الفصل الرابع

علياااااء أنتي التي اسمك علياء "

كان هذا صوتها الصارخ وهي تنزل بخطوات سريعة من

السلالم تنادي إحدى خدمهم في ذلك المنزل الواسع الكبير

ليتردد صدى صراخها عاليا من شدة اتساعه وخلوه من

الساكنين فبالرغم من اتساع مساحته لا يعيش فيه سوا امرأتان

ورجلان ومجموعة من الخدم وبالكاد يظهر كل هذا العدد

في مساحته الكبيرة وغرفه الضخمة بشرفاتها الواسعة

ركضت الخادمة مسرعة نحوها وقائلة " نعم سيدتي "

قالت مبتسمة " أين عمي صقر هل عاد ؟ "

قال الخادمة بهدوء واستغراب " عاد منذ أمس "

هزت رأسها بتأفف وقالت " أعني من المسجد وليس

من الاجتماع "

قالت من فورها " سيكون على وصول فالفجر أقيم منذ وقت "

وما أنهت تلك كلامها حتى انفتح الباب ودخل منه رجل رغم

أنه في الستين من عمره إلا أن صحته وقوته تعطيه أصغر من

ذلك بكثير , تقدمت جوزاء نحوه مسرعة وقالت بسعادة

" سقطت الحويصاء يا عمي فعلها مطر , فعلها ابن والدي "

هز رأسه مبتسما وقال " وما خرج إلا وهوا متأكد من ذلك

فليتعلم أولئك الخونة الدرس هذه المرة ولا يخرقوا تهدئة

وقّع هوا عليها ولو كانت مشروطة "

عقبت جوزاء حينها بابتسامة انتصار " تمنيته تقدم أكثر ودكّ

حصون مدن قبيلة الهازان وأرانا فيهم يوما كالذي أرونا سابقا "

ربت على كتفها وقال بهدوء " أنتي تعلمي وجهة نظر

شقيقك في هذا جيدا "

قالت بلا مبالاة " مطر طوال حياته يراعي من يستحق ولا

يستحق فكم كان يؤجل هذا اليوم متأملا في الوعود الدولية

التي يقدموها للجميع وكان عليه فعلها دون انتظار لأكاذيبهم "

هز رأسه دون كلام وتقدم نحو الداخل وهي تتبعه وتعدل من

وشاحها الصوفي على كتفيها وقالت بحماس " غرب البلاد لا

كهرباء عندهم من ساعات , لو كنت مكانه لاقتحمت مدينة

العمران التابعة لقبيلة صنوان كما احتلها هازان منهم بحجة

أنها من حقهم فموقعها لا يقدر بثمن وأصبحت محاصرة

بمدننا بعد الردم والحويصاء "

التفت لها وقال " لن تفكري أفضل من شقيقك ورجاله ولو

أرادها لأخذها الليلة فيبدوا أنه يدبر لشيء ما "

نظرت حينها للساعة على الجدار وقالت " لم يرجع بعد

هل به مكروه يا ترى !! عمتي لا تتوقف عن السؤال عنه "

قال صاعدا السلالم " اتصل بي منذ قليل وهوا بخير ولن

يترك رجاله والمدن الآن بالطبع حتى يطمئن أن الأمور

ستستقر لنا هناك "

وصعد السلالم وتركها خلفه تضم يديها لصدرها وتهمس

بانتصار " لو فقط يأتي اليوم الذي تأخذ فيه الشرق كله يا مطر

وتدك مدن الغرب بعده , لو يأتي ذاك اليوم فقط وأراكم يا

صنوان تبكون دما كما أبكيتموني على طفلاي ووالدهم

وأنكرتموني وحرمتموني منهم فقط لأني ابنة الحالك

وهم أبناء صنوان , لو يأتي ذاك اليوم سريعا "

*

*

*

بين حركة وضجيج الطالبات وأصواتهن المرتفعة والضحكات

العالية كان ثمة من تجلس مستندة لأحد الجدران يداها تعبث

بشيء ما فيهما ولا تشارك بشيء سوا الاستماع لبعض تعليقات

الطالبات , كان الجو أشد بردا من باقي كل أيام الأسبوع ولأن

المدرسة مخصصة للإناث فقط فهي استبدلت الحجاب بالقبعة

المصنوعة من الفراء الطبيعي التي جلبها لها رمّاح في آخر مرة

خرج فيها من البلاد , بل ولبست حتى القفازات التي صنعتها لها

عمتها ورفضت مرارا لبسها لأنها تضايق حركتها , كانت تحاول

جمع صورة المكعب في يدها وتعيد وتكرر , اللعبة المحببة لها

ولا تفارقها أبدا , ليست مناسبة لسنها لكنها مرتبطة بماضيها

وذكريات طفولتها بشكل كبير , اعتزلت الجميع اليوم وهي ترى

فيهم عالما مختلفا عنها وهم في حديث مستمر عن الحرب التي

دارت بالأمس , عن سقوط الردم والحويصاء فبعضهن يتناقل

أخبارا سمعنها من أبائهم وإخوتهم عن تفاصيل ما حدث في

جبهة القتال والبعض الآخر يصحح معلومات وصلت بالأمس

لهن وبعض الضحكات الساخرة شمتت في قبيلة هازان وقلن

أنهم يستحقون ذلك وبعض الأحاديث المتفرقة عن خبر أن زعيم

الحالك كان في الخطوط الأمامية وأنها ليست المرة الأولى التي

يشارك فيها مع جنوده فقد قاد المعارك دوما , وبين مكذب ومصدق

للخبر لازالت تلك الأصابع الثلجية التي احمرت مفاصلها وأطرافها

من البرد بعدما نزعت قفازاها تعبث بذاك المكعب المقسم لمكعبات

مرتبطة ببعضها وتحاول أن تفسر فقط لما لا يفكر الجميع مثلها ؟

لما صرنا كالأعداء ؟؟ لما لم يفكر أحد أن من ماتوا بالأمس جميعهم

أبناء وطن واحد والأقسى أنهم أبناء ! وطننا فهل لأننا تأذينا يوما

وبشكل كبير من قبائل الشرق يعطينا ذاك الحق في أن نشمت في

موتهم ودمار مدنهم ؟؟ وإن كنا نحن مكانهم هل سيشمتون فينا هم

أو الحالك ؟؟ هل كل ما أصبح يعنينا الآن رد الدين ولو على يد

غيرنا والتسابق لجلب الأخبار الصحيحة حتى أصبحت التعليقات

التي تذكرنا بأنها مأساة تعيشها البلاد تقل وتقل مع زوبعة تناقل

أخبار الجبهات ؟ حرّكت المكعب بقوة كقوة مشاعرها وأفكارها

وهي تهتف في داخلها بألم ( هل أصبحت بطلا يا مطر حد أن

يفرحوا هنا بانتصارك وأنت قد تدك مدنهم أيضا في أي وقت

أي سلطة لك على أفكار الجميع حولك تحولك من عدوا لبطل )

وفي غمرة كل تلك الأفكار أخرجتها من ذاك العالم اليد التي

أمسكت بكتفها والصوت الهادئ الذي اخترق سمعها قائلا

" ما بها حسناء صنوان جالسة لوحدها اليوم "

دست مكعبها في حقيبتها وقالت بهدوء " لا رغبة لي

بمشاركتكم حديثكم هذا "

جلست أمامها وقالت مبتسمة " هذا حدث الساعة وسينساه

الناس بالتدريج , فكيف لأخبار قوية كهذه أن يستقبلها

الناس وكأن شيئا لم يكن !؟ "

أغلقت حقيبتها بعنف وقالت " لا أحد يقول خسرنا أبنائنا

وأرواح شباب بلادنا , لا أحد يكترث يا جليلة "

حركت تلك يدها بتلقائية وقالت " أنتي فقط عاطفية كثيرا يا

غسق فمن عاش حياته هكذا في الكر والفر والحرب وشبه

السلم سيكون اعتاد وتأقلم ولا تنسي أننا كنا مكانهم يوما

وهم يغيرون علينا "

وقفت حينها لتنهي هذا الحديث وقالت " سأرى

والدي إن أتى لأغادر "

وتحركت لتتبعها تلك قائلة " غسق انتظري هل

ستأتي لمنزلنا اليوم ؟ "

قالت وهي تضع حقيبتها على كتفها ونظرها على باب

المدرسة " لا أعتقد فلا مزاج لي "

أسرعت جليلة الخطى حتى وصلت عندها وأوقفتها قبل أن

تخرج وقالت " وثّاب أوصاني بشيء لك "

تأففت في وجهها دون أن تخفي ذلك عنها فقالت تلك مبتسمة

" لا تقلقي يا ابنة خالتي فالجميع بات الآن مقتنعا أنك ضعت

من أيديهم , فبعدما ظهرت حقيقة أن أشقائك ليسوا بأشقائك يئسوا

من حلم الزواج بك فبالتأكيد لن تتركي أبناء زعيم القبيلة من

أجل أي كان ولا هم سيتركونك بالتأكيد خصوصا أن ثلاثة

منهم أكبر منك سنا "

قالت بضيق " جليلة لا أريد الحديث في كل هذا أرجوك "

أخرجت ورقة مطوية من حقيبتها ودستها لها في جيب الحقيبة

كي لا ترفض أخذها وغادرت قائلة " أصبح لدينا أمل أن

تلتفت النساء وأبنائهم لنا "

فهزت غسق رأسها بيأس من أفكار هؤلاء الفتيات التي لا أمل

أن تتغير أبدا ولا أحد يريد أن يقتنع أن آخر ما قد تفكر فيه

الزواج فهي ليست على استعداد أن تترمل وتيتم أبنائها والبلاد

بهذا الوضع بل كيف تفرح وتقيم زفافا والناس تموت بل وأخوتها

آخر من قد توافق أن يكون أحدهم زوجا لها , سرقت نظرة للشارع

لتلمح سيارة والدها تقف للتو فأخرجت الوشاح الصوفي الطويل

ولفته على عنقها لتستره أيضا وخرجت لوالدها , فبالرغم من أنه

زعيم القبائل هنا إلا أنه لا يطمئن عليها إلا وهوا يأخذها بنفسه

حتى أبنائه لا يتركهم يوصلونها إلا في الضرورة فكيف بسائق

حافلة أو سائق خاص , وصلت السيارة وفتحت الباب وركبت

فشغّلها مجددا وقال مبتسما " نسينا شيئا أم لم ننسى ؟؟ "

التفتت نحوه وقبلت خده وقالت مبتسمة " بلى لم

أنسى وحقيبتي السبب في تأخرها "

وما كانت غسق ستنسى تقبيل أعز الناس لديها إلا بانشغالها بأمر

مهم فهي كانت منشغلة بالورقة التي تذكرتها وهي تركب وتأكدت

منها مخافة أن تقع ويراها والدها أو تنساها هنا ويجدها جبران فيما

بعد , تحرك بالسيارة لتبدأ الرحلة التي ستأخذ منهم قرابة الساعة

والنصف لأن هذه أقرب مدرسة لهم بعدما قلصوا عدد المدارس

لأكثر من النصف بسبب الأوضاع والإمكانيات المادية ولأن

زعيم القبيلة تصرف بعدل فهوا اختار المدارس الكبرى لديهم

واستثنى حتى المدرسة القريبة لهم في نفس مدينتهم كي لا ينحاز

من أجل ابنته التي ضاع عليها عامان في السابق لتدرس الآن مع

من يصغرونها بعامين , وليس حالها أفضل من غيرها فمعها

يدرسن من هن أكبر منها حتى لثلاث أعوام فقد أصبح كل

الغرض إنهاء الدراسة ولا أحد يسأل هنا عن سن الطالبات

مضت الطرق سريعا كالعادة لأن هذا الرجل بوجود ابنته

يصبح شخصا آخر ولا يتوقف عن الحديث معها في كل شيء

باستثناء الحروب والسياسة كعادتهما فلشدة حبه لها ولمعرفته

مدى تأثرها بهذه الأمور وكرهها التحدث عنها لا يفتح هذه

المواضيع معها أبدا لذلك فهذا الجليس بجوارها بالنسبة لها

يساوي الدنيا وما فيها , عندما اقتربا من المدينة التفتت له

وقالت " أبي هل نحن من أخرجنا الاحتلال أم خرج لوحده "

قال ونظره للطريق " الحكاية متشعبة ومعقدة لكني سأبسطها لك

كان الجنوب مقاوما شرسا للاحتلال , نحن غرب البلاد تمكنوا

منا واستوطنوا لدينا فكل ما كان بوسعهم تقديم المعونة

والمعلومات لإخوانهم هناك "

ابتسمت حينها بحب وقالت " كم هي رائعة منك كلمة

إخوانهم هناك يا أبي , نعم جميعنا إخوة أليس كذلك "

قال مبادلا لها الابتسامة " نعم ومهما طال الزمن وتقاتلت

الناس سيعود كل شيء كما كان ونرجع أخوة وبلاد واحدة "

عادت للصمت وعاد هوا لمتابعة حديثه قائلا " كانت قبائل

الجنوب تقاوم باستماتة والجد الثاني لشاهين والد زعيم الحالك

الحالي كان يقودهم وكان مشهورا جدا لكن الاحتلال يا ابنتي

لا أحد يقدر على إخراجه , بعض الدول رفضته وحاربته وإن

كان لا أمل في إخراجه من بلدانهم والبعض الآخر انصاعوا له

وعاش بينهم حتى أنهم درسوا لغته , ومع تعاقب الأعوام بدأت

الدول الكبرى بسحب نفسها من الدول العربية في قانون دولي

يمنع أي دولة من أن تحتل أخرى وألغي الاحتلال وخرج

الاستعمار من جميع الدول العربية ونحن من ضمنهم "

نظرت ليديها في حجرها وقالت بحزن " لكني أرى بعض

البلدان لازالوا يحتلونها تحت مسميات أخرى "

نظر لها ثم عاد بنظره للباب الذي فتح لسيارتهم وقال وهم

يعبرون خلاله " نعم فبحجة محاربة الإرهاب أصبحنا نرى

أشكالا للاحتلال تعود وما باليد حيلة يا ابنتي "

وقفت حينها السيارة أمام المنزل ونزلت منها بعدما قبلت

جبينه ودخلت ليغادر هوا من فوره , فبالرغم من أنه يستقطع

ثلاث ساعات في اليوم من أجلها وهوا بحاجة لكل دقيقة لتسيير

أمور مدنه ومتطلباتها إلا أنه على استعداد لفعل الأكثر لو فيه

مصلحتها , بينما دخلت هي وصعدت لغرفتها فورا ورمت حقيبتها

والقبعة والشال الصوفي ثم معطفها الشتوي ودخلت الحمام لتستحم

وتصلي الظهر وتدعوا الله أن ذاك الأمل الذي غرسه فيها والدها

بالسلام قادم يوما ما وأن يكون حقيقة ولا يتأخر كثيرا

*

*

*

بعد يومين آخرين وفي غمرة ما كان لكل قطر من تلك البلاد

نصيبه من التوتر والترقب كان أكثرها توترا تلك الحدود الجديدة

وهي لازالت تعيش بين الدفاع والهجوم وبعد ثلاث محاولات فاشلة

لاسترجاع الحويصاء والردم وعند أعلى صخرة في ذاك المنحدر

كان جالسا وعيناه تراقب من منظاره اليدوي تجمعات تلك الجنود

وحركتها البعيدة ثم أنزل المنظار ووقف ونزل وهوا يزيل لثامه

بإنزال طرفه للأسفل لتحضن العمامة ذقنه محيطة بوجهه كاملا

فلم يعد من داع لإخفاء هويته بعدما أصبحت الناس تتناقل

أخبار وجوده مع الجنود وستصبح تحركاته مراقبة وقت القتال فيما

بعد , نزل وسار بثقته المعهودة بين الأعين التي تنظر بدهشة كبيرة

للقائد الذي كشف عن نفسه أخيرا بل لأنه زعيم قبائلهم وليس سواه

وقف بينهم وقال بصوته الواثق الحازم الممزوج بتلك البحة " تحولوا

لوضع الدفاع , نجحنا يا رجال وهذه أصبحت حدودنا الجديدة "

ثم تجاوزهم على صوت الهتاف والصراخ ابتهاجا بالنصر وسار

مبتعدا عنهم واثنان يتبعانه وقال دون أن يلتفت لهم " سأرجع

لحوران وسأعود لكم قريبا فكونوا متيقظين "

قال أحدهما وهما يجاريان خطواته السريعة الواسعة " ماذا عن

مدينة العمران سيدي ؟ ضننا أنها حربنا القادمة بما أنها

أصبحت بين فكينا وهم يتمترسون فيها "

قال متابعا سيره " ليس الآن تلك لها جولة أخرى "

ليركب بعدها السيارة ويغادر وتركهما واقفان خلفه دون حتى

أن يوضح معنى كلامه فهوا عُرف هكذا دائما حتى أجوبته

على الأسئلة أوامر ملقاة وعليهم الطاعة ودون نقاش ولا استفسار

ركب السيارة وغادر المكان وأخرج هاتفه الذي يعمل عن طريق

الأقمار الاصطناعية فهذه البلاد بسبب الحروب لم تصلها تقنية

الهواتف المحمولة , فأي شركة اتصالات ستعمل هناك وكيف ؟ ولا

وسيلة لديهم سوا الهواتف الثابتة في المنازل والمكاتب والأماكن

العامة والتي تكون اتصالاتها مقطوعة أغلب الأحيان بسبب

انقطاع الكهرباء , ما أن وضع الهاتف على أذنه حتى قال

من في الطرف الآخر " مرحبا سيد مطر شاهين معك مكتب

وزارة الداخلية لـ.... نود إعلامك بأهمية حضوركم لمؤ... "

فقاطعه حينها قائلا ببرود " بلغهم رفضنا الحضور "

قال من فوره " لكن سيدي ... "

ليقاطعه بصرامة " قلت لن أحضر وليفعلوا ما يحلوا لهم , أين

كانوا حين بدأت هازان بخرق الاتفاق وقتل رجالي على الحدود

ونحن في صفقة تبادل الأسرى المزعومة والتهدئة المؤقتة , قلت

لن أحضر فليجتمعوا وحدهم , والحويصاء أصبحت حدودنا

الجديدة وفي حال طالبوا بتفاوض من أجل مدينة العمران

سأفكر أن أكون هناك وغيره لا "

ثم أنهى المكالمة وأعاد الهاتف مكانه وتابع طريقه الطويل يضغط

بقبضتيه كل حين على المقود بقوة وأفكاره تأخذه لتلك السنين ومن

بينها خرقهم للهدنة حين ضربوه بل طعنوه في ظهره وهوا من

ظن أن الجميع مثله يحترم العهود والمواثيق الدولية , فأين كانوا

وقتها ومن أخذ بحق الجنوب من الشرق ؟ فهذه القبضتان القويتان

لم تعودا تريدان شيئا سوا فتح باب آخِر بيت في مدنهم وسيحدث

ذلك لا محالة ( سيحدث إن قريبا أو بعيدا ) تلك هي الجملة التي

يأمر بها عقله كلما أسهب في التفكير كي لا يضع حدا له يوما ما

فخطوته الجديدة أشد حسما وستحدث بلبلة أشد من هذه بكثير

*

*

*

أغلقت النافذة تدعوا الله أنّ رش هذا المطر لن يقوى أكثر ويعيق

رجوع والدها فهي لا تطيق أن تحجزه الأمطار عنها لأيام , كانت

تراقب السحابة السوداء الداكنة وتحاول أن تقلد عمتها حين تُقدّر

كم سيطول بقائها وقوة مطرها من كثافة لونها وسرعة حركتها

لكنها وجدت تفكيرها يأخذها لما تتمنى هي وباتت تراها خفيفة

وسريعة الحركة , طرق أحدهم بابها طرقات خفيفة فأسرعت

لوشاحها وغطت به رأسها فلابد أنه أحد أخوتها , وما أن انتهت

من لفه وهي تتوجه له حتى انفتح الباب وكان شقيقها الأصغر

كاسر فابتسمت له من فورها تبادله ابتسامته الرقيقة وهوا يقول

داخلا " أين الأميرة الحسناء تسجن نفسها عنا اليوم ؟ "

وماتت ابتسامتها وهي تنظر للباس العسكرية الذي يلبسه

وقالت بحزن " يبدوا أنك ذاهب للحدود ؟ "

مسح بيده على وجهها وقال " نعم وجئت لأراك , وأخويك

الآخران ينتظرانك في الأسفل "

ترقرقت حينها الدموع في عينيها وقالت بعبرة

" جميعكم ذاهبون ؟ "

أمسك أنفها وقال مبتسما " نعم ولا تبكي سنتفقد الأحوال

هناك ونرجع , لن نحارب "

احتضنته متعلقة بعنقه وقالت بحزن " كم أكرهكم بهذا اللباس "

ضمها لحضنه بقوة وقال مبتسما " تكرهين اللباس وليس نحن

ولن تؤثر فينا كلماتك فنحن رجال والرجال لا يخافون

الموت يا غسق "

كان تعلقها بأخوتها كبيرا لكن كاسر له المكانة الأكبر فقد كان

أقربهم لها فهي تصغره بعام ونصف فقط ومن صغرهما كانا

مرتبطان ببعظهما كثيرا وزيادة على ذلك أن والدتها أرضعته

فور ولادتها فأصبح الشقيق الوحيد لها في هذه الحياة وإن

كان بالرضاع فقط , أبعدها عن حضنه قائلا بابتسامة

" على هذا الحال لن أغادر فاتركيني يا متطفلة "

مسحت عينها وعلى شفتيها ابتسامة حزينة فكم كانت تكره

في صغرها مناداته لها بالمتطفلة حين كانت تتبعه لكل مكان

وتريد معرفة ما سيفعل , قال وهوا يمسح على خديها

" انزلي فشقيقاك ينتظرانك "

خرجت حينها ركضا وتركته خلفها ونزلت السلالم مسرعة

تمسك وشاحها على رأسها حتى أصبحت خارج باب المنزل حيث

يقفان رمّاح ورعد في انتظار شقيقهم لينظم لهم وشقيقتهم لتوديعها

قبل ذهابهم لأيام لحدود مدنهم الشرقية والجنوبية , وقفت أمامهم

والبدل العسكرية تحضن أجسادهم وأكتافهم العريضة ودموعها

تمسح تلك الأجساد تنزل متناثرة كرشات المطر فوقهم , قبّل

رمّاح جبينها وقال مبتسما " يكفي بكاء نخاف أن تغار

منك السحابة وتقوي ضخها علينا "

ضحكا معا لتشاركهما ضحكة كاسر الخارج خلفها للتو وقبّل

رعد أيضا جبينها وقال بهدوء " ما الداعي لكل هذا الآن

وكلها جولة تفقدية وسنرجع "

وغفل الجميع في غمرة مزاحهم محاولين تبديد حزن شقيقتهم الواقف

هناك عند السيارة تحت المطر ولا يعجبه شيء مما يحدث ناحيتهم

( لما يقبلان جبينها يكفيهم توديعها ويغادرون ) حيث لم يكن يحترق

إلا وحده فهم يعتبرونها شقيقتهم الصغرى , ولو كان لهم شقيقة ما

أحبوها مثلها , وليزيد اشتعاله احتضان كاسر لكتفيها لتتكئ برأسها

على كتفه فها هوا ثالثهم يمارس ما يشغف هوا له ومحرّم عليه من

قبل حتى أن تعلم هي حقيقة أنهم ليسوا أشقائها لأنه كان يعلم

ما لا يعلموه , قال رعد مازحا " يكفيكما يا عصافير كلها

جولة تفقدية وسترجع لشقيقتك "

ابتعدت حينها عن كتفه وقالت " إن حدثت أي مواجهات

فاهربوا سريعا وعودوا "

لينفجر ثلاثتهم ضاحكين وسط نظراتها الغاضبة لهم ثم تحرك

رمّاح قائلا " هيا يا شباب سنتأخر ويأتي والدي ويجدنا هنا

ومن ينجينا من توبيخه حينها فمدللته هذه لن يقول لها شيئا "

فتبعه رعد أيضا وركبا سياراتهم وقبّل كاسر جبينها ولحق بهم

ولم يبقى سوا جبران الواقف هناك , الأخ الرابع والأكبر والغير

راض أساسا على بقائه وذهابهم بدونه لكن والده يعتمد عليه كثيرا

في شئون الداخل فهوا أقربهم له في جميع جولاته داخل المدن

والقبائل , وعلى الطرف الآخر بقيت الواقفة تحت مضلة الباب

تراقب عيناها الدامعتان سيارات أخوتها تخرج تباعا من الباب

الكبير لسور المنزل ثم رفعت عينها للسماء ترجوا الله في حديث

صامت أن يحفظهم حتى يعودوا , ثم دخلت ركضا وصوت عمتها

يناديها دون حتى أن تنتبه لمن كانت عيناه تراقب أدق حركة لها

وتصهره حتى بمعانقة بحرها الأسود للسماء , دخلت مسرعة

تمسح عينيها حتى وصلت للسلالم تستقبل النازلة من هناك

التي قالت فور أن وصلت لها للأسفل " هل غادر شقيقك

وأخويه "

قالت حينها غسق مصححة لها ما تقصد من كلامها

" نعم غادروا أشقائي الثلاثة منذ قليل "

أمسكت يدها وقالت " تعالي إذا هناك ما أود أن نفعله معا "

فتبعتها متأففة وهي تعلم جيدا ما تريد فعله في غياب الجميع

أجلستها في غرفتها وبدأت بتحريك تلك المبخرة حولها والدخان

يتصاعد منها وعينا غسق تتبعان حركتها ثم قالت بضيق

" عمتي كم مرة قال لك والدي لا أريد هذه الرائحة في المنزل "

قالت وهي لازالت تلف بها حولها " هذا لأنه لم يرى أعين

النساء تلتهمك البارحة في منزل خالتك , لو علمت أنهم جمعوا

جيرانهم ما تركتك تذهبين متأنقة هكذا , ظننتها هي وبناتها

فقط , الله أكبر من أعينهم كادوا يأكلونك بها "

قالت غسق ببرود " أخشى أنك بعد عام ستصبحين كقطاط ذاك "

وضعت المبخرة جانبا وقالت بضيق " غسق إنسي كل ما قلناه

يومها , العِبرة من الحكاية ووصلتك والحديث في

كل ذلك ممنوع مفهوم "

تنهدت وقالت " مفهوم عمتي مفهوم "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي