الفصل الرابع

الجزء ٢
الفصل الرابع


لذا قرر ان يتحدث معه عندما يعود من عمله.

وصل للمشفى وتوجه لمكتبه، طالبًا الاخصائية "رحمه" بأن تجئ إليه، جلس على مقعده خلف مكتبه، ممسكًا بقلمه جاعل سنه المدبب لأسفل، ويضربه به عدة طرقات خفيفه، يحاول ان يهدأ من توتره، وطول انتظاره، انفاسه يزفرها بحرقه تكاد أن تكون مثل الاعصار يجتاح كل من أمامه.
أتت اخيرًا "رحمه" ملبيه طلبه وحين رآت حالته الذي يحاول اخفاءها بأنشغاله بتلگ الاوراق، قالت بلهجه رسميه:

- افندم يادكتور، تأمر بأي حاجة؟

وضع قلمه بجانب الاوراق الموضوعه أمامه، وتظاهر بأنشغاله، عبث بطياتها، ودون ان يرفع بصره عليها؛ حتى لا تفضحه عيناه، تنحنح وقال متسائل:

- هي غالية لسه مرجعتش؟

ظهر على صفحة وجهها القلق والتوتر، فقالت بخوف :

- لسه والله يا دكتور، وقلقانه عليها اوي، فونها على طول مغلق.
- طب مفيش طريقة تتواصلي بيها، اااصل يعني مينفعش تغيب كل ده، أقصد يعني الشغل محتاجها.

كان يتحدث والتوتر تملك كل اوصاله، جعلها تبتسم لأفتضاح أمره، دون ان يعترف، فأرادت أن تشعل نيرانه أكثر حين قالت:

- باين كده اسكندرية عجبتها، وهتوافق على العرض اللي اتعرض عليها.

وقف مفزوعًا كمن اصابه ماس كهربائي وقال بحده:

- هي سايبه ولا اية؟ مش في مده عقد وملتزمه بيه، ياريت تنبيها لو سمحت لو عرفتي تتواصلي معاها، او بلغي حد من أهلها.
- حاضر يادكتور، أنا بنفسي هعدي على والدها اطمن عليها منه، واخليه يبلغها كلام سيادتگ، اي اوامر تانية؟
- لا شكرًا يا رحمه، اتفضلي على شغلگ.

تركته وبداخلها يتراقص قلبها سعادة لصديقتها الغالية التي تتمنى أن تصل لها لتفرح قلبها بأن الحجر الصوان اخيرًا لَان وأصبح من السهل تشكيله، فلماذا هي مختفية كل هذه الأيام؟
كيف لها أن تصل إليها؟

بينما هو للمره التي لم يعد يحسب لها يهاتفها، ويجده ما زال مغلق، لعن غباءها وسوء ظنها، انتبه لصداحه المتكرر، ظن إنها تكون المتصله، لكنه حين نظر وجده "جاسر"، فأغلق رنين الهاتف، فالوقت الآن غير مناسب للحديث، أيقن "جاسر" أن مهمته صعبه في مصالحته، حزن لاحساسه بالفقدان ولظلمه له، فترگ هاتفه، ووضع يده على رأسه يفكر فماذا يفعل معه؟



لو مرت الأيام علينا في احضان وطنا مده عام، فأن هذا العام يمر على المغتربين بعشر أعوام او ربما أكثر
في بلاد الغربة، وقف "رأفت" ثائر وهائج كثوران الثور في ليلة سباق الثيران واجهه زوجته بصوت جهور:

- أنا خلاص يا ناني مش قادر استحمل العيشة دي.
- مالها العيشة يارأفت؟ إحنا كويسين وزي الفل، بقالنا سنين هنا ايه اللي جد النهارده؟ وأنت بتدرس في احسن الجامعات والكل بيقدرگ.
- اديكي قولتي بقلنا سنين، كفاية بقى غربه، أنا تعبت، نفسي ارجع بلدي وادفن في ارضها.
- بعد الشر عليگ ياحبيبي، متقولش كده.
- أنا قررت أنزل مصر، عايزة ترجعي معايا اهلا وسهلا، مش عايزة اخليكي عندگ.
- انت بتقول ايه يارأفت، عايز تسبني، انت بتتكلم جد؟ هتقدر تسيب ابنگ وحفيدگ؟

رمقها بنظرة غضب، ثم نظر حوله في كل اركان المكان وقال بسخرية:

- ابنگ ؟! حفيدگ؟! فين ابنگ ده ياهانم؟
ابنگ اللي عشانه خلتيني اسيب جامعتي والمستشفى بتاعتي، واجي وراه، هو فين بقى دلوقتي؟ تقدري تقوليلي بتشوفيه كام مره في الشهر، ده يادوب بيكتفي بمكالمه فيديو وخلاص، جري وسافر ورا مراته وسافر لولاية تانيه، ومعملش حساب إننا سبنا بلدنا عشانه... قلبه اطبع بقسوة الغربة اللي عايشين فيها.

كانت بتستمع إليه وبداخلها على يقين تام بصدق كلماته، لكنها حاولت أن تتظاهر عكس مافي جوفها لتقول بهمس:

- معلش يا رأفت، جاله شغل بفرصة كويسه، أدعيله ربنا يكرمه.
- ياستي بدعيله، بس انا مش هدفن نفسي في بلاد الغربه أكتر من كده، قراري نهائي مفيش تراجع فيه، وعايز أعرف ردگ حالا؟

اقتربت منه وعلى محياها ابتسامة حنونه، كما عاهدته منذ سنوات، وامسكت كفيه لتجلسه بجوارها على الاريكة قائلة بحب:

- وهي محتاجة رد يارأفت، طول عمرنا طريقنا واحد، والمكان اللي أنت فيه؛ رجلي تسبق رجلگ ياعشرة عمري.

ضم كفيها ولانت عضلات وجهه واهدأت نيرانه كأن حروفها كانت بمثابة الماء الذي اخمد توهجها، فرد بحب:

- ربنا ميحرمنيش منگ ياناني، ياشريكة حياتي وعمري كله.
- ولا منگ ياحبيبي. ونويت أمتى بإذن الله؟
- بإذن الله أنا مسئول عن مؤتمر طبي كبير، وهدعي فيه صقر، يجي يحضره هنا، ولما يخلص هننزل كلنا.
متتخيليش أنا مشتاق انزل بلدي ازاي، وارجع امارس مهنتي من تاني.
- طب ما انت هنا يارأفت بتدرس في احسن جامعه في الولايه.
- أيوة بس مش بعمل عمليات قلب بأيدي، وأكون سبب في شفاء مريض بفضل الله، واسمع دعاء اهله ليا بحسن وقتها إني ملكت كنوز الدنيا كلها، كل ده ياناني محروم منه، ونفسي ارجعله تاني.
- خلاص ان شاء الله هترجع وتمارس الطب من تاني ياحبيبي، وهتلاقيني دايما داعمه ليگ في اي وقت.

عانقها بحب مقبل جبهتها، فهو لا ينكر انها كانت نعم السند له في كل ازماته قبل افراحه، نهض وتوجه لمكتبه ليباشر أعماله.



جالسه "نوران" تتصفح الاخبار عبر صفحتها الالكترونيه، وإذا بها تشهق حين قرأت خبر وفاة اخت "جاسر" فنهضت وتوجهت نحو غرفتها، اخرجت من خزانتها رداء أسود وارتدته على عجل تخرج لتذهب إليه تقدم واجب العزاء، وأثناء خروجها تقابلت مع والدتها فسألتها وعلمت منها ما حدث، فقالت:

- طب ياحبيبتي اتصلي عليه واعرفي موجود ولا مش موجود؟
- اتصلت أكيد يا ماما، لكن فونه مغلق على طول، حتى لو مش موجود هعزي والدته أنا أعرفها وقابلتها في افتتاح المستشفى.
- طب خلاص روحي ومتتأخريش.

اومأت لها بالموافقه وانصرفت متوجهه لمسكنه، وبعد مضي وقت قصير وصلت، ولجت للداخل، قابلتها العامله ورحبت بها، سألت على "جاسر" فعلمت بوجوده، فصعدت لتخبره بوجودها، دقائق وانحدر لأسفل يرحب بها، فـ الحزن كساه من الداخل والخارج، صافحها ثم جلس وشكرها على حضورها، فأسرعت قائلة بنبره هادئة حزينة:

- مفيش شكر بين الأصدقاء يا جاسر ربنا يرحمها يارب، ويصبركم على فراقها.
- يارب يانوران.
- هي طنط فين؟ كنت عايزة اعزيها.
- ماما حالتها صعبه اوي، ومن يوم اللي حصل وهي في اوضتها حابسه نفسها فيها.
- لاحول ولا قوة الا بالله، ربنا يصبركم، سلملي عليها كتير، استأذن أنا ويارب تكون اخر الأحزان.

نهضت لتصافحه، لكنه امسگ كفها واجلستها مرة ثانية قائل بنبره جاده عمليه:

- اقعدي يا نوران، أنا كنت ناوي اتصل بيكي من بعد ماعرفت اللي حصل بينگ وبين صقر.

قاطعته لتبرر موقفها وماحدث، لكنه اشار لها رافعًا يده أمامه ليستطرد قائلا:

- أنا مش عايز أعرف حاجة، كل اللي هطلبه منگ ان المستشفى عندي بترحب بيكي في الوقت اللي يناسبگ.

لمعت عيونها وتهللت اساريرها مما قال، و أخفت ابتسامتها بأعجوبه مراعاة للموقف والظروف، ابتلعت ريقها وقالت بنظرة شكر وامتنان:

- شكرا جدا على عرضگ، أنا فعلا كنت محتاجة أني اشتغل، لاني بموت من قعدة البيت، ومن بكره هكون موجوده هناگ، ومتشغلش بالگ واعتبر نفسگ موجود.
- أكيد يا نوران، وده عشمي فيكِ، وهبلغهم هناگ انگ اول ما توصلي تستلمي عملگ فورًا، ويجهزوا ليكي مكتب جنب مكتبي.

ابتسمت بسعادة تتطاير من مقلتها لتلگ الفرصة التي جاءتها دون أن تسعى لها، وعزمت بداخلها أنها ستقتنصها ولن تفرط بها مهما كلفها الأمر، اشار لها بأن ترتشف قهوتها الموضوعه أمامها، تناولتها منه، وارشفتها وذهنها مشغول في طاقة القدر التي فتحت ابوابها على مصراعيها، وما أن انتهت من تناولها، حتى اسنأذنت وتوجهت لمنزلها، وما ان وصلت قابلتها والدتها مستفسره عما حدث، فلاحظت السعادة والفرح على وجهها، جلست وقصت عليها عرضه، فسعدت الأم لها ودعت الله أن يوفقها ويثبت اقدامها هناگ.


في غرفة النوم الخاصة بـ "سونيا" يرقد "محروس" غاضب مشعل سيجارته ويزفر انفاسها بحرقه، موجهه حديثه للتي قادمه بخطى متدلله تزيد من ثورته، وحين رمقها قال:

- اية حكايتگ ياسونيا، دي مش طريقة، كل ما اقربلگ تخترعي الف حجة وحجة؛ مرة تعبانه وعندي صداع،مرة مليش نفس، مرة عندي عذر قهري، في اية؟ عمرگ ما كنتي كده معايا؟ شبعتي خلاص ؟!
ولا ليكي شوفه تانيه يا بنت الناس ؟!

كانت جالسه امام مرآتها، تعبث بأدوات التجميل خاصتها، تستمع لحديثه واتهماته، اذدرءت لعابها وحاولت تكون هادئه في ردها، تناولت اصبع الروج وفتحته، ولونت به شفتاها بحركة تثير شغفه، ثم نهضت واقتربت منه، وجلست بجواره، ومدت يداها تعزف على صدره ترنيمه تحتقظ نغماتها بحرفيه، فيدها تتقن العبث بغابات صدره؛ فهدأت من ثورته حين اقتربت بشفاها ذات اللون الأحمر الصارخ من شفتيه، وطبعت قبله مثيره، كادت أنفاسه تزهق من شدة قوتها، تركته بعد أن وصل لأقصى درجه من الشغف، وعند تأكدها من نجاحها، احتضنت وجهه وقالت في هيام:

- من أمتى يامحروسي بتقولي كده؟ مش مستحملي مرتين ثلاثة تعبانه فيهم،اخس عليگ يامحروسي، هو من أمتى عيني بتشوف غيرگ ياولا ؟
هو في راجل في الدنيا دي يملى عيني إلا أنت ياروحي !

تنهد بحيره من أمرها، شدها إليه ليضمها بقوه داخل أحضانه، مقبلا برقبتها، ومستنشق عبيرها الذي اثار كل أنش بداخله، فجعله يصرخ مطالبًا بتلبية نداءه، فغاصت في بحور عشقه المحرمه، كان يحاول جاهدًا اسكات أجراس ناقوس الخطر التي تصفر بداخل عقله، وتنبه بأن هناگ خطر كبير قادم، لكن قلبه اصدر تشويشًا عاليًا عليه، ودخل معه في تحدي ليصمت كل انزار يصدره ولو لوقت قصير.



انهت "رحمه" عملها وتوجهت لمنزل صديقتها كما وعدته، طرقت عدة طرقات على باب شقتها، فلم تجد رد عاودت الإتصال على صديقتها فكان ما زال مغلقًا، استدارت لتتوجه لمنزلها والقلق تسرب لفؤادها كصنبور ماء تتسرب منه نقاط الماء بدون توقف، سارت والحيره تنهش الجميع ليس هي فقط، بل هو يفوقها بكثير.


رجع "صقر" لمنزله وقبل ان يدلف للداخل، تقدم من غرفة "قوت" وطرق طرقات خفيفة، انفرج الباب وشاهد ابنها الأكبر "أحمد" تبسم له واقترب منه مطالبه ان يجلسا بالخارج في حديقة الفيلا ليتحدثان سويًا، تنحنح "صقر" حتى يبدأ حواره معه، فكان في حيرة من أين تبدأ الحكاية، قاطع حبل افكاره "أحمد" متسائل
:
- خير يادكتور صقر؟
- خير يا أحمد، أنا بس حبيت اتكلم معاگ في حكاية كده يهمني أنگ تعرفها عن شخص عزيز وغالي عليا.
- ماله صاحبگ ده يا دكتور؟
- شوف يا ابوحميد، اولا انا بعتبرك أنت واخواتگ، زي اخواني الصغيرين، ولو في أي حاجة محتاجها انت او اي حد فيكوا، اوعى تتردد تيجي وتقولي، هو في حد برضو يتكسف من أخوه الكبير؟

هز رأسه بالنفي، ربت على كتفه واكمل يحدثه عن رحلة صديقة وكفاحه طوال سنوات عمره، برغم انه كان يسرد بأختصار شديد، لكن كان يريد ان يصل به للمضمون، فهو واثقًا من ذكاءه وسرعة بديهته في استيعاب المغذى ومقصده مما سرد، نكس رأسه لأسفل، حين استشعر انتهاءه من الحديث، فقال في خجل:

- هو حضرتك سمعت حواري مع ماما النهاردة يادكتور مش كده؟
- ايوة سمعت، وكنت اتمنى انگ تيجي وتطلب مني على طول، مش تطلب من والدتگ.
- لا خلاص أنا مش عايز اوضة ليا، مش مهم هذاكر في الصاله، او حتى هقعد في الجنينة اذاكر، وشكرا لتعبگ معانا يادكتور، ولو سمحت بعد اذنگ كنت محتاج لما أخلص الاعدادية تشوفلي اي شغلانه اشتغلها واساعد امي، أنا مبقتش صغير، واقدر اشتغل أي شغلانه زي صاحب حضرتگ اللي حكيت عنه.

سعد من حديثة، فقد شعر ان حديثه لم يذهب هباءًا، لذا قام بضمه وقبله ثم قال له:

- أنا سعيد بيگ يا أحمد جدا، وان كان على الشغل لسه بدري عليه، لما تخلص الثانوية وعودگ يشتد كده، وتعرف هتدخل كلية اية، هخدگ بنفسي واشوفلگ عمل فيها مناسب، وهرتب معاگ المواعيد على حسب محاضراتگ، لكن دلوقتي أنسى، انتبه لمذاكرتگ وبعدين ربنا يسهلها، وأنا هكلم حد بكره يبني ليگ غرفة جنب الاوض بتاعتكوا، ويفتح بابها من جوه، وياريت تبلغ عمرو اخوگ ان هديگ بكره لاب عندي فوق مش محتاجة ميغلاش عليكوا، هبعتولگ مع الست قوت.

وقف "أحمد" بشموخ وقال:

- متشكر اوي يادكتور صقر على كل اللي عملته ووقفتگ معانا، وأنا مش هطمع بأكتر من ده، ويارب اكبر واقدر ارد لحضرتگ كل جمايلگ دي.
- يابني أفهم، مفيش جمايل عشان تردها؛ أنا متحطتش في طريقكوا بأرادتي؛ ابدا دي كانت ارادة ربنا وحده، عشان اكون سند وعون ليكوا، وتأكد طول ما أنا عايش ربنا يقدرني ومفيش حاجة تنقصكم ابدا، ممكن بقى دلوقتي تروح تكمل مذاكرة عشان تجيب مجموع وتدخل ثانوي، بحلم اشوفكوا في افضل الكليات.
- ربنا يخليگ ليا يارب وميحرمناش من عطفگ يادكتور.

عانقه "أحمد" بحب شديد، ثم تركه و ولج للداخل لكنه دخل بنظرة جديدة غير الذي خرج عليها منذ قليل، بداخله حماس ليرفع رأس هذا الرجل الحنون الذي تولى امرهم بكل ود واهتمام ليس له مثيل، مر الوقت عليه ولم يشعر بدلوف والدته إليه وفي يدها حامله جهاز لاب توب تقدمه له قائلة:

- أنت قولت لدكتور صقر على الجهاز ده يا واد يا أحمد؟
- ابدا والله ولا جبت سيره.
- اصل بعد ماحضرتله العشاء، لاقيته اداني ده ادهولگ عشان تعلم عليه اخوگ عمرو.
- تناوله منها والفرحه غمرت قلبه، وصاح منادي على اخويه عمرو، وهشام اللذان اتيا مسرعين وعندما شاهدوا الجهاز تتطايرت السعادة والصياح داعين للدكتور بالسعاده له، كما اسعدهم، آمنت على دعاءهم "قوت" بكل حب له أن يرزقه الله ويجبر خاطره كما جبر بخاطر أطفالها.


وقفت "غالية" في شرفتها تنظر أمامها شارده مسائلة بداخلها، لماذا ما زالت تحن إليه ؟!
لماذا تقف وحيده بين اعاصير احزانها بمفردها، وحيده، يتيمه الأحباب؟
لا تعلم هل الخطأ منها، ام منه، ام من الظروف التي تحجبه عنها، ويسود الغيوم بداخلها !
كم تشتاق لنسمه هواء ترفرف من حوله؛ لتأتي إليها ترطب على فؤادها من نيران الحيرة، والغضب الذي يجتاحها.
ولكن ما زال قلبها واثقاً بأن لا بد من أن يأتي الربيع، وتزدهر أوراقها من بعد جفاء شهور خريفها، وتقربه رياح الهوا تأتيه لها طائراً محلقاً نحوها، يلبي من متطلبات العشق اللامنتهية، يومها سيهدأ الوتين ويسعد بوجوده،
سنتظره مهما طال البعد، ومهما مضى من فصول، سيجدها حينها متلهفه للقاء بكل الشوق الذي يحمله قلبها له، ستغمره به حتى يغرق من فيضانه الذي لا ينتهي.
فسيجدها واقفه منتظراه، تناجيه كل ليلة عند شروق شمس ضياء جديده، وعند غروبها، وحين يأتي ظلام الليل الكالح، الدامس ستقص لكل نجمات السماء عنه، وتشكو لقمر زمانها عنه، وعن طول بعاده، ستطلب منه ان يصل له سلامها وحبها له، ستحيا عمرها في انتظاره مهما طال الوقت، فلم تيأس يوماً في عودته، لأنه بالنسبه لها الحياة، فأنها تحيا لمجرد أنه يعيش بداخلها، لم تهتم بأن غيرها امتلكته، لا تعلم لماذا شيء خفي بداخل قلبها يحسها بأنها ستكون له في يوم، ومن أجل هذا الإحساس ستبقى تحيا على أمل حدوثه في يوم، وحتى يتحقق هذا الأمل عليها ان تصبر وتتحمل حرمانها منه، يجب أن تقاوم وتصمد عندما تراها برفقته، تنزع الغيرة من داخل وتينها وتستبدله بلوحًا من الجليد لتستطيع أن تعيش،
اغمضت عيناها لمجرد فكرة ان تراهما معًا، وضعت كفها على عيناها بألم تسجن بداخلها العبرات التي تريد التحرر من مقلتيها، تنهدت ودلفت لغرفتها تحاول الهروب من افكارها التي تراودها، بحثت بعيناها عن هاتفها لتهاتف والدها تطمئن عليه، فمنذ الصباح لم يرد على رنينها المستمر، انتظرت بأن يرد عليها لكنه لم يجيب، تسرب القلق والتوتر ودعت ان يكون بخير، أغلقت هاتفها وحاولت تستدعي النوم لتدخل في مدن أحلامها وتغوص معه في عشق وامنيات تحقق فقط في نسج خيالها واحلامها، استسلمت لهذا العالم الذي عشقته مأخرًا.



استيقظ "صقر" على صوت وصول رنه اشعار عبر الواتس اب، فتح عيناه بثقل ونظر في هاتفه فوجد الرسالة من دكتور "رأفت" فعتدل من مجلسه واغمض عيناه ثم فتحهما عدة مرات؛ ليعرف قراءتها، تبسم حين قرأ:

- ازيگ ياصقر يابني، اشتقت ليگ جدا، انتظرگ بعد أسبوع من الآن لحضور مؤتمر طبي، وعند انتهاءه سنعاود جميعًا إلى وطنا الغالي، سأرفق لگ الدعوة قريبا مع التذكره.

انتهى من قراءتها وتهلل وجهه بسعادة شديدة انه سيقابله قريبا، والاهم من ذلگ بأنه سيعاود معه ويراه كل صباح مثلما كان منذ زمن قبل رحيله.
قرأ رسالته عشرات المرات ليتأكد من صحة الخبر، انتبه على طرق باب غرفتة وسماع "قوت" تنبه انها جهزت الفطور ووالدته في انتظاره، تعجل في ارتداء ملابسه ونزل مقبل يد والدته بحب حب، وعلى وجهه ابتسامه فقالت له:

- ماشاء الله وشگ ولا وش القمر يا ضنايا، شكلگ مبسوط النهاردة، ربنا يسعدگ كمان وكمان.
- هو أنا مبسوط بس، انا طاير من الفرحه يا أمي.
- خير فرحني معاگ !

جلس بجانبها وتناول قطعة من الجبن، ورد بسعادة قائلا:

- دكتور رأفت ومراته هيرجعوا اخيرا مصر.

اغمضت مقلتيها بحنين لأيام مضت، تشتاق لها، تنهدت وقالت:

- ياااه بعد كل السنين دي هيتكتبلي اشوفگ من تاني ياست ناني، والله ليكوا وحشى انتي ودكتور رأفت، والله ده أحلى خبر سمعته النهاردة، بس ياترى هيجوا أمتى؟
- بإذن الله في مؤتمر طبي هروح احضره، ولما يخلص هنرجع كلنا، دعواتگ يا أمي.
- تروح وترجعوا بالف سلامه يارب.

آمن على دعواتها، وبحث بعيناه عن "قوت" التي كانت تقترب من المائده لتضع عليها فناجين الشاي، قال موجهه حديثه لها وعلى محياه ابتسامه:

- اعملي حسابگ ياست قوت ان في ناس هتيجي عشان تبني اوضة جنب الاوضتين بتاعكوا النهاردة، عايزگ تشرفي عليهم بنفسگ، وتعملي معاهم الواجب.

نكست رأسها لإسفل خجلا منه، وقالت هامسة:

- والله ماعارفه اوري وشي منگ يادكتور، كتير اوي اللي بتعمله معانا ده، والله لو اخويا لكان زهق من حملي وحمل عيالي، ربنا يسترگ مايفضحگ ويرزقگ باللي تسعدگ وتريح بالگ.
- آمين يارب العالمين، مش عايزگ تقولي الكلام ده تاني، انتي وعيالگ مسئوليتي لحد ما ربنا يفتكرني، عمري ما هزهق ولا امل ابدا، يالا روحي بقى شوفي هتعملنا غداء ايه واعملي حساب الصناعيه، دول غلابه واتوصي في الأكل.
- من عينيا يادكتور، ربنا يرزقگ يارب.

انصرفت والدموع تتلألأ داخل مقلتيها، ولسانها يدعو له بأعذب الدعوات، بينما والدته ترمقه بكل حب، قلبها يشكر الله عليه وعلى حسن أخلاقه، لم ينتبه لنظراتها، وعندما رفع بصره تعجب وقال:

- خير يا أمي بتبصيلي كده ليه؟
- خير ياضنايا، أنا فرحانه بيگ اوي، وقلبي بيشكر ربنا عليگ.
- على ايه كل ده؟ أنا معملتش غير الواجب، عارفه يا أمي الست قوت دي بتفكرني بيكي وباللي مرينا بيه زمان، يمكن في بداية مشوارنا مكنش في حد يقف جنبنا وياما شوفنا العذاب، دايما بقول لنفسي ان ربنا حطني في طريقها عشان أكون في عونها واساعدها هي وعيالها، لازم العبد يكون في عون أخيه المؤمن.
- ربنا يكرمگ ويفرحني بيگ يارب، مفيش حاجة قريبه؟

نظر لساعة يده وقال على عجل يريد الهروب منها:

- شوفتي الكلام أخدنا واتأخرت على المستشفى.

نهض وتركها وعلى محياها ابتسامه من هروبه المستمر في موضوع الزواج.
استقل سيارته وتوجهه إلى المشفى وما ان وضعت قدماه عند أولى درجات سلم المشفى، اتاه اتصال هاتفي رد من غير ما ينظر إلى اسم المتصل الذي كان بدون اسم فتلقى صوت صريخ ممزوج بالبكاء:

- الحقني بسرعة يادكتور صقر ؟!


يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي