الفصل 2

وجه يوسف نحو أخيه نظرة أسى حزنًا على حاله، ثم انسحب متوجهًا إلى الأسفل وشعوره بالحزن والألم يتسلل إلى قلبه وإلى ملامح وجهه؛ فأخيه يطغي عليه الحزن والشقاء منذ ثلاث سنوات ولم يستطع أي شخص مساعدته ليعود إلى حالته السابقة التي تتسم بالوجه البشوش الضاحك دائمًا، وكأن قلبه أقسم أن يقيم عليها الحداد أبد الدهر بلا كلل أو ملل.
في الأسفل في جانب هادئ من الحديقة كان يقف وِقَّاص في مواجهة صبا، ينظر لها بحب ممتزج بالإعجاب وكأنه يراها لأول مرة قائلًا:
-إنتِ عينيكِ حلوة أوي.
أردفت هي بنبرة غرور مصطنع:
-ما أنا عارفة أنتَ مش أول واحد يقولي كده.
ولكنها سرعان ما التزمت الصمت حينما رأت نظرات عينيه الحانقة؛ فانفجرت ضاحكة على مظهره.
ونظر هو لها بحنق قائلًا:
-إنتِ كمان بتضحكي يعني بتدايقيني وفي الآخر تضحكي.
قالت له من وسط ضحكاتها التي لطالما عشقها:
-خلاص بقى يا وِقَّاص أنا آسفة.
أمسك يديها ونظر في عينيها المشابهة للأشجار الكثيفة ذات اللون الأخضر الصافي قائلًا:
-إنتِ عارفة أنا مستني ازاي اليوم اللي هنتجوز فيه، أنا يوم كتب الكتاب ما كنتش مصدق نفسي والله، كنت حاسس إن أنا ملكت الدنيا كلها، إنتِ قدرتي تسرقي قلبي من غير أي مجهود.
توردت وجنتاها من شدة الخجل وتلعثمت قليلًا في الرد؛ فهي لا تعرف أن تقول له مثل هذا الكلام المعسول، قالت له أخيرًا بعد محاولات عديدة لتمكنها من الحديث:
-بطل بقى يا وِقَّاص أنتَ كده بتكسفني وأنا ما بعرفش أرد عليك، بس أنا بحبك والله.
وفور أن أنهت حديثها طبعت قبلة رقيقة على وجنته وذهبت سريعًا.
ابتسم ابتسامة هادئة وهو يراها تذهب والهواء يداعب خصلاتها البنية، ويتغلغل وسطها، دائمًا ما تتسلل تلك البسمة إلى وجهه حين يرى طيفها من بعيد، أو حين يستمع إلى صوتها الذي يُمثل بالنسبة إليه سيمفونية رائعة، لم يتمكن أي موسيقار من صنع ما يماثلها في عذوبتها.

في جانب آخر هادئ، منعزل، ومظلم تكاد أصوات الموسيقى لا تصل إلى مسامعها، تقف نور شقيقة صبا،
-فتاة ذات بشرة سمراء، وشعر أسود مجعد بعض الشيء جلعت نسمات الهواء بعض خصلاته متطايرة، وأعين سوداء- تقف منعزلة، وحيدة تتذكر كلمات والدتها لها قبل أن تذهب هي وشقيقتها إلى هذا الزفاف، تتذكر كيف أخذت تنهال بالكلمات العذبة على أختها وتقول لها بإعجاب أنها ستكون أكثر جمالًا من العروس نفسها، ولكنها لم تخصها هي بأي كلمة إعجاب حتى، وكأنها ترسل لها رسالة خفية تقول بها أنها ليست سوى فتاة دميمة، أخذت تتحدث إلى نفسها قائلة بتساؤل:
-معقول أنا وحشة للدرجة دي يعني؟ للدرجة اللي تخلي أمي نفسها شيفاني وحشة؟ طب لما هي شيفاني كده بقيت الناس بتشوفني ازاي؟!
فجأة قاطع حديثها كريم قائلًا بهدوء:
-على فكرة إنتِ مش وحشة، إنتِ ليكِ جمال خاص هي اللي مش قادرة تفهمه، للأسف في ناس مش بيقدروا يشوفوا الحاجة الحلوة اللي قدامهم أو يفهموها، خلي عندك ثقة في نفسك أكتر من كده.
ما إن أنهى جملته حتى انسحب ذاهبَا بهدوء ولم يترك لها حتى مجال للحديث، ولكنه ترك بقلبها بضع كلمات حاولت أن تُلئم جراحها وتشرق الشمس داخل تلك الدُجنة التي تحيا بها.
أخذت تحدث نفسها مرة أخرى:
-مين ده كمان بقى؟ الدنيا ضلمة وأنا ما عرفتش شكله أصلًا، أوف أنا هشوف صبا فين عشان نروح بقى.

"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير".
هتف المأذون بهذه الكلمات الروتينية بعد إتمام كتب الكتاب وتعالت الزغاريد والتهاني على العروسين، كان يقف والد روجين (أحمد الهاشمي) مع نديم قائلًا له بصدق استطاع نديم أن يستشفه من صوته:
-بص يا ابني أنا مش هوصيك عليها عشان أنا متأكد وعارف إن أنتَ هتحطها في عينيك وهتحافظ عليها، وأنا لو مش متأكد ما كنتش وافقت إنك تتجوزها أصلًا.
أردف نديم بدوره بنبرة مطمئنة:
-ما تقلقش يا عمي روجين في عينيا، وأكيد هحافظ عليها دي بقت روجين المنزلاوي خلاص.
كانت ناردين هي الأكثر سعادة؛ فهذا زفاف أخيها الوحيد ومن يمثل بالنسبة إليها كل عائلتها، باركت ناردين لروجين قائلة لها ببسمة هادئة:
-زي القمر ما شاء الله مبروك يا روجين.
أردفت روجين بابتسامة مماثلة قائلة:
-الله يبارك فيكِ، عقبالك.
هتفت ناردين ممازحة بعفويتها الدائمة:
-ما إنتِ خلاص خدتِ أحلى قطعة في السوق، هلاقي زيه فين هو كان قطعة واحدة كده متفردة بنفسها.
فانفجرت ضاحكة هي وروجين على تلقائيتها في الحديث، وبعد لحظات قصيرة ذهبت ووضعت جسدها الصغير بين ذراعي نديم؛ فهي لا تعلم كيف ستستطيع المبيت في المنزل من دونه هذه الليلة، لطالما اعتادت وجوده بجانبها منذ أن فتحت أعينها وكأنه جزء منها.
قال لها نديم ممازحًا وهو يمسد على ظهرها:
-خلاص بقى يا ناردين، ده هي ليلة وأنا جاي بكرا مع روجين أصلًا.
استطرد حديثه بمزاح قائلًا:
-طب إيه رأيك نروّح روجين البيت، ونقضي إحنا اليوم في الفندق، وسمعت إن هما عندهم أكل حلو أوي على فكرة.
ضحكت هي موجهة أنظارها نحو روجين بخبث قائلة:
-طب أنا عايزاك بقى تقول كده قدام روجين مش هتدخلك الأوضة أصلًا.
أردف هو بدوره قائلًا باستنكار:
-بصراحة تعملها وأنا عريس جديد بقى وخايف على نفسي.
وجه أنظاره نحو يوسف الواقف بجواره قائلًا بنبرة تتنافى تمامًا مع مزاحه منذ بضع لحظات:
-يوسف بقولك إيه ما تسيبش ناردين لوحدها، توصلها معاك البيت ولو حصل أي حاجة تكلمني، أنا هسيب التليفون مفتوح.
أكمل موجهًا أنظاره نحو شقيقته قائلًا بلين:
-وإنتِ ما تروّحيش تعيطي هي كلها ليلة وراجعلك تاني.
بعدما أنهى حديثه طبع قبلة حانية على جبينها وضمها لصدره برفق.
ذهبت أسيل واحتضنت روجين بشدة والسعادة الممتزجة بالقلق ترتسم على وجهها قائلة:
-بقولك إيه لو حصل أي حاجة كلميني في أي وقت هتلاقيني عندك.
-يا بنتي بطلي القلق ده بقى مفيش حاجة هتحصل أصلًا، وحاضر يا ستي لو في حاجة حصلت هقول لك ما تقلقيش بس إنتِ.
-تمام خلاص أنا هروح أقعد بقى عايزة حاجة؟
-لا يا سو روحي إنتِ اقعدي بقى، إنتِ واقفة من أول اليوم.
فور التفاتها لتذهب للطاولة اصطدمت بشخص ما، فتأوهت بخفوت، ثم قالت له بنبرة صوت عالية نسبيًا:
-مش تحاسب يا بني آدم.
نظر لها سيف باستنكار وهو يتفحصها بوقاحة قائلًا:
-هو إنتِ يعني مش فالحة في سواقة عربيات ولا حتى في مشي على رجلك.
أردفت هي بعدم اهتمام:
-أو أنتَ اللي ما بتعرفش تسوق، وكمان كنت بتتكلم في التليفون، ثانيًا أنتَ برضه اللي مش شايف قدامك وأنتَ ماشي عشان فاتح التليفون.
قال لها بوقاحة لم تختلف عن سابقتها:
-ده إنتِ مركزة معايا أوى بقى!
قبل أن ينهي جملته كانت تذهب هي بخطى هادئة متزنة، فأخذ هو ينظر لها بأعين مشتعلة من الغضب وبعد لحظات حاول تجاهل غضبه متوجها نحو نديم وهو يحتضنه بقوة قائلًا له:
-مبروك يا عم دخلت القفص بدري والله.
-يا عم احترم نفسك بقى، وبعدين عشان أنتَ يعني مش لاقي حد يرضى يتجوزك فبتعمل كده.
أردف الآخر قائلًا بغرور ويعدل من ياقة قميصه الأبيض:
-يا ابني مش لاقي إيه دول بيترموا عليا، بس أنا اللي مش راضي.
-طب يا عم سيف سيبني بقى أنا مع مراتي على انفراد ويلا من غير مطرود.
-هي بقت كده من أولها، طب خليكِ شاهدة بقى يا روجين.
نظر له نديم بغضب قائلًا بغلظة محذرًا:
-مدام روجين، هي مش صاحبتك ها.
-خلاص يا عم فان دام أنا ماشي أصلا إيه ده.
فور أن ذهب سيف توجهت أنظار روجين الممتلئة بالاستغراب والحيرة نحو نديم؛ فهي لم تستطع فهم ما يجول بخاطره ليتصرف بمثل هذه الحدة مع صديقه.

فجأة استمع الجميع إلى صوت إطلاق نار وساد الهرج والمرج بداخل الحديقة، رأى الجميع شخص يتخطى الحشود، فعلت الصدمة أوجه الجميع، كيف لشخص ما أن يُخرج سلاح في وسط حفل زفاف حفيد سليمان المنزلاوي؟!
صوب سلاحه تجاه نديم، وفور أن رأته روجين حتى تملكتها الصدمة وألجمت لسانها، ولكنها بعد لحظات قليلة همست بصوت منخفض يشوبه القلق قائلة:
-آدم!
أخذ آدم يوجه أنظاره نحو روجين بنظرات متفحصة تحمل العديد من المشاعر، غضب، اشتياق، حب، وخذلان، ثم وجه أنظاره نحو نديم وسرعان ما تحولت إلى نظرات حقد، وهو يهتف بصوت مرتفع:
-هو ده اللي ما كنتيش بتردي عليا بسببه يا روجين؟ ها ردي عليا، هو ده اللي ما رضتيش ترجعيلي بسببه؟ أنا بقى هخليكِ تعيشي طول عمرك فاكرة اليوم ده يا روجين، مش هتنسيه أبدًا.
هتف فاروق بصوت مرتفع قائلًا بغضب:
-فين الحرس ازاي سابوه يدخل كده!
أردف آدم ببرود:
-هدي نفسك يا فاروق بيه مفيش حرس، روحهم اتقبضت خلاص ومفيش هنا غير أنا وروجين ونديم وبس.
صوب سلاحه تجاه نديم مرة أخرى، ووجه أنظاره نحو روجين وكأنه يرجوها أن تترك نديم وتعود إليه، ولكنه حين رأى نظرات الخوف والقلق تنبعث من عينيها نحو نديم سرعان ما تحولت أنظاره إلى حقد وكره قائلًا:
-أنا هخليكِ تعيشي طول عمرك فاكرة اليوم ده ومش هتنسيه أبدًا مهما حاولتِ، دي هتبقى هديتي بمناسبة جوازكم.
سرعان ما وضع يده على الزناد لتنطلق منه رصاصة بسرعة عالية تشبه البرق؛ لتخترق هذا الجسد المنهك وتستقر بداخله، فيسقط أرضًا متألمًا، وعلامات الجزع تملأ أوجه الجميع.






استقرت الرصاصة بجسد يزيد المنزلاوي، لتفتك الآلام صدره بعد أن ألقى بجسده مسرعًا ليقف أمام نديم قبل أن تصبه الرصاصة، فوقع أرضًا متألمًا والتف الجميع حوله، نظر إليه يوسف وقد اغرورقت عيناه بالدموع، قائلًا وهو يجثو على ركبتيه بجانبه:
-ليه عملت كده يا يزيد؟ ليه؟ ما تسيبنيش أنتَ كمان.
أردف يزيد وهو يصارع الآلام التي تفتك بجسده الوهن، قائلًا بصوت متقطع:
-عشان أرتاح، عايز أرتاح، عايز أشوفها يا يوسف، وحشتني أوي.. نورهان وحشتني أوي.. ما بقتش قادر اعيش من غيرها.
فور أن أنهى حديثه غاب عن الوعي مغمضًا عينيه بسكينة وهدوء والبسمة المنهكة تعلو محياه، وكأنه أخيرًا وصل إلى مراده وسيلقاها.
أخذت كاميرات الصحافة بتصوير أكثر المشاهد إيلامًا لهذه العائلة، أخذوا تصوير يوسف وهو يجلس بجانب أخيه يبكي بانكسار كطفل صغير يخاف فقدان عائلته، نديم وهو يقف كالتائه وعينيه ممتلئة بالدموع، فاروق الذي لم يتحمل الصدمة ووقع أرضًا متألما حزنًا على فلذة كبده، وِقَّاص الذي شعر بأنه يفقد أخيه؛ فكان يزيد بالنسبة إليه أقرب شخص منذ أن سافر إياد أخاه الأكبر، زياد كان يقف وهو ينظر بانكسار ليزيد؛ فهو بالنسبة له كان صديقه الذي يخبره كل شيء، بينما تقف ناردين وهي تشعر بألم كل شخص؛ فهي ترى نظرات أخيها المنكسرة، ترى انكسار محبوبها يوسف كالطائر الجريح، لم تره بهذا الضعف منذ أن توفيت والدته، فجأة وقعت مغشيًا عليها وكأن عقلها وجسدها المنهك يرفضان البقاء في هذا العالم المؤلم، ركض نديم نحوها والقلق ينهش قلبه عليها، حملها برفق واتجه بها مسرعًا إلى السيارة من دون أن يره أحد، بينما يقف كريم كالتائه وهو يتذكر أكثر لحظاته انكسارًا؛ لحظات وداع أخته لحياتها أثناء خروج روحها من جسدها، مرض والدته ذات القلب الرقيق الذي لم يتحمل الشجن، والآن يرى هذه العائلة وهي تتحول إلى حطام.
أخذوا بتصوير سليمان المنزلاوي كبير هذه العائلة يقف كالتائه، ألا يكفي ما خسره منذ ثلاث سنوات! هل سيخسر الآن يزيد أيضًا؟ هل ستتحول هذه العائلة إلى حطام مرة أخرى؟ لأول مرة تظهر بعينيه نظرات الانكسار منذ وفاة زوجته.
روجين من اتهمت نفسها أنها سبب تدمير هذه العائلة والسبب في هذه الآلام كلها، وكيف دون ذلك وآدم هنا بسببها هي!
فجأة صرخ بهم يوسف بصوت مرتفع، متحشرج من البكاء قاطعًا أفكارهم المتداخلة:
-اطلبوا الإسعاف بسرعة، نديم اعمل حاجة، أنا مش عايز أخويا يروح مني، اطلبوا الإسعاف.
حاولت أسيل تخطي هذا الحشد المتجمع، وجثت على ركبتيها بجانب يوسف قائلة له بهدوء:
-لو سمحت حاول تهدى يا دكتور يوسف، أنا هحاول أعمله الإسعافات الأولية على ما الإسعاف توصل.
أخيرا وصلت الإسعاف وحملت يزيد متجهة به إلى المشفى، وبعد وقت قليل كانت السيارات متصافة بجانب بعضها بشكل عشوائي أمام المشفى.
ترجل نديم مسرعًا من سيارته حاملًا ناردين بين يديه متوجهًا إلى الطبيب ونظراته مليئة بالخوف، بعد لحظات قصيرة تم الانتهاء من فحصها بواسطة الطبيب ووضع لها بعض المحاليل الطبية، فتركها نديم بالغرفة وذهب ليطمئن على يوسف.
وجده يجلس أمام غرفة العمليات يبكي كالطفل التائه؛ فهو لا يعرف لمن يذهب، هل يذهب ليطمئن على والده أم ينتظر نجاة أخيه؟
وقفت صبا بجوار وِقَّاص تضمه وتحاول مساندته، وذهب نديم ليجلس بجوار يوسف واضعًا يده على كتفه قائلًا له بصوت صارع ليخرج هادئًا متزنًا بعض الشيء:
-خليك قوي يا يوسف، إن شاء الله هو هيقوم منها، خليك قوي عشان أبوك.
خرجت كلماته بصوت متهدج وهو يجاهد كي لا تنهمر عبراته:
-أنا مش عارف أستنى مين فيهم يا نديم، أبويا وأخويا بيروحوا من إيدي وأنا مش عارف أعمل حاجة.
-ما تقولش كده يا يوسف، خلي إيمانك بربنا كبير، إن شاء الله هيقوموا بالسلامة.
أخذ ينظر يوسف بعينيه باحثًا عن ناردين، وعندما لم يلمح طيفها سأله بقلق:
-فين ناردين يا نديم؟ اوعى يكون حصلها حاجة، هي كويسة صح؟
-ما تقلقش هي كويسة، هي بس ضغطها نزل شوية.
-نديم روحلها والنبي وخليك جنبها، طمني عليها أول ما تفوق.
تعجب قلقه الشديد وتلعثمه ولكنه لم يكترث بهذا فهذا ليس الوقت المناسب:
-طيب خلاص اهدى بس أنت وخليك هنا وأنا هروحلها، زياد مستني عند عمي ما تقلقش.
ذهب نديم متوجهًا إلى غرفة ناردين، وجدها بدأت تفتح مقلتيها، نظرت له متسائلة بوهن وهي تدور بعينيها في الغرفة:
-هو حصل إيه أنا إيه اللي جابني هنا؟
أجابها نديم بهدوء:
-مفيش حاجة إنتِ ضغطك بس نزل شوية لما المحلول يخلص هنروح.
بدأت هي بتذكر ما حدث وكأنه شريط يعاد مرة أخرى بذاكرتها وداخل رأسها، فقالت وهي تتحامل على آلامها محاولة النهوض:
-نديم والنبي أنا بقيت كويسة، أنا عايزة أروح أشوف يوسف، عشان خاطري عايزة أطمن على يزيد.
-طب استني بس يا حبيبتي شوية لما المحاليل تخلص.
أخذت دموعها تنهمر على وجنتيها قائلة له برجاء وهي تستند على ذراعيه:
-لأ والنبي يا نديم أنا لازم أروحله، هو هتلاقيه دلوقتي حاسس إنه لوحده ومحتاج حد جنبه.
وافق نديم على مضض، وأسندها إلى أن ذهبت عند يوسف، فجلست بجواره بهدوء.
قال نديم موجهًا حديثه إلى يوسف:
-ما تخليهاش تتحرك من هنا عشان ضغطها لسه واطي، أنا هروح أشوف عمو وأجي أطمنك.
أردف يوسف قائلًا بدوره:
-طيب ما تقلقش عليها بس طمني على بابا بسرعة.
فور أن ذهب نديم أمسكت ناردين يد يوسف بأنامل مرتعشة وهي تضغط على يده بخفة، وكأنها تخبره بوجودها إلى جانبه دائمًا، وهمست في أذنه بصوت منهك قليلًا:
-ما تقلقش عليهم، إن شاء الله هيقوموا بالسلامة ويبقوا كويسين.
-إن شاء الله، ادعيلهم يا ناردين.
احتضنته وهي تمرر يدها على خصلاته البنية، تحاول إخفاء دموعها، لأول مرة تراه بهذا الضعف والوهن.
كانت تقف روجين تتابع جميع أفراد هذه العائلة التي بدأت تتفكك وتصبح محطمة، هي تشعر أنها المسئولة عن كل هذا؛ فآدم ذهب إلى هناك بسببها هي، ويزيد بين الحياة والموت فلولا وجودها لما حدث ذلك، بدأت تدعي لهم ربها وترجوه أن يشفي يزيد بصوت منخفض للغاية، والدموع تتلألأ بداخل عينيها، وشعورها بالشجن يزداد داخلها.

بعد مرور أكثر من نصف ساعة عاد نديم إلى يوسف وعلى وجهه ابتسامة صغيرة يتخللها بعض القلق قائلًا:
-الحمد لله عمو قام بالسلامة هو بس هيبات يومين في المستشفى؛ لأنها كانت نوبة قلبية بس هو بقى كويس الحمد لله.
نظر له يوسف بامتنان وأعين دامعة متمتمًا:
-الحمد لله يارب.
قالت له ناردين بابتسامة هادئة:
-مش قولت لك إن شاء الله هيقوموا بالسلامة، أهو عمو بقى كويس وإن شاء الله يزيد هيبقى كويس هو كمان.
-إن شاء الله يا ناردين.
كان يقف سليمان يتابع هذا المشهد وهو يتصنع القوة والصلابة من خارجه فهو لابد أن يكون قويًا أمام أبناءه وأحفاده ويلبس ثوب الصلابة، لكن نديم كان يرى الانكسار بداخل عينيه فهو منذ أن مرضت عمته وهو يرى كل يوم هذا الانكسار والخيبة بداخل عينيه، وكأنه يتهم نفسه أنه السبب في وضع ابنته، وكأن تقصيره وإهماله هو من أوصلها إلى هذا الوضع، ذهب نديم وجلس بجانب جده.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي