الفصل ٤

حاول أن يرمي الحبل الذي يمسك به على رقبته، ليمسكه، لكن العجل هاج وماج،ورفث وقفز أخذ يضرب بأرجله ضربات متتالية، فضطر عصفور إلى رفع العصا عليه، ثم ضربة لتسقط الضربه على وجهه ثم تبعها باخري كانت ضربات موجعة للعجل، شعر عصفور بذلك هو لا يحب ضرب البهائم في ظنه يعرف أن البهائم تشعر وتحس وتتألم مثلها في ذلك مثل البني ادمين ويمكن اكثر، لكن الوقت والمكان والعجب نفسه اضطروه الي فعل ذلك، حتى يتمكن من رمي الحبل على رقبته، وأخيرًا أمسك به، بعد عذاب وقطع نفس، مشى به خطوات بعيدا مناديًا باعلي صوته علي معلمه موريس، وإذ فجأة وعلي خوانه وفي ظل العتمة المفرطة ثار العجل، فلت من يد عصفور في لمح البصر رغم قبضته المحكمة عليه ثم، نطحه برأسه الضخم في بطنه، ثم أزاحه ليسقط بكل قوته في بركة الماء، سقط عصفور ثم داس عليه العجل بقدمه في بطنه وفي رأسه، ثم جرى مبرطعًا وكأنه ينتقم لنفسه من ضربات عصفور الموجعة له.
انكفأ عصفور على وجهه في البركة بلا حول ولا قوة منه، ظل يتألم، ويتأوه، فاقدًا القدرة على الحركة باى شكل بل وعلى الاستغاثة، فقط يتحسس خيط الدم الرفيع الذي يسيل من فمه وأنفه ويبكي.
بقي عصفور لساعات لم يقوَ على الخروج من ماء البركة الآسن العفن، جسده ملطخ بالعفن، تتقافز على وجهه الضفادع دون حول منه ولا قوة، كلما حاول أن يزحف بجسده للخروج، توغل أكثر وأكثر ثم شعر بدوران شديد أصابه وأفقده اتزانه، بالكاد يحاول أن يفتح عينيه عنوة ليعرف أن كان هو حى ام هو ميت.
ظل معذبا هكذا حتى اقترب بزوغ الشمس وأخيرا منت عليه السماء و رآه أحد الفلاحين الذي كان يعمل في ري الزرع، ويسقي ارضه فزع الفلاح لرؤيته، لظنه أنه قتيل، اقترب منه راي بطنه ترفع وتخفض دليلا علي أنه حي انتشله مسرعًا بكل قوته من البركة، ساعده على ذلك جسد عصفور الهزيل صب عليه الماء، ليغسل وجهه من الدم والطين، الملطخ بهما، اسنده الرجل بيده كرضيع ثم سأله عن هويته وأهله.
هنا بكى عصفور وانتحب كاي طفل طبيعي ، أخبره أنه عصفور الذي يعيش تحت الشجرة الكبيرة فوق الترعة الغربية بلا أهل بلا بيت، كان قاصدًا سراي الست هانم في غرب البلد مع معلمه موريس الذي يتاجر في الماضية.
حوقل الرجل، سنده حتى ركبه على حماره، أخذه معه إلى البيت حيث زوجته واولاده.
طلب الرجل من عصفور خلع جلبابه المتلطخ المتسخ، وألبسه جلباب أحد أبنائه من في جسده، كان عصفور منهكا تماما جراء ضربات العجل الشقي القوية المتتابعة بل كان يشعر أن سكين تلمه تقطع في امعاؤه تقطيع علي هدوء وفي نفس الوقت بلا رحمة لدرجة جعلته لم يقوَ عصفور على الوقوف على قدميه، كان في حالة شبيهة بالإغماء، أشفق عليه الرجل وزوجته، فأحضرا له الحلاق، الذي يطبب المرضي في القرية كلها حيث سقاه الحلاق منقوع من ثوم، وربط رأسه بشريط من الكتان، ثم ربط اخر من نفس الشريط علي بطنه ناصحًا بتدفئته في الفراش حتى الصباح.
بعدها نام عصفور في بيت الرجل وسط أولاده، شعر بدفء، لم يشعر به منذ زمن بعيد، تمنى لو عاش معهم العمر كله، ولو خادمًا لهم، هذا الامان والنوم بين حوائط تستر الناس نعمة كبيرة من الله لا يعرفها الا من عاش بلا حوائط تحت الشجر مثل عصفور، النوم علي فراش وفوق جسده غطاء نعمة كبيرة أيضا، كان عصفور يفنط في النعم التي لا يشعر بها الناس من حوله بينه وبين نفسه، استيقظ في الصباح بعد النوم الهادئ الذي حصل عليه، شعر بالتحسن في رأسه الذي داسه العجل، ليس بسبب رباط الحلاق، و لكن لإحساسه بالأمان، إحساسه لم يدم طويلًأ، حيث أيقظه الرجل مع أول زقزقة عصفور، ليذهب كما جاء، قام خجلًا من نفسه، شعر بالدوار يعود من جديد، لكنه تحامل حتى وقف على قدميه.
من شدة إخراجه خلع الجلباب النظيف الذي أعطاه له الرجل، وتناول جلبابه المتسخ المشقوف الذي لم تسمح زوجة الرجل بأن يضعه في بيتها بل رمته علي حائط الزريبة الخاصة بمواشي الرجل، تناوله عصفور ولبسه ليذهب، استوقفته زوجة الرجل، عرضت عليه أن يتناول معهم الإفطار، لكنه اعتذر رغم معرفته بأنه ستتلوي معدته من الجوع بعدما يخرج خارج عتبة هذا البيت، فأردفت المرأة التي شعرت بخجله قائلة: معلهش يا ولدي، البيت فيه بنات وانت عارف كلام الناس، حتي لو طفل صغير مش هنترحم من القيل والقال ، ما انت عارف البلد دي .
لا يعرف ما تقصده تمامًا، أو ربما رفض عقله ما تقصده، لكن في النهاية هز رأسه شاكرًا وذهب، استوقفته المرأة ثانية بنبرة حنان قالت: استني اجبلك قرصة وحتة جبن قريش تاكلهم تسند بيهم طولك انت نزفت دم كتير في الليل يا ولدي، وقبل أن يرفض عصفور، مسكت المرأة يده الهزيلة قائلة من جديد: قولت لك استني اسمع الكلام امال ما تبقاش عنيد انت زيك زي عيالي ولولا أن جوزي راجل شديد وما يحبش حد يتني معاه الكلمة انا ما كنتش خليتك تمشي واصل، استني امال.
وقف عصفور حتي جاءت المرأة بعدد اثنين من القرص الطرية والجبن القريش، مد يده اخذهما منه شكرها بحرارة، ورحل التهمهما اول ما خرج من بيتها التهاما وكأنه لم يأكل منذ زمن ثم مشي في طريقه الس السرايا، كان الطريق لسراي الست هانم من بيت الرجل لم يعد بعيدًا، لكنه شاق وبعيد على مرهق ومتعب مثله فمازالت جراحه اثر ضربات العجل موجودة، فاخذ يمشي حينًا، ويقف أحيانًا، حتى وجد نفسه أمام البوابة الكبيرة للسراي، خافَ الحرسَ، فإن لمحوه يحوم بلا سبب قوي فسوف يوسعونه ضربًا وسوف ينكلون به، لذلك وقف على بعد، ثم حام حول الباب الخلفي للسراي، عادةً، يخرج منه معلمه موريس وكل من له تعامل مع الست هانم من تجار، قد ذهب عصفور الي السرايا لانه يريد أن يعرف ماذا حدث مع موريس، هل وجد العجل وأتى بالاثنين إلى السراي تاركه ساقطا في البركة ، أم إنه جاء بعجله فقط، وفقد العجل الشقي متحملًا تعنيف الست هانم وغضبها، بل ودافعا لثمنه ؟
ظل عصفور يحوم ما يقرب من ساعتين ليعرف خبر موريس ، فإن كان جاء سيتضح أمره وسيرحل الان، فموريس ينتظر الست هانم بالساعات حيث تكن مشغولة دائما ، لسوء حظه لم يخرج أحد، تعب فاتكأ على شجرة على بعد من الباب الخلفي الكبير
أخذ يدعو الله أن يعرف خبر موريس، قبل أن يعود إلى الشجرة، حتى يهرب من عقابه، إن كان قد خسر العجل، فبرغم ما حدث له من جروح وانتكاسات إلا أن موريس لن يرحمه لأن العجل قد فلت منه هو، ورغم أنه سقط في البركة شبه ميت الا ان موريس لن يعترف بذلك بل يعنفه أنه لم يلحق بالعجل وتركه يجري.
طأطأ عصفور رأسه، إلى أن سمع صخبها، رفع عينيه، وجدها فى الشرفة، هي ملائكة المبهج الجميل تنظر إليه وتبتسم، ثم لوحت له بيدها، بادلها الابتسام، فضحكت بصوت مسموع قائلة: "اطلع" قالتها علي مقاطع صوتية
التفت حوله، خوفًا من مجيء أحدهم، وهمَّ بالرحيل، إلا أنها استوقفته بصراخها، ماااامااا.
خرجت خلفها فتاة أخرى، من ملابسها، عرف أنها الخادمة، أشارت هي أيضا مصممة إلى عصفور وصرخت: اطلع.
بقي في مكانه مذعورًا، فكر أن يجري قبل أن يخرج أحدًا من الحرس، ويمسكوا به، يؤدبونه، إلا أنه لم يستطع من شدة خوفه، ومن رأسه الذي ما زال ثقيلًا يدور، فيمنعه من السرعة.
لكنه حرك قدميه، بل جرجرها، ليمشي علي قدر المستطاع.
إلا أن الفتاة نزلت له أسرع، ومن خلفها الخادمة تتبعها وتحاول أن تثنيها عن فعلها، وفي لحظات كانت وجهًا لوجه معه، لأول مرة يراها من قرب وبوضوح.
جاءت تدبدب على الأرض بقامتها القصيرة وجسدها الممتلئ، انفرج ثغرها الصغير، ليرسم ابتسامة كبيرة، بادلها الابتسام ثانية دون إرادة منه، كان يحب اختلافها ويستغربه، لا يفهم أنها فتاة من مصابي متلازمة داون، لذلك ملامحها مميزة، وذات طبيعة خاصة، وقف يتأملها كأنها حلم، يشعر بأنها من غير البشر، البشر الذي يعرفهم ويعانى من قسوتهم، كان وجهها مسطح أبيض، عيناها مائلتان إلى أعلى، أنفها وفمها وأذناها صغيرة جدًّا، لا يتمشيان مع حجم جسدها الممتليء يداها وقدماها قصيرة رغم أنها هي نفسها لست بقصيرة .
شدتها الخادمة لتعيدها إلى السرايا دون أي كلام مع عصفور ، رفضت وانتزعت يدها منها، ووقفت تبتسم لعصفور حاولت الخادمة مرة ثانية، غضبت فتاة داون، فأزاحتها من طريقها، وتبتت في ثياب عصفور المتسخة، بل جذبته، ليدخل معها، وصممت على ذلك تململ عصفور ليفلت من مسكتها، فهو يعرف عاقبة ذلك، لكنه لم يجرؤ على زجها، فقط رجاءها بعينيه الضعيفة بأن تتركه
حاولت الخادمة فسخ يديها من مسكة ثيابه وتخليصها بالقوة، هذه المرة كانت الخادمة تسب فى عصفور ورائحته النتنة التى ملأت فمها، هنا تبدلت ابتسامة فتاة داون لعبوس، وعلا صوتها بالهمهمة والصراخ معترضة، ثم بكل قوتها أزاحت الخادمة لتسقط أرضا وهي تصرخ بصوت مسموع فجاء الحراس مسرعين، أحدهم وضع يده على كتف عصفور كأنه قبض علي لص خطر، فانكمش عصفور تحت يده خوفًا ورغبة، مما زاد تعلقها هي به، حيث مسكت في ذراعه بيديها الاثنين.
حاول الحرس مجاراتها حيث يعرف مدى إصرارها الذي لا يصلح معه العند ، فرفع يده عن كتف عصفور، وبلين قال له: "امشي من هنا بسرعة، عشان ما يكنش ده اخر يوم في عمرك النهاردة". محاولًا إعادتها لغرفتها بلين ، ما كان منها إلا أن شددت قبضتها وتشبثها به صارخة في الحرس ثم ركلته بقدمها في بطنه، فتراجع الحرس خائف من يتطور عنفها.
لا شيء يرخي قبضتها المحكمة على يده وثيابه، بل أصرت أن يدخل معها إلى غرفتها، وأي محاولة لمنعها، تقابلها بالصراخ والانهيار، والزج والضرب لمن يحاول أرهقتهم، وبقيت علي ذلك الوضع عدة دقائق فما كان منهم سوى اخبار الست هانم التي عنفتهم أشد تعنيف لسماحهم لها بالنزول من السرايا من الأساس، وأخيرًا جاءت الست هانم بنفسها لتحل المشكلة .
وجدت عصفور كخيال مآتة، طولًا بلا عرض، عظمًا بلا لحم، وجهًا أسمر تلفحه الشمس، ملامح بارزة جامدة، كأنها تشكلت من خشب الشجرة، جلبابه مشقوق من الجانب بالطول، متسخ ملطخ، تفوح منه رائحة المجاري العفنة.
نظرت إلى الحرس مشمئزة، مستفسرة، دون كلام، لتسأل بعينها مستنكرة من يكن هذا الاجرب .

رد أحدهم: متسول، الست هانم "ورد" تمسك به، ولا تريده أن يمشي، بل والاسوء تريده أن يدخل الي السرايا بل ويطلع معها الي غرفتها لذلك ناديت علي حضرتك، قال الحارس جملته الأخيرة مبررا نداءه للست هانم.
هنا رد عصفور بانكسار وقبل أن تعلق الست هانم علي كلام الحرس وقال: انا لست متسولًا، أنا عصفور، الصبي الذي يرافق موريس تاجر المواشي الذي جاء الي حضرتك بالعجول في الصباح، اني معه كل مرة ولا اجرؤ علي الدخول الي هنا
تكلمت فتاة دوان: أيوه، ده طااااير، عصفور، أووووو...
ثم أخذت تقلد حركاته بفمها ويديها.
تكلمت الست هانم بامتعاض: موريس أخذ حسابه وذهب، دعيه يلحق به يا ورد خلينا نخلص.
ردت ورد وملامحها متجهمة غاضبة وهي تقول: لا.. لا، يلعب معي.
رددتها ورد أكثر من مرة.
: عم موريس أحضر لجنابك عجل، ولا اتنين، سألها عصفور بصوت متقطع، في محاولة منه للاطمئنان أنه لا يعاقب مرتين، مرة لتسببه في ضياع العجل الاسود، ومرة لتسببه في حدوث شغب أمام سرايا الست هانم وشهدت عليه الست هانم بنفسها، سيغضب منه معلمه موريس ويوسعه بالعصا الرفيعه ضربا
لكزه الحرس قائلا: إنت تخرس خالص يا ولد، انت كمان هتتجرا وتتكلم مع الست هانم بذات نفسها.
هنا ردت اللكزة ورد للحرس وهي تشتمه وتشبه بكلمات متقاطعه، مما جعل الست هانم تبتلع ريقها لتمسك اعصابها، الوقت يقترب من النصف ساعة حاولت فيه الست هانم أن تثني ورد عن رغبتها في أن تدخل هذا العصفور من بوابة السرايا الكبيرة بل ويعيش بداخلها معها، لكنها فشلت، حاولت أن تقنعها بكل الطرق أن تترك الولد، وتدخل السراي، لكن ورد رفضت بكل الطرق، باللين بالزجر بالكذب بالصدق ، لكن كل محاولات الست هانم باءت بالفشل حيث هاجت ورد وماجت، بكت وصرخت ودبدبت، لا ترضى إلا بدخول عصفور معها، حتى رضخت الست هانم، التي لا ترضخ أبدًا، لكنها أمام ورد، فورد، وحيدتها ومدللتها التي لا ترفض لها طلبًا أبدًا مهما كان حتي لو كان السماح بطفل مشرد ملطخ بالطين لدخول السرايا الكبير التي يحرم علي دخولها كبراء البلد وأعيان أعيان الصعيد، المقربون الي الست هانم فقط هم من ينالون هذا الشرف ورغم ذلك الي يدخلون إلى السرايا نفسها بل لا يتاعدوا حدود جنينة السرايا الكبيرة، وافقت الست هانم علي دخول عصفور لكنها أمرت "مهدود" أحد الخدم، بأن لا يعتّب باب البوابة الكبيرة، إلا بعد أن يرشه بالماء والصابون، ويوفّر له ثيابًا غير ثيابه المتسخة، لعله يتخلص من رائحته النتنة تلك.
قال مهدود وهو ينكس رأسه في الأرض: أمر الست هانم.
نطق بها مهدود، وانطلق إلى الحديقة، انطلق خلفه كعبا الخوص اللذان يحملان خيال المآتة، ويسمى بني ادم دون كلام.
فرحت "ورد" فرحا شديدا وهللت، وأخذت تقبل أمها ضاحكة وتصفق بيديها كأنها حصلت علي شيء ذو قيمة كبيرة، بل بل لم تري امها فرحتها تلك منذ ولادتها لدرجة أنها خشيت عليها لتحدث لها انتكاسه، فمن قبل اوصاها الطبيب بعدم تعرضها لاي انفعال زيادة سواء كان فرح أو حزن أو غضب خوفا علي قلبها الضعيف الذي لا يتحمل الصدمات أو الانفعالات الشديدة، لذلك ولتجنب حدوث أي انتكاسة في حالة ورد الصحية، همست لها الست هانم أن لم ينظف عصفور جيدا ويصبح نظيفا سيطرد من السرايا يا ورد، أفهمت ؟
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي