الفصل الرابع

الفصل الرابع ...
ألتفتت بنتسيليا تسير بتجاه الفتاة التي وجدتها تقف في زاوية خلف صخرة كبيرة وبيدها خنجر مسنن تشحذه في الصخرة المدببة أمامها :

ضمت حاجبيها متسائلة :
-  من أنتِ ؟!

أجابتها وهي ما زلت تشحذ سلاحها :
-  بريسفون

ركضت ساندرا برعب تقف خلف بنتسيليا تكاد تلتصق بها حين سمعت الهاربيز يتحدثون ثانية فيما بينهم ..

حمدت الله في هذه اللحظة أنها تعلمت بعضاً من اليونانية القديمة من إلياس .. وبحرف متناثرة حاولت جمعها سألتها :
-  أين نحن ؟ وماذا سيفعلون بنا ؟!

توقفت بنتسيليا وانكمشت ملامحها وهي تنظر نحو ساندرا تحاول فك شفرات لهجتها العجيبة ، بينما نظرت بريسفون نحو ساندرا برهبة وهي تتفحص ملامحها الغريبة وملابسها الأغرب ،

أعادت عليها ساندرا السؤال عدة مرات بطرقٍ مختلفة إلى أن فهمتها الأخرى فأجابتها وهي ترهف السمع نحو أصوات بعض الأحياء التي تأتي من قريب :
-  لا أعلم أنتظرِ قليلاً ..

وقفت ساندرا بجوارها تتنصت عليهم علها تفهم شيء مما تسمعه ولكنها لم تستطع سماع كلمات مفهومه ..

عادت بنتسيليا للخلف بذعرٍ شديد واتجهت سريعا نحو الشق الذي في الصخور وبدون تردد أطلقت صفير طائر الفينق بأعلى صوتها لعل أخيل يسمعها ولكن ما حدث هو سيادة الهرج والمرج خارج الكهف يبحثون عن مصدر الصوت ..

سألتها ساندرا برعب واضح :
-  ماذا يحدث أخبريني ؟!!

أجابتها بريسفون وهي تنظر بعدم اهتمام نحو بنتسيليا ،
-  سنُصبح طعاما للماينوتورس ...!


وضعت ساندرا يدها على فمها ودموعها تتساقط بصمت بعدما اتخذت احد اركان الكهف ملاذاً لها ،

تعاطفت بنتسيليا معاها وانطلقت نحو مجلسها ثم انحنت على ركبتيها وأمسكت بيدها تربط عليها قائلة :
-  لا تقلقي لدينا وقت ، ثم انتبهت على أنها لم تتعرف على أسمها حتى الأن فسالتها وهي تبتسم :
-  ما اسمك يا غريبة الأطوار ؟!

جففت ساندرا دموعها بكفها وهي تنظر نحو بنتسيليا بلطف مجيبه :
-  ساندرا

ثم نهضت بنتسيليا متوجهة نحو الشق الموجود في الصخور تتبعها ساندرا ،
تطلعت للسماء فوجدت خيوط الصباح تشقُ السماء ببريق يحمل معه مصيراً لا يعرف أحدهم نهايته !
وبرغم قلقها الذي بدأ بالتزايد نظرت نحو ساندرا التي تقف خلفها قائلة :
-  أمامنا حتى فجر يوم غد ! سيجدنا اخيل قبلها

توجهت نحو بريسفون التي تحيطهم بنظراتها المتعجبة تسألها عن كيفية إيجاد سلاح وكانت إجابتها مجرد هزة خفيفة من رأسها بالنفي ،
تركتها بنتسيليا وذهبت تبحث عن أي شيء حاد تسطيع استخدامه كالسلاح ...

جلست ساندرا بعقل مشوش وتفكير مضطرب لا تعلم ماذا تفعل وأين تذهب ؟!

لقد انقلب عالمها رأساً على عقب في لحظات .. لم تستوعب بعد ما يحدث معها .. غابات كبيرة وأشخاص يتكلمون بلغة قديمة بالكاد تفهمها اشجار كثيفة وفتاة بطباع شرسة وعنيفة وحانية في نفس الوقت ، وحوش طائرة يريدون أكلها والأخطر من ذلك الرعب من المجهول !

ما هذه الأحداث المتلاحقة ! تشعر أنها سقطت في دوامة وتتلقى صفعة تلي الأخرى دون أن تستطيع التقاط أنفاسها !

أما عن السؤال الأهم الذي يحمل بين طياته كمية من الألم والقسوة لا بأس بها هو هل ستعود لعالمها ولأهلها يوما ؟!!

هزت رأسها بعنف تحاول استيعاب الأحداث الاخيرة علها تستطيع مجاراتها فهذا هو الحل المثالي في الوقت الحالي ..!

أغمضت عينيها وبتمرينات ﻹزالة التوتر تعلمتها من والدها قامت بها لعدة دقائق تحت انظار بنتسيليا وبريسفون المندهشين من حركاتها ...

بعد أن انتهت ساندرا وهدأ توترها قليلاً خطت نحوهما تسألهما بثبات :
-  لماذا تريد هذه الطيور أكلنا ؟!
تركت بريسفون بنتسيليا تقوم بما يجب وتجيبها هي بعدما حدقتها بنظرة تعني أنها لا تفهم منها شيء ،

حاولت الأخيرة أن تفهم ما تعنيه بشق الانفس مما جعل ساندرا تقترب منها وهي تعيد السؤال بطريقة بدت لها صحيحة ،

فهمت بنتسيليا سؤالها أخيراً ثم قررت أن تعلمها النطق الصحيح لبعض الحروف ، رددت سؤالها السابق وهي تشير إليها ان تردد معها بنطق صحيح ..

فعلت ساندرا ما أمرتها به وظلت تردد الحروف اليونانية القديمة كما تُعلمها..

استمروا هكذا فترة لا بأس بها حتى شعرت ساندرا بالتعب الشديد وغفت مكانها ...

تركتها بنتسيليا وذهبت لتكمل البحث عن شيء تستطيع بها محاربة الهاربيز وجدت جذع شجرة عالق بين الصخور فحاولت أن تخرجه بالقوة أمام بريسفون التي تجلس على الأرض تمدد قدميها بلا مبالاة ،

وبعد واحد اثنان ثلاثة استطاعت ان تخرجه .. امسكته بيدها وهي تخطو نحو بريسفون الجالسة بجور الصخرة المدببة ،

أستمرت في نحت الجذع وهي تسألها :
-  لماذا تجلسين هكذا وكأن الامر يمثل بالنسبة إليك نزهة..

أخرجت نصلها الذي تضعه في الخلف من بنطالها الجلد ثم أشارت به نحو بنتسيليا قائلة :
-  هل تعتقدين أنهم خطفوني عنوة ؟! أنا هنا كما أردت أيها الأمازيغية ،

ثم وضعت بريسفون يدها تحت رأسها بعدما حركت رأسها يميناً ويساراً أثر ألم طفيف في رقبتها من النوم على الصخور ،

تعجبت بنتسيليا مما اخبرته بها بريسفون وهي تتسأل كيف يريد أحد ان يختطف من طيور الهاربيز الذين يجلبون الطعام للمينتورس ، ازاحت قطرات العرق التي تتصبب على جبينها من المجهود الذي تقوم به في جعل الجذع مثل الحربة ، وهي تسألها والدهشة مازالت تعلو ملامحها :
-  لماذا تريدين الذهاب للمينتورس! ألا تخافين الموت ؟!

أطلقت بريسفون ضحكة مُجلجلة وهي تنظر نحوها تُجيبها :
-  لقد عشتُ في الجحيم لعدة سنوات يا امرأة ،ما معنى الموت الذي تتكلمين عنه بالنسبة لواحدة مثلي !

لزمت بنتسيليا الصمت فهي لا تريد معرفة شيء ، يكفيها ما تعانيه الأن بالإضافة لمشاكلها التي تنتظرها حين عودتها للمعسكر ،
توقفت عن الشحذ حتى صار الجذع ذو رأس مدببة مثل الحربة ..
ابتسمت بسعادة فهذه الحربة ستؤدي الغرض .. جلست بجوار ساندرا التي مازالت غافية

ونظرت نحو بريسفون فوجدت ملامحها تغيرت للحدة والغضب وهي ما زلت على وضعها ، أخرجت صوتها الحانق للجالسة أمامها قائلة :
-  لقد قتل المينتورس عائلتي ولن اهدأ حتى أقتله هو وملكهُ..

شعرت بنتسيليا بالأسف عليها ولكنها ظلت على موقفها من الصمت ثم اسندت راسها خلفها وغفت هي الأخرى ..

**********************************
-  قبل ساعات في الجزيرة..

ظلام دامس أحاط بثلاثتهم إلا من شعاع نار طفيف يأتي من غصن الشجرة التي يحملها أخيل بينما يلازمه الأثنان كلاً من جهة ،
تسأل إلياس بقلق وهو ينظر حوله برعب في هذا الظلام :
-  لقد أخبرتني أن الهاربيز لن يؤذوهم إذن لماذا أخذوهم جاسون ؟!
كي يقدموهم طعاما للماينوتورس ..

إجابته جاءت صادمة وقطعيه !
وقف إلياس يصيح بفزع :
-  ماااااذاااا !!

بينما جحظت عين أخيل برعب فترك الجذع من يده وعلقه على إحدى الأشجار بجانبه واقترب من جاسون يمسكه بعنف من صدرته يهدر به ..
-  لماذا لم تخبرني من قبل ؟!
نزع جاسون يد أخيل من عليه بهدوء قائلاً:
-  لا تقلق لن يحدث ذلك إلا في فجر يوم غد أمامنا وقت طويل لإنقاذهم ..

ثم تخطاه وتلقى الجذع من الشجرة ومضى في الطريق وإلياس مازال يقف مذهول قلبه يرتجف على حبيبته !

هم أخيل في إتباع جاسون فأوقفه إلياس يسأله بارتياع :
-  أنا أعرف قصة الماينوتورس ولكني أريد سماع القصة الحقيقية لأن من الواضح أن ما درسته طوال حياتي شيء والحقيقة شيئاً أخر..
هز أخيل رأسه إيجابا قائلاً :
-  حسنا سأرويها لك ونحن في الطريق فمازال لدينا وقت طويل حتى نصل ...

ثم بدأ يقص عليه القصة :

" بدأت أحداث القصة في مملكة كريت حيث لدى ملكها الملك مينوس وحش نصفه العلوي ثور والنصف السفلي أنسان وكان هذا الوحش كغيره من الوحوش الإغريقية قوي جداً وشرير جداً وكان يقتل ويمزق كل من يقترب منه ...

ظن الملك مينوس أنه من الحكمة أن يحتفظ بهذا الوحش البشع في مملكته ولكن الماينوتورس أستطار شره في البلد وعاث فيها قتلاً وتخريباً وترويعا لأهل المدينة وفي هذه الأثناء قتل المينتورس عائلة كاملة كانت تعيش على أطراف المدينة حينها استعان الملك بمهندسه العبقري " ديدالوس "

الذي اخترع حل عبقري يحافظ على هذا الوحش وفي نفس الوقت يقي أهل المدينة من شره وكان الحل هو المتاهة العظيمة أو كما سماها ديدالوس اللابيرنث ..

وقد أحاط المهندس الوحش بممرات وشعاب متداخله يظل الوحش يركض فيها بلا نهاية ،

ثم بدأت المأساة عندما فاز أبن الملك مينوس ببطولة الألعاب الأولمبية المقامة في أثينا وبالتالي أستشاط أبن ملك أثينا غضباً وامتلائه الحقد كيف لأبن ملك كريت أن يفوز عليه وعلى فريقه بأكمله ،

فارسل قطاع الطريق على ابن ملك كريت أثناء عودته محمل بالجوائز فقاموا بتمزيقه وإلقائه إلى الضباع و السباع وقد بلغ الخبر السيء كاملاً الملك مينوس فجرد جيشاً جراراً وما أن أصبح الصباح حتى كانت بطاح أثينا تعج بالقتلى وتموج بالجرح !
حاصر الملك مينوس أثينا طويلاً حتى شح فيه الماء وقل الزاد واُجدبت البلاد فطلب الملك ايجوس ملك أثينا الصلح ولكن الملك مينوس أخبره أن أثينا كلها لا تكفيه عوضاَ عن ابنه وفي النهاية وبعد عناء طويل أتفق الطرفان على الصلح ..
توقف جاسون ثم ألتف يمشي بمحاذتهم ليكمل له :
ولكن أشرطت مينوس شرطاً للترك حصار أثينا وهو أن يُرسل له الملك ايجوس كل عام سبعة من أقوى فتيان أثينا وسبعة من أجمل الفتيات العذارى ليلقيهم الملك الى وحشه المينتور فيقوم بأكلهم ..

هكذا كل عام يتكرر المشهد الدامي حيث يجمع سبعه من افضل الشباب وسبعه من اجمل الفتيات ليتم القائهم للماينوتورس فيقوم بتمزيقهم ..

ثم نظر نحو أخيل لينتبه لما سيقوله :
-  هذا العام شعر ايجوس بالعجز وقلة الحيلة أمام مينوس ، لقد جعله يفقد أفضل شباب المدينة وفتياتها كل عام حتى لم يعد هناك نساء تريد الإنجاب ، وبدأوا في تشويه فتياتهم وعدم تغذية فتيانهم حتى يستطيعون النجاة ، إلى أن جاء أحد المستشارين باقتراح مميز وهو أن يسيطر الملك على الهاربيز ببعض الطعام على أن يخطفوا لها فتيان وفتيات من ممالك أخرى وبهذا يستطيعوا انقاذ بعضاً من شبابهم ،

شعر ايجوس بالحزن لهذا الاقتراح ولكنه قرر أن يتم تنفيذه هذا العام وخصوصاً عندما لم يجد حلاً أخر غيره ، ولكنه قرر أن لا يأخذ من الهاربيز سوى ثلاث فتيات عذراوات وأثنان من الفتيان الأشداء من خارج أثينا ...

أبتسم اخيل بفرح مردد ..
-  أمازون ليست بعذراء ...

اجابه جاسون وهو ينظر إليه بطرف عينيه ..
-  وكيف سيعرف الملك بالإمر ؟!

زفر أخيل بضيق بعدما تملكه الأمل قليلاً ولكن حسنا مؤكد سينقذها قبل فوات الأوان فالوقت مازال طويلاً..

توقف إلياس عن المشي حين سمع صوت حركة هادئة تأتي من ناحيته ،
رفع يده عالياً وهو يأمرهم بالصمت :
-  ششششش
سكت الاثنان لحظات فسمعوا صوت يأتي من الجهة الغربية ..

أتجه ثلاثتهم نحوه وكلا منهم يمسك بسلاح خشية أن يكون أحد الهاربيز مُصاب أو وحش بري يريد الانقضاض عليهم ،
توقف ثلاثتهم بعيون جاحظة لأنهم لم يتوقعوا ما وجدوه !!

*************************************
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي