الفصل ٢

نفث دخان سيجارته في الغرفة الضيقة المعتمة والتي تفوح منها رائحة مكتومة مع شعاعٍ ذهبي ضعيف مع أول النهار مستلقيا في سرير بالكاد يتسع لفردٍ واحد ومع ذلك كانت مستلقيه بجواره و رأسها فوق ذراعه بينما أصابعه تداعب خصلات شعرها الناعم
لم يتكلما ولو كلمة منذ ساعات ساعات كانت لغة الشغف بينهما هي اللغة الوحيدة التي استوعبها جسداهما
وكانت هي أول من تكلم فهمست بصوتها العميق محدقة في السقف بابتسامة عابثة
هل ستخبرني الآن سبب هذا العرض المذهل الذي قمت به دون أن تمنحني فرصة للاعتراض ؟! خاصة بعد طردك السابق لي من بيتك ؟!
لم يجبها خاطر على الفور , بل نفث الدخان مرة أخرى مما جعلها ترفع أصابعها لتلتقط السيجارة من بين أصابعه عنوة ثم أطفئتها دون استئذان و هي تهمس بنعومة
أنت الآن على أرضي أي ستلتزم بقوانيني , ألم يكن هذا كلامك ؟!
استدار خاطر اليها حتى وجهها وأصابعه تداعب شعرها بقوةٍ أكبر حتى أغمضت عينيها تشعر بالنعاس
لكن صوت خاطر الأجش جعلها تفتحهما مجددا و تنظر إليه مبتسمة بإغواء
اذن لديكِ بيت !! أنكرتِ وجوده من قبل , وأرغمتني على اصطحابك لبيتي و إبقائك بين أفراد أسرتي
رسمت بإصبعها دوائر حارقة فوق صدره و أجابته ساخرة بصوتٍ خافت
هذا إن كنت ستطلق على هذا المكان بيتا , فهو بالكاد مبنى متهالك ضيق ورثه كلا من والدي وعمتي عن والدهما الذي بناه بنفسه فوق مساحةٍ لا تكاد تتسع لقدمي الفرد الواحد
صمتت للحظات ثم رفعت عينيها الى عينيه وتابعت بصوتٍ أكثر هزلا
لكن الحقيقة أنني رغبت الى أي مستوى ستصل شهامتك
لم يتجاوب مع ابتسامتها الساخرة , بل رد بهدوء وبصوتٍ يحمل رنة غريبة بها شيء من تأنيب الذات
لا يمكنني التباهي بالشهامة الآن , وفي ظرفٍ كهذا .
ضحكت بإغراء وهي تقترب منه أكثر تستشعر زيادة سرعة ضربات قلبه التي تتلاعب بها كيفما شاءت ثم همست بصوتٍ أجش
لماذا ؟! لأنك قمت باستغلالي على أحسن وجه , مشبعا أقصى رغباتك جنونا ! اطمئن يا خاطر , كنت أعرف أن هذا ما سيحدث آجلا أو عاجلا لأنك في النهاية سوى بشر وستقبل بالمعروض أمامك
مرت أصابعه فوق خط عنقها الطويل ببطء و تابعت حركتها حتى صمتت تماما عن كلماتها اللاذعة المخيبة للآمال وأغمضت عينيها مستسلمةفسألها بصوتٍ أجش
لماذا تفعلين هذا ؟! أنتِ لا تحكمك الشهوة أبدا , بل هناك شيء آخر لا أستطيع تحديده
رفعت نفسها مستندة الى مرفقها وهي ترمقه بابتسامتها المستفزة ثم سألته بمكر
ماذا يا ترى ؟! ما الذي يسيطر علي و يجعلني كلعبة بين أصابعك دون اعتراض ؟! عيناك الخضراوان أم نبرة صوتك الآسرة ؟!
لم يتجاوب مع ضحكتها بل همس بصوتٍ أجش
لا شيء آخر و كأنها الرغبة في الضياع الرغبة في نسيان الألم بتشفٍ من نوعٍ خاص الرغبة في الانصهار لشيء آخر غير شغف التي تحيى ألما أكبر من قدرتها على تجاوزه
ظلت صامتة للحظاتٍ طويلة وهي تنظر لعمق عينيه في الضوء المعتم , ثم همست أخيرا
كان ينبغي أن تكون محللا نفسيا ليس لأنك تملك مهارة تحليل الشخص أمامك , بل لأنك تمتلك نبرة صوت تجعل من يسمعها يرغب في البكاء
أمسكت كفه بذقنها ترفع وجهها إليه و حدق بعينيها قبل أن يخفض وجهه ليقبلها بقوة وهي تتجاوب معه دون اعتراضٍ كما اعتاد منها لكنها همست في أذنه ممازحة
أرجو الا تحدثني عن الأطفال مجددا بعد هذا
ثم ضحكت ضحكة عالية أوجعت قلبه بصدق في ضربة تحملها متأوها بداخله , الا أنه حاصرها بهيمنة وهو يجيب بخشونة معنفا
اطمئني , لقد تركت أحلامي المثيرة للشفقة جانبا لما لا نتمتع بما نتشاركه الآن فقط دون تفكير في الغد
ضحكت قائلة بعذوبة و هي تدور من حوله
أحسنت أنت تتعلم بسرعة , وحين أنتهي منك ستكون أفضل في التعامل مع هذا العالم الشرس
بعد فترة طويلة كانت قد فقدت ابتسامتها , و تبقت ملامح متباعدة شاردة فزاد من ضمها الى صدره وكأنه يتمنى لو استطاع تلقي هذا الألم منها و حين وجدها شاردة تماما بعينين غائرتين تكلم قائلا بصوتٍ أجش
كلميني عن ابنك
لم يخطئ جسده الإجفال الذي استشعره في جسدها الا أنها حين تكلمت همست ضاحكة برقة
آه ابني الذي جعلك تأتي الى هنا مسرعا مصدوما , لتضمني الى صدرك بقوة وأنت تشعر بالأسى لحالي
لن يسمح لها أن تتهرب مجددا , فعاد وكرر السؤال بنبرة أقوى أكثر اطمئنانا و هدوءا
اخبريني عن ابنك
بهتت ابتسامتها قليلا , و شردت عيناها للحظات قبل أن تهمس بصوتٍ ساحر محدقة في السقف
كان رائعا جميلا و شديد الذكاء
ارتفع حاجبا خاطر فنظرت إليه وأومأت برأسها مؤكدة
بلى , كان شديد الذكاء بدرجة كانت تشعرني بالذهول و أنا أتساءل كيف تمكن من فعل هذا كيف تطور الى هذا الحد كيف تمكن من التقاط ما أريد قوله كان رائعا
صمتت للحظة ثم همست بصوتٍ خفيض مختنق
لكنهم استكثروه علي
سألها خاطر بصوتٍ خافت خشن وهو يحيط خصرها بذراعه
من هم ؟!
ظلت شغف صامتة دون رد , ثم نظرت اليه وسألته بابتسامة متلهفة
هل تريد رؤيته ؟!
أومأ خاطر برأسه ببطء دون رد وهو يشعر بالوجع تلقائيا , فأزاحت الغطاء عنها و نهضت من الفراش دون أن تعبأ بشيء يسترها أمام عينيه الذاهلتين المتفرستين في جمالها الخلاب يراها تفتش في حقيبتها وتخرج حافظتها و تفتحها وبقت واقفة تنظر الى الصورة طويلا بابتسامة ساحرة وكانت في تلك اللحظة تبدو كلوحة مرسومة لامرأة بكامل حقيقتها دون ستر أو إخفاء تتأمل الشيء الأجمل على الإطلاق
ثم رفعت وجهها أخيرا وعادت إليه منحنيه فوقه حتى رمت بنفسها على الجانب الآخر من حوله قبل أن ترفع الحافظة المفتوحة وتريها له
فأمسك خاطر بكفها الممسك بالحافظة ليثبتها ونظر الى الصورة صورتها و هي تحتضن طفلا جميلا جدا كان أروع من الجمال نفسه وكان يشبهها الى حد كبير أما صورتها فكانت طبيعية تماما دون عقدٍ أو أوجاع وكأنها في تمام السلام مع نفسها , بعكس تلك المرأة التي تقبع فوق ذراعه الآن
التفت إليها قائلا بخفوت و بنبرة عميقة
إنه يشبهك تماما جميل مثلك
رفعت شغف وجهها إليه وسألته بابتسامة جذلٍ بالغ
حقا !
أومأ برأسه ببطء مبتسما بحزن للهفة في وجهها الفاتن ثم قال بخفوت
لقد ورث الجمال عنكِ فماذا ورث عن والده ؟!
أظلمت عيناها فجأة و غابت السعادة عن ملامحها فلعن لسانه الغبي الذي استحضر ذكرى رجل آخر في مثل تلك اللحظات الخاصة بينهما واستمر الصمت بينهما الى أن أغلقت المحفظة ووضعتها جانبا لتقول بصوتٍ جليدي
كنت أرغب في قول الذكاء لكنه شرف لا يرقى له آدم
شعر خاطر بالغيرة من مجرد نطقها لاسمه مجردا , لكنه آثر الصمت محدقا في السقف ثم سأل بخفوت
كيف فقدته ؟!
لم ترد عليه , بل نهضت مجددا ومالت الى أذنه تهمس سائلة سؤالا جعلت نبضاته تتسارع و عينيه تنغلقان بصورٍ مضنية فضحكت عاليا وهي تراقب تأثره الفاضح بكلماتها الهامسة , مما جعله ينظر إليها قائلا بصوتٍ متنهد
الذي أسماكِ شغف ساحر ليعرف اسما يناسبك بهذا الاقتدار
انفجرت في الضحك عاليا و بنبرة أعلى وهي تلقي بنفسها للخلف مما جعله يسألها بحيرة
ماذا قلت فأضحك بهذا الشكل ؟!
استمرت في الضحك حتى دمعت عيناها ثم همست لاهثة من بين شفتيها
الأمر فقط أنك تذكرني بمدلهٍ مثلك تماما , سقط أسير شغفٍ قاتل ذات يوم ولم يخرج منه مطلقا
لم يشاركها الضحك بل سألها بجدية و هدوء
والدك ؟!
نظرت إليه بصمت , ثم أعادت النظر الى السقف قائلة بخفوت
نعم كنت أنظر إليه كمثال في العشق الأسمى في الوجود عاش حياته بعد انفصاله عن أمي لا يسرد الا الغزل في جمالها و الشعر في عشقها حتى أنه أسماني شغف ليسجل جمال ما شعر به تجاهها ذات يوم
صمتت قليلا ثم أفلتت ضحكة من بين شفتيها لتقول متابعة بانهيارٍ ضاحك
ثم اكتشفت فيما بعد أنها أقذر قصة عشقٍ عرفها التاريخ
غطت وجهها وهي تضحك بجنون وهو يريح كفه فوق عظام صدرها علها تهدأ قليلا من هذا الإنفعال العنيف
ومن بين ضحكاتها همس في أذنها بتلك النبرة التي سبق وقالت عنها آسرة
هوني على نفسك يا شغف أنتِ تقتلين نفسك ببطء
هدأت ضحكاتها بالتدريج البطيء الى أن نظرت إليه بإرهاق ثم همست فجأة بصدق
ليتني أستطيع
ارتعشت عضلة في فكه وهو يسمع منها تلك النبرة الموجعة فداعب شعرها ببطء متأملا وجهها قبل أن يهمس مبتسما برقة
أتعلمين أن بيتك هذا أشعرني بالفخر بل و بالغرور تجاه بيتي ! إنه مريع
ضحكت ضحكة صغيرة مجهدة ثم قالت بخفوت
و على الرغم من ذلك لم أعرف السعادة سوى في الأيام القليلة التي كنت أمكثها فيه كنت ملكة متوجة هنا بينما كان يتم نبذي و اخفائي عن الجميع في بيت داشاي لو ترك الأمر لهم لدفنوني حية و محوا كل أثرٍ لي و هذا ما يريده خالي حاليا
رد عليها خاطر بنبرة جادة رغم هدوئها
ومن سيسمح لهم !!
ظلت تنظر إليه للحظاتٍ طويلة ثم سألته فجأة بابتسامة خلابة
هل تريد رؤية أجمل مكان في العالم ؟!
عقد حاجبيه متوجسا , لكنها كانت قد قفزت من السرير دون انتظار رده فتنهد بتعبٍ وهو يحدق في السقف يائسا كل ما كان يحلم به يوما هو مجرد فتاة بسيطة تشاركه حياته البائسة دون المزيد من المشاكل , فهو لا ينقصه المزيد من التعقيد وكأن القدر قد استمع الى مطلبه وحقق ما يريد فألقى به بين براثن أكبر عقدة قابلها في حياته
......
صعد خاطر خلفها على السلم الخشبي المصنوع يدويا والمفرغ والواصل بين طابق شقتها و السطح
وما أن أطل برأسه حتى ظلل عينيه بكف يده حيث كان هناك شعاع الشروق الذي ازداد بريقا كسهمٍ خاطف اخترق عينيه مباشرة وما أن وقف على أرض السطح حتى نظر حوله الى السكون المحيط لا يقطعه سوى صوت الطيور و من بينها الديوك ثم التفت ناظرا الى شغف التي لوحت له منادية
تعال اصعد
ثم رآها تتسلق برج حمام خشبي , أيضا مصنوع باليد ولحق بها خطوة بخطوة حتى جلست أعلى البرج , فجلس بجوارها يحيط بهما حمام البرج ثم نظر الى أسطح البيوت القديمة المتهالكة من حولهما وكأنها لوحة أخرى مرسومة باليد وحين إلتفت ناظرا الى شغف , ذهل لمرأى الانبهار المرتسم على وجهها و هي تراقب تلك اللوحة و كأنها لا تشعر بوجوده ثم همست بخفوت مبتسمة
أليس هذا هو المكان الأجمل على الإطلاق ؟!
لم يرد عليها على الفور وحين أجاب تكلم بصوتٍ عميق أجش وهو ينظر إليها وحدها
نعم لم أرى جمالا كهذا من قبل
ظلت شاردة و شعرها يتطاير بنعومة حول وجهها الجميل ثم اختفت ابتسامتها وهي تقول بفتور
عجيب
سألها خاطر بنبرة خفيضة وكأنه يكره أن يتبدد سحر هذه اللحظة إن ارتفع صوته
ما هو وجه العجب ؟!
أجابته شغف قائلة وهي تشير بكفها الى أسطح تلك البيوت المتهالكة و العشوائية والمبنية معظمها بالطوب الأحمر
أن ترى لوحة جميلة أمامك تأسر عينيك , بينما الحقيقة الكامنة خلف تلك الخطوط و الألوان لا تحمل أي جمال مجرد فقرا و جهلا ووجعا كيف لك أن ترى جمالا خلفه أوجاع آلاف البشر أليست الحياة خدعة كبيرة !
تنهد ببطء وهو ينظر الى ما تنظر إليه ثم أعاد عينيه إليها وفكر شاردا
وكيف أراكِ جميلة آسرة الى هذا الحد وخلف تلك الألوان الفاتنة قلبا متوحشا ومتوجعا
لكنه عوضا عما يفكر فيه سألها بصوت خافت
هل اعتدت الجلوس هنا بجوار والدك ؟!
نظرت إليه مبتسمة وهي تبعد شعرها المتطاير خلف أذنها ثم قالت بنعومة
نعم في المرات القليلة التي كنت آتي إليه , كنا نجلس هنا , أنا أرسم وهو يعزف على العود
ابتسم خاطر قائلا بدهشة
عائلة فنانة اذن ! لم أعلم أنكِ ترسمين !
ضحكت سائلة بمكر
من أين لك أن تعرف !
ثم أعادت وجهها الى منظر البيوت الفقيرة وقالت متابعة بعفوية
وابن خالي كاتب كان طبيبا لكنه اعتزل الطب واتجه للكتابة , وخالي يعتبره فشل فشلا ذريعا
ارتفع حاجبا خاطر بدهشة حقيقية وهو يسألها
أنتما الاثنان طبيبان تركتما الطب و اتجهتما للفن ! أهي دارسة الطب التي أتلفت المتبقي من العقل لديكما ؟!
نظرت إليه مبتسمة ابتسامة لم تعجبه وكأنها قد عادت مجددا الى تلك الشخصية المعقدة فأجابت ببرود
بل لعنة مشفى داشاي داشاي اسم متوارث في الطب , منقوش فوق مشفى عريق هي المطمع لأجلها كان حلم دخول كلية الطب هو وجهة خالي وأمي باستماتة فتنافسنا ودخل كلانا ولأجلها خذل خالي ابنه ولأجلها هو على استعداد لقتلي إن تجرأت وطالبت بحقي فيها
تكلم خاطر بتقزز قائلا بحذر
اسمحي لي بالقول أنكم عائلة عفنة
تراجع رأس شغف للخلف و هي تضحك عاليا , حتى أمسكت بأحد الحواجز الخشبية و أسندت رأسها إليه شاردة , ثم همست ببرود
كلما توغلت خلف الأبواب و النوافذ لواجهت عفنا أشد وأقذر ابقى خارجها أفضل وانظر الى ألوان أسطحها كلوحة جميلة فقط لا غير
ساد الصمت بينهما وهو يراقب شرودها الحزين ثم سألها ببطء
وماذا عن العقربة عمتك ؟! هل ينطبق عليها نفس الشي ء؟!
نظرت اليه عاقدة حاجبيها وهي تضرب فخذه بقوة هاتفة
لا تنعت عمتي بهذا إنها الشخص الوحيد الذي أحبني بصدق بعد والدي
اتسعت عينا خاطر وهو يهتف بذهول
ياللهي ! هل حقا أسمعك تشيدين بشخص وتمنحينه الثقة ! أهذه أنتِ التي تتكلم فعلا ؟! لا أكاد أن أصدق أنفي
ابتسمت بسخرية و هي تهز رأسها مجيبة
لنقل أن عمتي هي الشخص الوحيد الذي لم يخذلني يوما وربما كانت الوتد الوحيد المتبقي لي , إن خذلتني فسوف
صمتت قليلا وأظلمت عيناها ثم ارتعشت محيطة خصرها بذراعيها و هي تهمس مكلمة نفسها بخفوت
لن تخذلني مطلقا
اقترب منها خاطر حتى أحاط خصرها بذراعه يجذبها إليه ثم همس في أذنها بصوتٍ أجش سائلا
هل ستصدقينني إن أخبرتك أنني لن أخذلك ؟! مطلقا
التفتت إليه ناظرة الى عينيه الخضراوين طويلا ثم همست بقسوة
سأكون معتوهة إن صدقت , فما أنت الا صاحب مصلحة في حياتي و صاحب المصلحة قادر على بيع أي شيء لقاء مصلحته الخاصة
على الرغم من كلامها المؤذي الخبيث الا أنه لم يغضب منها , لم يستفز بل همس بالقرب من شفتيها
الأيام بيننا أعدك أن تجدينني ما أن تطلبين
ارتعشت قليلا بين ذراعيه فلامس شفتيها بشفتيه برقة مما جعلها تغمض عينيها ببطء لكن صوت سعالٍ قاسٍ مفاجئ جعلهما يبتعدان عن بعضهما بسرعة ليريا نسيبة واقفة أسفل البرج مكتفة ذراعيها تنظر اليهما بقرفٍ و تقزز فهمس خاطر يسألها بالقرب من أذنها
هذه ابنة العقربة على ما أعتقد !
زمت شغف شفتيها واستقامت واقفة لتهبط الحواجز و السلالم الخشبية حتى قفزت قفزة أخيرة ووقفت أمام نسيبة التي قالت بازدراء
أنتِ مقززة ومثيرة للقرف
ابتسمت لها شغف ابتسامة هادئة شديدة الرقي و هي تجيبها بتهذيب
صباح الخير لكِ أيضا حبيبتي نسيبة , أبلغي سلامي لساهر ما أن يتغاضى عن فعلتك
ثم تجاوزتها ووقفت عند السلم الخشبي مستديرة الى خاطر الذي قفز عن البرج الخشبي ونادت بجدية
سأبدل ملابسي ثم نذهب الى مكان هام جدا دقائق ولن أتأخر
عقد خاطر حاجبيه بحيرة , شاعرا بعدم الراحة لكنها سارعت بالاختفاء قبل أن يسألها فاستدار موليا ظهره لنسيبة وهو ينظر الى البيوت القديمة من فوق حاجز السطح المتهدم
الى أن سمع صوتها يقول بسخرية قاسية
أكثر من أكرههم في حياتي هم النكرة أمثالك
استدار خاطر ناظرا إليها رافعا حاجبه بصمتٍ دون كلام , فتابعت قائلة ببرود
مثيري الشفقة من يركضون خلف السراب ويتركون أنفسهم أضحوكة بين أفواه مالكيهم
استدار خاطر إليها بكليته مكتفا ذراعيه مستندا الى حاجز السطح يستمع إليها بمنتهى الهدوء دون أن يقاطعها فقالت باستهانة
ما أنت الا مجرد عامل طمعت في القليل وربما الكثير لكن كثيرك ما هو الا مجرد فضلات العائلة التي أقحمت نفسك فيها بغبائك نصيحة مني ابتعد عن شغف وعائلتها و لا تتحامق أكثر واكتفي بالثمن الذي دفعته لك
صمتت للحظة ثم قالت بسخرية مبتسمة وهي ترمقه كله عن قصد
وأنا متأكدة أنه أكثر من كافٍ بالنسبة لك
ضيق خاطر عينيه ثم تكلم أخيرا قائلا بحيرة
من الواضح أنكِ تحبين ابنة خالك كثيرا
ردت نسيبة مؤكدة
بالفعل أحبها , لكنني لا أطيق الغباء وهي مصرة على ربط نفسها بحدثٍ حصل و انتهى وكان عليها تجاوزه و المضي قدما في حياتها لا خسارة كل ما كانت تملكه بمنتهى الغباء , غباءًا يوازي غباء ابن خالها الذي خسر الكثير اثنين من الأغبياء بجدارة
الا أن خاطر تجاهل كل ما قالت و ركز على شيء واحد فسألها ببطء
ما هو الشيء الذي حصل وكان عليها تجاوزه ؟! موت ابنها ؟!
أمالت عينيها تنظر إليه ثم سألته بلامبالاة
ألم تخبرك ؟! لقد قٌتِل , ولم يحاسب المسؤول عن موته حتى اليوم , لذا هي ترفض ترك الماضي ولا تقدم سوى على إفساد المتبقي من حياتها القادمة
شعر خاطر و كأن الأرض تميد من تحت قدميه وهو ينظر الى الأسطح المتباعدة و قلبه يخفق بعنف والعفن يتزايد كلما توغل أكثر خلف تلك النوافذ
تكلمت نسيبة قائلة بقسوة
اهرب من هذه الهوة السوداء قبل فوات الأوان , واتركها لزوجها . زوجها الحقيقي فما أنت الا مجرد دمية خيوط تتلاعب شغف بها في سبيل تحقيق غايتها
.........
حين خرجا من مكتب التسجيل العقاري كان عاقد الحاجبين شاحب الوجه و هي تقف الى جواره مبتسمة ابتسامة هادئة تحمل قسوة غريبة فقال بصوتٍ اجش
لا أعلم كيف طاوعتك وتركتك تقدمين على ما فعلتِ !
نظرت اليه بنظرة بريئة وابتسامة ساحرة و هي تقول بخفوت
وكأنني آذيتك ! لم أفعل سوى نقل ملكية الجزء الذي يخصني في بيت داشاي و الذي سجلته أمي باسمي بيع وشراء قبل وفاتها , إليك , والآن أصبحت قانونا تملك الحق في الانتقال إليه
ازداد انعقاد حاجبيه بشدة , بينما اقتربت منه هامسة بجذل
أنت يا خاطر عبد السميع تمتلك ربع بيت داشاي تقريبا وتستطيع التصرف فيه كما تشاء
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي