الفصل الثالث

الجزء ٢
الفصل الثالث



تملكت اعصابها مشفقه على حالتها، وقالت بنبره مدعيه الهدوء:

- انتي اتجننتي ؟!
ازاي عايزاني اقتل، استغفري ربنا، إزاي اخلف القسم اللي اقسمته أني تكون أيدي هي اللي تطبطب وتشيل الألم، مش هي اللي تقتل وتموت؟
أنا مستحيل اعمل كده ابدا.

ترجتها كثيرا وهي تبكي لعلها ترحمها من هذا العذاب قائلة:

- انتي مش هتقتليني، ابدا !! ده انتي هتديني حقنة الرحمه اللي هتريحني وترحمني من كل اللي أنا فيه ده، انا كده كده ميته؛ النهارده زي بعد يوم أو اسبوع او حتى شهر، الموت واقف على الباب، انتي بس هتستعجليه مش أكتر، حياتي بقى ملهاش فايده بعد ما اذيت نفسي واتسببت في موت ابويا، صدقيني أنا مستحقش الرحمه والشفقه من اي حد.

قالت بحده وغضب:

- الموت يجي وقت ما ربنا يقرر، مش إحنا اللي هنقرر يجي امتى، ازاي هتقدري تقابلي ربنا وانتي هتموتي كافره، حرام عليكي، ده بدل ما تقضي الأيام المتبقية من حياتگ في استغفار وندم، عايزة تنتحري.
اللي اقدر اعمله اني هروح استأذن من دكتور صقر واعرفه اني هديكي جرعة تسكن معاكي، غير كده مش هقدر عن اذنگ.

تركتها وانصرفت، وفكرة الانتحار سيطرت عليها بشدة، لمحت بعيناها سرنجة موضوعه على طبق بجوارها، حاولت ان تمد يدها لالتقاطها، لكنها فشلت، ركزت اكثر وكررت المحاوله، حتى وصلت لها، تناولتها وعبئتها هواء وحقنت نفسها بحرفيه اعتادت عليها، ثم تنهدت وأغمضت عيناها، وتنهدت أنها سترتاح اخيرا من كل الامها، وصوره كل من احبتهم في حياتها تراهم أمامها، ترسل لهم نظرات مودعه، وبين الواقفين والدها تراه باسط يده إليها يناديها أن تركض له، تبسمت برغم ما بدأت تشعر به من آلام، متنسيه كل شيء، تستعجل نهايتها؛ فـ هذا المصير من وجهة نظرها هو عدل الأرض، اما عدل السماء فهي تدعو الله أن يرفق بها.

طرقت الممرضة باب مكتبه، ودلفت رفع بصره متسائل:

- افندم يا آنسه، في حاجة؟
- دكتور المريضة اللي في العناية، طلبت مني..

سكتت فقاطعها بلهفه:

- مالها سيلا عايزة ايه؟ اي طلب نفذيه فورا.

قصت له ماحدث منذ قليل بالتفصيل، و وصفت له كيف كانت حالتها وانهيارها، انصت لما قالت، ثم رد قائلا:

- تمام، روحي انتي حضري الجرعة، وأنا هدهلها بنفسي.

انصرفت لتنفذ ما أمر به، وهو توجه لها، وأثناء سيره اتاه نداء من إحدى الممرضات تطلب منه المرور على حاله حرجة، غير خط سيره وتوجه لهذه الحاله.
وفي تلگ اللحظات كانت "سيلا" تشعر بحاله من الاعياء الشديده، سرعة في نبضات قلبها، وضعت يداها على قلبها بوجع، وفقدت وعيها مستسلمه لتوقف نبضاته وأعلان توقفه وفقدانها لحياتها، حيث أن حقنة الهواء أدت إلى انسداد وريد رئيسي أدى إلى وفاتها في الحال.
انتهى من المرور وذهب إليها وحين وقعت عيناه عليها هرول مسرعًا نحوها بتفقدها ويجفف العرق المتساقط بغزارة من جبينها، وكانت صدمته عندما تأكد من وفاتها، حاول عمل صدمات كهربائية ينعشه لكنه فشل فقد زهقت إلى بارءها، أتت الممرضة ومعها المسكن وحين سمعت صراخه الجهور وانهياره مناديًا عليها، سقطت من يداها الحقنة وهرولت نحوه، تحاول تهدئته وتخرجه من الغرفه، امتثل لها وخرج وهو لا يشعر به أحد من حزن على ماوصلت له، كم كان يتمنى أن تقضي الباقي من عمرها في حال افضل مقتربه من ربها محاوله طلب العفو منه، لكنها استسهلت الحل السهل وقضت على نفسها وماتت كافره، ذهب لغرفة مكتبه وقام بالاتصال بصديقه انتظر رده فقال وصوته متحشرج من البكاء:

- الحقني ياجاسر !!
سيلا انتحرت.

سمع اخر حروفه والصدمه الجمته، وقع هاتفه منه مكسورا محطمًا مثل فتتات قلبه، فموتها كسره، ركض مهرولا يستقل سيارته، وبداخله عدة مشاعر متخابطه مشتته، كأن فصول السنة اجتمعت في فصل واحد، وصل وهو لا يعلم كيف جاء، توجهه نحو مكتبه، رآته الممرضة "رباب" التي عاصرت كل شيء حينما لمحت اللهب المتطايره من مقلتيه خشت على "صقر" سارت خلفه، ودخلت معه لتوضح ماحدث منذ قليل، فتح بابه بعنف، الغضب والحزن اعمى عيناه، دموعه تتساقط بانهمار حزنًا عليها، نهض واقترب بحب ليعانقه ويواسيه، لكنه للمره الأولى يجد يداه تصده وتنهره بعنف، لم يتأثر "صقر" لهذا الموقف؛ بل الذي اوجعه وكان بمثابة الطعنات له حين صرخ "جاسر" وقال بأتهام:

- اتسببت في قتل سيلا يا صقر؟
هي دي الامانه اللي سبتها عندگ، اهملت في الحفاظ عليها !!
يارتني كنت اخدتها عندي، ولا اني اسبها هنا، عمري ما هسامحگ ياصقر.

كان يتلقى منه الطعنات ناظرًا له وعلامات الحزن والآسى مسيطرة عليه، لم يجد من الحروف ما تسعفه ليرد، ظل صامتًا لا يتحدث، فـ أوقاتًا يكون الصمت ابلغ من الكلام.
حاولت الممرضة التحدث، اشار لها أن تصمت، لكنها خالفت حديثه وقالت بحده موجهه كلامها لجاسر:

- آسفه يا دكتور صقر، اني بخالف اوامرگ لأول مره، بس دكتور جاسر لازم يعرف الحقيقة كلها.
- مفيش داعي يا رباب، اتفضلي على شغلك.
- أنا عارفه ان مش من حقي ادخل، بس اللي لازم تعرف يادكتور ان أخت حضرتگ حالتها كانت في انهيار بعد ماعرفت انها السبب في موت والدگ، وكرهت حياتها وطلبت مني اديها حقنه هوا تريحها من العذاب اللي فيه، وقالتلي بنفسها، أنا كده كده ميته، لكن أنا رفضت وروحت لدكتور صقر اللي خاف عليها ورحلها فورا، بعد كانت هي حقنت نفسها وموتت روحها، متظلهوش، ده حاول ينجدها وكان بيصرخ حزن عليها، دي شهادة حق ولازم اقولها، وآسفه مره تانيه.

انهت حديثها الذي قالته دفعه واحده دون ان تاخذ انفاسها لتسريح، ثم انصرفت لتباشر عملها، بينما انتبه "جاسر" لحديثها، وشعر مدى ظلمه وتسرعه له، فقد اعماه غضبه عن رؤية الصوره واضحه، او ان يستفهم عما حدث، حاول أن يعتذر، لكن يد "صقر" واشارته اوقفته، وقال بجمود:

- مش وقته، روح شوف اختگ، وأنا هكتب التقرير النهائي عشان تحسن مثواها هي وابنها.

اولاه ظهره وتقدم وجلس خلف مكتبه، وارتدى نظارته واحتضن قلمه بين انامله، وسرد التقرير، ومن داخله يتألم على صديقة عمره الذي أساء الظن به ولم يتوقع مطلقًا ان يقذفه بوابل تلگ الاتهامات في يوم.
لا يعلم عند هذه اللحظه لماذا تذكر غاليته؟ لماذا في ظل كل هذه المشاكل تمنى ان يدفن في احضانها كل اوجاعه، وينسى احزانه معها،
كانت صورتها تسبح داخل ماء عيونه كسمكة تسبح بطلاقة سباحة ماهره.

تنهد بـآآآهات خارجه من أعماق فؤاده، وتسائل ماذا تريد من رجلًا لم يعرف للهوا والعشق عنوان ؟!
لماذا اقتربت من نيرانه ولم تهيبها ؟!
لماذا لا تكتفي عن ملاحقته في كل لحظاته،
صورتها، طيفها حوله يذكره بها، ولا يعرف إلى متى ستظل هكذا معه في صحوه ومنامه تنعم ؟!
ياليتها تعلم بما يشعر !!
يالتيها تأتي وتلبي نداء قلبه الذي ينادي، لا بل يصرخ مشتاق لوجودها، ورؤيته لها، فهو في أشد الاحتياج لها، لكن الاقدار والظروف دائمًا تعكس كل توقعاتنا وامالنا.



فتحت "غالية" هاتفها تهاتف والدها وتطمئنه عليها، ثم اغلقته مره ثانية، وخرجت لتجلس على رمال الشاطئ، تحدث البحر وتقذف بداخل اعماق بحاره مابداخل قلبها، لعلها تجد عنده تطيب الامها.
كل الذي بينهما ذكريات لا تموت داخل عقلها، هي فقط التي تجعلها قادرة على الصمود ومواجهة شلالات الحنين والاشتياق !
استسلمت للرحيل والبعد عنه مؤقتًا لتلملم شتات افكارها المتبعثرة،
فـ دنيا فنت من كل اوانيها، وزهدت كل شيء منذ رحيلها، فلا فائدة لحياتها ان لم يكن فيها.
لحظات الحنين اهلكتها، وطول بعادها عنه احرقها، فقد عذبها طول الانتظار وعيناها تصرخ، صرخة آنين، وتتسائل، الم يحن لحظة اللقاء ؟!
الم يرق قلبه الصوان ؟!
ستنتظره مهما طال البعاد؛ لأن قلبها مازال يحن، ويجن عليه، فهو من دق قلبها له منذ اللحظة الأولى التي وقعت عيناها عليه.
فـ أصبح الحزن صديقها، ومؤنس وحدتها.
متى سيدق الفرح بابها؟
متى ستتورد ازهارها؟
لقد مضى ربيع عمرها، وهي مازلت تنتظر، ولكنه لم تأتي بعد !
يافرحة زمانها، أين هي من أحزانها؟
ألا يكفي بكاءها ؟!
ألا تشفق على المشتاق ؟!
لقد تجمدت الدموع داخل مقلتيها، ولم تعد تتساقط؛ من كثرة البكاء؛ تجمدت مثل مشاعرها، أصبحت جامدة، بارده، لا تشعر بشيء من حولها غير الحزن رفيق دربها؛ لقد تعايش معها لدرجة تتعجب منها، جعلها تخشى القرب منها، تظن أنه وقع في حبها يالا العجب؛ أيعقل ما تحس به؟! لقد أصابها الجنون حقًا؛ ولما لا وهو من شدة ارتباط الحزن بها ملازمها ولا يريد تركها لتقترب منها وتسكن الفرحة التي تتمنى أن تدق باب قلبها الحزين.
فقد كانت تحتضن خيوط شمس الغروب متمسكه بها، خائفه ان تتركها وحيدة كما تركها هو جالسه بمفردها معذبه دون أن يرحم هذا العذاب ويرفق له بعين الرأفه.



انتهت مراسم الدفن، كان واقفًا بجواره بجسده فقط، بينما روحه تنزف من آخر كلماته له، لكن لا الوقت ولا الظرف يسمح بالمعاتبه او ان يلقي عليه اللوم، أراد ان يكون سند له مثلما كان يفعل، كانت والدته تخالف كل التوقعات، فقد كان "جاسر" متصورًا انهيارها؛ لكن مارآه جعله مندهش من القوة التي جسدتها وامتلكتها، فكان لطف ربنا بها واعطاءها الصبر والسلوان عند المصيبه يفوق الوصف، تبكي في صمت، كمن كانت تعلم ان كل هذا سيحدث، فقد رآته في كابوسها بكل تفاصيله، وهيأت له من قبل، فحقًا كرم ربها كان كبير،
ذهبت لمنزلها وطوال طريقها تتذكر كم اللطمات التي تلقتها من الدنيا، رضت بكل شيء وحمدت ربها عليه، قررت أن تتوجه للعمره تدعو لها بأن يغفر الله ذنوبها، وأن يسامحها على تقصيرها في حقها، وحق الجميع.
وجاء الليل وجلس "صقر" في العزاء، مثله مثل الغريب، تائهه احساس الغربه تملكه، برغم ان صديقه بجواره لكنه يشعر بأن بينهما أسوار عاليه فولازيه صعب هدمها بسهوله.
تقابلت الأعين للحظات مع والدته، فقدم لها واجب العزاء، وبعض كلمات المواساه، شكرته لما قدم وما فعل معهما، استشعرت ان هناگ شيء خفي من ردوده، فنظراته الحزينة الدفينه ليست معتاده عليها، وتأكدت عندما شاهدت ابنها بعيدًا عنه، أيعقل أن يكون بينهما عاصفه هبت واقتلعت جذور المحبه بينهم ؟!
عزمت على معرفة كل شيء، فبرغم حزنها وما تحمله من تمزق الا أن "صقر" له مكانة خاصة عندها، دخلت منزلها وجلست تنتظر دلوف إبنها، وحينما ابصرته طالبت منه المكوث بجوارها وسألته عما حدث بينه وبين صديقه، فقص لها كل شيء، تفهمت وقالت:

- ازاي يا بني في لحظة غضب تنسى كل السنين اللي مرت، و وقوفه جنبگ، أنا عمري ما شوفت حد من صحابگ بيحبگ بأخلاص اد صقر، أنت ناسي هو اد اية نصحاها زمان؟ مفيش حد غيره كان مهتم بيها، في ظل ان كلنا كنا غافلين عنها، وأنا اولكم.
- أنا عارف كل ده، بس صدمتي في موتها جنني.
- يابني سيلا كانت ميته، مش من دلوقتي، لا من زمان، من وقت ما قررت تمشي في الطريق الغلط.
أنت ممكن تشوفني جامده ومتماسكه، بس اللي أنا فيه ده الصبر اللي ربنا بيديه للمؤمن عشان رضي بقضاءه، ومحدش كان راضي زي.. رضيت وامنت، واتغيرت كليًا وجزءيًا، والحمدلله، تعرف ان قبل ما نشوفها ونلاقيها شوفت مصيرها ده، وحلمت أنها هتموت، ابوگ اخدها مني، صرخت بأعلى صوتي انادي واترجاه يسبها، لكنه مردش واتمسگ بيها وخدها ومشي بعيد عن الانظار، بكيت كتير، وأنا ايدي متكتفه ومفيش قدامي حاجة اعملها.
- ياااه كل ده متحملاه يا ماما
- كل ده واكتر، وكل اللي املكه إني ادعلها في كل وقت، وهنعمل صدقة جارية، ومش كده وبس، هنسمي دار الايتام اللي كان مفروض نفتتحها، هنسميها بأسمها تخليدا لذكراها.
- فكرة حلوه، وربنا يرحمها ويغفر لها ويسكنها فسيح جناته يارب.
- يارب يا جاسر، بس عايزاگ تعتذر لصاحبگ وتحاول تراضيه.
- أكيد طبعا هعمل كده يا ماما.

تركته وصعدت متوجهه لغرفتها، لكن قدماها قادتها إلى غرفة ابنتها،
مدت كفها لمقبض الباب بيد مرتعشة وضربات قلب تتصارع بين السرعة والانقباض، تنهدت واستدعت قوة مزيفه تكاد تكون معدومه طالبه إياها أن تجيئ للتو.
فتحت الباب في وجل وببطئ شديد، تطلعت للداخل وعيونها تتفحص كل جدرانها ك كاميرا فيديو تلتقط صورا داخل ذاكرتها، شعرت انها متجسده امامها تلعب وتهلو، وصوت رنات ضحكتها تصدح في كل مكان، نظرت لتلگ الصور المتعلقة لابنتها في جميع مراحل عمرها، اقتربت واخذت احداها وقبلتها بحب وشوق لها، والدموع تنحدر عليها فجعلت الرؤية مشوشة وغير واضحة، فمحت معالمها، كما محت معالم صاحبة الصور، ضمتها لفؤادها، وجلست فوق فراشها، محتضنه وسادتها لعلها تجد عطرها وتنستشقه، لكن كيف يحدث المستحيل، وتعود هي وعطرها من جديد لحياتها، وهنا لم تتمالگ روحها وتحررت شلالاتها وانطلقت بغزارة، لم تشعر بنفسها ولا صوت شهقاتها التي صاح علوها ليصل لابنها الجالس أسفل، وحين وصل لأذناه صعد مهرول نحوها، محتضنها بكل حب، فرتمت بداخله لتفرغ مافي جوفها من ألم وحزن، فبكيا الاثنان على من عذبتهما وهي عائشة معهما، واهلكتهما عندما رحلت عن دنياهم.



سارت بخطى بطيئة تكاد كل خلية من خلاياها تهتف بل تصرخ منادية عليه، جلست واغمضت عيناها لتراه داخلها، ظلت صورته حبيسة لا تريد أن تفتحها وهو ليس امامها بهيبته وهيئته التي ترفرف قلبها، انتبهت لصوت من يحيها بنبراته حين نداها بأسمها، هزت رأسها غير مصدقة لما سمعت، هل هذا حقيقي، ام خيال وأحلام يقظة، ايعقل انه جاء هنا من أجلها !!
احقًا هو بجانبها في واقعها وليس في خيالها كما أعتادت !!
لم تفوق من حالة التيه غير على لمسة يداه على كفها ليشبكها بيده ويزداد من ضمته، عند هذه اللحظة فتحت مقلتيها محدقاه لتتأكد أنه امامها، ابتلعت لعابها، وضعت يدها على قلبها لتهدأ من سرعات نبضاته، لمعت دموع الفرحه وآبت السقوط فتكونت سحابه من الغيوم تهدد بالنزول، اقشعر جسدها عندما قال بهمس:

- وحشتيني اوي، هونت عليكي تبعدي عني كل ده؟

رفعت يداها لتلمس وجنتيه، واقتربت من وجهه، وشردت في عمق غموض عيناه السوداتين، فذابت كل مشاعرها وفقدت السيطره عليها، تبسم لتأثيره عليها، قبل بشفتاه يديها، وقال:

- بحبگ، وعمر قلبي ما دق لغيرگ.

وعند اعترافه هذا انهارت كل حصونها، حاولت أن تنطق لتعبر عن فيضان الحب الذي يسري داخل شريانها لكنها افاقت حين سمعت طرق بابها، بعدة طرقات متتاليه ليفيقها من أجمل حُلم رأته وعاشت تفاصيله، تمنت أن يكون حقيقه تلمسها بيدها، ان تسمع منه كلمه حب طالما حلمت أن تسمعها من شفتاه، ويحس بكل حرف ينطق بها، ويكون قلبه ملكًا لها وحدها دون شريگ.
نهضت لترى من الواقف خلف هذا الباب، فوجدته جارتها التي نسكن فوقها، تنظر لها بخجل قائلة:

- آسفة جدا أني ازعجتگ بس في حاجة وقعت من هدوم الولاد في البلكونه.
- لا ابدا مفيش داعي حضرتك للأسف، ثواني هشوفها.

ذهبت لتأتي لها بما تريد، ثم جاءت وقدمتها لها، مع ابتسامه لا تفارقها مهما كانت تشكو من ألم وحزن، شكرتها الواقفه وقالت:

- متشكرة حبيبتي، احنا هنا بنصيف ولسه فاضل لينا أسبوع، اتمنى انگ تشاركينا في يوم وتقضيه معانا على البحر، انا اولادي برغم انهم عفاريت، بس هتتبسطي اوي.
- ربنا يبارگ فيهم ويحفظهم يارب.
- أنا اسمي مايسه مدرسة تربية منزلي في مدرسه خاصه، وانتي؟
- أسمى غالية، أخصائية في مستشفى خاص في القاهرة.
- اهلا حبيبتي، سعدت جدا بمعرفتگ، هستناكي بقى تحددي معاد ونخرج سوا، ولا حتى نقضي سهرة بليل مع بعض، ده أنا عشارية جدا، وبحب كل الناس، والمصيف بيحب اللمه.
- ان شاء الله حبيبتي.

تركتها جارتها بعد طول حديث، هي في غنى عنه، فهي تركت كل شيء لتبقى بمفردها، لا تريد أن تتحدث، او ترى مخلوق على وجه الأرض غيره، كما ان قلبها لايريد سواه، كيف تهرب من هؤلاء المتطفلين، اللذين يتطفلوا على البشر دون مراعاة مشاعرهم.



استيقظ "صقر" وانحدر ليلقي على والدته الصباح ويقبلها، جلس على مائدة الطعام، يتناول معها الفطور، لكنه كان يتناول دون شهية، اكل القليل، فلاحظت والدته فسألته عن سبب حالته، أنكر وجود شيء، فماذا يقول لها؟ فضل ان يظل مدفون بداخله، فهذا طبعه الذي لا يتغير كتوم لابعد الحدود، استأذن منها وتركها ليذهب لعمله، واثناء سيره في حديقة الفيلا، استوقفه صوت "قوت" وهي تتحدث مع أولادها جعلته يقف دون مستمعًا عندما قالت وهي توبغ إحداهما:

- أنت أكيد اتجننت، إزاي عايزني اطلب من الدكتور كده؟ مش كفاية كتر خيره سترنا في الاوضتين دول، وحماني قبل كده، ومتكفل بكل مصارفكوا، لا بدل ما اشكره، اقوله مش كفاية كل اللي عملته ده، وابني ليا كمان اوضة، عشان المحروس ابني عايز ينام في اوضة لوحده.
- ياماما انا اكبر اخواتي ومواعيد مذاكرتي بتختلف معاهم، وببقى عايز اذاكر وهما عايزين يناموا، وكل يوم بتخانق معاهم.
- مش مهم كل ده، اللي عايز يذاكر، انشالله يذاكر على ضوء شمعه، عيش عشتنا واحمد ربنا على النعمه اللي إحنا فيها، وكمان اية حكاية الكامبيوتر اللي اخوگ عايزه ده؟ أنتوا فاكريني اية؟ متعيشوا عيشة اهلكوا، وتحمدوا ربنا ان في جدران لمانا وسترانا.
- اسمه كمبيوتر، وكمان ده بقى شيء مهم في كل بيت، وكل اصحابنا عندهم كمبيوتر ولاب توب كمان، ياماما احنا ممكن ندخل على النت ونذاكر منه ونتعلم حاجات كتير.
- بقولك ايه أنا مفهمش في الحاجات دي، بلا نت ولا نتيت، جاتك قرف قال نت قال، ده أنا بأكلوا بالعافيه، تقولي ايش كمبيوتر ونت، عيال غم.

كان يستمع لهذا الحوار الذي استوقفه، وتوجه لعمله وأثناء طريقه تذكر رحلته مع الأيام كيف مرت ولم يكن مثل هذا الطفل، ولا تتطلع لما لا تملكه يد امه، هل العيب فيه ام في تطور الزمن، وتغير الأنفس، لذا قرر ان يتصرف معه.

يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي