الفصل الثالث و الخمسون
الفصل الثالث والخمسون ..
__________________
لتردف ستيفاني بحزم :
- لا أريد الذهاب الي المستشفى ماما ،
عديني أنك لن تجعلينني أذهب ..
كان ذلك الوعد الذي لا تستطيع جينيفر القيام به ...
ستيفاني التي تمتاز بالفرح والاشراق ،
كان من النادر أن تبكي ..
لكن الليلة بكت ومن دون حدود ،
فهي لا تريد الذهاب الي
المستشفى وهي لا تريد أي عملية أخري ،
جينيفر تعلم جيدًا أن ابنتها خائفة من الألم ،
من الناس الذين لا تعرفهم والذين سيضعون آلات في مفاصلها لا تحبها ،
ضمت ستيفاني اليها بقوة وأغمضت عينيها ،
كانت تشعر بالألم في قلبها بسبب مخاوف ابنتها وألمها ....
وضعت رأس الفتاة علي الوسادة و وضعت " آبي " الحيوان الذي أحضره آريستيد لها ،
بين ذراعيها ولمست شعر ابنتها الناعم وأبعدته عن وجهها ، بعناية وحذر ..
ثم نهضت جينيفر عن السرير وانحنت لتطفئ المصباح ،
وعبر الظلام سمعت التوتر في صوت ستيفاني وهي تقول لها :
- هل تعتقدين أن أبي كان سيسمح بأن أذهب الي المستشفى ؟!
لم تجب جينيفر ، فهي لا تستطيع ،
لم تستطع أن تظهر الكلمات من خلال الدموع التي تجمعت في حلقها ، أو الثقل الكبير الذي تشعر به في صدرها الان ..
أغمضت عينيها وهمست بصوت باكي :
- نامي عزيزتي ، وسأراك في الصباح ..
وسارت الي خارج الغرفة ، بقلب ملتاع ودموع تسقط مدرارًا على وجنتيها دون توقف ..
كان الوقت تجاوز التاسعة والنصف لكن
جينيفر شعرت بأنها مرهقة للغاية ،
احتاجت لإرادة من حديد لتتمكن من ألا تنهمر دموعها وهي تستحم ،
ما أن انتهت حتي دخلت غرفة الجلوس لكن كلمات ستيفاني بقيت تدور في بالها ...
"هل تعتقدين أن أبي كان سيسمح لي بالذهاب الي المستشفى ؟! تلك الكلمات
تعذبها وترغب جينيفر في اعطاء أي شيء
لتبعد ستيفاني عن هذا الألم ،
وكانت لتأخذ ذلك الألم لو أنها تستطيع ،
كانت لتفعل أي شيء لتؤمن السعادة لطفلتها ،
و لتجعلها قوية آمنة ،
لقد فعلت كل ذلك بمفردها والآن ومن بين كل الأمور ،
ها هي ستيفاني تسأل ان كان
والدها سيفعل مثلها ام لا !
والدها .. الذي لم يأت مرة لرؤية طفلته الجميلة .
دخلت جينيفر الي المطبخ لتحضر كوبا من
الماء ، متمنية أن تتخلص من تلك الدموع ال تي علي وشك الانهمار ثانية ،
وبخطي بطيئة عادت الي غرفة الجلوس وهي غارقة في أفكارها ، لا يمكنها القاء اللوم علي ستيفاني علي مخاوفها من المجهول ، علي خوفها من الألم والإبر والمستشفيات ،
ولا تستطيع لومها لأنها سألت عن والدها ،
لكن جينيفر لا تعرف كيف تخبر ستيفاني أن والدها لن يجبرها علي اجراء العملية ،
لأن جوناثان لن يكون هناك
عندما تستيقظ من الجراحة ،
و عندما تسير أول خطواتها بمفردها ،
تماما كما لم يكن موجودا طوال السنين الخمس الماضية .. ظهرت في
مخيلتها صورة زوجها السابق ، وهي لم تفكر في جوناثان منذ وقت طويل ..
كانت تعمل علي تقديم الجزء الراقص في
مسرحية بروداي في أول مرة قابلته فيها ، بينما كان يعمل هو مصورا في الجريدة ، و خدمة لصديقه
كان يصور المسرحية ..
الانجذاب بينهما كان قويا ومتبادلا ،
قدمت دورها الصغير وأصبحت هي وجوناثان زوجان بسرعة
قصوي ، فقد كان جوناثان ملئ بالحيوية .
لديه شعر أسود وكذلك عينيه ، من السهل عليه ايجاد الأصدقاء .. لكن رغم الحياة التي
عاشتها معه فهو لم يتحدث مطلقا عن حياته ،
كانت تعلم أنه ولد وحيد وأن والديه توفيا منذ عدة سنوات بعد معاناتهما من المرض لسنوات عديدة ،
أحب جوناثان جينيفر ،
والي هذا اليوم هي تعلم أن هذا كان صحيحا ام لا ،
لكنها تعلم أيضا أنه كان هناك دائما جزءا منه مخفيا عنها .
أول اشارة أنه لا يستطيع تحمل رؤية الدماء ،
عرفتها جينيفر عندما كانت حامل ب ستيفاني ،
عندما أخبرها أنه لن يكون معها يوم الولادة ، تقبلت ذلك مع أنها لم تفهمه مطلقا ...
أتي لرؤيتها ورؤية ستيفاني عدة مرات في المستشفى وفي كل مرة كانت جينيفر تشعر بالقشعريرة حتي عظمها ،
وكأنه يطير بعيدا ..
بعيدا عن متناولهما ، لم يحمل ابنته ولا مرة مع أن جينيفر كانت متأكدة أنها رأت الحب في عينيه في أول مرة رأي فيها ابنتهما ..
آخر مرة رأته فيها عندما أتي الي غرفتها في المستشفى ليخبرها عن الفرصة التي كان بانتظارها طوال العمر ،
لديه عقد عمل مع مجلة مشهورة جدا ليسافر حول العالم وليصوره من كل الزوايا وقال انه سيسافر ..
ومن ثم ، و كما فعل والدها ، رحل ...
قال أنه سيبقي علي اتصال ، وبعد مرور سنة وصلت أوراق الطلاق ،
ومثل والدها تماما ..
لم يكن لديه القوة ليبقي ولا الرغبة في الحياة المستقرة ،
ومثل والدها كان واضحا أن جوناثان لم يحبها بما فيه الكفاية ،
لأنه لو كان يفعل ، لرجع اليها والي ستيفاني ..
عادت جينيفر من تأملاتها ببطء ووجدت
نفسها تحدق بكوب الماء ،
بكل الأحوال ما هو الأمر الجيد بشأن الرجال ؟!
بإمكان الرجال أن يجعلوا المرأة تضحك ،
وأن يجعلوها تشعر بأنها محبوبة وغالية ، ولسوء
الحظ بإمكانهم أيضا أن يحطموا قلبها بكل بساطة ،
ومرتان في الحياة أكثر من كفاية ...
لم تصدق يومًا أن هدف الرجال هو التباهي بقوتهم ،
فمعظم أطباء ستيفاني رائعون وهي
تعلم أن هناك العديد من الرجال الجيدين في هذا العالم ،
السيد أبراثي واحد منهم ، آريستيد أيضا واحد منهم ...
أتت الفكرة بصورة خاطفة ومع ذلك في
قلبها علمت أن ذلك صحيح ،
فآريستيد رجل جيد ، ماكر أحيانا ، و عنيد احيانا ،
و لكنه لطيف أيضا ،
مع أنها تشك أنه سيقدر هذا الوصف ..
لكنها لم ترغب بالتفكير في الرجال الليلة ..
لا تريد أن تفكر كم هي وحيدة ، و كم ستكون حياتها موحشة لما تبقي من عمرها في هذه اللحظة ..
كانت تفكر في اطفاء المصباح عندما
استقرت عيناها علي الساعة الموضوعة علي
المكتب ،
كانت الساعة العاشرة وسبع وأربعين دقيقة ،
أبعدت يدها عن زر المصباح وأدارت الراديو بدلا عن ذلك ووضعتها علي المحطة التي يعمل بها آريستيد ..
سمعت الصوت الساحر ..
" انها العاشرة وثماني وأربعين ، لقد طلبت طلبا غير عادي من صديقة غالية جدا علي "
أصغت جينيفر وهي تتساءل ما الذي يفكر به آريستيد في هذه اللحظة ..
لتجده يردف ..
" الأغنية التالية لامرأة مميزة جدا بالنسبة لي "
بقيت جينيفر جامدة تماما ،
لم يعد صوت مقدم الأغاني يصل اليها عبر الهواء ،
لقد كان هناك صوت آخر ،
صوت الرجل الوحيد الذي لديه القدرة للتأثير عليها هكذا .....
انه آريستيد .. ولا أحد غيره ..
" أصغي ومن ثم أنظري الي الليل "
أصغت جينيفر وهي تترنم داخل الغرفة الهادئة ،
شعرت جينيفر بعينيها تغمضان ،
وشعرت بنفسها تترنح مع الموسيقي ،
و وقفت في الغرفة الخافتة الضوء ، تصغي الي كلمات
أغنية الحب القديمة ،
أحنت رأسها وشعرت بقلبها يضطرب حتي سمعت آخر سطر من الأغنية .. اذا ، يا عزيزتي ، اتركي الرقصة الأخيرة لي ..
الطلب ذكرها ب جوناثان ودموع ستيفاني ،
كان كل ذلك كثيرا عليها ، لم تشعر يوما أنها وحيدة هكذا ،
و بأن روحها قلقة و معزولة ،
ليس عندما غادر والدها ولا حتي عندما رحل جوناثان .
في منتصف الأغنية التالية أقفلت جهاز الراديو ببطء واستدارت ..
" أصغي ومن ثم انظري الي الليل "
كانت تلك هي الكلمات بالتحديد التي استعملها آريستيد ..
لم تعلم لما استعمل تلك الكلمات ؟ و لماذا أرسل لها تلك الهدايا ؟!
ولماذا أصر عليها بسماع تلك الأغنية الخاصة ؟!
وهو يعلم أنها لا ترقص ، و مهما كانت أسبابه تمنت لو أنه لم
يفعل ..
لأن سماعها لتلك الأغنية الليلة ذكرها بالأحلام القديمة التي كانت تراودها ..
لم تكن ترغب في السماع ، و لم ترغب أن تنظر الي الفراغ و الظلام ،
لكن جينيفر سارت الي النافذة ، و وجدت نفسها تفعل تماما مثل ما قال لها ،
لكن الليل لم يكن فارغا ، آريستيد كان يحدق بها من دون حراك ..
ثم استقام وسار عبر الرصيف ...
فتحت الباب قبل أن يقرع ، لم يعرف آريستيد ماذا سيفعل ..
دخل الي الغرفة وأغلق الباب وراءه بسبب هواء الليل البارد ..
حدقت به من دون أن تتراجع و هي تقول :
- لماذا يا آريستيد ؟!
لم يكن متأكدا عما تسأله ، لماذا هو هنا ؟
أم لماذا قدم لها الاهداء وأرسل تلك الأغنية ..
أو أنها تسأل لماذا بسبب أمور أعمق بكثير ؟
سألها :
- ما الأمر؟!
لم يرها آريستيد يوما هكذا ،
كانت تبدو متوترة جدا وكتفيها مشدودين ،
كان خائفا ان لمسها أن تتفتت وتتناثر ..
لم تجبه علي سؤاله لكنها تحركت أخيرا وهي تتنفس بعمق
فكرر :
- جيني ، ما الأمر ؟ ما السبب لكل هذا القلق ؟ هل السبب سماعك للأغنية ؟
رفعت عينيها اليه ، ومن ثم أخفضتهما ، و قالت :
- لا .. ليست الأغنية ، انها ستيف ..
تساءل آريستيد ان أدركت أنها نادت ابنتها باسمها المصغر اما لا ؟!
لم يعلق على الامر وسألها :
- ماذا عنها ؟!
قالت له وهي تحاول اأن تسيطر على دموعها :
- لا تريد الذهاب الي المستشفى ، و لا تريد اجراء العملية ، أرادت أن تعرف ان كان والدها سيرضي بإجراء عملية لها ام لا ..
شعر آريستيد بعينيه يضيقان وأوقفت كلماتها
حركته ،
ذكر الجراحة والمستشفى لديهما هذا التأثير عليه ، لكنه لا يشعر بالقلق و التوتر علي نفسه الأن ،
انه يشعر به نحو جينيفر ..
تبا ،هذا شعور جديد عليه ، لم يكن متأكدا أنه راض عن الاحساس القوي في صدره ،
لكنه كان متأكدا أنه غير راضي عن الأسي الظاهر في عيني جينيفر ..
أسبابه ليسمعها تلك الأغنية بسيطة جدا ،
كان يريدها أن تفكر به ، وأن تريده كما يريدها ، وأسبابه للقدوم الي هنا بذات البساطة ...
هو يريد أن يراها وأن يكون قريبا منها .
لكن لم تسر الأمور كما خطط لها ، لم تكن
جينيفر مرمية بين ذراعيه ،
حتي أنها لم تفكر به مطلقا ،
فهي تبدو كامرأة ستفعل ما
بوسعها لإبعاد أي رجل عنها ، و آريستيد سيساعدها على التخلص من مخاوفها ...
نزع معطفه ورمي به علي الكرسي ، قبل أن
يجلس علي ال صوفا ،
مد ساقيه ورتب بنطاله ومن ثم نظر الي جينيفر ليري ان كانت تعترض ، لكنه لم يدعها توقفه أو تمنعه ...
أخيرا قال وهو ينظر اليها :
- أتمانعين ان جلست ؟!
عقدت جينيفر ذراعيها علي صدرها ونظرت بإمعان الي الرجل الذي يجلس براحة علي مقعدها ،
كان شعره الأشقر أشعث بسبب الريح وبحاجة الي ترتيب ،
لن تكن متأكدة لما طلب منها سماع تلك الأغنية ،
ولماذا توقف قرب منزلها هذه الليلة بالذات ؟!
لكنه هنا ، وحضوره يريحها بطريقة لم تكن متوقعة ...
سألها :
- ما الأمر؟ ما الذي يزعجك ؟
استمرت في تمرير يدها فوق قماش الروب وقالت :
- ماذا اذا كنت أقوم بعمل خاطئ ؟ اذا لم تكن العملية الجراحية ناجحة ،
فعلي ستيفاني أن تمر بكل ذلك الألم من أجل لا شيء ..
أخيرا رفعت عينيها اليه والتعبير الواضح في عينيه جعلها غير قادرة عن ابعاد نظرها عنه ..
قال لها بثقة :
- من النادر أن يكون الألم بلا نتيجة ،
وكل شخص يعاني منه ، و يشعر به و في نهاية الأمر كل شخص يتخطاه ..
علمت جينيفر ومن خلال تجربتها ، أن هذا غير صحيح ،
فهناك بعض الألم الذي لا ينسي مطلقا ..
كيف يمكن أن تشرح ذلك ل آريستيد ،
هذا العازب الذي يعيش حياة سهلة و سعيدة ؟
سألها :
- ما هو الأمر الأكثر صعوبة لتعيشي معه ..
أن تفشل عملية ستيف وأنت تعلمين أنك قمت بكل ما لديك من قوة لمساعدتها ،
أو حمايتها من الألم وأنت تعلمين أن هناك فرصة لها لتسير ؟!
ضيقت عينيها وهي تقول له بانبهار بان في نظرتها :
- بالنسبة لرجل يدعي أن لا يعرف شيئا عن الأطفال ،
أنت حقا تدرك تماما ما الأفضل لهم ..
رفع يده قائلا :
- أنا مجرد شاهد برئ ..
ثم تحركت عضلة في وجهه وبعد لحظة تابع :
- لقد رأيت اكزاني تقع علي الدرج الأسبوع الماضي ،
وأنت تعلمين كم تحب لورين المنازل مع كثير من
الدرج بداخلها ،
ولكن بسبب سقوط اكزاني كانت مستعدة لتغيير هندسة المنزل كله من الداخل في البيت الذي ينويان بناؤه ،
سقطت الطفلة علي ثلاث أو أربع درجات وبكت بقدر ما تستطيع ، ثم قفزت وعادت الي اللعب مرة ثانية ..
ثم اضاف بحزن :
- انا لم اعش مثل هذه الاشياء مع ولدي ، لقد جاءني وهو فتى ناضج في ور المراهقة ، لذلك لم اجد غضاضة او تعب في الخوف عليه ، فقد اتخذته صديقا لي وانتهى الامر ..
صوته الناعم أثر علي أعصابها المشدودة لكنه لم ينزع القلق الشديد من أعماقها وهي تقول له :
- ما تريد قوله أن الأطفال أقوياء حقا ..
قال لها بثقة :
- أكثر قوة من الوالدين علي ما أعتقد ..
سألته باهتمام :
- وخطة دريك و لورين للبناء ؟!
اجابها بابتسامة :
- مازالت معلقة في الهواء ..
هكذا تشعر جينيفر ،
كأن حياتها معلقة في الهواء ..
ولأول مرة أدركت أنها كانت تعيش هكذا لأكثر من خمس سنوات ، منذ ولادة ستيفاني ورحيل جوناثان .
سألها باهتمام :
- و ما الذي قلته ل ستيف عندما سألتك اذا كان والدها سيسمح لها بإجراء الجراحة ؟!
رفعت كتفيها وهي تردد :
- لم أقل شيئا ، لم أستطع أن أتكلم ..
فهي لا تستطيع الكلام عن زوجها السابق حتي بعد كل تلك السنين ؟!
و آريستيد لم يشعر بالرضا بسبب ذلك ...
لم يعجبه ذلك مطلقا ، لقد وقع في غرامها ،
و هو يريد أن تبادله ذلك الحب ،
لقد أعطي المسألة الكثير من التفكير وأمضي كل
ساعات يقظته يخطط للحظة التي ستدرك فيها جينيفر أنه هو من الذي تريده ..
يعلم آريستيد أن الرقص يحتاج لشخصين ،
و يعلم أنها أقسمت أنها لا ترقص ولكنه اعتقد أنها لا ترقص بسبب ستيفاني ، أما الآن ... لم يعد متأكدا ...
انحني الي الأمام وأمسك بكرسيها ، و قال بصوت هامس :
- ما الذي ستقولينه ان أخبرتك بأنني أحبك ؟!
شعر بالدماء تتدفق الي رأسه وهو ينتظر
جوابها ،
لقد خطط لكل شيء لكنه لم يخطط ليقول لها أنه يحبها ،
علي الأقل ليس الآن ،
بعد أن قال تلك الكلمات لا يستطيع استعادتها .
- سأقول لا تخلط الحب بالوحدة ..
لم يكن ذلك ما أمل أنه سيسمعه ،
لكن هذا ما جعله يتوقف ليفكر ... حياته المليئة ، عمله ، والديه و ابناء عمه ، و أصدقاؤه ، و يشعر بالوحدة ؟!
نعم .. اعتقد أنه يشعر بالوحدة فقط من أجلها ...
سألها وهو يمسك بذراعها :
- هل أنت وحيدة ، جيني ؟
اقتربت منه فشعر بمزيد من الشوق اليها ،
مالت برأسها الي جهة واحدة وشعرت بلطافة هذا الرجل
فقالت :
أنت حقا لطيف ، هل تعلم ذلك ؟!
ابتسم باستغراب ، قال لها أنه يحبها وقالت له أنه لطيف ،
الأطفال لطفاء ، الهرر لطيفة ، الرجال أقوياء مثيرون .
- ان أردت الصراحة جيني ، أنت تبدين كعمتي ميلي ،
و هي دائما تقول ذلك بصوت كاف ليحطم الحواجز ..
- أنت تقصد أنك لم ترث صوتك المثير منها ؟!
همس لها :
- أنت تعتقدين أن صوتي مثير ؟!
قالت له بخجل :
- أنت تعلم جيدا أن صوتك رائع ، أخبرني
المزيد عن عائلتك ..
آخر شيء كان آريستيد يحب القيام به هو التحدث عن عائلته ،
لا .. هذا غير صحيح .. آخر شيء يحب القيام به هو أن يغادر ، التحدث عن عائلته ليس بالأمر السيئ .
سأل أخيرا :
- ماذا تريدين أن تعرفي عنهم ؟!
رفعت كتفيها قائلة :
- آه .. لا أعلم ، قالت لي لورين أن لدي دريك الكثير من الأقارب ، أنا لدي ستيفاني بالطبع ،
لكن كل أقاربي الباقيين هم ، أمي التي تعيش في فلوريدا ،
و ابن عم في تكساس ، وعمتين في فيرمونت ..
كلهم بعيدين عني ..
ما هو الشعور أن تكون محاطا بعدد كبير من أفراد عائلتك في بلد واحدة ؟!
تراجع آريستيد الي الوراء قليلا ،
لكنه لم يبعد يديه عن كرسيها ،
لم يفكر من قبل بذلك ، فقال لها بتفكر :
- في معظم الأحيان ... الكثير من الضجة و الصخب ..
ردت بدهشة :
- الضجة ؟!
ابتسم وهو يقول لها :
- صحيح ، كل شخص يتكلم مع الآخر في وقت واحد ، أمي كانت الابنة الوحيدة لعائلتها ،
لكن لدي أبي ثلاثة أخوة وثلاث شقيقات ،
وجميعهم متزوجون وأنجبوا العديد من الأولاد وهكذا ، لدي الكثير من أبناء وبنات العم ..
قالت له :
- اذا لديك عائلة كبيرة ومليئة
بالصخب ..
قال لها :
- لقد التقيت ببعض منهم في زفاف لورين و دريك ،
هل تذكرين العم مارتن ؟!
قالت له بضحكة :
- الرجل الذي ناداني كلارا ، أري أن تصغير الأسماء أمر متوارث في العائلة ..
ابتسم لها وهو يقول :
- أنني أشعر بالامتنان أن العمة ميلي تزوجت من داخل العائلة ،
لا فكرة لديك أي احساس بالراحة لدي لأنني أعرف أنني لن أقلق أن أطفالي سيرثون أي
صفات منها ..
قالت له وهي تنظر لساعتها :
- لقد تأخر الوقت ..
تأفف قائلًا :
- أنت تقولين ذلك دائما جيني ، قد يكون الوقت متأخرا لكنني لا أريد المغادرة ..
قالت له بثبات :
- اعتقدت أنك فهمت أن كل ما يمكن أن يجمعنا هي الصداقة ..
ثم وضعت قدميها علي الأرض ووقفت وهي تقول له :
- ليس لدي ما أقدمه لك ، لا شيء ، وأنا لا أريد أن أستغلك ..
أراد آريستيد أن يخبرها أنها مخطئة ، وأن هناك أشياء كثيرة تستطيع تقديمها له ، وأشياء تستطيع أخذها منه ،
وهو لا يمانع في العطاء ما دام هما الاثنان يتبادلان الحب ..
لكن مجرد النظر اليها عبر الغرفة ،
علم أنها ليست في حالة من التفكير لتسمع ما يريد أن يقوله ، هي هكذا ... تتقلب من الدفء
والعاطفة الي البرودة ،
في لحظة كانا يتحدثان عن العائلة ، و في اللحظة الثانية تقفل علي نفسها بعيدا عنه ..
قال وهو يرفع معطفه عن المقعد :
- جينيفر لوف ، أنت امرأة معقدة ، وأنا لا أستطيع أن أفهمك بصورة جيدة ..
قالت له بحزن :
- لا تحاول آريستيد ، لا يستحق ذلك العناء ..
وطالما نحن نتحدث عن الوقت ، أريد أن أشكرك علي كل شيء ، لأنك جعلت ستيف تضحك ،
وعلي الهدايا ، لكن الآن عليك أن تتوقف عن ذلك آريستيد ،
حان الوقت لأنهاء كل هذا للمرة الأخيرة وقبل أن يشعر أحدنا
بالأسي ..
ارتدي آريستيد معطفه وسار نحو الباب الذي كانت تمسك به وقال لها :
- ما رأيك بأغنيتنا ؟!
قالت له بصرامة :
- انها ليست أغنيتنا وسيكون من الأفضل ألا ترسل لي أي أغنية أخري آريستيد ،
و من الأفضل أن ينتهي كل شيء ..
____________
__________________
لتردف ستيفاني بحزم :
- لا أريد الذهاب الي المستشفى ماما ،
عديني أنك لن تجعلينني أذهب ..
كان ذلك الوعد الذي لا تستطيع جينيفر القيام به ...
ستيفاني التي تمتاز بالفرح والاشراق ،
كان من النادر أن تبكي ..
لكن الليلة بكت ومن دون حدود ،
فهي لا تريد الذهاب الي
المستشفى وهي لا تريد أي عملية أخري ،
جينيفر تعلم جيدًا أن ابنتها خائفة من الألم ،
من الناس الذين لا تعرفهم والذين سيضعون آلات في مفاصلها لا تحبها ،
ضمت ستيفاني اليها بقوة وأغمضت عينيها ،
كانت تشعر بالألم في قلبها بسبب مخاوف ابنتها وألمها ....
وضعت رأس الفتاة علي الوسادة و وضعت " آبي " الحيوان الذي أحضره آريستيد لها ،
بين ذراعيها ولمست شعر ابنتها الناعم وأبعدته عن وجهها ، بعناية وحذر ..
ثم نهضت جينيفر عن السرير وانحنت لتطفئ المصباح ،
وعبر الظلام سمعت التوتر في صوت ستيفاني وهي تقول لها :
- هل تعتقدين أن أبي كان سيسمح بأن أذهب الي المستشفى ؟!
لم تجب جينيفر ، فهي لا تستطيع ،
لم تستطع أن تظهر الكلمات من خلال الدموع التي تجمعت في حلقها ، أو الثقل الكبير الذي تشعر به في صدرها الان ..
أغمضت عينيها وهمست بصوت باكي :
- نامي عزيزتي ، وسأراك في الصباح ..
وسارت الي خارج الغرفة ، بقلب ملتاع ودموع تسقط مدرارًا على وجنتيها دون توقف ..
كان الوقت تجاوز التاسعة والنصف لكن
جينيفر شعرت بأنها مرهقة للغاية ،
احتاجت لإرادة من حديد لتتمكن من ألا تنهمر دموعها وهي تستحم ،
ما أن انتهت حتي دخلت غرفة الجلوس لكن كلمات ستيفاني بقيت تدور في بالها ...
"هل تعتقدين أن أبي كان سيسمح لي بالذهاب الي المستشفى ؟! تلك الكلمات
تعذبها وترغب جينيفر في اعطاء أي شيء
لتبعد ستيفاني عن هذا الألم ،
وكانت لتأخذ ذلك الألم لو أنها تستطيع ،
كانت لتفعل أي شيء لتؤمن السعادة لطفلتها ،
و لتجعلها قوية آمنة ،
لقد فعلت كل ذلك بمفردها والآن ومن بين كل الأمور ،
ها هي ستيفاني تسأل ان كان
والدها سيفعل مثلها ام لا !
والدها .. الذي لم يأت مرة لرؤية طفلته الجميلة .
دخلت جينيفر الي المطبخ لتحضر كوبا من
الماء ، متمنية أن تتخلص من تلك الدموع ال تي علي وشك الانهمار ثانية ،
وبخطي بطيئة عادت الي غرفة الجلوس وهي غارقة في أفكارها ، لا يمكنها القاء اللوم علي ستيفاني علي مخاوفها من المجهول ، علي خوفها من الألم والإبر والمستشفيات ،
ولا تستطيع لومها لأنها سألت عن والدها ،
لكن جينيفر لا تعرف كيف تخبر ستيفاني أن والدها لن يجبرها علي اجراء العملية ،
لأن جوناثان لن يكون هناك
عندما تستيقظ من الجراحة ،
و عندما تسير أول خطواتها بمفردها ،
تماما كما لم يكن موجودا طوال السنين الخمس الماضية .. ظهرت في
مخيلتها صورة زوجها السابق ، وهي لم تفكر في جوناثان منذ وقت طويل ..
كانت تعمل علي تقديم الجزء الراقص في
مسرحية بروداي في أول مرة قابلته فيها ، بينما كان يعمل هو مصورا في الجريدة ، و خدمة لصديقه
كان يصور المسرحية ..
الانجذاب بينهما كان قويا ومتبادلا ،
قدمت دورها الصغير وأصبحت هي وجوناثان زوجان بسرعة
قصوي ، فقد كان جوناثان ملئ بالحيوية .
لديه شعر أسود وكذلك عينيه ، من السهل عليه ايجاد الأصدقاء .. لكن رغم الحياة التي
عاشتها معه فهو لم يتحدث مطلقا عن حياته ،
كانت تعلم أنه ولد وحيد وأن والديه توفيا منذ عدة سنوات بعد معاناتهما من المرض لسنوات عديدة ،
أحب جوناثان جينيفر ،
والي هذا اليوم هي تعلم أن هذا كان صحيحا ام لا ،
لكنها تعلم أيضا أنه كان هناك دائما جزءا منه مخفيا عنها .
أول اشارة أنه لا يستطيع تحمل رؤية الدماء ،
عرفتها جينيفر عندما كانت حامل ب ستيفاني ،
عندما أخبرها أنه لن يكون معها يوم الولادة ، تقبلت ذلك مع أنها لم تفهمه مطلقا ...
أتي لرؤيتها ورؤية ستيفاني عدة مرات في المستشفى وفي كل مرة كانت جينيفر تشعر بالقشعريرة حتي عظمها ،
وكأنه يطير بعيدا ..
بعيدا عن متناولهما ، لم يحمل ابنته ولا مرة مع أن جينيفر كانت متأكدة أنها رأت الحب في عينيه في أول مرة رأي فيها ابنتهما ..
آخر مرة رأته فيها عندما أتي الي غرفتها في المستشفى ليخبرها عن الفرصة التي كان بانتظارها طوال العمر ،
لديه عقد عمل مع مجلة مشهورة جدا ليسافر حول العالم وليصوره من كل الزوايا وقال انه سيسافر ..
ومن ثم ، و كما فعل والدها ، رحل ...
قال أنه سيبقي علي اتصال ، وبعد مرور سنة وصلت أوراق الطلاق ،
ومثل والدها تماما ..
لم يكن لديه القوة ليبقي ولا الرغبة في الحياة المستقرة ،
ومثل والدها كان واضحا أن جوناثان لم يحبها بما فيه الكفاية ،
لأنه لو كان يفعل ، لرجع اليها والي ستيفاني ..
عادت جينيفر من تأملاتها ببطء ووجدت
نفسها تحدق بكوب الماء ،
بكل الأحوال ما هو الأمر الجيد بشأن الرجال ؟!
بإمكان الرجال أن يجعلوا المرأة تضحك ،
وأن يجعلوها تشعر بأنها محبوبة وغالية ، ولسوء
الحظ بإمكانهم أيضا أن يحطموا قلبها بكل بساطة ،
ومرتان في الحياة أكثر من كفاية ...
لم تصدق يومًا أن هدف الرجال هو التباهي بقوتهم ،
فمعظم أطباء ستيفاني رائعون وهي
تعلم أن هناك العديد من الرجال الجيدين في هذا العالم ،
السيد أبراثي واحد منهم ، آريستيد أيضا واحد منهم ...
أتت الفكرة بصورة خاطفة ومع ذلك في
قلبها علمت أن ذلك صحيح ،
فآريستيد رجل جيد ، ماكر أحيانا ، و عنيد احيانا ،
و لكنه لطيف أيضا ،
مع أنها تشك أنه سيقدر هذا الوصف ..
لكنها لم ترغب بالتفكير في الرجال الليلة ..
لا تريد أن تفكر كم هي وحيدة ، و كم ستكون حياتها موحشة لما تبقي من عمرها في هذه اللحظة ..
كانت تفكر في اطفاء المصباح عندما
استقرت عيناها علي الساعة الموضوعة علي
المكتب ،
كانت الساعة العاشرة وسبع وأربعين دقيقة ،
أبعدت يدها عن زر المصباح وأدارت الراديو بدلا عن ذلك ووضعتها علي المحطة التي يعمل بها آريستيد ..
سمعت الصوت الساحر ..
" انها العاشرة وثماني وأربعين ، لقد طلبت طلبا غير عادي من صديقة غالية جدا علي "
أصغت جينيفر وهي تتساءل ما الذي يفكر به آريستيد في هذه اللحظة ..
لتجده يردف ..
" الأغنية التالية لامرأة مميزة جدا بالنسبة لي "
بقيت جينيفر جامدة تماما ،
لم يعد صوت مقدم الأغاني يصل اليها عبر الهواء ،
لقد كان هناك صوت آخر ،
صوت الرجل الوحيد الذي لديه القدرة للتأثير عليها هكذا .....
انه آريستيد .. ولا أحد غيره ..
" أصغي ومن ثم أنظري الي الليل "
أصغت جينيفر وهي تترنم داخل الغرفة الهادئة ،
شعرت جينيفر بعينيها تغمضان ،
وشعرت بنفسها تترنح مع الموسيقي ،
و وقفت في الغرفة الخافتة الضوء ، تصغي الي كلمات
أغنية الحب القديمة ،
أحنت رأسها وشعرت بقلبها يضطرب حتي سمعت آخر سطر من الأغنية .. اذا ، يا عزيزتي ، اتركي الرقصة الأخيرة لي ..
الطلب ذكرها ب جوناثان ودموع ستيفاني ،
كان كل ذلك كثيرا عليها ، لم تشعر يوما أنها وحيدة هكذا ،
و بأن روحها قلقة و معزولة ،
ليس عندما غادر والدها ولا حتي عندما رحل جوناثان .
في منتصف الأغنية التالية أقفلت جهاز الراديو ببطء واستدارت ..
" أصغي ومن ثم انظري الي الليل "
كانت تلك هي الكلمات بالتحديد التي استعملها آريستيد ..
لم تعلم لما استعمل تلك الكلمات ؟ و لماذا أرسل لها تلك الهدايا ؟!
ولماذا أصر عليها بسماع تلك الأغنية الخاصة ؟!
وهو يعلم أنها لا ترقص ، و مهما كانت أسبابه تمنت لو أنه لم
يفعل ..
لأن سماعها لتلك الأغنية الليلة ذكرها بالأحلام القديمة التي كانت تراودها ..
لم تكن ترغب في السماع ، و لم ترغب أن تنظر الي الفراغ و الظلام ،
لكن جينيفر سارت الي النافذة ، و وجدت نفسها تفعل تماما مثل ما قال لها ،
لكن الليل لم يكن فارغا ، آريستيد كان يحدق بها من دون حراك ..
ثم استقام وسار عبر الرصيف ...
فتحت الباب قبل أن يقرع ، لم يعرف آريستيد ماذا سيفعل ..
دخل الي الغرفة وأغلق الباب وراءه بسبب هواء الليل البارد ..
حدقت به من دون أن تتراجع و هي تقول :
- لماذا يا آريستيد ؟!
لم يكن متأكدا عما تسأله ، لماذا هو هنا ؟
أم لماذا قدم لها الاهداء وأرسل تلك الأغنية ..
أو أنها تسأل لماذا بسبب أمور أعمق بكثير ؟
سألها :
- ما الأمر؟!
لم يرها آريستيد يوما هكذا ،
كانت تبدو متوترة جدا وكتفيها مشدودين ،
كان خائفا ان لمسها أن تتفتت وتتناثر ..
لم تجبه علي سؤاله لكنها تحركت أخيرا وهي تتنفس بعمق
فكرر :
- جيني ، ما الأمر ؟ ما السبب لكل هذا القلق ؟ هل السبب سماعك للأغنية ؟
رفعت عينيها اليه ، ومن ثم أخفضتهما ، و قالت :
- لا .. ليست الأغنية ، انها ستيف ..
تساءل آريستيد ان أدركت أنها نادت ابنتها باسمها المصغر اما لا ؟!
لم يعلق على الامر وسألها :
- ماذا عنها ؟!
قالت له وهي تحاول اأن تسيطر على دموعها :
- لا تريد الذهاب الي المستشفى ، و لا تريد اجراء العملية ، أرادت أن تعرف ان كان والدها سيرضي بإجراء عملية لها ام لا ..
شعر آريستيد بعينيه يضيقان وأوقفت كلماتها
حركته ،
ذكر الجراحة والمستشفى لديهما هذا التأثير عليه ، لكنه لا يشعر بالقلق و التوتر علي نفسه الأن ،
انه يشعر به نحو جينيفر ..
تبا ،هذا شعور جديد عليه ، لم يكن متأكدا أنه راض عن الاحساس القوي في صدره ،
لكنه كان متأكدا أنه غير راضي عن الأسي الظاهر في عيني جينيفر ..
أسبابه ليسمعها تلك الأغنية بسيطة جدا ،
كان يريدها أن تفكر به ، وأن تريده كما يريدها ، وأسبابه للقدوم الي هنا بذات البساطة ...
هو يريد أن يراها وأن يكون قريبا منها .
لكن لم تسر الأمور كما خطط لها ، لم تكن
جينيفر مرمية بين ذراعيه ،
حتي أنها لم تفكر به مطلقا ،
فهي تبدو كامرأة ستفعل ما
بوسعها لإبعاد أي رجل عنها ، و آريستيد سيساعدها على التخلص من مخاوفها ...
نزع معطفه ورمي به علي الكرسي ، قبل أن
يجلس علي ال صوفا ،
مد ساقيه ورتب بنطاله ومن ثم نظر الي جينيفر ليري ان كانت تعترض ، لكنه لم يدعها توقفه أو تمنعه ...
أخيرا قال وهو ينظر اليها :
- أتمانعين ان جلست ؟!
عقدت جينيفر ذراعيها علي صدرها ونظرت بإمعان الي الرجل الذي يجلس براحة علي مقعدها ،
كان شعره الأشقر أشعث بسبب الريح وبحاجة الي ترتيب ،
لن تكن متأكدة لما طلب منها سماع تلك الأغنية ،
ولماذا توقف قرب منزلها هذه الليلة بالذات ؟!
لكنه هنا ، وحضوره يريحها بطريقة لم تكن متوقعة ...
سألها :
- ما الأمر؟ ما الذي يزعجك ؟
استمرت في تمرير يدها فوق قماش الروب وقالت :
- ماذا اذا كنت أقوم بعمل خاطئ ؟ اذا لم تكن العملية الجراحية ناجحة ،
فعلي ستيفاني أن تمر بكل ذلك الألم من أجل لا شيء ..
أخيرا رفعت عينيها اليه والتعبير الواضح في عينيه جعلها غير قادرة عن ابعاد نظرها عنه ..
قال لها بثقة :
- من النادر أن يكون الألم بلا نتيجة ،
وكل شخص يعاني منه ، و يشعر به و في نهاية الأمر كل شخص يتخطاه ..
علمت جينيفر ومن خلال تجربتها ، أن هذا غير صحيح ،
فهناك بعض الألم الذي لا ينسي مطلقا ..
كيف يمكن أن تشرح ذلك ل آريستيد ،
هذا العازب الذي يعيش حياة سهلة و سعيدة ؟
سألها :
- ما هو الأمر الأكثر صعوبة لتعيشي معه ..
أن تفشل عملية ستيف وأنت تعلمين أنك قمت بكل ما لديك من قوة لمساعدتها ،
أو حمايتها من الألم وأنت تعلمين أن هناك فرصة لها لتسير ؟!
ضيقت عينيها وهي تقول له بانبهار بان في نظرتها :
- بالنسبة لرجل يدعي أن لا يعرف شيئا عن الأطفال ،
أنت حقا تدرك تماما ما الأفضل لهم ..
رفع يده قائلا :
- أنا مجرد شاهد برئ ..
ثم تحركت عضلة في وجهه وبعد لحظة تابع :
- لقد رأيت اكزاني تقع علي الدرج الأسبوع الماضي ،
وأنت تعلمين كم تحب لورين المنازل مع كثير من
الدرج بداخلها ،
ولكن بسبب سقوط اكزاني كانت مستعدة لتغيير هندسة المنزل كله من الداخل في البيت الذي ينويان بناؤه ،
سقطت الطفلة علي ثلاث أو أربع درجات وبكت بقدر ما تستطيع ، ثم قفزت وعادت الي اللعب مرة ثانية ..
ثم اضاف بحزن :
- انا لم اعش مثل هذه الاشياء مع ولدي ، لقد جاءني وهو فتى ناضج في ور المراهقة ، لذلك لم اجد غضاضة او تعب في الخوف عليه ، فقد اتخذته صديقا لي وانتهى الامر ..
صوته الناعم أثر علي أعصابها المشدودة لكنه لم ينزع القلق الشديد من أعماقها وهي تقول له :
- ما تريد قوله أن الأطفال أقوياء حقا ..
قال لها بثقة :
- أكثر قوة من الوالدين علي ما أعتقد ..
سألته باهتمام :
- وخطة دريك و لورين للبناء ؟!
اجابها بابتسامة :
- مازالت معلقة في الهواء ..
هكذا تشعر جينيفر ،
كأن حياتها معلقة في الهواء ..
ولأول مرة أدركت أنها كانت تعيش هكذا لأكثر من خمس سنوات ، منذ ولادة ستيفاني ورحيل جوناثان .
سألها باهتمام :
- و ما الذي قلته ل ستيف عندما سألتك اذا كان والدها سيسمح لها بإجراء الجراحة ؟!
رفعت كتفيها وهي تردد :
- لم أقل شيئا ، لم أستطع أن أتكلم ..
فهي لا تستطيع الكلام عن زوجها السابق حتي بعد كل تلك السنين ؟!
و آريستيد لم يشعر بالرضا بسبب ذلك ...
لم يعجبه ذلك مطلقا ، لقد وقع في غرامها ،
و هو يريد أن تبادله ذلك الحب ،
لقد أعطي المسألة الكثير من التفكير وأمضي كل
ساعات يقظته يخطط للحظة التي ستدرك فيها جينيفر أنه هو من الذي تريده ..
يعلم آريستيد أن الرقص يحتاج لشخصين ،
و يعلم أنها أقسمت أنها لا ترقص ولكنه اعتقد أنها لا ترقص بسبب ستيفاني ، أما الآن ... لم يعد متأكدا ...
انحني الي الأمام وأمسك بكرسيها ، و قال بصوت هامس :
- ما الذي ستقولينه ان أخبرتك بأنني أحبك ؟!
شعر بالدماء تتدفق الي رأسه وهو ينتظر
جوابها ،
لقد خطط لكل شيء لكنه لم يخطط ليقول لها أنه يحبها ،
علي الأقل ليس الآن ،
بعد أن قال تلك الكلمات لا يستطيع استعادتها .
- سأقول لا تخلط الحب بالوحدة ..
لم يكن ذلك ما أمل أنه سيسمعه ،
لكن هذا ما جعله يتوقف ليفكر ... حياته المليئة ، عمله ، والديه و ابناء عمه ، و أصدقاؤه ، و يشعر بالوحدة ؟!
نعم .. اعتقد أنه يشعر بالوحدة فقط من أجلها ...
سألها وهو يمسك بذراعها :
- هل أنت وحيدة ، جيني ؟
اقتربت منه فشعر بمزيد من الشوق اليها ،
مالت برأسها الي جهة واحدة وشعرت بلطافة هذا الرجل
فقالت :
أنت حقا لطيف ، هل تعلم ذلك ؟!
ابتسم باستغراب ، قال لها أنه يحبها وقالت له أنه لطيف ،
الأطفال لطفاء ، الهرر لطيفة ، الرجال أقوياء مثيرون .
- ان أردت الصراحة جيني ، أنت تبدين كعمتي ميلي ،
و هي دائما تقول ذلك بصوت كاف ليحطم الحواجز ..
- أنت تقصد أنك لم ترث صوتك المثير منها ؟!
همس لها :
- أنت تعتقدين أن صوتي مثير ؟!
قالت له بخجل :
- أنت تعلم جيدا أن صوتك رائع ، أخبرني
المزيد عن عائلتك ..
آخر شيء كان آريستيد يحب القيام به هو التحدث عن عائلته ،
لا .. هذا غير صحيح .. آخر شيء يحب القيام به هو أن يغادر ، التحدث عن عائلته ليس بالأمر السيئ .
سأل أخيرا :
- ماذا تريدين أن تعرفي عنهم ؟!
رفعت كتفيها قائلة :
- آه .. لا أعلم ، قالت لي لورين أن لدي دريك الكثير من الأقارب ، أنا لدي ستيفاني بالطبع ،
لكن كل أقاربي الباقيين هم ، أمي التي تعيش في فلوريدا ،
و ابن عم في تكساس ، وعمتين في فيرمونت ..
كلهم بعيدين عني ..
ما هو الشعور أن تكون محاطا بعدد كبير من أفراد عائلتك في بلد واحدة ؟!
تراجع آريستيد الي الوراء قليلا ،
لكنه لم يبعد يديه عن كرسيها ،
لم يفكر من قبل بذلك ، فقال لها بتفكر :
- في معظم الأحيان ... الكثير من الضجة و الصخب ..
ردت بدهشة :
- الضجة ؟!
ابتسم وهو يقول لها :
- صحيح ، كل شخص يتكلم مع الآخر في وقت واحد ، أمي كانت الابنة الوحيدة لعائلتها ،
لكن لدي أبي ثلاثة أخوة وثلاث شقيقات ،
وجميعهم متزوجون وأنجبوا العديد من الأولاد وهكذا ، لدي الكثير من أبناء وبنات العم ..
قالت له :
- اذا لديك عائلة كبيرة ومليئة
بالصخب ..
قال لها :
- لقد التقيت ببعض منهم في زفاف لورين و دريك ،
هل تذكرين العم مارتن ؟!
قالت له بضحكة :
- الرجل الذي ناداني كلارا ، أري أن تصغير الأسماء أمر متوارث في العائلة ..
ابتسم لها وهو يقول :
- أنني أشعر بالامتنان أن العمة ميلي تزوجت من داخل العائلة ،
لا فكرة لديك أي احساس بالراحة لدي لأنني أعرف أنني لن أقلق أن أطفالي سيرثون أي
صفات منها ..
قالت له وهي تنظر لساعتها :
- لقد تأخر الوقت ..
تأفف قائلًا :
- أنت تقولين ذلك دائما جيني ، قد يكون الوقت متأخرا لكنني لا أريد المغادرة ..
قالت له بثبات :
- اعتقدت أنك فهمت أن كل ما يمكن أن يجمعنا هي الصداقة ..
ثم وضعت قدميها علي الأرض ووقفت وهي تقول له :
- ليس لدي ما أقدمه لك ، لا شيء ، وأنا لا أريد أن أستغلك ..
أراد آريستيد أن يخبرها أنها مخطئة ، وأن هناك أشياء كثيرة تستطيع تقديمها له ، وأشياء تستطيع أخذها منه ،
وهو لا يمانع في العطاء ما دام هما الاثنان يتبادلان الحب ..
لكن مجرد النظر اليها عبر الغرفة ،
علم أنها ليست في حالة من التفكير لتسمع ما يريد أن يقوله ، هي هكذا ... تتقلب من الدفء
والعاطفة الي البرودة ،
في لحظة كانا يتحدثان عن العائلة ، و في اللحظة الثانية تقفل علي نفسها بعيدا عنه ..
قال وهو يرفع معطفه عن المقعد :
- جينيفر لوف ، أنت امرأة معقدة ، وأنا لا أستطيع أن أفهمك بصورة جيدة ..
قالت له بحزن :
- لا تحاول آريستيد ، لا يستحق ذلك العناء ..
وطالما نحن نتحدث عن الوقت ، أريد أن أشكرك علي كل شيء ، لأنك جعلت ستيف تضحك ،
وعلي الهدايا ، لكن الآن عليك أن تتوقف عن ذلك آريستيد ،
حان الوقت لأنهاء كل هذا للمرة الأخيرة وقبل أن يشعر أحدنا
بالأسي ..
ارتدي آريستيد معطفه وسار نحو الباب الذي كانت تمسك به وقال لها :
- ما رأيك بأغنيتنا ؟!
قالت له بصرامة :
- انها ليست أغنيتنا وسيكون من الأفضل ألا ترسل لي أي أغنية أخري آريستيد ،
و من الأفضل أن ينتهي كل شيء ..
____________