الفصل الثاني

الجزء ٢
الفصل الثاني


وقف مصدومًا مما رأت عيناه، تسمرت قدماه وآبت على الحراگ، فقد كان آخر شيء يتوقعه أن تكون تلگ الراقدة هي "سيلا" والافجع من ذلگ أنها في حالة ولادة متعثرة، فقد كان كتير من الأطباء يلتفون حولها، نظر لمؤشرات نبضات قلبها فوجدها ضعيفة جدا، تدخل سريعًا لإنقاذها، يقسم بأن مضى عليه لحظات يكاد قلبه يقف خوفًا عليها وعلى حالتها، لأنه يعلم مدى تمزق قلب اخاها عليها، وهي بمثابة أخت صغيرة له، كان يبصرها بآسى فقد تغيرت ملامحها البريئة، إلى اشباه أموات راقده تحت الثرى، لاتمثل لمن كان يعرفها منذ سنوات.
تمت الولاده على خير، لم يرى طفلها قط، كل الذي يعنيه أن يتابع حالتها بنفسه، وحين انتهى كل شيء، خرجت في غرفة العناية، بينما الطفل اخذه طبيب الأطفال المختص للكشف على صحته، وعند خروجه لمحته الاخصائية "رحمه" نادت بأسمه، التفت إليها ونظرات الحزن تعتلي وجهه، حزنًا عليها، وعلى حاله ايضًا، لتقول في تردد:

- دكتور التحاليل اللي عملناها اول ما الحالة وصلت اكتشفنا أنها مصابه بمرض الإيدز.

كانت أخر كلمه انطقتها كفيلة ان تهدم ما تبقى له من صمود، فهتز الجبل وهو واقفًا، شعر بدوران مفاجأ من اثر ماسمعت أذناه، امسگ بيده رأسه، واخذ منها التحاليل ورمق مابداخلها بحده صقر بتدقيق وتمعن، ثم أغمض عيناه بوهن، وسار متوجهه لمكتبه، وقام بمهاتفة "جاسر" قائلا حين اتاه الرد بإقتضاب:

- تعالى بأقصى سرعة، أنا في المستشفى.
- خير يابني؟ في أية ؟ !!
- مفيش وقت لرغيگ، انجز مفيش وقت.

أغلق معه دون ان ينتظر رده، ورمى بهاتفه بأهمال على مكتبه، بينما عاود قراءة ملف التحاليل للمرة المئه، فقد كانت حالتها سيئة جدا وفي مرحلة متأخرة تأثر وتألم من أجلها، فمهما حدث منها منذ عدة سنوات مضت، فهو لا يتذكر اي شيء، بل أنه كان يشفق عليها من تهورها الذي اودى بنهاية حياتها بهذه الطريقة المؤلمه، وضع رأسه على طرف مكتبه مستندًا على يده، مر الوقت وفاق على فتح الباب وصوت "جاسر" هاتفًا متسائلا:

- ممكن أفهم في اية عشان اجي بالسرعة دي ؟

أشار إليه بالجلوس، فزفر الاخر منتظر حديثه الذي يبدو انه لا يبشر بأي خير، ليقول له في آسى متلعثمًا في الحديث:

- اللي هقولگ عليه دلوقتي عشان خاطري أنا لأزم تمسگ نفسگ فيه، واعتبره ابتلاء من ربنا، واصبر عليه.

قاطعه بقلق وعينان ذائغتان، وقلب ينقبض بخوف لايعلم سره قال:

- انجز وبلاش مقدمات، قول على طول في أية؟

مد يده بالملف اخذه منه، ونظر في طيات أوراقه وهو لا يفهم مقصده، ومن تلگ الحاله، عبس وجه ليتسائل:

- تحاليل مين دي اللي مصابه بالايدز؟

نطق اسمها بصعوبه لينتفض الآخر وهو يصرخ غير مصدق لما سمع، قدماه لا تستطيع حمله، وسحابه امام عيناه تحجب الرؤية ليهتز، وقف واسرع إليه يسنده قبل ان يقع وهو يهمس له:

- أنا آسف جدا ياجاسر، بس هي جت في حادثة عربيه، وحالتها كانت خطيرة.
- أيه حادثة؟! حادثة وحالتها اية دلوقتي؟!
- أهدى بس، هي الحمدلله عرفنا نسيطر على الحاله، بس لسه في غيبوبه، نتيجة النزيف الداخلي، بس اللي اكيد في مشاكل عند اب.

لم يستطع تكمله الجمله، التي يعلم ماذا سيكون اثرها عليه، فتوالت الصدمات عليه، صدمه تلو الاخرى، فصمت قليلا ليتسائل في حزن:

- كمل في أية تاني غير كل ده؟
- هي وطفلها، وهو دلوقتي تحت الملاحظة، لانگ أكيد عارف ان في إحتمال كبير اصابته بنفس المرض.

أغمض عيونه وجلس على المقعد بتعب، وعند تلگ اللحظة تحررت الدموع السجينة منذ سنوات وفرت بغزارة، تألم صديقة عليه، ربت على كتفه بحنان، وضمه لقلبه فبكى كثيرًا ليخرج ما في اعماقه من حزن وألم على اخته الصغيرة، تركه حتى هدأ ثم أخذه ليراها، وأثناء سيرهما سويًا، وضح له أن التي سيراها الآن لا تمثل لأخته بشيء، أراد ان يهيأه حتى لا ينصدم مثله عندنا رآها.
تقدم نحوها، فقد كانت مازالت غير واعية، الأجهزة حولها متصله بجسدها النحيف، لم تعي بمن واقفًا ينزف دمًا عليها، تركة "صقر" وخرج ليتابع حالة الطفل ويطمئن عليه، ولج ليسأل الطبيب المختص فأجابه:

- حالته للاسف مش مستقره، نظرًا لاصابته بالمرض، وقلة مناعته، وصغر حجمه، بالاضافة انه يعاني من بعض التشوهات الخلقية نتيجة تناول الأم لحقن الهيروين، وغيرها من المواد المخدرة.
ادعيله يادكتور ربنا يرحمه، لانه لو عاش حالته هتكون سيئة جدا.

اومأ له بتفهم، ثم القى عليه نظرة أخيرة وانصرف ليقابل صديقة واقفًا تائهًا كالطفل الصغير الذي فقد أمه في مفترق الطريق، وحين لمحه اقترب منه وضمه، واخذه معه لمكتبه، يفكران في هذه الكارثه التي القت على رؤسهما دون أي انزار.
أحترم صمته الذي طال، لكنه اقتحم السكون فجأه وقال متسائل:

- هتقول لوالدتگ الخبر إزاي؟

رفع بصره له وانتبه الآن لهذه الطامه الكبرى، كيف له أن يقول لأمه التي تحلم كل مساء أن تلتقي بها وتأخذها في عناق حميم، وتعلاجها؟
كيف سيقول لها أنها تعد من الأموات، وليس هي فقط بل معها طفل لا يعلم عنه من أي آتى..؟ كيف ستتحمل كل تلگ الصدمات دون أن تنهار مثله؟
كان "جاسر" في أضعف حالاته، حين رآه "صقر" اجزم انه لم يشاهده كذلگ قبل سابق، حتى يوم وفاة والده، لم يكن بهذا الضعف، أراد أن يشد من أزره كما يفعل معه دائمًا، لاينكر أنه حزين مثله، لكن لابد من اتخاذ القرار العقلاني في هذه المواقف الصعبه، فقال بهدوء موضحًا كل الجوانب له:

- ممكن نتكلم بهدوء وعقلانيه شوية؟
- اي هدوء وعقلانيه اتكلم بيهم، وأنا جوايا براكيين وحمم نار قايدة يا صقر، أنت مستوعب حجم الفاجعه اللي فيها، يارتنا عرفنا أنها ماتت، ولا أني اشوفها بالمنظر اللي شوفتها بيه ده، ولا يارتني مالقتها، وكنت أعيش عمري استناها، ولا أعرف أن جالها المرض اللعين ده ؟!
أنت عارف بيجي إزاي، آآآآه ياربي اقدر اتحمل الحقيقة دي ازاي بس.... !! صعب أقول لماما كل ده... !!
مش هتقدر تتحمل تعرف، وفي نفس الوقت خايف تلوم عليا، ومش هقدر امنعها متشفهاش !!
شوفت النار اللي صاحبگ فيها ياصقر !!

هز رأسه بقلة حيله، فهو مدرگ جيدًا لما قاله ويعلمه، لكن لابد منه، لا مفر، ثم تنهد قائل:

- كل اللي قولته محق فيه، لكن لو خبيت وأمر الله نفذ، هتعيش عمرگ كله في ندم ومش هتسامحگ ابدا، لازم تتشجع وتصارحها، تعالى معايا اوصلگ، والصبح ربنا يحلها من عنده ويفرجها علينا يارب.

كان الصمت سائد، فلا يوجد أي حروف تسرد بعد ما قيل، كان "صقر" يقود السيارة ويخطف نظره له من حين لأخر، يجده كمن ضرب على رأسه بمطرقه، فاقدا لوعيه، تائه غير مدرگ لما يدور، تمزق وتينه لمنظره، كم أراد أن يخفف عنه هذا الحزن، ويطيب بخاطرة، لكن ليس باستطاعته فعل أي شيء غير الوقوف بجانبه ومساندته لعله يقدر ان يخرجه من تلگ الازمه على خير.
استند ظهره للوراه وأغمض عيونه، وتذكر مشهد رؤيته لأخته، وكيف كانت صدمته عندما رأى صورتها التي حفرت داخل عيناه، وطبعت، كم اراد مسحها من ذاكرته، فصورتها ابشع مما تخيله عقله، كأنها خرجت من المقابر للتو، فأين الوردة المتفتحة المليئة بالعطر العبيري، والروح المرحه المشاغبة؟ أين اخته "سيلا" فهو حقًا مازال لم يجدها، وتلگ الراقده ليستُ صغيرته.
تذكر كلماته التي القاها عليها، وعتابه لطول غيابها عليهما.
كم كان يشتاق أن تفتح مقلتيها ليراها ولو لمره أخيرة ليتأكد أنها هي ؟!
فقد وصل به الحال أنه يكذب عيناه، فعقله رافضًا أنها هي، تساقطت عبراته دون أراده، لمحها صديقه وقد اوقف السيارة لوصوله، جفف بكف يده دموعة، وقال:

- اجمد ياجاسر وشد حيلگ، مينفعش والدتگ تشوفگ بالحاله دي، على الاقل اتماسگ قدامها دلوقتي وبكره بلغها.
- غصب عني ياصقر، والله ماقادر اتحمل كل ده لوحدي؟

ضمه بشده قائلا:

- مش لوحدگ، من امتى بتشيل همگ لوحدگ ياصاحبي، حملگ هو حملي، وهيتقسم مابينا وهنشيله سوا، زي كل حاجة ما بنشلها سوا وبتعدي، اياگ تقول كده تاني، هتلاقي طول عمري في ظهرگ ياجاسر.
- أنت احسن حاجة ربنا رزقني بيها، ربنا ميحرمنيش منك ياخويا، واعز من اخويا.
- ولا منگ يارب، أنا هرجع للمستشفى عشان اتابع الحاله، ولو فاقت في اي وقت أكون موجود قريب منها.

اومأ له بحزن، ثم ترجل من السيارة، مودعه بحب، وحين ولج تنهد بحمد انه لم يجد والدته في انتظاره، صعد لغرفة نومه، بدل ملابسه ودلف ليأخذ حمامًا لعل المياه تخفض من النيران التي تحرقه، انهى حمامه واستلقى علي تخته محملا بثقل لا أحد يستطيع حمله، حامل هم كيف سيواجهه امه غدًا؟ وماذا سيقول لها كل ماعلمه؟
وهل ستقدر على تحمله، ام لا تسطتع مثله؟ اهلكه طول التفكير حتى وجد نفسه غارقًا في النوم، هاربًا من هذا الواقع المرير.
فتح عيونه على ملمس يدان ناعمتان توقظة بنبره حنونه، القى عليها الصباح، ردت عليه وسألتة:

- اتاخرت اوي إمبارح واستنيتگ، ولما مجتش نمت، رجعت امتى؟
- معلش يا ماما، كان في شغل كتير، وقابلت صقر والوقت أخدنا.
- اه مادام فيها نصگ التاني مش هقدر اتكلم، يالا قوم اغسل وشگ عشان نفطر سوا.

تركته وانحدرت لأسفل، تتابع اعداد الطعام، وجلست في مقدمه الطاولة، ترتشف فنجان قهوتها الصباحية، وحين جلس، رمقته في تفحص شعرت أنه ليس طبيعي، يوجد شيء خفي يخفيه، وتأكدت من ظنونها عندما رأته يدعي تناول الطعام، عيناها سألته اخفضهما وهرب بعيدًا، حتى لا يتفضح أمره، فهو ما زال لا يجد كلمات تسعفه الحين ليسردها لقول الحقيقة، قبض قلبها ولامست يده قائلة:

- متخبيش عليا، عيونگ ليه بتهرب مني، طول عمرگ لما بتكون عامل حاجة ومخبيها مش بتقدر تواجهني، قول ياجاسر، هتلاقيني بسمعگ بتفهم ومنصته ليگ ياحبيبي.
- مش قادر يا ماما، اقسم بالله ماقادر انطق !!
- الموضوع خطير اوي كده؟
- فوق ما تتصوري.
- ياااه للدرجة دي؟! قلقتني، قول من غير مقدمات ياجاسر.

ابتلع لعابه وقال بتوتر:

- إمبارح صقر قالي ان جت حاله عاملة حادثة، ولما شافها لقاها سيلا.

وقفت مردده اسمها، صكت على صدرها ضربات عدة، وتساءلت عن حالتها، أخفى عنها حقيقة مرضها، وانجابها، فيكفي ماستشاهده، عقد لسانه عن تكملة باقي الحقيقة، اشفق عليها من دلوفها دائرة العذاب التي لا تنتهي، رأى الدموع متحجرة معنداها أن تتساقط، اخذت حقيبة يدها وهرولت لتقود سيارتها، بعد أن علمت بعدم وجود سيارته، كانت فقد تردد كلمات تطلبها من المولى، الستر لها والعفو، وكثرة الاستغفار، متذكره ما رأته في منامها من كابوس لابنتها، وها هو يتحقق الآن.



في غرفة العناية حيث ما زالت ترقد "سيلا" فاقدة لوعيها، تقف بجوارها احدى الممرضات، تستبدل محلول غير الذي انتهى وتعلقه، بينما اخرى تسألها عنها، و بعد ما انتهت من وضع العلاج بداخله، فأجابت:

- تصدقي البنت دي اخت دكتور جاسر القمر الذوق اللي مفيش زيه؟!
- ياشيخه معقول، مش دي اللي جت في حادثة إمبارح، هي حالتها اية؟
- اه هي، أنا سمعته بيواسيه إمبارح بعد ما خرج من عندها، بس يا حرام طلع عندها المرض الوحش اللي ملوش علاج.
- السلطان ؟!
- ياريت على الاقل السلطان بقى له علاج، لكن دي جالها الإيدز، شكلها كده مدمنه، باين من ايدها اللي الحقن معلمه في جسمها.
- يا حرام، ربنا يكون في عون دكتور جاسر.

وفجأة صدح في الغرفه صوت صرخة خرجت من أعماق "سيلا" عندما سمعت حقيقة مرضها، كانت لم تستطع أن تسمع كل هذا الحديث، تألمت من داخلها على كل ما وصلت له من ضياع، فحياتها أنتهت، اصبحت محكوم عليها بالإعدام ومنتظرة حكم التنفيذ، حاولت الممرضتين ان يجعلوها تهدأ لكن سيطر على "سيلا" هلع لا مثيل له، حاولت احدى الممرضات أن تمسكها لمفردها وطلبت من الاخرى:

- روحي بسرعة نادي دكتور صقر.

اسرعت الممرضة مهروله نحو غرفة استراحته، طرقت الباب عدة طرقات، ثم ولجت وايقظته من نومه، وبلغته انها افاقت، نهض وهو يفرگ بكلتا يداه عيناه، استوعب ما قالت وأسرع مهرول غير منتبه لنظرات الجميع له، وحين وقف أمامها قال لها وعلى شفتاه ابتسامه:

- حمدلله على السلامه يا سيلا.

هدأت "سيلا" عندما ابصرته ثم أغمضت عيناها وفتحتهما بحسره قائلة:

- سلامه ؟! هي فين السلامه في اللي أنا فيه ده ؟!
أنا خلاص انهيت حياتي بنفسي، و وصلت لأخر المشوار، بس كان نفسي اقدم ليگ الف إعتذار مديونه بيه ليگ، جوايا ندم محدش حاسس بيه غيري.

قالت حديثها والعبرات كالأمطار متساقطة في ليلة برد ساقعه شديدة البروده، شعرت فجأة بأحتياجها للجرعة، ابتلعت لعابها، وكادت أن تطلب منه، لكنه سابقها في الحديث قائل:

- مفيش بينا الكلام ده، انتي في مقام أختي الصغيرة، ممكن تبطلي كلام وترتاحي.

نظرت له بترجي متوسله إليه قائلة:

- ارجوگ لو أنا غالية عندگ صحيح، اديني اي حاجة تسكن الألم اللي هيفرتگ جسمي، اي جرعة تهديني، حاسة ان في كلاب مسعورة بتنهش فيه بدون رحمه.

اشفق على حالتها، وامر الممرضة أن تحقنها بحقنه مخدره لتسكنها، لعلها تهدأ من حالتها، دقائق مرت وتحسنت حالها، شكرته بشدة، ثم استطردت كلامها هاتفه بوهن:

- يارتني كنت سمعت نصايحگ زمان، من أول ما شربت السجاير، مكنتش انجرفت على ايد أمين المجرم، ولا وصلت للطريق اللي ملوش نهاية غير واحده بس؛ الموت اللي بنتظره كل لحظة.

علامات التأثر والحزن تملكته، ربت على يدها بحنان وقال هامسًا:

- الكلام في اللي فات ملوش لازمه، وأنا اقسملگ اني بدعيلگ من كل قلبي ربنا يغفرلگ اللي فات، ومسامحگ من زمان.

وعند هذه اللحظة ولجت والدتها راكضة نحوها، محتضناها بكل شوق وحنين لسنوات كثيرة مضت، كل منهما انفجرتا بالبكاء الشديد، حيث قالت من بين شهقاتها:

- وحشتيني اوووي يا مامي، ارجوكي سامحيني، أنا آسفه على كل حاجة... آسفة على بعدي عن حضنگ كل السنين دي، آسفه على مشي في الطريق الغلط وضياع عمري هدر، آسفه اني مكنتش البنت اللي تفتخري بيها... أنا مجرمه.. أنا والله كنت ضحية أمين منه لله، ربنا انتقم مني اشر انتقام، عذبني على كل غلط ارتكبته، ونهاية المشوار كانت المرض اللي ملوش علاج واخرته الموت المحقق.

كانت تتحدث بتعب شديد، تصمت قليلا، وتكمل كلامها بصعوبه، حتى اوقفتها والدتها رادفة:

- اسكتي ياسيلا، بلاش تتكلمي في اللي حصل زمان، إحنا ولاد النهاردة، وكفاية انگ رجعتي لحضني من تاني، ومش هسيبگ ابدا، غير لما تتعالجي، هاخدگ من هنا ونروح مستشفى اخوكي فيها قسم خاص للادمان، وهتتعالجي وترجعي زي الفل، مش هتخلى عنگ لحظة، وهساندگ يا قلب ماما، ومش هنبعد عن بعض تاني.
- ياريت يا مامي، خلاص الوقت فات، ياريت ينفع مكنتش هتردد لحظة واحده؛ أنا مريضة ايدز وملوش علاج.

شهقت وفتحت فاها في ذهول من اثر الصدمة، هزت رأسها غير مصدقة لما قالت، لجم لسانها أن تنطق بحرف، تشجعت الأخرى وطلبت منها في رجاء:

- ادعيلي كتير اوي يا مامي، واترحمي عليا كل ماتفتكريني، أنا ذنوبي كتير اوي، ومش عارفه هقابل ربنا ازاي !!

مسدت على بقايا شعرها الذي وجدته يكاد يعد خصلاتها، تذكرت كم كان طويلا ناعمًا كالحرير بلونه الذهبي، كيف صار الآن، لكنها لم تهتم، فالاهم احتواءها بما تشعر به، اشتدت في ضمها وقالت:

- متقوليش كده يابنتي، ربنا رحيم اوي بعباده، مهما بلغت ذنوبه واستغفر عبده فأن باب التوبه مفتوح، وبيتقبل التوبه، ربك بيقول في كتابه الحكيم
"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”.
شوفتي رحمة ربنا كبيره ازاي.

بكت بشدة حين سمعتها، واستغفرت كثيرًا، لكن هي وحدها من تعلم ماذا جنيت يداها من أثم، فهي فعلت كل المحرمات التي نهى عنها في كل الكتب السماوية، فكيف الآن تجرأ ان تطلب منه العفو والصفح، كانت "جلنار" تجفف لها دموعها، حيث استشعرت أن ذنوبها كثيره، انتبهت ولوج الممرضة التي ارسلها "صقر" لهما لتستأذنها في الخروج، فهي تحتاج للراحة، قبلتها في جبهتها، ووعدتها بالزيارة مرة أخرى، وقبل ان تخرج سألتها "سيلا" :

- هو بابي مش عايز يشوفني، والنبي خليه يجي اشوفه بس لاخر مره.

التفتت لها وقالت بنبرة بها كل مرار السنوات الماضية قائلة:

- سعد متحملش بعادگ، واتوفى من زمان يا حبيبتي، ربنا يرحمه.

تركتها في صدمتها بعد أن الحت عليها الممرضة الخروج، فكانت غارقة في صدمتها، انهارت في نوبة بكاء، ويأس، وكره لنفسها التي لامتها كثيرًا وجلدتها بسواط الندم على ما بدر منها.. مرت بلحظات صعبه، وشريط ما مضى من حياتها مر أمامها، كم ذاقت كل الوان العذاب من بعد أن امتص "الدمنهوي" شبابها ورماها للطريق المجهول ينهش بها ويكمل مابدأ هو، تذكرت ان وصل بها الحال لبيع جديلتها بالمال لتجد الطعام والشراب، بعد أن فقدت كل المال الذي تمتلكه.
سألت روحها سؤالا، هل تستحق الحياة التي عاشتها كم التضحية التي ضحتها؟ كانت الاجابة قاسية، تهورها وعنادها قضى على كل شيء جميل في حياتها، وحرمت من كل النعم التي انعمها ربها عليها، تمنت ان الزمن يعود لمافعلت ما ارتكبته من اخطاء، وصلحت كل اخطاءها وتبدلت حياتها، ظلت هكذا لا أحد يشعر بها تبكي في نواح على والدها، وعلى حالتها.

توجهت الأم لمكتب "صقر" لتطمئن على حالتها، وما أن جلست ورحب بها، طرق طبيب الأطفال" ممتاز" طالبًا الولوج، اذن له وحين نظر له قال بآسى:

- آسف يا دكتور صقر، الطفل المصاب بالايدز توفى من لحظات، البقاء لله.

قال حديثة وانسحب في هدوء، بينما النظرات الحائرة المستفهمه من قبل "جلنار" تلقيها لابنها وصديقة، وحين لم تجد رد، فهمت من هو ذلگ المتوفي، فأردفت بألم وحسره:

- ده حفيدي مش كده؟

طأطأ رأسه بحزن شديد، فنهضت الأم مطالبه إياهم ان تتوجه لتراه لأخر مره وتضمه لعلها تكون اخر ذكرى تحتفظ بها معه، توجهوا جميعًا إليه، تقدمت منه واخذته بين احضانها، ولصغر حجمه كانت ممسكاه بحرص شديد كأنه قطعة من الزجاج الرقيقه تخشى خدشة، قبلته، ثم أعطته لابنها ليلقي عليه نظره اخيرة قبل دفنه لمثواه الأخير، الحزن عشش جدران قلبهما من جديد وماتت الآمال التي طالما حلمت بها، وستدفن مع هذا الصغير.



صافحت "غالية" والدها بحب، وامسكت حقيبتها لتستعد لسفرها لمدينة الإسكندرية تهرب من احزانها، وحبها الذي حكم عليه بالفراق من قبل أن يبدأ.
مر الوقت غير منتبه لذلگ الطريق الطويل، فكانت شارده في صقرها الذي كانت تتمنى رؤيته، وأن ينتشلها من ظلمات عتمتها ويحلق بها لعنان السماء.
وحين وصلت استقلت سيارة لتصلها إلى المشفى، القت نظره على هذا الصرح الكبير، توجهت لمكتب المدير الذي رحب بها، واخذها بنفسه في جولة تفقديه لكل شبر فيها، فقد كانت تسير معه، وبداخلها قبضة لا تعلم سرها، قلبها يحسها أن ربما يكون ليس بخير، استغفرت في سرها، واكملت جولتها معه، وانتهيا بعد وقت ووعدته أن تفكر في العرض، ثم استأذنت منه وتوجهت تبحث عن مكان تستريح، وبعد كثرة البحث، توجهت إلى شاليه ينظر على البحر مباشرة، دخلت بأرجل مرتجفه وهي لا تعلم بأي شاطئ مجهول سترسى عليه سفينتها الخرقاء معه؟ ام ستغرق بمفردها في بحور احزانها للاعماق؟
كان التعب وصل منها لمبتغاه، لكنه ياليته تعب جسدي كان من الممكن مداوته بقرصٍ مسكن يداوي اوجعها؛ لكن وآآسفاه انه التعب النفسي الذي لا علاج له؛ خصيصًا حين يكون في جرح القلوب فليس له دواء غير من يد وقرب الحبيب.
تمددت على طرف الفراش، تحملق بسقف الغرفة، مركزة على تلگ المروحة التي تدور بسرعة دون توقف، شعرت إنها لا تختلف عنها، فأنها مثلها تدور حوله لسنوات.. تبحث عن أي لحظة تكون بالقرب منه، على امل أن يشعر وقلبه يدق لها، لكن النتيجة كانت انه مال لغيرها، وقطع كل احبال الهوى التي تربطها
معه، لا بل فعل الأكثر من ذلگ؛ فقد قطع شرايينها وتركها تنزف بحورًا من الدماء وهو صامتًا متشفيًا دون أن يتقدم وهو طبيبها، بخل عليها بأن يقدم لها يد المساعده في انقاذها.
استمرت على حالتها ولم يفيقها غير رنين هاتفها، حدقت في الرقم ووجدته صديقتها، اغلقته ولم ترد، فهي في حالة غير قادرة على التفوه بأي حديث.
بينما الأخرى زفرت انفاسها بغضب من صديقتها البلهاء، عاودت الاتصال كثيرا لكنها اغلقت كل وسيلة للاتصال بها، فكرت كيف تبلغها وتهدأ من حزنها، ربما لو علمت الحقيقة لعاودت مهرولة إليه، سردت لها رسالة موضحه كل شيء، وارسلتها حين تفتح الهاتف تقرأها في اي وقت.



انتهى تأثير الجرعة، والألم وصل لحد لا تستطيع تحمله، كان جسدها يتمزق، كأن أسد يستلذ من تمزيق فريسته، شامتًا بها، وسعيدًا بانتصاره انها وقعت في شباكه، وها هي وقعت فريسة تحت يد المرض والادمان. ضغطت "سيلا" على الزر لتستدعي إحدى الممرضات، ثواني وجاءت ممرضة تسألها عما تريد، كان منظرها غني عن التوضيح، وحين اقتربت منها طلبت شيء لم تكن تتوقعه، ولم يخطر على ذهنها.


يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي