكنت أتغاضى عن الأمر لكنك كنتِ صغيرة لم تتجاوزي العشرين عاما أما الآن فتصرفاتك ستؤذيكِ و لن تفدك شيئا لأن ساهر لن ينظر إليكِ الا بعين الشفقة وأنا أكره أن أراكِ تضعين آمالا عريضة على وهم مجرد وهم يا حبيبتي زفافنا سيكون خلال أيام
لو كان أي انسان يستطيع إدراك ما شعرت به هويدا في تلك اللحظة العصيبة لرفع لها القبعة منحنيا ومعجبا أمام مقدرتها على رفع وجهها بعد لحظات لتقول بهدوء
أعرف أن زفافكما خلال أيام يا نسيبة ولهذا تحديدا رغبت في تقديم المساعدة لكما عبر توصية مني لوالدي , لتوظيفك مع زوجك في شركته و بناءا عليه فأي شعور بالشفقة أو التعاطف منكِ أو منه فلتحتفظا به لأنكما أولى به مني أنا فقط أقدم مساعدة طلبتِها بنفسك , أما عن وجودي هنا فاسألي ساهر عن سببه
ثم ربتت على ذراع نسيبة قائلة بترفع
أتمنى لكِ التوفيق في نيل الوظيفة , ومن جهتي سأحث والدي بجهد أكبر و الآن أنا مضطرة للمغادرة , بلغي ساهر سلامي وتمنياتي لوالدته بالشفاء
وأمام عيني نسيبة المتسعتين غضبا كلهيبٍ مشتعل مخيف انصرفت هويدا بهدوء على الرغم من أن كل عصب في جسدها كان ينتفض ألما خوفا حرجا وغضبا
ثم انعطفت الى أقرب رواق جانبي ووجدت زجاجة مياه بلاستيكية ممتلئ نصفها على ما يبدو أن أحدهم قد نسيها هنا , فأمسكت بها وأطلت من خلف الجدار ترمق نسيبة عن عبد قبل أن تزم شفتيها وتغمض إحدى عينيها لتهمس من بين أسنانها بقهر
لنرى إن كنتِ تملكين نفس القدرة على التصويب أم فقدتها يا هدهد
وطوحت بذراعها قبل أن تقذفها بالزجاجة بمنتهى المهارة كقذيفة صاروخية انطلقت و ضربت رأس نسيبة التي كانت توليها ظهرها ! فصرخت عاليا و نظرت حولها برعب تحك رأسها المتألم بينما اختفت هويدا بسرعة خلف الجدار وهي تكتم ضحكا هيستيريا وما أن سمعت صوت طرقات كعبي حذاء نسيبة فوق الأرض اللامعة مسرعة تنوي القبض على الفاعل
حتى انطلقت تجري و يداها فوق فمها لتعبر بابا زجاجيا فاصلا و منه دخلت بسرعة الى أقرب مخرج حرائق واستمرت تهبط جريا بعد أن تركت لنفسها حرية الضحك بصوتٍ عالٍ حتى فاضت دموعها .