الفصل الثاني

لا يدرك كيف انتهى به المآل هنا .. طافيا، عائما ،سابحا، ساقطا ، غارقا بين ضفتي شفتيها ..
كصريع بلا حول ولا قوة.. ذاب وانصهر.. اتحد. والتحم .
اندمج وانغمس.. بين ذراعيها
انفاسه تأخذ وتحبس زفرات الشذر
اصابعه تنحت ما امامه كأعمى شقه البصر
كل خلايا جسده تصرخ بالانتشاء
تطبع في عمقها ..رائحتها ،صوتها ،شكلها ،ملمسها ، ومذاقها
فترفع حواسه الخمسة راياتها انها قد استسلمت ..
وبأنها في العشق انحنت ..
...

..
اياك ان تقع في الحب ... فالحب قرار خاطئ
لؤلؤة السماء

..
ببهجة وسعادة هكذا تستقبل يومها دوما ..فهي تنهض بنشاط يحسدها عليه القاصي والداني ..
مع ان معظم من في عمرها يكرهون الاستيقاظ مبكرا ويودون ان يبقوا نائمين فقط ..
الا هي ..
الحماس يرافقها في كل فجر جديد ..وكأنها تستمد منه طاقة ايجابية ..
تجعلها بتلك الحالة ..

استقامت .. فرتبت فراشها ذو اللون الاصفر الفاتح المتوج برسومات شخصية سبونج بوب الكارتونية الذي تتابعه دوما ، ببراعة.. رغم صغر سنها البالغ عشرة اعوام .. ولبست زيها المدرسي .. حضرت حقيبتها واغراضها وهندمت حالها .. ولكن¡ تبقى المهمة الاصعب، شعرها !
شعرها الاسود الكثيف المتشابك ، الذي لا تقدر على تصفيفه بنفسها ..
لعنتها ..نقمتها كما تصفه دوما ..
الغير قابل للتسريح ..

ولكم تكره تلك الفقرة ..التي تلجأ بها الى احدهم ليحل لها امر يخصها ..
فهي لا ترغب بأن تعتمد على احد ما ..
حتى ولو كان ذلك الشخص هو والدها نفسه ..

حملت فرشاه شعرها ومعه شرائطها وحاجياتها ..
وخرجت ليقابلها صوت شقيقها ..وتؤامها ..
سفيان وهو يقف بكامل اناقته ..
مغيضا لها ..
فبالرغم من انهم تؤامان الا انهما لا يتشابهان ابدا ..
هو بطوله وهي بقصرها
هو ببياض بشرته وهي بسمارها
هو بعينيه العسلية وهي بعينيها السوداء
هو بشعره الناعم اللامع وهي بشعرها الاسود الاشعث

فشتان ما بينهما ..
وكانه استأثر بكل الصفات الجيدة وترك لها السيء منها
حتى في المواهب والاهتمامات اختلفا ..اختلاف الشرق عن الغرب ..

هي بعبقريتها بالرياضات
وهو بموهبته في رياضه كره السلة

من يراهما لا يظن بأن هناك قرابة تجمع بينهما مطلقا ..
فما بالك بكونهما تؤامان .

مرت من امامه غير مهتمة به البته .. ليشاكسها كعادته .. وهو يتهكم على شكلها وشعرها المنكوش .. قائلا
-اوه لقد سقط عش الغراب على رأسك ..
لتضيق عيناها له ترد له تهكمه بابتسامة سماجة ..
ليضحك هو عليها .. وعلى منظرها ..

اه كم تسخط عليه عندما يناكفها ذلك الطويل ..
وكم تتمنى ان تزعجه كما يزعجها ..

وصلت لطاولة الطعام في المطبخ .. فوضعت حقيبتها جوارها وجلست على الكرسي ...
وهي تتبرم من اخيها ..
راقبت المائدة امامها وما تحتويه ..
لتطلق همهمات رضا ورغبة بالطعام ..
فوالدها الاستاذ حافظ مدرس التأريخ .. لا يدعهم يخرجون الا وقد تناولوا فطورهم .. ويعد كل صباح نوعا مختلفا من الطعام ..
فالفطور هو اهم واقدس الوجبات عنده ..
ولأنهم لا يجتمعون الا في الصباح فكان القرار ان يكون الفطار هو محطة الراحة والانطلاق ..

واليوم اختار ان يعد الفول بترميله ذي طابع حاد الطعم ..
مع السلطة والبيض المسلوق والجبن المالح ..
مضافً لهم الخبز الساخن ..
فكانت الروائح تتصاعد ،تثير في النفس جوع مباغت
و تصيب الانف بشهية

مدت يدها تتذوق الفول ..وما ان لامس اصبعها فمها ..حتى اطلقت صيحة استحسان ..
تعبر عن لذة ما تذوقت ..

..
-ابعدي يدك عن الاكل حتى يأتي اخوك .
اتاها صوت والدها وهو ينهاها عن ما تفعله ..
لتعترض هي بتجهم ..
-لكن يا أبي هو يتعمد التأخير حتى لا يأكل خوفا على جسده

-سفانا ! لا تتحدثي عن اخوك بسوء ظن .. هو يعرف متى يقدم الطعام ...
تمتمت بخفوت ..
-حسنا أبي اعتذر ..
ابتسم لها والدها بود ..
واقترب منها ليقف خلف كرسيها ..
يمرر يده بين شعرها ببطء حتى يفك تشابكه .. ليحمل فرشاتها ذو اللون الازرق فيمشطه بهدوء فلا يزعجها ..
ليجمعه رابطا اياه بأحد اشرطتها المطاطية ..
ظافرا اياه ضفيرة محكمة وبطريقة بارعة ..
وما ان انتهى حتى ارجع رأسها للخلف ..ليقبل مقدمته ..
قائلا لها
-صباح الخير عشبتي القوية ..

لترد عليه بشفتين ممتدتين برواق ..
-صباح النور استاذنا الغالي .. و حبيب قلبي المثالي ..
ليتبسم لها مشددا من تمسكه بها ..
لتطالعه هي بحب صافي فهو ..
قبس الحياة ونورها ..معلمها الاول وحبيبها .. والدها وسندها .. من تفخر دوما وابدا بكونه يشبهها
الرجل الذي يراعيهم بقوة تحمل تفوق الجبال ..
من يحفر بالصخر ليزيل من طريقهم الصعاب ..
حنون وقوي ..حازم وسخي ..
ودود وشقي ..
الملك فيه عرش قلبها ..
والدها البهي ..

-يبدو انني غير مرحب بي في جلستكم ..
قاطعهم بها صاخبا سفيان بدخوله ..
فكانت فرصة قدمت لسافانا على طبق من ذهب لتغلبه ..
لترد عليه بثقه وهي تتمسك بذراعي والدها اللتان تمسكاها ..

-بالطبع لا مكان لك .. فانا ووالدي الغالي فقط وانت لا تنتمي لنا ..
انظر لنا كم نحن متشابهان ..
نفس الملامح ..نفس شكل الشعر .. نفس لون العيون ..
اما انت ..
سكتت لتشير له بيديها بحركة مفادها ابتعد ..

جلس امامها على الكرسي .. غير مبالي بما تتفوه به ..

-هكذا اذا ..تطرديني .. وتستأثرين بالأستاذ حافظ لنفسك ..

ولأنكما متشابهان اقمتم حزبا ضدي .. حسنا،
سأتصل بهيئة الامم اشكو لهم الاضطهاد الذي اعيشه معكم ..
او.. واستدار نحو والدها ليكمل ..
اخبرها يا ابي بمن اشبه حتى تسكت ..

(من يشبه .. حقا يسأله هذا السؤال . )
راقب حافظ ابنه متمعنا بتفاصيل ملامحه ..
كم يشبهها .. وكأنها تجلس امامه .. نفس العيون برسمتها ولونها .. نفس طبيعة الشعر ...
واستدارة الوجه .
هو نسخة مستنسخة منها ..
ابتعد عن ابنته واتجه لأبنه يحتضنه ويشمه .. يسترجع بضمته رائحة حبيبته وزوجته ..
التي غادرت الحياة سريعا وتركته بمشواره وحيدا ..
لا ليس وحيدا بل تركته مع قطعتين منها ..
احدهما يشبهها حد النسخ ..
والاخرى وكأنه يقف امام مرآة فيرى نفسه معكوسا ..

صبي يشبه والدته بجمالها
وفتاه تشبه هو بدمامته ..

استشعرا كلاهما بوالدهما .. وبأنه قد تذكر والدتهم المتوفاة ..
وبنظرات قصيرة بينهما فهما واتفقا بشفرة خاصة بهما .. ان يغيرا الموقف بسرعة .

فنهضت سافانا بسرعة تبعدهم عن بعض ..
تدس نفسها بينهما مفرقة اياهما ..
وقد نجحت بقامتها الضئيلة بذلك ..
ضحك والدها على فعلتها .. وابتعد سفيان عنها بقرف يتصنعه بشكل واضح ..
نفورا من شكلها .. قائلا .

- فتاه مزعجة ..
لتحرك رأسها وهي تخرج لسانها مقلدة لحركاته

ليراقبهم حافظ باستمتاع ..
ابناءه الصغار .. مع انهم في العاشرة من العمر الا ان شخصية كل منها واضحة المعالم ..

سفيان بشقاوة محببة يظهرها احيانا ولكن بالطابع العام هو هادئ ..
اما سفانا فهي مشاغبة داخل المنزل متوهجة النشاط خارجه
شديدة الذكاء ..تحل اصعب المعادلات الحسابية .. ببساطه وبراعه وكأنها تشرب قدحا للماء ..

يدعو الله دوما ان يساعده في تربيتهم .. فبعد وفاة والدتهم اصبح هو المسؤول الاول والوحيد عن كل ما يخصهم ..

وقد حاول على مدار السنتين الماضيتين بمفرده القيام بما يحتاجانه .. وقد نجح الى حد ما ..

ولكن الان جدت في الامور امور ..
وهو مضطر لاتخاذ قرار مهم يخصهم .. يرى به مصلحتهم ..

لكن اولا يجب ان يحدد ويرسم الخطوات ..
وينسق بين الجهات ..
ومن ثم يطلعهم على الخبر ويناقشهم به ..

سيرفضون في البدء ..
ولكن سيتقبلون الامر بالنهاية.
فهو لمصلحتهم طبعا ..

....
يتبع

..

طبعت الكلمات الاخيرة .. وهي تقريبا مرتاحة .. الفصل والمقدمة جميلين تكاد ترى بأم عينيها اي الجمل التي ستعلق عليها الفتيات ..

مثلا كلامها عن الوالد الذي سيثير المشاعر فهي لعبت على وتر حساس ..وهو حب البنات لآبائهن .. وخصوصا اللواتي فقدنهم ..بالموت او الرحيل ..
لذلك ستكسب قلوب الكثيرين ..

اما مشاهد المشاكسة بين الاخوة فهي المفضلة عند الغالبية لأنها تصور لهم الحياة المثالية التي يرغبون بعيشها مع اخوتهم وما علموا انهم يعيشونها بحلوها ومرها فعلا ..

وهناك طبعا ثلة المحللين الذين يدققون بالحرف الواحد .. ولأولئك فلقد تركت لهم دلائل كثيرة .. يشبعون بها حسهم الكوناني .. تسمية اطلقتها عليهم نسبة الى المحقق كونان.. ذلك الصبي الذي لا تعبر عليه اي تفصيله صغيرة ..
ليستمتعوا بكشف غموض الاحداث ..
فسيحللن
لماذا يجتمعون بالصباح فقط
وما المخطط الذي سيفعله الوالد ..
وما تأثير ذلك على اولاد بعمر العاشرة من العمر ..
وغيرها ..

تبقى فقط امر .. ارضاء القسم الفلسفي .. ولهؤلاء كتبت لهم المقدمة وبداية الفصل .. تلك الكلمات التي تخترعها احيانا ..

اياك والوقوع بالحب .. ضحكة هازئة صدرت عنها .. تخص تلك الفلسفة البائسة التي تمررها لهم ..

كلمات غير مفهومة .. بحروف مرتبكة ..
يرضي جانبهم الثقافي او هكذا يضنون ..

لا يعلمون انها حكمة فاشلة او نصيحة قاتلة .. هم فقط مغيبون تابعون ..

في اول قصصها كانت تستند الى مقولات لكتاب و شعراء او سياسيين معروفين . ولكن بعد سنوات .. بعد ان اصبح لها متابعين يفوق عددهم الالاف ويصل للملايين ..
باتت تكتب الحكم بنفسها .. وهم بكل الاحوال سيصفقون ويقولون امين ..
سواء فهموا ما كتبت او لا ..

صارت الان تتنبأ بكل الخطوات التي سيقومون بها قراءها

من تهاني وتبريكات
الى صور مهداة باسمها واسم الرواية للجديدة ....
الى منشورات كثيرة تتعدى الالف والالفين ..

وهي للأمانة تعشق تلك الاجواء ..تشعرها انها على قيد الحياة ..
ذاك التوتر والصخب ..
والمراوغة بين الشد والجذب ..
يجعل الادرينالين يندفع بأوردتها وشرايينها مسببا الدفء ..
معطيا لها ما تريد ..

وكالعادة ارسلت الملف لصديقتها فردوس .. وبدأت بالكتابة من جديد ..
فالإلهام متوفر والوقت موجود .. فلما لا تستغل ذلك ..

فتحت صفحة جديدة وكتبت

***

الفصل الثاني ..

نحن نعشق الوحدة لأنها تريحنا من الناس ..

لؤلؤة السماء

بعد نهار مدرسي طويل ومتعب .. تبعه الذهاب النادي ..انهارت منهكة .. فأخوها سفيان مشترك بفريق لكرة السلة وتدريباته تبدا بعد المدرسة .. و هي تذهب معه مرغمه رغم رفضها الجلي .. لأنها تفضل لو قضت ذلك الوقت بين جدران غرفتها .. ولكنها الاوامر الصارمة من والدها الغالي الاستاذ حافظ .. بالبقاء مع اخيها ..

فبعد خروجها من مدرستها تجبر على مرافقة سفيان لذلك المكان حيث يتدرب .. فيجعلها تجلس على مقاعد المدرج في الصالة الرياضية لتكون امامه ما يقارب الثلاث ساعات ..
بينما ينهي هو تمرينه ..

ليعودا للمنزل عند غروب الشمس ..

فتدخل .. رأسها متوجع من الصداع ..جسدها متيبس من ألم .. ومعدتها تكاد تصرخ من الفراغ ..

فتتوجه مباشرة لغرفتها تغير ملابسها ..وتخرج لتأكل اي شيء تجده امامها في الثلاجة .. وتعود لغرفتها تنهي واجباتها .. لتغرق بعدها بسبات من النوم المريح. .
تستجمع من خلاله نشاطها وطاقتها ..
لتستيقظ بحماس ..

ذلك النمط من الحياة الصعبة المرهقة اضطروا لمعايشته بعد رحيل والدتها ومفارقتها الحياة ..
اي خلال السنتين الماضيتين ..
..
فوالدها المسكين يعمل صباحا في احد المؤسسات التعلمية الحكومية ..والتي للأسف مرتبها لا يكفي لمعيشتهم . فالموظف الحكومي ببلدها معدم ، حاله كحال كل القطاع العام ، فيكاد يكون العاملون فيه هم الطبقة السفلى من المجتمع من حيث الفقر وقلة المال ..
وبالأخص التدريسين والاساتذة .. مع انها من المهن النبيلة ..
الا انهم اكثر الناس معاناة وظلم ..
لذلك اضطر لإيجاد عمل اخر يبدأ من فترة الظهر الى الليل ..
في احد المدارس الاهلية ...
تلك المدارس المخصصة لعلية القوم واصحاب الملايين ..
هناك حيث الطالب هو صاحب المعرفة والمعلم لا قيمة له ..
الطالب يقرأ حسب رغبته والمعلم يعطي النجاح وهو اعمى ..

ورغم ان ذلك العالم معارض لكل مبادئه الا ان والدها رضح ..
فكما يقولون ( المضطر يركب الصعب )
وهو قد داس على ضميره وكبريائه ليعمل دون رغبته بمكان لا يكن له اي احترام ..
فيعامل معاملة الاجير .. يعطي الدروس كما يريدون ويكتب الاسئلة كما يريدون .. ليخرج جيل جاهل بكل شيء كما لا يريدون ..

لذلك وبعد وفاة والدتها اصبح رجوعها للمنزل وحدها امر غير مقبول ..
لكون والدهم يغيب طول اليوم .. فأصبح امر مرافقة سفيان قرار نافذا لا رجعه فيه ..

.......

-هل ادخل؟ قالها سفيان مستأذنا من سافانا ليدخل غرفتها
-تفضل ..

دخل مغلقا الباب ورائه .. جالسا جوارها على سريرها .. ليسألها
-هل انهيت الواجب ؟
-نعم ، انهيته بسرعة والان جاء دورك .. سأشرح لك طريقة الحل وانت ستتبعها وتحل السؤال بنفسك ..
ليهز رأسه لها موافقا ..
فهو يلجأ دوما لأخته لتشرح له المواد العلمية .. فأخته سفانا ذات ذكاء مهيب .. اي مسألة رياضية تحلها اصابعها بسهولة .. وكأنها تشخبط فقط بدون ادنى مجهود ..
وكما أن لها طريقة بشرح مقصدها غاية بالروعة ...
دوما يراها على انها مثاله العالي .. فيستشعرها احيانا انها الكبيرة بوعيها الذي يسبق تفكير اقرانها .. واحيانا يراها طفلة صغيرة واجبه ان يحميها ..
وبين هذا وذاك هو يحب ان يشاكسها ...

ما ان انهوا واجباتهم المدرسية .
حتى سمعوا نداء والدهم بأسمائهم .. فخرجوا له متعجبين طلبه لهم ..
فوالدهم بهذا الوقت يكون متعب وعلى وشك النوم ..

عندما رأهما قادمين باتجاهه ووجوههم تعلوها نظرة حائرة .. عرف بأنه ما سيخبرهم به سيغير حياتهم للأبد ..
امرهم بالجلوس .. وجلس هو الاخر ..

وبدأ كلامه معهم ... قائلا

-سننتقل الى العاصمة !¡

*****
يتبع ..

*****

تركت الهاتف وتمطت بجلستها المتعبة .. لقد اندمجت ولم تغيير وضعية جلوسها منذ فترة ..فتصلب ظهرها وتشجنت اصابعها من كثر ضغطها عليهما .. تلك هي ضريبة الكتابة .. انحناء وتقوس وتحدب في العمود الظهري نتيجة الجلوس .. توتر في اعصاب الابهام والسبابة بشكل كبير لأنهما اكثر اصبعان يقومان بالعمل الكتابي .. والنظر وما ادراك ما النظر فبعد كذا رواية اصبحت عيونها تؤلمها بمجرد رؤية الهاتف ..

رفعت نظرها للساعة .. فوجدتها قد قاربت الحادية عشر ليلا ..
اذا هي تكتب منذ ساعتين بهذا الفصل ..

لابس بذلك .. فصل من الالاف الكلمات بساعتين فقط انه لإنجاز رائع
..
لا بل انه مهارة جديدة تضاف لقائمة مهاراتها التي تتغنى دوما بها ..
كالطبخ ..
والان الكتابة بسرعة كبيرة ..

ومثلما تعودت عند انتهاء كل فصل ..
غيرت صيغة المستند ..الى ملف .. وارسلته لصديقتها فردوس ..

التي تعيده لها مدققا ومصححا ومنظما بعلامات الترقيم وغيرها وحتى محركا بالحركات ..

امر تكرر حدوثه حتى اعتادت على ذلك ..

هي ببادئ الامر كانت تخبرها انها ترسل المسودة الاصلية بدون تدقيق لها وبأنها ستدققها فيما بعد .. ولكن فردوس كانت ترجع لها الملف بصيغة نهائية ..
تحمل تلك الهالة الابداعية ..
فسكتت وتحول السكوت لرضا وقبول ..
حتى صارت ترسل لها المسودة بشكل غير واضح للقراءة ..
وما عليها سوى الانتظار لتراه امامها نصا ادبيا مضبوط بالشكل ..
كثير قد يرى بالأمر استغلالا ولكن من منظورها الشخصي هي استفادة ..
فهي تستفاد من شهادة فردوس التي تحملها .. كونها خريجة لكلية التربية قسم اللغة العربية ..اي انها مدرسة للغة العربية ...
اذا هو تبادل منفعة ..
فردوس ترتب لها الفصل ..
وهي بالمقابل تذكر اسمها كمساعدة لها ..

فمنذ بدأت علاقتهما وهي تكتب لها في نهاية كل عمل اهداء مخصوص ..
قائلة
( ولم اكن سأكتب حرفا لولا وجود ك معي يا فردوسي )
( شكرا فردوس جاد الحق لكونك معي )

ولذلك صارت مكانه فردوس عند القراء من مكانة لولوه ..
وبهذا تحقق امر الاستفادة للطرفين .. او هكذا تظن

****
استلمت فردوس الملف عبر الايميل المخصص للمراسلة بينهما ..
فحملته تاركة الحاسب المحمول جانبا .

واتجهت لابنتها تسنيم تحملها وتلاعبها .. فاليوم كان صعب جدا عليها

فحالة الربو الشعبي * التي تعاني منها ابنتها تجعلها متأهبة لأي شيء يخصها ..
وخصوصا انها ابنتها الوحيدة والتي جاءت بعد تأخير عامين من عدم الانجاب ..
اليوم عانت ابنتها من ضيق التنفس بسبب ما فعلته عمتها فضيلة .
عمتها التي اصدرت امرا بحمل السجادة القديمة المتروكة في المخزن ونفضها من التراب .. وقد استسلمت صاغرة لمطلبها الغير قانوني بالمرة ..
فذهبت للمخزن واخرجت السجادة معلقة اياها على الحامل لتبدأ ضربها بالمضرب لتنفيضها من التراب ..
ومع كل ضربة كانت كومة التراب تهيج حولها خالقة عاصفة مصغرة .
ولم تعلم بأن ابنتها الصغيرة ستلحقها وتستنشق ذلك الغبار الكثيف ..
الشيء الذي ادى الى سعالها الشديد ..
الامر الذي جعلها تترك كل شيء وتحمل ابنتها وهي تركض لغرفتها .. تخرج البخاخ لها .. وتهيئه لها لتأخذ انفاسها منه ..
مرة بعد مرة حتى هدأت تماما ..

وفي تلك الاثناء جرت عليها عمتها مسرعة عقب سماعها صوت سعال تسنيم الحاد والمختنق ..
تسأل عنها .. لتصرخ برعب قائلة
-ما الذي حدث ؟ هل عادت لها الحالة ؟
لتجيبها فردوس بنعم وتحكي لها ما حدث ..
فتحمل فضيلة حفيدتها وتجلسها بحضنها تقبلها وتحتضنها وهي تبكي ..
تحاول ان تطمئن عليها .
فهي الغالية ابن الغالي ..
التي تحبها وتعشقها ولا ترغب بان يطولها سوء ابدا ..
وصحتها المزمنة تجعلها تخاف عليها كثيرا جدا ..

استدارت نحو فردوس لتقول بنبرتها المتسلطة اتركي السجادة ..
واذهبي للحمام لتغسلي التراب عنك .. وتعالي لتجلسي مع ابنتك ..

اعترضت فردوس قائلة
-لكن يا عمتي لم اكمل التنفيض ¡
لتجيبها فضيلة
-دعيها انا سأرفعها وارجعها لمكانها .. انت فقط لا تترك تسنيم ..
ابتسمت فردوس على وضع عمتها ..
فرغم ما تفعله معها ..الا انها تحبهم وتحب ابنتها بجنون ..
فولدها فريد _زوجها_ هو المفضل عندها ..فهو البكري الذي كان السبب بانتقالهم من وضعهم المتردي الى حالة الراحة التي يعيشونها الان ..
فبسبب عمله ومجهوده فيه لما تمكنوا من يكون لهم منزل يأويهم

ولهذا هي تحبه كثيرا وتحب ابنته اكثر واكثر ..

بعد نوم تسنيم واطمئنانها عليها .. وقبل رجوع زوجها فريد من عمله ..
فتحت فردوس حاسبها وبدأت تقرأ الفصول التي قامت لولو بأرسالها لها ..
وبكل شغف طالعتها .. وبكل حب اعادتها ..
كلمات كثيرة طبعت في روحها .. ككلامها عن الوحدة .. فاه كم تود لو تعتزل الناس وتعيش لوحدها مع زوجها وحبيبها وابنتها فقط ..
فتكتفي بهم ..
وكم بكت وهي تقرأ عن معاناة المدرسين في بلادها كما وصفتها هي ..مع انها تتكلم بالمجمل الا ان الامر اوجعها.. فتصورت ان تكون مكانه وتعاني معاناته ..

انهت القراءة ومعها انهت تعديل النص ..واعادت الملفات لصاحبتها

لتفاجأها لولوه بالرد بسرعة

-ما رأيك ؟
-احببت وقارنت كلامها بقلوب كثيرة
ضحكت لولوه على الطرف الاخر
لتكتب
-الان ارتحت .. فانت صعبة المزاج فيما يخص الكتب ..

-لا لست كذلك انا فقط انتقائية ..احب من يكتبون بقلوبهم وليس بعقولهم ..
وانت من هذه النوعية ..

لتكمل فردوس الكتابة
-لولو .. اعطني تلميحات او الفكرة العامة للرواية ..
تنفست لولوه بعمق وردت
-فكرة جديدة جدا .. تتكلم عن الخيارات ..عن دمج الطوابق والحضارات ..
-رائع جدا ..كتبتها فردوس بانبهار كبير تكنه لتلك الانسانة الرائعة ..
فيوم بعد اخر تدهشها بأفكارها المبدعة ..

لتكتب لها ايضا مكملة
-ا تعلمين يا لول وه لما انا احب القراءة لك فقط دونا عن الكل؟؟..
وقبل ان تكتب لولو سؤالها لماذا ..
اتاها الرد مكتوبا
-بسبب افكارك .. تلك التي تغرسني بعمق الحياة وتجعلني كأني اعيشها ..
حتى وانا بين جدران غرفتي استطيع ان ارى من خلال اسطرك .. ما يحدث خارجا ..

اعادت لولو قراءة رسالة فردوس لها مرة تلو مرة ..
ليعلو بداخلها شعوران ..
احدهما الحب الكبير لفردوس
والثاني الكره الشديد لذاتها المخادعة ..

فماذا لو عرفت فردوس بأن من تتغنى بعقلها وافكارها انسانة كاذبة ..
كذبت بكل شيء يخصها ..
ومخادعة .. تختفي خلف قناع مبهرج فلا تظهر بحقيقتها ...

تجنبت لولو التفكير بذلك ..
وسحبت افكارها من ذلك الوادي الذي يعج بالصراخ بانها لا تستحق كل ذلك التبجيل ..
وكتبت
-والاحداث كيف رأيتها ؟ وما هي انطباعاتك وتصوراتك لما سيحدث فيها؟
نعم هكذا غيرت دفة الكلام وابتعدت عن ما لا تريد ان تفكر به ..
لتجيبها فردوس ..
-حسنا عندما قرات الفصل الاول قلت بأن ابوهما سيتزوج ويجلب لهما زوجة اب تعتني بهما ..فيكون هو البطل ومن يتزوجها البطلة ..
ولكن بالفصل الثاني وقراره للانتقال للعاصمة . جعلني اتراجع عن ذلك التفكير ..

سطر كامل من حرف الميم المتصل كان جواب كلامها لفردوس ..

وهذا معناه ان لولو ستكتفي بالصمت ..
فحرف الميم المتصل علامتها مع التخمينات سواء كانت صائبة او مخطئة ..
-جميل جدا ..يا فردوس افكارك بالمكان الذي اريده ..
فانا اريد من القراء ان تصل بهم افكارهم لتلك النقطة ..ويستنتجون كما استنتجت انت.

-هذا معناه انك ستقلبين الاحداث
-طبعا .. فتلك هي المتعة .. ان نجعلكم تحركون عقولكم دوما ..

-فاذا والدهم ليس البطل الرئيسي ..
-كلا ليس هو .. الابطال هم سفانة وسفيان ..

-لولو ..انت تكتبين اسم سفانا بطرق كثيرة ولكل واحد معنى ..
فسافانا تختلف عن سفانة
فإيهما تقصدين ؟

عضت لولو على شفتها ارتباكا .. فبماذا ستجيبها ان كانت هي نفسها تجهل المعاني ..

لتجد رسالة من فردوس بها كلا المعنيين المختلفين للأسماء ..
قرأتهما واختارت بدون اهتمام المعنى الاول
لترد عليها كاتبة
-اسمها سافانا وهي تسمية تطلق على الاعشاب .. واكتبها سفانا اختصارا ..
وتقصيرا للنطق ..
٩
-حسنا اذن فهمتك ..

والان ما هو اسمها

لتكتب لولو بثقة

-لحظة قرار .. اسمها .. لحظة قرار

________________________
*الربو الشعبي مرض صدري مزمن تصاب به الرئتين حيث تضيق مجارى الهواء التي تحمل الهواء من و إلى الرئة وبالتالي يصعب التنفس، مجارى الهواء في الشخص المصاب بالربو تكون شديده الحساسية لعوامل معينة وعند إثارتها بهذه المهيجات وتنتفخ ويزيد إفرازها للمخاط وتنقبض عضلاتها ويؤدى ذلك إلى إعاقة تدفق الهواء.

ومن المهيجات التي تسببه
دخان السجائر ، الغبار، الاتربة،وغيرها من الامور الاخرى
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي