الفصل ٣

كان هو من يفتح ثغره دهشة ، الان هو من يفعلها والمتفرجون من يندهشوا وان كان لا يحصل منهم علي نفحات كما كان يأمل في ذلك.
ذاكرته كانت تحفظ كل شيء بينه وبين اخيه، فهو يتذكر أيضا شجار عبد الواحد مع زوجته، بل وسبّها إن قصّرت في خدمة عصفور أو تأخرت في تلبية طلبه، وقد تزوج عبد الواحد في سن صغير بعد أن مات والده وبقي هو وعصفور بمفردهما ،كان عبد الواحد علي العكس من عصفور كان جسده طول بعرض قوي البنيان شديد في العمل ، عصفور يشبه في الطول فقط ، لعل الفقر الذي تمكن منه وأخذ ياكل في جسده هو من جعله هزيلا هكذا علي العكس من أخيه ، عمل عبد الواحد في أكثر من مهنة حتي استقر في مهنة تجارة الغلال كان يعتبر العمل فيها أكثر نظافة من العمل في الفلاحة غير أن مكاسبها كانت مضمونة ومغرية ، وهو كان متوسع المجال فلم يكتفي بالعمل في قريته والقري المجاورة لها فقط بل كان يصول ويجول في معظم محافظات الصعيد .فذاع صيته وعرفه الجميع ، من مكسبه بني بيتا كبيرا بدل البيت الذي ورثه عن أبيه ثم تزوج فيه واعتبر عصفور ابنه حيث تأخر في بداية زواجه في الإنجاب ، أصبح لعصفور بمنزلة أم بعد الأم، وأب بعد الأب، وأخ من أفضل الإخوة، حتى بعد أن أكرمه الله بالأطفال لم يميز بينه وبين عصفور ولم يخرجه من خانة الابن الذي وضعه فيها ، لكن ذلك لم يدم طويلًا، حيث تورط عبد الواحد في الديون رغم مكسب تجارته، لكنه وقع في شرك الربا، من هنا خسر تجارته، وطارده الدَّيَّانة في كل مكان يذهب إليه مما جعله لا يبيع ولا يشتري ، وحينما عجز عن السداد، وُضِعَ في السجن الذي حاول أن يهرب منه أكثر من مرة لكنه عجز، ذلك لم يشف غليل الديانه فهم بحاجة إلي أموالهم وسجن عبد الواحد لم يفيدهم في شيء، الأمر الذي جعلهم يستولوا على بيته بمنتهي القوة، وطردوا زوجته وأولاده في الشارع بل وبطشوا بها حينما قاومت ورفضت الإذعان لها ، الانذال استقووا علي أمراة لا تملك من أمرها شيئا وأطفال صغار لحم احمر في اللفة، لم تجد المرأة المسكينة حلا معهم ولم تجد مخرجا ففرت باولادها إلى بيت أبيها في قرية مجاورة، تاركةً "عصفور" وحده في العراء، فهي لا تستطيع أن تحمل هم اولادها ليتحمل هم عصفور ثم أن بيت والدها قد لا يرحبوا بعصفور الذي ستفرضه عليهم فهو غريبا عنهم، منذ ذلك الوقت وعصفور مشرد في العراء يعاني من البرد والجوع والفقر والخوف ولا أحدا يتلطف به ابدا ، لذلك لم يترك بابا الا وقصده سواء في العمل أو في العصفور أن يكرر حركاته البهلوانية، ليبهر أي حضور، بل تطور الأمر معه وحازَ أهميةً، حينما بدأ يجني من ورائه مكاسب، فكثيرًا ما يقسم مع أحد من الصغار شطيرة بالزبدة البلدي، أو ينال من أحدهم حفنة كشك أو حتي حفنة من البليلة التي يحبها ويعشقها منذ وجوده في بيت اخيه عبد الواحد ، غير ذلك حركاته الغريبة تلك جعلته يكسب ود الاطفال بل ويأمن آذاهم له، حيث كان جميعهم يجحظ عينه، ويفتح ثغره دهشة، لما يفعله من حركات، محاولين تقليده والتعلم منه، يجلسون معه لوقت طويل تحت الشجرة، بعدما كانوا يقذفونه بحجارتهم في الذهاب والإياب وياخذون أجرة عنوة ويضهدونه ، مستغلين ضعف جسده وهزالته.
فرح "عصفور" بمكانته الجديده التي تكرم الله عليه بها، فتقيه شر الجوع، وإن كان يأمل اقتناء ثوب يحميه من لسعات البرد وضربات الشمس، بدلًا من القديم البالي الذي يرتديه، من أجل ذلك كان يتوسل ويلح علي معلمه موريس ليأخذه معه إلى سوق الماشية، ليساعده في الربط والحل، أو يرجو من شيخ البلد، أن يسمح له برعي غنمه، كان موريس كان لا يهتم لأمره فقط حينما يكن في حاجه إليه يأخذه معه غير ذلك فلا ، ذهب عصفور بنفسه إلى شيخ البلد يرجوه أن يرعى له أغنامه في مقابل أن يطعمه ، لكن شيخ البلد نهره قائلا له أنه غير قادر على حماية كتكوت فكيف له أن يأمن له على حوالى أكثر من ثلاثين نعجة ، خرج عصفور من بيت شيخ البلد وهو حزين جدا وأخذ يلوم نفسه أنه لم يستطع أن يطلب منه أي طعام يسد به رمقه ، لكن كان عصفور عفيف النفس كرامته غاليه عليه رغم تشرده و فقره الشديد، لذلك عاد إلي شجرته ثانية، تمدد تحت شجرته حتي جاء الليل وظلمته، وما ادراك ما ظلمة الليل بالنسبة لعصفور النائم وحيدا في العراء، كانت الظلمة لا يتخللها سوى نقيق الضفادع، وسفير الريح الشديدة التي تحمل رمل الجبل وتراب الأرض الزراعية لتغطي به جثته، وهو متمددا كان يسمع صوتًا ينادي باسمه، يفتح عينيه، ليرى شبحًا قادمًا نحوه، كان قد تعود رؤية الأشباح، في كل مرة يغمض عينيه، لكن ما كان يرغبه هذه المرة أن هذا الشبح اقترب منه جدا وعلي ما يبدو أنه كان يقصده هو علي وجه التحديد لذلك ارتعب عصفور وأخذ يخفي وجهه بيديه، ثم يحاول أن يدفن نفسه في النوم، لكن هذه المرة كان الشبح مُصِرًّا على مواجهته، فما كان يملك سوى أن يعتدل في جلسته ويواجهه وهو يرتعد.
يا ولد!
نطق بها الشبح، فهدأ عصفور الذي تجمد دمه وسابت مفاصله، حيث اطمأن إلى أنه إنسيّ، ورغم أنه يعرف أن للإنس أذًى لا يقل عن أذى الجن، لكنه بقيَ صامتًا، ليواجه مصيره اي ان كان .
كرر الشبح نداءه حتى اقترب على بُعد مترٍ منه، لم يرَ ملامحه، لكنه ميَّز صوته المبحوح الذي يعرفه جيدا ، فقال بلهفة : عم موريس.
لينطق الشبح بعنف: ساعة انادى عليك يا ربراب البرك ، كأنك نايم مع الميتين، فز قوم يا واد، هتودي معي عجول للست هانم دلوقت.
علق عصفور قائلًا: دلوقت، في الضلمة دى يا عم موريس؟!
: يا واد قلت لك أيوه، الست هانم اشترطت عليّا يكونوا عندها قبل طلوع الشمس، والفجر خلاص اها، وانت عارف محدش يقدر يعصى كلمة لها، دى ست قادرة ومفترية.
تململ عصفور : طب استنى شوية يا عم موريس، العجول تعذبنا في العتمة دي، ومشوار الست هانم بعيد.
قال موريس: قوم يا واد كفاية كسل وفقر، قوم! ثم لكزه بالعصا، لينهض عصفور في الحال.
سار موريس في الظلام ومن خلفه يجري عصفور ليلحق به ليأنس به من هذا الظلام الذي يرعبه.
موريس رجل خمسيني نحيف، مصاب بالعرج في إحدى قدميه، لا تظهر قوته وفظاظته إلا مع عصفور، فيما عداه لا يظهر إلا اللين والضعف غير أنه رجل ماكر جدا وخبيث وكما يقولون يخاف ولا يختشي المهم أنه كان يعمل تاجرًا للمواشي، ذمته خربة، والناس تعرف ذلك، لكنهم يتعاملون معه مضطرين، لأن أمواله جاهزة دومًا، على عكس باقي التجار المفلسين الذين يقسطون النقود للبائع على فترات.
كان موريس يتعامل مع الست هانم بحرص شديد، فهو يعرفها ويعرف غضبها، ويعرف رضاها أيضًا، يسعد بطلبها ولا يتأخر لحظة، بل يعد له من قبلها وينتقي لها افضل البضاعة حتى يرضيها ورغم أن الست هانم تبخل عليه احيانا كثيرا مثله مثل الكثيرين، وحراسها يعاملونه أسوأ معاملة، الا إنه يعتز بمقابلتها ويفخر أنه يتحدث معها شخصيًّا، وهذا لم يحدث مع أقرانه من التجار الذين تمنع دخولهم الي السرايا من الأساس وتصدر لهم الحرس في الحساب ، ثم أنها بعد ما تعاملت مع موريس وارتاحت له لم تتعامل مع أحدا غيره ، فموريس كان محاولًا نيل رضاها وكسب ودها علي طول الوقت، ليأمن غضبها وتقلباتها التي يخشاها الجميع.
لذلك حينما أرسلت إليه الست هانم في طلب ذبائح، لم ينَم من القلق انتقي لها من الأسواق افضل الماشية واحسنها، وعلي الفور ذهب ليوقظ عصفور ليذهبا معا، خائفًا أن يتأخر عليها.
في كل مرة يخدمها كان يأخذ عصفور معه عندها، يسعد عصفور بذلك ايما سعادة، اما موريس كانيستغل عصفور ومرونته في القفز مع الماشية ومتابعة حركاتهم لفترة طويلة وهم يمشون في الأرض الزراعية، كذلك كان يستغل كونه وحيدًا وشريدًا، فيأخذه معه، يقود المواشي لمسافات طويلة دون مقابل، إلا من قليل من فتات الطعام، يعطيه له في الطريق، ليواصل السير، وهو لا يكف عن تعنيفه وتبكيته، بل وضربه إن تغير مزاجه وتعصب عليه رغم سلمية عصفور واتباع امره، ومع مل ذلك أحبه عصفور المسكين، وأحب أن يذهب معه، مناديًا إياه صدقًا بكلمة " عمي".
يغفر عصفور لموريس جشعه وإجحافه وعصبيته وكل شيء، لمجرد أنه يأخذه معه إلى سراي الست هانم، ليرى عصفور عالَـمًا غير كل العوالم التي يعرفها أو يسمع عنها، وفوق كل ذلك ليري ابتسامة تلك الملاك التي تقف تنتظره وقتا طويلا في شرفتها وتشعر به أنه قادما حتي من غير ما يعرفها أحدا ، تنتظره بالساعات تفرح وتهلل لرؤيته وهو أيضا كذلك، فلا يذكر أنه ابتسم من قلبه حقيقة بعد فقدانه لأخيه عبد الواحد الا حينما يري هذا الملاك ، كان يشعر بها ويشعر بسعادتها الشديدة حينما تراه، بل ويشعر بحزنها أيضا حينما يغادر ، كان يخطف النظر إليها في غفله من معلمه موريس وهو يقبض علي حبل البقرة أو العجل الذي يقوده ، وحينما يغيب موريس لحساب الست هانم يعود سريعا ليقف في وجه شرفة ملائكه، يبتسم لها ويشاور في بعض الأحيان ويبهرها بحركاته لتضحك هي بملء فمها، وإذا خرج أحدا من خدمها أو سمع عصفور موريس ينادي عليه يقفز مسرعا من أمامها بل ويذيب كما يذاب الملح في الماء .
في هذه الليلة المعتمة انطلقا، كلٌّ من موريس وعصفور مُحكِمٌا قبضته على حبل عِجل، وسارا متجاورين في الظلام دون أن يمسكا لمبة جاز تنير لهما الطريق أو مصباح ، في كل مرة موريس كان يأخذها معه يمسكها بيده أو مصباح لكن في هذه الليلة لم يأت بها، وحينما سأله عصفور عنها قال إن معه عجل شقي يخاف من نور اللمبة ويقفز عاليا كلما رآها لذلك تركها موريس ، ظل يمشيان بجوار بعضهما في الظلام وهما ممسكان بالعجول يتعثران في الطريق الزراعي احيانا ويمشيا بهدوء احيانا أخري الطريق الي الست طويل وبين شد وجذب، هما يضربان، والعجول ترفس. جف ريقهما وتعبا، والطريق طويل ومظلم من الترعة الغربية إلى سراي الست هانم، فاقترح موريس أن يستريحا قليلًا، ثم يواصلا السير، فرح عصفور بهذا الطلب فهو كان يأمل في ذلك ، حيث تقطعت أنفاسه إلا أنه لم يستطع أن يطلب من موريس ذلك خوفا من لسعة عصاه الرفيعة التي تعلم علي جسد عصفور، ربط كلٌّ منهما عجله بإحكام في جذع نخلة، غاب موريس ليقضي حاجته خلف شجرة كبيرة ، ووقف عصفور على مجرى ماء، يملأ حفنة يده ويشرب، ثم غسل وجهه ورأسه الذان كان يتصببا عرقا، ثم غلبته طفولته، فأسقط قدميه في الماء وأخذ يفضفض، ويتفرج علي حركة الماء التي تتغير مع حركة قدميه، حتى سمع صوت موريس زاعقًا: يا عصفور.. يا ولد.. العجول اتسرقت يا ولد.
فزع عصفور من جملة موريس وقام يجرى عليه حيث جذع النخلة، رأى رَسَنَ العجول دون العجول، فهدأ قليلًا وتنفس الصعداء قائلا : "العجول هربت يا عمي ما اتسرقتش، رسنهم سليم مش مقطوع، نطحوا بعض لحد ما خلعوه لو اتسرقوا كانوا الحرامية قطعوا الحبل قطع او حله عشان يعرف يمسك العجل ويجره، لكن باقي الرسن مربوط زى ما هو اها في جزع الشجرة .
ولول الرجل الخمسيني، أخذ يندب حظه، وقف يسأل طفل الثانية عشرة، ماذا يفعل، فهو ابن الشجرة، بقي عامين تحتها يراقب ماشية الفلاحين ويربطها، ويعرف كيف يتعامل مع البهائم أكثر من البني ادمين.
جلس موريس علي الارض وظل يندب حظه كما تفعل النساء وهو يقول مرددا : "العجول ضاعت يا ولد يا عصفور ، ماذا أقول للست هانم يا ولد؟ أين أبحث عنهما في هذا الليل الكاحل المظلم الذي لا تميز فيه الإنسان من الصخرة ؟ ومن أين أسدد ثمنهما يا ولد أن لم أحدهما ؟ سيقتلني رجال الست هانم يا ولد، العجول جريت في غيطان الذرة والقصب والجو مظلم، لم نعثر عليهما ثانية يا ولد، أن طلع علينا الصبح ولم نكن في الباكر في سرايا الست بالعجول في انتظارها ، اعرف ان نهايتنا قربة يا ربراب البرك انت .
في كل سؤال كان يسأله موريس كان يضرب على رأسه ويصرخ.
تركه العصفور لولولته بعد أن فشل في تهدئته ، وتسلق النخلة الطويلة القريبة منه لمنتصفها، ثم أخذ يقلد صوت البقرة ليوهم العجل بأن أمه أو قرينته هنا ، رد عليه العجل بصوته من بعيد، فعرف مكانه جرى موريس على مكانه ، ثم قفز عصفور بخفة على الأرض وقبل أن يتبع موريس مسرعا، فك الحبل من جذع النخلة وتبعه، تحلقا حول العجل، حتى أمسكوا به، ربطه عصفور جيدا و بإحكام حتي لا يهرب ثانية ففي أول مرة ربطه موريس ورباطه كان هينا، بعد ربطه أعطاه لموريس، وانطلق ليبحث عن الآخر، الآخر كان أسود من الليل الكاحل، وأكثر عنفًا وقوة من اخيه، من المؤكد أنه هو من بدأ بالتناطح مع العجل الآخر .
ظل عصفور يبحث عنه، فى غيطان الذرة الطويلة وفي زرع القصب حتى جثا على رقبتيه يصنت لاي حركة تصدر منه حتي يصبح قادرا علي تحديد مكانه حتى لمعت عينان العجل االاسود من بعيد لتبدو حمراوين كعين عفريت، في البداية ضرب الخوف عصفور لكن بعدما تأكد أنه هو العجل الاسود وليس شباحا من الأشباح التي كانت تطارده، بالقرب من بركة ماء، جرى نحوه عصفور حتى أصبح في مواجهة معه
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي