الفصل ٢

ولكن الست هانم تعرف نواياهم الخبيثة نحوها .
*******
تكرر موقف الطفل الطاير علي حد قول ورد ثانية ، تستيقظ في الصباح الباكر ، في دهشة ممن حولها فجميعهم يستغربون استيقاظ ورد مبكرا هكذا ووقوفها في الشرفة وهي تردد الطاير ، الطاير ، لا احد يعرف بأمر الطفل هذا والا كانوا قطعوا رقبته، تنتظر ورد قدومه لتبتسم ولتبتهج، ولا تعرف له مواعيد فهو يأتي الي السرايا علي حسب ما يسحبه معلمه معه ومعلمه يأتي علي حسب ما تطلب منه الست هانم وتأمره فياتي مسرعا علي وجهه، لو كانت ورد تفهم كل هذا لكانت طلبت من امها أن تأتي بهذا الرجل الأعرج كل صباح وهو معلم الطفل رغم أنها تكرهه ولا تحبه وتود أن تفعل امها الهانم فيه مثلما تفعل في أي شخص يضايقها أو يتسبب في تكديرها ، لانه يهين الطفل الطاير أشد اهانه بل ويعذبه ، فكثيرا ما ترأه يحدفه بطوبة من طوب الارض او يلسعه بالعصا الرفيعه التي يمسكه كأنه أحدا من الماشية الخاصة به ، لا يتكلم ولا يعترض الطفل ، فقط يقف بكل ثبات ليتلقي الضربة كما تأت علي جسده دون اعتراض وان كان ظهره يتقوس الما من العصا الا انه يصمت، تشعر به ورد وتشعر بقهرته لكنها لا تعرف كيف تتصرف ، فقط تخرج من فمها كلمات مبهمة لا احد يعرفها ولا يفهمها غيرها، وحينما تشتاط غضبا من الرجل ، كانت ترمي عليه اي شيء لكن لبعد شرفتها عن السور وعن الجنينة الكبيرة كان الرجل لا يحس من الأساس بما ترميه ، فقط الخادمه التي تنهرها لأنها رمت مقتنيات الغرفة، فذات مرة رمت صورة والدها الكبيرة التي كانت الست هانم تضعها أمامها بجوار السرير حتي تعرف ورد ملامحه وحتي تقتنع أن لها أبا ، وإن كان اب قاسي قلبه من حجر لما فعله في الست هانم وفي ورد ، لكن الطبيب نصح الست هانم أن تفهم ورد أن لها عائلة من اب وام ويحبونها وينتظرون منها أن تحبهم وان تسمع كلامهم ، لذلك كانت الست هانم تكتم كل الامها وغيظها من زوجها الخائن كرامة لورد فبرغم إجماع الجميع على أن ورد لا تفهم معاني الكلمات ولا تفهم ما يدور حولها من أحداث ، إلا أن الست هانم كانت تعرف وتقتنع تمام الاقناع أن ورد تفهم في كل شيء ، فقط لا تعرف كيف يكون التعبير خصوصا عن الاشياء التي لا تعجبها أو تفضلها.
كان اسعد يوم في حياتي ورد حينما يأتي هذا الطفل الذي يجيد الطيران يشاور لها بيده ويبتسم ثم يفرجها علي حركاته التي لا يفعلها أحدا سواء من الكبار أو الصغار سواه ، لكن غاب هذا الطفل عن المجيء الي السرايا لوقت طويل لا تعرف ورد لماذا غاب لكل هذا الوقت ، فقط كانت تتعصب علي اتفه سببا كان وترفض تناول علاجها وتصرخ في الخدم علي اي سبب أو حتي بدون سبب ، بل تكتئب ورد وتحزن وتمتنع عن الحديث مع أي شخص ، فقط تلزم غرفتها مع قطعها ، وتستيقظ في الصباح الباكر كل يوم تنظر رؤية هذا الطائر ،لكنه لم يجيء بعد ، اما هذا الطفل البائس المتشرد ، كان لا يعرف حانيًا في حياته الآن سوى شجرة الجميز الكبيرة التي ضمته، يلتصق بها ويئن كطائر جريح ، يجلس تحتها فلا ملاذ له سواها ، هذه الشجرة الكبيرة هي بيته الوحيد بل وهي مصدر غذائه حيث يتكالب عليه الجوع وقلة الحيلة، ينتقي من أوراقها، يلوكها في فمه، ليطرد الجوع، حتى يهاجمه النوم، لكن لا نوم هادئ، إذ يضربه الخوف، وترعبه الظلمة، فيزداد التصاقًا بالشجرة، وأحيانًا يتسلقها، يختبئ بين فروعها من الكلاب الضالة وقطاع الطرق الذين لا يتركونه في حاله ابدا ، رغم أنه لا يمتلك شيئا لا مال ولا حتي طعام ولا اي شيء سوي جلبابه القديم الممزق الذي يستر به عورته ومع ذلك في كل مرة كانوا يهاجمونه ويفر منهم بقدرته العالية علي القفز وعلي الجري فلا يستطيعون الامساك به ، كان يفكر بينه وبين نفسه أن يقف في مرة من المرات يواجههم ليعرف ماذا يردون منه ، فهو لايملك اي شيء علي الاطلاق ، لكن كان لا يأمن غدرهم ، وذات مرة حكي فيها عنهم مع معلمه نبهه معلمه أن هولاء لا يرحمون ، لو مسكوا به لربما يأخذونه عنوة للعمل معه بالإكراه او يذبحونه علي أحدي المقابر التي تحتوي علي الآثار سواء في هذه القرية أو في القري المجاورة لها، هذه المقابر الفرعونية التي تشرط علي فتحها ذبح طفلا من الأطفال ، لذلك يختطف المجرمين الاطفال ، وفي كل الأحوال هو مكسب لهم ، سمع الطفل هذا الكلام من معلمه فمات من الرعب ، لدرجة أنه بقي بعدها عدة أيام مستيقظ يخف من أن ينم فيفوز به أحدا من هؤلاء قاطعين الطريق .
ظل هذا الطفل البائس مشردا تحت الشجرة حيث لا أحد يلتفت لطفل العاشرة سنوات من عمره اليتيم ابدا ، ولا يحن عليه أحدا ابدا كان ينتظر أي أحد يقل له مالك أو يعطيه حتي ولو ثمرة بصل يذيب بها جوعه لكنه لم يحدث، ينتظر وينتظر حتي، أي شيء، وحينما يئس من انتظار الناس، انتظر الموت، لكن حتى الموت خذله ولم يقل له مالك، مع أنه كان يسمع أن كثيرا من أطفال هذه القرية المنكوبة فقد طفله بسبب مرض الحصبة أو الطاعون ، فطفل الحصبة لا يعرف أسرته كيف تتعامل معه ولا يذهبوا به الي الطبيب بسرعة ، فقط بعد أن يتمكن منه يذهبون به الي الوحدة الصحية الخاصة بالقرية المجاورة لهم فهي قرية اكبر من قريتهم ، لذلك كثير من أطفال البلد ماتوا بعدما طببهم ناجح المزين أو عم بطرس البركة ، الاثنان لم يكونوا يفهموا شيء في الطب أو في العلاج ، لكن الناس كانت تقصدهم لنباهتهم وهما لا يقولان لا ابدا بل يفتيا ويجودا حتي تزهق روح من تحت ايدهم ، سمع هذا الطفل بموت طفل واثنان مما كان يعرفهم شخصيا كان يحزن عليهم وفي نفس الوقت يفرح ، لعل وعسي الموت يزوره هو قريبا ، لكن حتي الموت كان بخيلا معه هو بالذات شأنه في ذلك شأن أهل هذه القرية الذين يبخلون عليه في كل شيء .
من هنا لم يجد حلا سوي أنه اضطر إلى مواجهة الحياة بأن يساعد نفسه بنفسه، حيث تعلق بتلاليبها، يومًا بعد يوم نبت للعصفور الضعيف الذي عاش في الخلاء بلا أب بلا ام ريش وتعايش.
ليسد رمقه باي شيء عرض نفسه على الناس في أعمال الفلاحة وما يخص الزرع كان يجري أمامهم على الفأس ليختاروه للعمل في أرضهم خاصة الأعيان منهم ، لكن لضعف جسده وهزاله، لم يقبلوه، فقد كان يختاره الرجل الذي يكرى مجموعة من الانفار ويقبض أجرهم من صاحب الأرض ، وهو من يشغلهم ، يعملون معا صغيرا وكبيرا ، وكما يقولون بيشيلوا بعض، فما فالرجل الكبير أو الطفل القوى الذي يقدر على حمل الفأس وضربه في الأرض ، يعمل في الأرض المحروته يشكها ويزرعها، ام الطفل الهزيل مثل طفلنا هذا كان الرجل قائدهم هذا ينقله إلى أعمال تناسب هزالته مثل تنقية الدودة من المحصول أو تنقيه الحشائش الضارة التي تصيب الزرع ولأن هذه المهمة سهلة اسهل من ضرب الفاس كان يتكالب عليها الجميع ، مما يضيع الفرصة على هذا الطفل في العمل لأكثر من يوم، فيجد عملا يوما ويوما لا، ويعطيه الرجل أجرة عمله ، ليسعد بها ويفرح ، ولكن سرعان ما كانت تبدد فرحته ، حيث يجتمع عليه الاطفال الأقوياء يوسعونه ضربا ويأخذونها منه ، لمعرفتهم أنه بلا حماية أو مدافع، كان يبكى بكاءا حارا من أثر الضرب تارة ، ومن جوعه الذي يفتك بمعدته تاره أخري ، لذلك امتنع عن الذهاب الى العمالة الجماعية في الأرض الزراعية هذه، فقائدهم لا يوفر له الحماية فقط يأخذ منه أكبر مجهود في العمل ، ويتركه للأقوياء يبطشون به ويستولون على اجرته ، من اجل ذلك بقي تحت الشجرة أخذ يقحم نفسه في مساعدة أصحاب المواشي سواء كانوا من الأهالي الذين يرغبون الماشية في بيوتهم وينقلونها كل صباح الي أرضهم لتأكل وتتهوى ثم يعدون بها الي بيوتهم في المساء لتنم تحت أعينهم خوفا عليها من اللصوص وقطاع الطرق ، أو يقحم نفسه في مساعدة تجار المواشي ذات نفسهم الذين يسقون الماشية من بلد الي بلد ليبعوها في أسواق البلد الأخري أو حتي في نفس البلد أو يرسلوها للأعيان في المناسبات ليذبحوها كما كان يفعل معلمه الذي يقود المواشي إلى سرايا الست هانم ام ورد يبيعها لها، كان طفلا يعرض نفسه سواء هنا او هنا، حيث كان ينتظر تحت الشجرة لحين مرور الفلاحين بمواشيهم، مرددًا عليهم: "عنك يا عمي، عنك يا أبوي" ثم يمسك بحبل البقرة، يُلزمها أن تسير بهدوء دون ضربها، أو نهرها والبقر يكن هادئا معه فلا يتعبه ولا يجري منه فبرغم صغر سنه الا انه يجيد التعامل مع المواشي جيدا لتعتمله الدائم معهم كان يلزم البقرة حتى تصل إلى مربطها، الذي أعده لها صاحبها ثم ينحني على رجليها الأماميتين دون خوف منها أو من رفسها، يربط كلًّا منهما في (حجلة) ويربط رسنها في الوتد المقابل، راميًا لها ما توفر عند مالكها من برسيم أو خوص ذرة، أو ما شابه ثم يملأ الدلو بالماء من الترعة البعيدة، ثم يحمله بصعوبة لثقل الدلو ولضعف عضلاته هو، ويمرره علي الماشية واحدة واحدة كي تشرب.، ينتهي من فعلته تلك، ثم يجري بخفة على مواشي فلاح آخر، يكرر نفس فعلته وأحيانًا يزيد بحلب بقرةِ آخرى ، إذا طلب منه مالكها، يفعل ذلك مقابل أن يرسل إليه واحد من الفلاحين، كسرة خبز وقطعة جبن، أو كسرة خبز وصحن مش، وأحيانًا يزيده الكريم بقدر لبن، وأحيانًا ينساه الجميع، فيتكور جوعًا تحت الشجرة، يلوك ورقها حتى يداهمه النوم، وكأنه لم ينم منذ قرن.
في يوم من أيامه الصعبة تلك نهشه الجوع بصورة لا ترحم، اؤصدت كل الابواب في واجه ، بقي من الصباح حتي غروب الشمس وهو يبحث عن أي شيء يضعه في معدته التي لا تهدأ لكن خاب مسعاه، قصد القريب والغريب ، حتي الشجرة التي يعتبرها أمه وبيته ، بخلت عليه في هذا اليوم حيث تلطخ ورقها بتراب ناعم ورمل جاء مع الريح الشديدة التي تضربها ، مما جعل بطنه تتقلص وتؤلمه بعد أكله من ورقها الملطخ بالطين ففكر كيف يتخلص من الجوع دون ان يضع في بطنه طعام، فرقد يضم رجليه ناحية بطنه، ثم وقف على يديه رافعًا قدميه إلى أعلى، بل مشى خطوات بهذه الكيفية، ظنًّا منه أنه بذلك يطرد الجوع، كانت حركة مبهرة منه كطفل ، حيث التف حوله الصغار يشاهدونه ويشيرون عليه ويضحكون ملء أفواههم، مثلما كانت تفعل معه ورد تماما ، سعد بوجودهم، حيث خلقوا حوله الونس من ناحية وذكروه بابتسامة ورد من ناحية أخري فزاد بحركة أخرى، وهي أن يقف على يد واحدة ويمشي، بفعله لذلك الحركة حبس الأطفال أنفاسهم تحسبًا لسقوطه، لكنه لم يسقط، وحينما سمع تهليلهم وتصفيقهم، أضاف حركة ثالثة، وهى أن يقوس ظهره وينقلب للوراء، وكلما انبهر الأطفال، فعل حركة أخرى، وجدد في حركاته وأخيرًا قفز ليمسك بفرع الشجرة، ينتقل من فرع إلى فرع بحركة دائرية، بخفة الطيور ومرونتها، كأن جسده خالٍ من العظام، كأنه يطير لا يقفز، يحط علي كل فرع بخفة الطيور، ومن هنا لقبه اطفال القرية بالعصفور ، ومن قبل كانت ورد تسميه الطاير، لذلك أصبح بطلا اسمه العصفور الطاير ونسيا الجميع اسمه الحقيقي ، لا احد يذكر سوي كلمة عصفور .
بقي العصفور تحت الشجرة سنوات طويلة ، حتي أصبح العصفور جزءًا من الشجرة، وأصبحت الشجرة جزءًا منه، بعد أن انقطعت شجرته الآدمية، حيث ماتت أمه وهي تلده، ومات أبوه وهو في الخامسة من عمره بعد صراع مع المرض أمام عينيه، فرعاه أخوه عبد الواحد من بعدهما.
بكبره عبد الواحد بحوالي اثني عشر عاما ، لذلك حمل همه كأبويه ويمكن اكثر ، كان أخوه عبد الواحد حنونًا عليه جدا، عطوفًا معه، يوفر له كل طلباته، رغم ضيق اليد ولا يبخل عليه أبدًا باي شيء بل يفضله على نفسه، في المأكل وفي الملبس بل وفي كل شيء، كان عصفور يجلس تحت الشجرة ويسترجع ذكرياته الجميلة وهو في بيت يسكنه ومع اخ يحبه أكثر من نفسه فهو لازال يتذكر يد اخيه عبد الواحد وملمسها الحنون التى كان يدلك بها يد عصفور الصغيرة، ليشعر بالدفء، وكيف كان يقشر له وحدات البرتقال التي كان يستعصي عليه تقشيرها، بل يد عبد الواحد لم ولن تمتد ابدا علي عصفور فقد كانت تمسح دمعه، وتربت على ظهره، وأخيرًا ترفعه على ظهره، ليلهو ويبتسم، يسرح عصفور ويتذكر الالعاب التي كان يلعبه إياها اخيه عبد الواحد ، فبرغم فرق السن بينه وبين عبد الواحد الا إنه كان يجثو على قدميه، ليلعب معه أو ليوطي بظهره كي يركب عليه عصفور وكأنه يركب حمارا ، كان عصفور هذه الايام هي اسعد ايام حياته لدرجة جعلته لا يتذكر أمه ولا ابيه ولا يبكي عليهما ابدا، فعبد الواحد ملء عليه الحياة كلها واغناه عن الجميع، لكن الحياة الغير عادية تلك اصرت أن يتشرد عصفور ويرمي للتهلكة، ولا يبقي له سوي طيف الذكريات التي يتذكرها فيبتسم.
يد عبد الواحد كانت تقبض على يديه، ويمشيان لمسافات طويلة، يفسّحه في الموالد، يشتري له الفول السوداني والحمص والجلاب، ويرى العصفور كثيرًا من الحركات البهلوانية التي يفعلونها بعض رواد المولد لينبهر الزوار ويعطي لهم بعضا من نفحاتهم هي نفسها تلك الحركات التي خزنها عصفور في عقله الباطن ليفعلها الان بعد مرور خمس سنوات علي رؤيتها وأكثر ،
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي