اسيرة الصقر ٢

إييموو كمال`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-07-29ضع على الرف
  • 102.6K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

الجزء ٢
الفصل الأول



ستظل ساكن الفؤاد حبيبي، ولن يمحو حبگ بداخله مهما اذقتني مرارًا وظلمًا؛ فـ كيف للمحبوب التخلي عن عاشقه مهما تعذب بسبب حبه ؟!
احببتگ وأنا مسلوبة الإرادة؛ فـ أصبحت مع مرور الأيام أسيرة لعشقگ، مقيدة بحبال الهوى ولا أريد التحرر من حبگ، فقلبي يحثني اني سأكون في يوم تحت جناحك وضمتك ايها الصقر، و مهما فرقتنا الليالي حتمًا ستكون لي حبيبي !
انتظرگ في عالم أخر تلتقي فيه ارواحنا دون تقيد او حرمان.



مر الوقت وقلب الأب "عزيز" يتأكله القلق كمنشار الخشب حين يحفر ويتعمق حتى يصل لمبتغاه، لم يتحمل أكثر من ذلگ طرق باب ابنته بخفه، وحين لم يجد منها رد، فتح بابها بخفه ليريح قلبه عليها، وجدها مازالت نائمة ودموعها تسللت على وجنتيها، لفت نظرة ذلگ الدفتر الموضوع فوق جسدها، امسكه وقرأ مابداخله فقد سردت احزانها على طيات اوراقها متسائلة:

لماذا لم تشعر بما يكنه فؤادي لگ من عشق ؟!
لماذا لا تريدني في حياتگ؟ وانت بالنسبه لي كل حياتي وامالي !
هل مازلت في متاهتك الملبده بالغيوم؟
أجب ولا تتردد، كفى حيره وطول انتظار لتقرير المصير المحتوم بيننا، كن شجاعًا واتخذ قرارگ يامعذبي، القرار بيدگ وليس بهذه الصعوبه التي تحتلگ، بيني وبينگ خط رفيع، اتريد قطعه ام وصله؟
ضع يداگ مشبكة بين اناملي، اترگ العنان لاحتضانها، تمسگ بها ولا تتركها وسط الطريق بمفردها، اجعل من كلماتي لگ وردا تسير فوقها لتقربگ مني.
وأعلم ان ما اسرده لگ من حروف ماهي إلا نبضات قلبي المشتاقه لسماع اعترافگ بهوايا، وردگ سيجعلني أحيا من جديد على يداگ حبيبي، فقولها وكفى عناد وبعاد بيننا.
عود لي حبيبي، فالقلب اشتعل من نيران بعادگ.
فأصبح لا يدق؛ احتجاجاً على طول هجرانگ.
رضيت بظلمگ، ولكن ماذنب فؤادي؟ لماذا تركته يلفظ أخر انفاسه منادياً عليگ، وأنت لم تسمع مناجاتـــه؟
لقد مات إكلينيكياً، فهيا أسرع، واركض لتنعشه بكلمه واحده منك، فلما تبخل بها علي حبيبي..!!
ما اقساااه عذاب عندما اتخذت قرارگ بأختيارگ لها، وتركتني غارقة في هواگ، اصارع بحورگ وحدي وأنت لا تبالي لعذابي وحيرتي.

ادمعت عين أباها، وايقن للتو سر انطفاء وردته، وعذابها، طوى الدفتر ووضعه بجانبها، وربت على كفيها بحنان، فتحت مقلتيها، ضمها لاحضانه، ضعفت كل قواها وانهارت في بكاء مستمر لا ينقطع، تركها تخرج مافي جوفها، اشتد في عناقها كلما زاد سماع شهقاتها، وحين هدأت اخرجها ونظر لها قائلا:

- اهدي ياغالية، للدرجة دي بتحبيه ؟!
لم تنصدم ولا تتعجب من سؤاله؛ فوالدها اقرب إنسان لقلبها، فهو بالنسبه لها الام، الأب، والصديق كل شيء، شعر بها دون أن تتحدث او تتفوه بحرف، اكتفت بنحدار أمطار دموعها، تفهم حالتها، وقالت بوجع:

- غصب عني حبيته، وهو قلبه مال في حتة تانية، والنهارده هيخطبها.

جفف ادمعها بحنان، وتبسم في وجهها وقال بهدوء:

- يبقى ميستهلش دمعه واحده تنزل من عيونگ، لازم تتاكدي انگ غالية اوووي، ولازم تكوني غالية عند اللي يحبگ، أنا مسمتكيش غالية من فراغ، يابنتي لما والدتگ اتوفت و هي بتولدگ، سميتگ بالاسم ده عشان تفضلي طول عمرگ غالية عندي وعند كل واحد يحبگ.
إحنا طول عمرنا أصحاب، ومش بنخبي على بعض حاجة، كنت حاسس بيكِ طول الوقت، ومن كلامگ عنه باستمرار، عرفته من غير ماتقولي، دكتور صقر مش كده؟

اومأت رأسها وهزتها مأكده، لم تكذب او تنكر هذه الحقيقة الظاهرة والواضحه كالشمس، خجلت منه فتبسم وقال:

- بلاش تخجلي من حبگ يابنتي، الحب أعظم حاجة في الدنيا، بس لما يكون بين طرفين، مش من طرف واحد بيدي وبياخد ذل ومهانه، لا ياغالية أنا ربيتگ طول عمرگ انگ تكوني دايما عزيزة النفس غالية، ومفيش حاجة تهزگ، ارمي اي شيء يذلگ ويقلل منگ، وربنا هيعوضگ باللي يعرف قيمتگ ويقدرگ.
ودلوقتي عايزگ تقومي وترمي كل حاجة ورا ظهرگ، وتراجعي رسالتگ وتركزي فيها، افصلي حزنگ وانتبهي لتحقيق حلمگ، عايزگ بكرة صوتگ يكون مجلل في القاعة، ومفيش سؤال متجاوبيش عليه، ارفعي راسي زي ما دايما رافعاها ياحبيبتي.

ارتمت داخل موطنها وقبلته بحب وقالت بوعد:

- اوعدگ يابابا بكره هرفع راسگ واشرفگ، ومتقلقش أنا مذاكره كويس متقلقش عليا.
- عفارم عليكي، هي دي بنتي حبيبتي.
ممكن بقى تقوم روح قلب ابوها تاكل معايا لحسن عصافير بطني بتصرخ، يرضيكي كده؟ واه صاحبتگ رحمه اتصلت وقولتلها انگ نايمه.

ابتسمت بحزن على حنان والدها الذي يغمرها به منذ مولدها، فهو كان نعم السند والظهر لها، هون بكلماته البسيطة نزيف فؤادها، وعرف كيف تكون حروفة بلسمًا يطيب خاطرها ولو مؤقتًا.



وصلا "صقر" ووالدته إلى منزل "نوران" فقد كان في منطقة راقية، طرق الباب، فتحت له والسعادة مرسومه على محياها، فقد كانت مثل اميرات الروايات، في قمة جمالها واناقتها، وكانت ايضًا في استقبالها والدتها التي لا تقل عنها اناقة برغم كبر عمرها، ورحبوا بهما بشدة، ودخلوا جميعًا وجلسوا يتحاورون، لفت نظر "نوران" لون البذلة التي يرتديها، ولم تنال إعجابها، كما تعجبت بشدة من مظهر والدته، وارتداءها عباءة، لا تنكر بأنها كانت في قمة الاناقة، لكن لم تتوقع ان والدته بهذا الشكل، حدقتهما بنظرات ضيق، خصوصا عندما تحدثت موجهه حديثها لابنها قائلة:

- ماشاء الله ياضنايا عروستگ زي القمر تتهنى بيها يارب.

تبسمت لها بمجاملة، ثم اكملت حديثها موجه اياه لوالدتها التي كانت تجلس واضعه ساق فوق الاخرى:

- والله إحنا يشرفنا ناخد الدكتورة لابني حبيبي الدكتور صقر.
- الشرف لينا ياهانم، دكتور صقر شرف لاي بنت ترتبط بيه.

قالتها والدتها بتعالي وعجرفة كاذبه، ابتلعتها والدته ورد بحب:

- إحنا بقينا أهل، وقوليلي يا ام صقر، اية هانم دي؟

كان حوارها يستفز الجالسه التي لا تصدق نفسها ان حماتها هكذا، نهضت تستعجل الخادمة لتجهيز المشروبات، وحين وصلت للمطبخ نادت على والدتها لتأتي إليها والخادمه تقدمت لتضع المشروبات والكعكه امامهم، لم يغفى على "صقر" نظرات الغضب التي تعتلي وجهها، والضيق الذي وضح عندما تحدثت مع والدتها، لكنه ظل صامت متحكم في رد فعله حتى توضح الرؤية كامله له، ابتسم لوالدته بحب، سمع رنين هاتفه، فرد وجده صديقة فأجاب:

- أيوة ياجاسر أنت فين؟ بتقول أية مش سامعگ كويس، طب انت سامعني؟
استنى اتحرگ يمكن الشبكه مش حلوه هنا.

تحرگ ليكون بالقرب من نافذة.

حين دلفت والدتها "سوسن" إليها قالت بغضب :

- شوفتي يا ماما النسب اللي كنت بحلم بيه، واخطط كل ده عشان اوصله، أنا الدكتورة نوران حماتي تكون بالشكل ده، وتتكلم بالطريقة البلدي دي؟ مش قادرة أصدق، ولا شوفتي لابسه اية؟ عباية ياماما، يعني هتحضر فرحي اللي هيكون في ٥ نجوم بعباية، لا كتير عليا كل ده؟
- اهدي بس يانوران، الناس في بيتنا، وطي صوتگ حد يسمعگ، هي اه بلدي شويتين، بس شكلها طيب، مش هتسببلك مضايقة، وكمان متنكريش العباية في منتهى الشياكة.
- شياكة اية بس، في الاخر اسمها عباية.
مظهري وشكلي قدام اصحابي اقولهم ازاي دي ام جوزي، ولا لون البدله اللي البيه جي يخطبني بيها، حاجة كده تقرف، كويس أننا مقولناش لعمامي تحضر، كان شكلنا هيبقى مسخرة قدامهم.

كادت والدتها ان ترد لولا إنها لمحت "صقر" واقفًا خلف ابنتها، وهنا وقفا الاثنان والصدمة تعتلي وجههما حيث لمحا نظرات الغضب والشرار يتطاير من وهج عيناه، فـ عند الاقتراب من والدته يحرق الأرض ومن عليها، صاح بصوت جهور اهتز له جدران قلبها من شدة رعده قائل:

- امي اللي مش عجباكي دي؛ ضفرها برقبتگ، واشلها تاج على راسي العمر كله.. بساطتها اللي بتتريقي عليها؛ ده سر صمودها في الحياة، وحب الناس ليها.. انتي متعرفيش عني حاجة للاسف؟
مشفتنيش من سنين فاتت كان حالي ايه؟ وإزاي بفضل الست اللي جوة دي وشقاها وصلت للي واقف قدامگ ده، وجريگ وراه ومحصارته عشان يتجوزگ وتشيلي اسمه، بس الحمدلله ظهرتي على حقيقتگ اللي كنت بكدب نفسي واقول هتتغير، بس اظاهر ان اللي فيه طبع عمره ما هيتغير، وهتفضلي طول عمرگ تجري ورا المظاهر الكدابه.
- ياصقر افهمني بس، أنا مش قصدي، أنا بس....
قاطع حديثها بنظره صقرية نارية، مع رفع يده اليمنى مشيرا لتوقفها عن الحديث معه، ليكمل قوله:

- خلاص يا نوران مفيش كلام بينا ممكن يتقال، واه البدلة اللي من وقت ماشوفتيني وتلميحاتگ انها مش عجباكي، هي عندي اجمل بدله، عارفه ليه؟ عشان امي هي اللي جابتها.

كانت واقفه لا تستطيع التفوه بأي كلام، تخشى ثورته الهائجة، رمقها باحتقار، واولاها ظهره وتقدم نحو والدته وقبل رأسها ثم كف يدها الخشن الذي اصابه التجاعيد من كثر الشقى والتعب، وقال لها بكل حب واحترام:

- آسف يا أمي أني جبتگ في المكان الغلط، وميشرفنيش أننا نستمر فيه اكتر من كده.

اقتربت منه وحاولت لمس يداه، وبنبره باكية قالت:

- لا متمشيش وتسبني وأنت زعلان، أنا آسفه بجد، وآسفه للست الوالده.

صاح بنفس ثورته التي لم يهدأ بركانها، وقال بحده :

- اسفگ مفروض يا دكتورة، وحتى لو والدتي سامحتگ، أنا مش هسامحگ يا نوران، يالا يا أمي أنا مخنوق هنا.
- ماخلاص ياصقر، هي اعتذرت مش معقول هتكبر الموقف كده؟

قالتها والدتها بكبر لم يراه من قبل، شعر انها وضعت البنزين على النار، فزدادت اشتعالا فقترب من "نوران" وامسگ برسغها بقوه وقال:

- الموضوع كبر فوق ما تتخيلي، ومن اللحظة دي مش عايز اشوف وشگ تاني لا في المستشفى ولا في أي مكان، خلصت لحد كده يادكتورة.

واخذ والدته التي كانت تتعجب ومصدومه من كل ماحدث، تحت جناحه ضاممها بكل حنان وانصرف من هذا المكان، كان غير منتبه للخط المفتوح بينه وبين صديقه، حين مد يده في جيب بذلته ليأخذ مفاتيح سيارته، امسكه و وجده اغلقه ولا يعلم ماذا سمع من حوار، ظلت "رضا" صامته فهي تعلم جيدًا ان صقرها حين يثور تكون امواجه عاتية، حاولت تهدأه بالحديث ربتت على كفه، ظنت انه حزين على عدم اتمام الخطبه، ولا تعلم أنه بداخله سعيد بارادة ربنا، لكن مايحزنه حقًا هو تعاديهما في حق أمه، الذي لن يتهاون فيه اي كان من هو، ابتسم لها وقال:

- متزعليش نفسگ يا أمي، الحمدلله ان ربنا كشفها قبل ما كنت ارتبطت بيها.
- أنا اللي آسفه ياضنايا، يارتي ماجيت، كان لازم اعرف انگ كبير واني يعني مش اد..

اوقف السيارة مرة واحدة ليقطع حديثها وقال بزعل:

- أوعى تكمليها ياست الكل، أنا ايش اكون من غير،
انتي اللي عملتي صقر و وصليته للمكانه دي، بفضل سهرگ الليالي، وظهرگ اللي انحنى في الخدمه، وايديگ اللي اتشققت من كتر الشقا والتعب، أنا لو هفضل اشكرگ واخدمگ العمر كله مش هيكفي، ربنا يباركلي فيكِ يارب.
- ياضنايا انا معملتش غير الواجب، اللي فرض و واجب على كل أم بتحب اولادها، أنت نعمه ربنا وهبني بيها، واحسن تربتها، انت عمرگ ما تعبتني، كنت نعم الابن البار بيا، وواثقة في عشم ربنا أنه هيرزقگ بأحسن منها، وهتكون عندگ غالية زي ما أنت غالي عندي.

تهلل وجه ونسى ماحدث منذ قليل بمجرد ذكر اسمها، لا يعلم لماذا والدته تذكر حروف اسمها في حديثها كأنها بكل سلاسه تذكره بأنها ستكون غاليته التي كتبت له.



كانت "نوران" تبكي على ضياع حلمها وكيف ستواجهه مرة أخرى، فقد انهى مابينهم في لحظة غضب، جلست والدتها وقالت:

- بتعيطي ليه دلوقتي، خلاص اللي حصل حصل، ليه محسساني أنگ كنتِ دايبه فيه، ده كان يادوب اعجاب، وعريس لقطة مناسب، وبيني وبينگ كويس ان الموضوع اتفشكل، اصل بصراحة مش ده النسب اللي يشرف.
بكره تلاقي دكتور اغنى منه ومن عيلة، بس انتي دوري كويس المرة الجاية، امسحي دموعگ ياخيبه، هو في حد في جمالگ وشياكتگ.

جففت قطرات دموعها، ونهضت بكل كبرياء ظننًا انه هو من خسرها وليس هي من خسرت رجلا بمعنى الكلمه، وقالت:

- ايوة عندگ حق يا مامي، أنا الف يستهلني، مش هتقف على صقر، وبكره اعمل اتصالاتي واشتغل في احسن مستشفى.
- هو ده عين العقل، ادخلي بقى انفي خبر ارتباطگ على صفحتگ، من غير ماتبيني اي اسباب، متوقفيش حالگ ياحبيبتي.
- صح يامامي عندگ حق، ده التهاني عليا كتير اوي، هدخل اعمل تعديل واقول"قدر الله وماشاء فعل، وكل شيء قسمة ونصيب" اية رأيگ؟
- حلو اوي، واللي يسألگ قولي محصلش نصيب وبس.

اومأت بالموافقه وذهبت لتنفذ ما قالت، وما ان انتهت، وكم هائل من التعليقات تلقتها، وكان نفس الرد منها، وجدت من حزن، ومن قال أنه الخسران، ومن سعد لانه طامع في التقرب منها، وكان من بينهم" جاسر" يقرأ ويتابع في صمت، تأكد ان سبب ثوران صديقة عدم الاتفاق، فهو حين سمع صراخه معها أغلق الهاتف، فلم يحب ان يستمع لشيء خاص بصديقه، خصوصًا انه احس انه غفل انه ما زال معه على الخط.
شعوره متضارب ينتابه، أيحمد ربه على عدم اتمام هذه الخطبه، ام يجدد الامل داخله أن يقترب منها وينتشلها من حالة الضياع وحب المظاهر الخادعة، لكنه بعد طول تفكير علم ماذا سيفعل.



وصل لمنزله توجه فورًا لغرفته، كانت "قوت" في استقبالهما لتهنئه، لمحت حزن "رضا" وعدم حديث "صقر" معها، اقتربت منها وسألتها، قصت لها ماحدث، صكت بيدها على صدرها تأثرًا لما سمعت، ثم دعت الله أن يرزقه بأفضل منها، آمنت والدته على دعاءها، ثم صعدت الدرج لتصلي وتدعي لابنها بالهناء.

اغمض "صقر" عيناه مدعي النوم، يترجاه ان يأتي، لكنه كان في لوم وعتاب مع عقله، فقد أعلن عليه المحاكمه، كيف له ان يخذله هذه المره؟ فهو سمع حديثه لكنه خدعه في الإختيار، تأكد حينها أن قلبه هو المحق، هو الاصح وكان عليه أن يمشي خلفه؛ فدقاته وخفقانه لها يأكد أنه يريدها، كل شيء يأكد ذلگ، لكنه مازال غير ميقن لهذه الحقيقة.
استمر على حالته حتى سماع صوت أذان الحق معلنًا عن صلاة الفجر، فنهض ليتوضأ ويتوجهه للمولى داعيًا له أن ييسر أمره ويلهمه الصواب.
انتهى من صلاته ودعاءه، وحاول النوم وغفى من شدة التفكير.
ومرت ساعات قليلة لتعلن العصافير عن بدأ رحلة جديدة في حياتها بهمه ونشاط، مذقذقة لتيقظ النائمين، استيقظ على صوت ذقذقتها من آلة التنبيه، نهض بتعب وتكاسل، ليذهب ليباشر عمله، القى الصباح على والدته، وذهب بعد رفضه لتناول طعام الفطور، مستلقيا سيارته، وبعد نصف ساعة وصل "صقر" لمكتبه جلس ينتظرها لتقدم فنجان قهوته المميز، دق الباب قال بدون تفكير:

- ادخلي ياغالية.
فتحت الباب "رحمه" ويبدو الإحراج على وجهها قائلة:

- آسفه يادكتور، معايا طلب أجازة مفتوحه للاخصائية غالية، وطالبه من حضرتك تمضيه.

قدمت له الورقة ووضعتها امامه على المكتب، نظر فيها وقال بانفعال:

- يعني أية اجازة مفتوحة، هي شغاله في طاحونه، ولا سوبر ماركت، دي مستشفى كبيره ومعتمدين على كفاءتها، وهي ليه مقدمتهاش بنفسها؟
- يادكتور هي اصلا النهاردة هتناقش الدكتوراه وأكيد بتجهز نفسها، هي كلمتني إمبارح وطلبت مني اقدمها لحضرتگ.
- ياريت تبلغيها أن طلبها مرفوض، وأن حضرتي هسمح باجازه النهاردة بس عشان المناقشة، ومن بكرة تكون قدامي بتباشر عملها، اتفضلي الكلام انتهى، وشوفي شغلگ.

قال حديثة بحده وصوت مرتفع غاضب، ابتلعت ريقها بصعوبه، ثم اخرجت الورقة الثانيه من جيب معطفها، وقدمتها له بيد مرتعشه، فهذه اول مره تخشاه وتخاف من منظره، سألها بحده:

- اي دي كمان؟

قالت بتوتر شديد:

- بلغتني إذا حضرتگ رفضت، اقدم استقالتها.

وعند اخر جملة وقف كالجبل ضاربًا بيده على المكتب صارخًا كالاعصار:

- دي كده اتجننت رسمي، وادي الورقة، اتقطعت بلغيها اني رفضت الاستقاله.

هزت رأسها وتحركت اولته ظهرها، تنهد وقال محاول تغير حدته التي تحولت لحنان وترجي:

- رحمه بلغيها أن موضوع متمش.

ابتسمت ولانت عضلات وجهها، وردت باختصار:

- عرفت يادكتور، دكتورة نوران نشرت الخبر على صفحتها، والكل عرف.

ابتسم بسخرية على "نوران" التي لا تضيع وقت وتعرف كيف تستغل أي شيء لمصلحتها، واطمئن قلبه أنه اتخذ القرار الصحيح، بينما "رحمه" فرت من امامه بسرعة، حاولت كثيرًا الاتصال بصديقتها؛ لكن دائمًا هاتفها مغلق، توجهت لمباشرة عملها وقررت ابلاغها حين تراها.



جلس في الصف الأخير حتى لاتراه، ويزيد ارتباكها، فقد أراد أن يملي عيناه منها في صمت، لم ينتبه لكم الأسئلة الفائق الذي يلقونه عليها، وهي ترد عليهما بكل ثقة وتركيز، كل الذي لفت انتباه هو ذبلان وجهها الحزين، لم تستطع اخفاءه المستحضرات التجميل البسيطه التي وضعتهما عليه، عيناها التي كانت تلمع حين تنظر إليه؛ انطفئ ضياءها، وتبدلت عسلية عيونها للحزن وسكن ثناياها، كانت تبدو متماسكة، لكنه شعر بما داخلها من ألم هو من تسبب فيه، سأل نفسه احقًا تحبه كل هذا الحب... !! وكيف له وهو خبيرًا في التعامل مع القلوب كان جاهلا لهذه الدرجة ؟! سمع همس "جاسر" يقول له:

- هتندم عمرگ كله لو ضيعتها من ايديگ؟

استفاق من حالته وانتبه لوجود صديقه بجانبه، ونظر له بتعجب، وصمت، فهز عيناه الاخر مأكد له كلامه، انتبها الاثنان على سماع لجنة المناقشة تعلن على حصولها درجة الدكتوراة بامتياز مع مرتبة الشرف، صفق جميع الحضور، لمح الفرحه المغتاله التي حاولت أن تتقمصها، لكنها فشلت، بكت ومن يرى تلگ الدموع يظن أنها دموع الفرح، لكنهم لن يعلموا انها دموع الحزن لعدم وجوده بجوارها، فهي لم تلمحه جالسًا يساندها ويقف بجوارها، لم تراه، حدثت روحهاوقالت: وكيف سيأتي وهو كان بخطبتها بارحه، مأكدا منعته من الحضور.
سارت بخطى بطيئه نحو اللجنة صافحتهم، واستلمت الشهادة، ثم جرت على احضان والدها الذي كانت فرحته بها تفوق الوصف، والبكاء ينهمر من عيناه، وما ان اخرجها، تهالت عليها التهاني من قبل جميع الحضور، صافحت صديقتها "رحمه" التي حاولت أن تبلغها بخبر عدم اتمام الخطبه لكنها فشلت في الحديث بسبب الزحام، كل هذا حدث على مرأى عيناه، وهو واقفًا بعيدًا يراها ويكتفي فقط بالنظر لها، تقدم منها أحد الدكاترة الذي كان من اعضاء اللجنة وتحدث معها في عرض عمل ان تمسگ منصب مديرة التمريض في المشفى الخاص بالإسكندرية، وطلب منها التفكير وان تأتي لزيارته هناگ وتشاهدها على أرض الواقع، قدم لها كارت به ارقام الهواتف الخاصة به، أخذته منه وابتسمت ابتسامة مجاملة،
كان "صقر" يستشيط غيظًا، عندما رآها تتحدث معه، ولا يعرف سر هذا الغليان الذي يحرقة، تحرگ وهم بالخروج من القاعة بكل غضب، هرول خلفه صديقه، نادى عليه فالتفتت إليه وحين حدقه؛ سعد لماشعر به، وتيقن انه يكابر بل يعاند روحه على الإعتراف بحبها، أو ربما لا يعلم انه عاشقًا لها، هز كتفه لينصت له:

- بدال ما أنت شايط كده وكنت هتحرقني جنبگ روح باركلها، واسألها عنه بدال ما تهرب وتمشي من القاعة كلها؟

قال بحده وغضب:

- وأنا مالي اسألها عنه ليه؟ يخصني اية أنا عشان أعرف، ما تكلم اللي تكلمه، وانا مالي، أنت غريب اوي، انا جيت بس عشان عزمتني، وعملت الواجب، وهروح اشوف شغلي.
- على بابا ياصقر، يابني قول الكلام ده لحد غيري، أنت مولع غيره ياصاحبي، اعترف بقى.
- اعترف بأية بس ياجاسر؟
- انگ مغرم صبابه، انگ دايب لحد النخاع في حبها، يا
راجل دي عينگ مش بتنزل من عليها مكان ماتكون، وقلبگ بسمع دقاته في وجودها، مش معقول كل ده ولسه مش عارف انگ بتحبها، الحب اية غير مشاعر بتتحرگ واحساسيس بتنشد أجمل لحن هما بس اللي بيغنوه، الحب توافق بين روحين بيكملوا بعض، حتى لو بينهم آلاف الأميال بتتلاقى وتتعانق ومفيش حاجة بتفرقهم عن بعض... الحب ياصقر أنگ بتتمنى تشوف حبيبگ قصاد عيونگ طول الوقت، ولما بغيب تحس ان روحگ غابت عن جسمگ، وفي حاجة نقصاگ.
أنا واثق ان كل اللي قولته ده أنت حاسس بيه، بلاش تضيعها من ايدگ، بص لحكمة ربنا أن متمش موضوعگ إمبارح، عشان شايل ليگ الحب الحقيقي.

كان "صقر" يفكر في كل حرف نطق به ثغر صديقه ويتذوقة بحلاوة لم يذقها من قبل، فهو حقًا يفهمه جيدًا وعرف كيف يحلل ويخرج ما في جوفه، تعجب أنه يفهمه اكثر منه، أهذا هو الحب الذي كان غافلا عن تفسيره !
احقًا يحبها كما يقول ؟!
لا بل أنه يعشقها، يشتاقها بشده، يراها امام عيونه ولا يشبع ولا يمل من النظر لمقلتيها التي تجعلاه يسبح داخل بحور حنانها، صوتها الهادي بمثابة انشودة حب تطرب آذناه، لمسة يداها حين تصافحة تطيب كل أوجاعه.
نعم انه اخيرًا تذوق طعم الحب على ملمس يداها، امسگ يداه "جاسر" لدلفا داخل القاعة لتهنئتها، لكنهما بحثا عنها في لم جدونها، اغتالت الفرحة على وجهه، وتبدلت لخيبة أمل وانصرفا متوجهان إلى عملهما.



وعندما وصلا "غالية" ووالدها إلى منزلهما، ارتمت على الاريكة، بكل ثقل همومها، صامته لا تتحدث تفكر فيما عرض عليها، وايضًا تفكر لماذا لم يأتي؟ وما رد فعله على طلب الاجازه؟ جلس بجوارها والدها وسألها:

- مالگ بتفكري في أية ياغالية أبوها؟
- محتارة اوي يابابا، ومش عارفه اخد قرار !!
- محتارة في اية بس؟ احكيلي يمكن نوصل لحل سوا؟

قصت عليه ماعرض عليها، وفرصة العمل المعروضة عليها، وحيرتها في ترگ مشفى "صقر"، واحساسها أنها تريد الرحيل مؤقتًا والبعد عن الجميع، تفهم شعورها وقال:

- أنا يعز عليا أنگ تبعدي عني ليوم واحد، بس معنديش مانع أنگ تروحي تشوفي المستشفى على الطبيعه وتاخدي قرارگ، المنصب الجديد كويس، وفرصة متتعوضش.

- أنت شايف كده يابابا؟
بس ليا طلب عندگ.
- انتي تأمري يانن عين بابا.
- محتاجة افضل هناگ كام يوم كده لوحدي، اراجع فيها كل اللي فات، واشوف هعمل اية في اللي جاي.
- بس مش هقدر علي بعادگ ياغالية.
- معلش يابابا، عشان خاطري، انا مش صغيرة لسه هتخاف عليا، واوعدگ هكلمگ واطمنگ عليا كل يوم.
- مادام مصممه براحتگ، اللي فيه راحتگ اعمليه ياغالية.

احتضنته وشكرته بشده، ثم نهضت لتجهز حقيبتها لتسافر غدًا.



كان وقت العمل يمر ببطئ سلحفاء صغيرة، مشتت التفكير، يشعر بالزهق والضيق، بحث عن رقم هاتفها، وحرگ انامله وضغط زر الإتصال، كل مايتمناه فقط هو سماع رنين صوتها؛ لكن كل اماله ضاعت حين وجد هاتفها خارج نطاق الخدمه، وضعه على المكتب بغضب.
نهض وترگ المشفى واستقل سيارته، وادارها وانطلق بأقصى سرعة، يسير بلا هدف؛ كأنه يهرب من كل عالمه، يريد أن يكون بمفرده، يصرخ في مكان واسع لا أحد يدري به ولا يسمع صراخه.



- لا أنا مقدرتش على تقلگ ده، مش كده، مش هتحن شوية على الغلبانه دي، أنت رجلگ اتقطعت من هنا مرة واحده من غير سبب، أية موحشكش رقص سونيا، ودلعها يابشبشتي؟
- ازاي تقولي كده بس؟ هو في رقص يعلى على رقصگ وهزگ ياموزه.
- خلاص هستناگ في اقرب وقت تيجي، احسن اشتقتلگ اوي.

كانت تتحدث بنبره ناعمه، ودلع كعادتها، لم تنتبه للذي أتى للتو متسائل:

- بتكلمي مين ياسونيا؟
اكملت سونيا حديثها، وشاورت بيدها له أن يصبر قائلة:

- ايوة يابلبل كنت بتقول أية مسمعتش، اااه، لا مش ممكن يابلبل اية اللي بتقوله ده؟ مستحيل طبعًا محروس يوافق، لا شوف حد غيري، أنا مقدرش اخالف اوامره، ده يدبحني، يالا سلام بقى.

اغلقت معه ممثله بمهارة عليه، وقف عيونه تحاول قراءتها، لكنه فشل امام الكبر والبجاحه التي لم يرى مثلها، فأحبت ان تطمئنه فقتربت وادارت يداها حول عنفه وعلى وجهها ابتسامة هاتفة:

- تصدق الواد بلبل عايزني اطلع رحله لاحياء كذا حفلة في دبي، بمبالغ خياليه، وأنت اهو سمعت ردي، مقدرش اخالف اوامرگ يامحروسي، ولا بفلوس الدنيا.
- شاطرة ياسونيا، وان كان على الفلوس هعوضگ بأكتر منها.
- تسلملي يامحروسي.
- طب مستهلش بقى احتفالية خاصة، وأحلى عشاء من اديكِ.

رنت ضحكاتها الرنانة وقبلته من ثغره، قبلة شغوفة، ثم تركته لتعد له العشاء على موسيقى الانغام الصاخبه.

دلفت المطبخ، امسكت هاتفها مسحت سجل المكالمات، ثم بدأت تعد الطعام.
كان محروس قرون الاستشعار الداخليه تهتز وتحسه بأن هناگ شيء مريب تخفيه عنه، عزم أن يتأكد ولا يتسرع، وإذا ثبت مايشعر به؛ سيذيقها من الوان الجحيم الوانًا لا تعد ولا تحصى.



كانت تمشي وهيئتها تغني عن وصفها، يشمئز منها كل من يراها، ويبتعد عنها في خوف، جلست بجوار أحدى الملاهي تنتظر أي من الزبائن تطلب منه بعض المال، طال انتظارها، وحين لمحت شخص يبدو عليه انه غير مصري، من هيئته وملبسه، يخرج وهو غير متزن من الثمل، فرحت ظننًا انه سيعطيها من المال ما يكفيها، ركضت نحوه تستعطفه، لكنه ازاحها بعيدًا عنه، اقتربت أكثر بجرئه والحاح، صرخ في وجهها عندما اقترب من سيارته قائل:

- ابعدي عني ياهذا، هتوسخي السيارة، افسحي بعيد.
- ارجوگ اديني اي حاجة عايزة اتعشى، اديني من فضل ربنا عليگ.

اقفل باب سيارته وامسكها من رسغها وقذفها بعيدًا، ولم ينتبه للسيارة التي تسير بسرعة فائقه فصدمتها و رمت بها على مسافة بعيده غارقة في دماءها، تحت ذهول نظرات هذا الرجل الذي كل ما فعله بأنه أدار سيارته وترگ المكان، تاركها تنزف دماءها على الأرض التي أبت ان ترتوي من دماءها، سمع النادي صوت السيارة وصراخ الراقدة فتصل بسيارة الإسعاف التي نقلتها لأقرب مشفى، مر وقت قليل وحملتها عربة الإسعاف ونقلتها بسرعة للمشفى، صاح الرجال لسوء الحالة دلفت بسرعة لغرفة العمليات، تم الإتصال "بصقر" نظرًا لسوء الحالة، الذي توجهه بسرعة ليلبي نداء عمله و واجبه، وصل سريعًا جهز نفسه ودلف لغرفة العلميات ليستكمل ما بدأ به الأطباء، وحين وقعت عيناه على الراقده فوق الفراش، وقف مصدومًا مما رأت عيناه، تسمرت قدماه وآبت على الحراگ.


يتبع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي