الفصل الرابع

. {لقاء مع الله}

. - ٤ -

عَبْر بوّابة حديدية مُثبّت فوقها يافطة خشبيّة، كُتِب عليها بأحرف ضاعت أغلبها «مدرسة عِباد الرحمن»، دلف ”شيبة“ مهرولاً في عجالة.. أربعيني مُلتزم، أو هكذا بدا بلحيته السوداء الثائرة؛ كمكنسة منزلية أصيلة.. تحت إبطه الأيمن، كانت تنمو خيزرانة رفيعة مفعولها له تأثير كُرباج سوداني منقوع في الزيت لشهرين أو ربّما ثلاثة.. مهنته التي يشغلها عن غير جدارة، هي مُدرّس لغة عربية في مدرسة إعدادية لم ينلها نصيباً من إسمها قَط.. على الفِناء المكسو ببلاطٍ مُدبّب، سار ”شيبة“ بقدمين قصيرتين مُداعباً لحيته بيمينه.. وفي أقل من دقيقة، وصل لاهثاً إلى الطابق الثاني، الراقد في سلام داخل المبنى الرئيسي؛ الذي يشغل الجانب الأيمن من المدرسة.. الصف الأول؛ كانت مفردات اللوحة التي رمقها سريعاً قبل أن يدخل حجرة، لا تختلف كثيراً عن معتقلات القلم السياسي في حِقبة ما بعد ثورة «يوليو» المجيدة.. أربعة جدران كئيبة مطليّة إلى المنتصف باللون الرمادي، وتحوي داخلها عدد لا نهائي من مقاعد خشبية تعود لعصور ما قبل التعليم.. وباحترافية حاوي «سيرك» شعبي فاشل، التقط ”شيبة“ صُباع طباشير أبيض من عِلبة تسكن جيب بنطلونه الواسع، المرفوع دوماً أعلى الكاحلين.. حِصّة الدين الإسلامي؛ هكذا نَقَش سريعاً فوق بُقعة سوداء تحجز نصف جدار تقريباً، يُطلق عليها وبلا فخر «سبّورة».. تثاءب أولاً قبل أن يدعك يديه في بعضهما، ثم نطق بخشوعٍ يجيد تمثيله :

— على اخواننا الأقباط التوجّه حالاً إلى الحجرة السفلية من البناية، لحضور حِصّة الدين المسيحي مع زملائهم.

لا يمكنك تخيّل حجم الحيرة الساحقة؛ التي تعلو دائماً وجه ”سيف“ عند سماعه ذلك النداء.. أين يكمن مقعده الحقيقي؟!.. ما هي هويّته الدينية الأصلية التي يجب عليه أن يشهرها دائماً في تلك الأوقات؟!.. أينبغي عليه أن يبقى ساكناً في مكانه وسط العدد الغفير ولا يتحرّك!!.. أم يلحق سريعاً بالحِفنة الضنينة المترجّلة إلى أسفل المبنى!!.
كعهده ظلّ ”سيف“ هائماً على روحه للحظات قبل أن يرضى بما طرحه قديماً «إبن خلدون».. المغلوب مُولَع دائماً بالاقتداء بالغالب، هو نَصّ ما صرّح به الفيلسوف في مقدّمته ذات يوم، ولا شكّ أن الغالِب يكون دائماً في كثرة الجموع حتى ولو طَفَحَت عقولها الضحلة بجهلٍ لا ينضب.. وخلال ثانيتين أو ربما ثلاث، إستغلّ ”سيف“ هدوء نسبي خيّم لدقائق على جنبات الحجرة بعد خروج قِلّة بسيطة لم يزد عددها عن خمسة، ثم سأل أستاذه بطلاقة طالِب فلسفة يوناني مشهور برجاحة عقله :

— سيّدي، لديّ سؤال يشعل عقلي ناراً، وأتمنّى أن أجد عندك ما يطفئ لهيب تلك الحيرة.. أليس يحقّ للمسلم الزواج من نصرانية وفقاً لما جاء به دين الإسلام!!.

في وَرَع حقيقي، أسدل ”شيبة“ جفنيه أولاً قبل أن يدعك يديه في بعضهما ناطقاً البسملة وأتبعها بابتهالاتٍ خفيفة، ثم صرّح بعدهما بثقة رادّاً على مراهق يبدو عليه التخبّط :

— أقعد يا فتى، وبارك الله فيك أولاً.. نعم يا ولدي من حقّه قطعاً الزواج من أخواتنا الأقباط متى أراد.. اسمعوني يا أحبّائي وانصتوا إلى حديثي جيّداً لعلّكم تفقهون؛ لقد سمح لنا ديننا الحنيف أن نتزوّج من النصارى، أو أيّ كتابيّة يطمع فيها قلبنا.. ربنا سبحانه وتعالى من نِعَمه علينا ورحمةً بنا نحن عباده المخلَصون أن شرّع لنا الزواج من الكتابيّات؛ كما جاء في نصّ الآية الكريمة.. {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}.. والدليل على ذلك أيضاً يا أولادي أن الرسول عليه أفضل الصلوات وأتمّ التسليم تزوّج أثناء الدعوة من يهودية، وهي «صفيّة بنت حيي إبن أخطب» وخيّرها بعد زواجه منها بين أن تبقى على دينها إذا أرادت، أو تدخل إلى الإسلام لتكن من الناجيات.. وكانت أخر زوجات النبيّ من النصارى، وتُدعى «ماريّة بنت شمعون» الملقّبة بأم المؤمنين، وهي رضي الله عنها وأرضاها من أنجبت له ثالث أبنائه «إبراهيم» ولكن توفّي في سنٍ صغيرة.

على إيقاع إجابة لم تلق ترحاباً داخل ثنايا عقله، إمتقع وجه ”سيف“ لنصف دقيقة.. ومتعجّباً هرش في رأسه أولاً، ثم استسلم لتعبيرات اندهاش عَلَت جبينه للحظات، ثم فضحتها حنجرته بتلقائية تنبع من قلبٍ صادق :

— إذاً لماذا يا سيدي لا يحقّ للمسلمات أن يتزوّجن من رجال النصارى إذا أردن!!.. أليس من العدل أن يحقّ لهن مثل ما يحقّ لنا نحن الرجال!!.

— لأن هذا حرامٌ شرعاً ولا يجوز بأيّ حالٍ من الأحوال، وقد نهانا ربنا عزّ وجلّ عن فعل ذلك كما جاء في كِتابه العزيز.. {وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} صدق الله العظيم.. وأيضاً هناك آية أخرى سأتلوها عليك حالاً كي يطمئن قلبك أكثر يا فتى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.. أفهمت شيئاً من حديثي الآن يا بنيّ، أم استرسل أكثر لأعيد قولي عليك علّك تعقل منه مثقال ذرّة!!.

إستشعاراً بالحرج ضيّق ”سيف“ عينيه أولاً، ثم أطلق العنان لنافورة دماء دبّغت وجنتيه لا إرادياً.. بعدها سَكَت للحظة طويلة، ثم أتبع بتساؤلٍ نحيف نطقه مُستفهماً :

— ولكن لماذا يا سيدي؟!.. أقصد لماذا إذا تزوّجت المسيحية من مسلمٍ ننعتها ونصفها بأنها كتابية؛ أمّا المسيحي إذا أراد الزواج من المسلمات نتهمه بالكفر، ونطلق عليه ما نقوله عن المشركين؛ فلا نزوّجه حينها بناتنا ونسائنا؟!!.

— لأن الرجال قوّامون على النساء في كلّ وقتٍ وحين.. ولابد أن تعرفوا يا أولاد إن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل قيّم على المرأة، ولابد أيضاً أن تتأكّدوا من أن له كامل الحقّ والسلطة في تأديبها بالضرب؛ فقط لو لزم الأمر وخرجت - لا قدّر الله - عن طاعته وأصبحت ناشز تحتاج إلى التوجيه.

— حسنٌ سيّدي؛ ولكن باقي الآية تؤكّد على نقيض قولك المزعوم، حيث ذكرت صراحةً {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا}.. هل المقصود بلفظة «فضّل» المذكورة في الآية هنا يا سيّدي الأفضليّة أم الفضيلة؟!.

سؤالٌ فلسفي طرحه ”سيف“ في فمتو ثانية على أستاذ، أخذ حِصّة الدين على عاتقه؛ كوسيلة لتحسين دخله النقدي لا أكثر.. وكعهده، داعب ”شيبة“ بعدها لحيته الباهتة أولاً، ثم ردّ بما فتح عليه عقله الصلب أخيراً :

— الإثنين يا فتى.. القوامة يا أولادي تشمل كل شئ.. ولابد أن تدركوا تماماً أن الرجل سيُسأل أمام الله سبحانه وتعالى عن أفعال زوجته، ولذلك يستطيع المسلم أن يتزوّج من نصرانية أو يهودية لإنها ستصبح تحت رعايته، وسيضمن وقتها أن نسله من أولاد وأحفاد سيكونون جميعاً مسلمون مثلنا بالضبط.. هذا قطعاً غير احتمالية أن ينتشلها من ضلالها؛ الذي هي عليه فتصبح مسلمة على يديه، وحينئذ سيكون قد ضَمِن الجنة لنفسه ولها؛ بل وستصبح منزلته عند الله عزّ وجلّ أعلى إن شاء الله.. إنما المسلمة إذا حادت عن العقل والتقوى وتزوّجت نصرانيّ والعياذ بالله من الممكن أن تتأثّر بديانته، وتبعد عن الإسلام؛ بل ومن الجائز أيضاً أن يشِبّ أطفالها على غير دين الإسلام ويصبحوا والعياذ بالله على دين أبوهم فيكونوا وقتها من القوم الضاااااالّين.

رَدٌ مذبذب له خاصيّة التوتر السطحي، أباح به ”شيبة“ قبل أن يلتفت عابساً للسبورة.. وبسَفِنجة بالية، انهمك مطمئناً في مسح سطحها المكسو بحُفَرٍ يصعُب حصرها؛ فحدفه ”سيف“ من مكانه بجملة مبتورة لم يسعفه الحظّ بنطقها كاملةً :

— ولكن يا أستــــ,,,,,.

— كفاك ثرثرة والخوض في لغوٍ لا طائل منه أكثر من ذلك!!!.. وكُن كريماً يا فتى وأعطِ فرصة لزملائك أيضاً أن ينطقون أسئلتهم مثلك.. أو اسكت، واتركني أشرح لكم الدرس بدلاً من هرطقتك السخيفة التي لا لزوم لها!!!.

— عفواً يا أستاذ، واعذره لأن والدته من «الكفاتسة».

لا يمكنك لحظتها تخيُّل حجم عاصفة الضحك؛ التي ضربت جدران الفصل ولو إستعنت بجهاز «أنيمومتر» ياباني الصنع.. عاصفة رعديّة سبّبت حرجاً طفيفاً لروح ”سيف“؛ فاكتفى ”شيبة“ وقتها برسم إبتسامة ثلاثية الأبعاد لنصف دقيقة أثناء كتابته لعنوانٍ هادئ أعلى السبّورة؛ وكان العنوان بمثابة الغائب عن أرواحهم والحاضر على الحائط فقط، مفرداته هي {الرحمة}.
.

. ***

لبُرهة توقّف ”سيف“ عن الاستطراد متأمّلاً محتوى كأسٍ شفّاف، كان مِزاجُه كافوراً.. لم يكن ماء، ولم ينتمِ للمياه الغازية بأية حالٍ من الأحوال.. رقراقٌ، عذبٌ، لَذّةٌ للشاربين، ويروي عَطَش الملهوف من رشفة واحدة يتيمة.. إذا كان باجتماع ذرّتين «هيدروچين» مع ذرّة «أُكسچين» تتكوّن الحياة، فإن الذي بيده الآن هو منبع الحياة إذاً ولا شَكّ؛ حيث
شعُر ”سيف“ لحظتها أنه يقبض على الهواء بيمينه من شِدّة شفافيته.. وربما لذلك تراءى له حِجاب عتيق لم يستطِع رؤيته قبل اللحظة، وقد يكون مورِس السحر الأسود على قطعة الحشيش التي تعاطها منذ قليل؛ فتسبّبت بتأثيرها العاتي في ضياع إتّزانه، وفقدانه أية سيطرة على حواسّه.

— لم يعجبني ردّه على سؤالي يومها صراحةً.. وتستطيع القول ولا حَرَج أنّ عقلي لم يقدر على ابتلاعه إلى أن تعرّفت على صديقي ”عدنان“ ذات يوم وأنا عائد إلى منزلي بصحبته.. عدنااااان!!.. أمين عام تنظيم «خالِف تُعرف».. باختصار يا سيدي هو ملِك الإختلافات، إذا خيّرته بين السير والجلوس، سيخبرك وبلا فخر أنّه يفضّل الوقوف.. نأكل أم نشرب!!، ستأتي إجابته حازمةً قاصداً النوم.. أيّة فكرة أو سلوك، شريطة أن تكون بعيدة تماماً عن الإختيارات المتاحة والمطروحة عليه فقط.. إنه صاحب شعار «أنا أختلف إذاً أنا فيلسوف».. ولن أخفي عليك أنّني قد تأثّرت به كثييييييراً خلال تلك الفترة من حياتي.. نعم، لقد تأثّرت بعقليته فترة محترمة من حياتي بمعنى أصحّ وأكثر دِقّة.. لا أعرف إلى ماذا آلت به الأمور الآن؛ ولكن سَمعت إنّه غدا كاتباً سينيمائياً حالياً، ويُشاع عنه أنه يتكسّب من روايات الرعب التي يكتبها مبالغ طائلة تمكّنه من الحياة في رغد.. أنت تعلم قطعاً أن الجهلاء أصبح عددهم يفوق الحَصر، والجميع يعرضون عن قراءة الأدب الحقيقي؛ فأصبحت روايات الرعب والرومانسية والخيال هم الذوق العام لأغلب القّراء، ومن يطالعها يُطلِق على نفسه مفتخراً بذاته لقب قارئ مثقّف، وأقسم لك سيّدي أنني إذا حاورت أيّاً منهم لأرديته ممزّق العقل والروح؛ فهم لا يختلفون كثيراً عن متعاطي المخدّرات.. المهم، قابلت ”عدنان“ ذلك اليوم، ومكثنا نتناقش كثيراً أثناء العودة إلى بيتينا.
.

. ***

خلف البوابة المعدنية المدهون حديدها بالأخضر، وقف ”عدنان“ حاملاً حقيبته المدرسيّة فوق ظهره.. مراهق ينحدر عن أمّ سوريّة، وأبّ حمل الجنسية المصرية في بطاقته لما يناهز الأربعين عاماً.. وطمعاً في تبديد لحظات الإنتظار القاسية، انهمك بعصبية ملموسة في قضم أظافره شبه المنتهية منتظراً مغادرة شخصٍ ما.. يقف أمام البوابة جهة الخارج؛ كبلطجي عتيد يتحيّن الفرصة الملائمة للإنقضاض على غريمه وطرحه أرضاً.. ربما يكون وقف كثيراً، وقد يكون إنتظر طويلاً؛ ولكن عساه أن يكون ظَفَر أخيراً.. من بعيد لاح له ”سيف“ في الأفق بشعره المصفّف بعناية، فاقت عروسة في ليلة دُخلِتها.. ومتردّداً ابتلع ريقه بصعوبة إزالة بقعة حِبر أسود من على ملابس ناصعة البياض، ثم نطحه باستهلالة جامحة، كاد أن يفقده بها توازنه :

— ما هذا الهراء الذي فعلته بالداخل يا صديقي!!.. أمجنونٌ أنت لتلقي بأسئلتك هكذا في المدرسة!!.. ما طرحته بالداخل يا رفيقي لا ينبغي أبداً أن يتمّ تداوله أمام العِيان مثلما فعلت قبل قليل.

— وأين يحقّ لنا تداوله إذاً ما دامت المدرسة مكاناً غير ملائمٍ؟؟!!.

هكذا أفضى ”سيف“ بما دار في خلده من تساؤل؛ فأجابه ”عدنان“ بضحكة خفيفة، صاحبتها نظرة ساخرة استمرّت لثانية معدودة قبل أن يشدّ الحقيبة على كَتِفيه أكثر، ثم سأله مستفهِماً :

— هل والدتك بحقّ من النصارى كما صرّح الجميع في الفصل؟!.

— نعم!!.. وهل هناك ما يستدعي كل هذا التهكّم؟!.

— لا، أبداً.. فقط، كنت أرغب في التأكّد قبل أن أسألك؛ وماذا عنك أنت يا رفيق؟!.

باغته ”عدنان“ بذلك السؤال؛ فلم يجد ”سيف“ مناص من الردّ عليه.. حتماً هناك إجابة وعليه حالاً الإختيار.. إمّا أن يكون من أهل اليمين، يا إمّا يختار اليسار.. هدأ للحظة قصيرة، ثم تلفّظ بردٍ فاتر مشوّش لا يخرج من مجنونٍ فاقد الأهلية :

— أعتقد مُسلم!!.. والدي أخبرني منذ مدّة بأنني كذلك، وعلى هذا أجبتك الآن.

— والدك أخبرك؟!.. أقسم على أنها لطُرفة من أظرف ما سمعت بحياتي، ولابد أنك حتماً خفيف الظِلّ!!.. هل يحقّ لي أن أسألك عن أمرٍ ما، كما يحقّ لك الامتناع عن الإجابة إذا أردت!!.

تجهّم ”سيف“ وقتها مستشعراً الحيرة في سؤال لم يُلق على مسامعه بعد.. وبصعوبة السير بواسطة درّاجة منزوعة الإطارات على أرضيّة رطِبة، زَفَر من فتحتيّ أنفه أولاً ثم أجاب متلعثماً :

— بالتأكيد، قطعاً يحقّ لك.. ما هو سؤالك؟!.

— لو لم يسعفك الحَظّ أبداً برؤية والدك، ماذا كنت ستختار لحظتها؟!.. مسلم أم نصراني!!.

— لا أعرف حقيقةً!!.. ولكن، أعتقد أنني كنت سأغدو قبطياً مثل والدتي.. قطعاً، كنت سأصبح كذلك اقتداءً بأمّي، وليس هناك شكٌ في هذا.

— أينبغي عليك الاختيار من بينهما فقط؟!.

— بالتأكيد.. ولا يوجد غير هاتين الديانتين أمامي لأعتنقها ديناً، والجميع ما بين الإسلام أو المسيحية.. أليس كذلك!!.

— ما تقوله لا وجود له إلا بخلدك فقط يا عزيزي!!.. أنت الذي حشرت عقلك بينهما فقط صدّقني.. احتمال أن يكون الإسلام هو الحقّ وغيره باطلاً، ومحتمل أيضاً أن تكون المسيحية هي الأولى بالاتّباع وما عداها بهتاناً غير صالح لعبادة الخالق به.. ومن الممكن أن يكونا الاثنان على خطأ، وهناك دينٌ لم يصل إلينا حتى الآن ولكنه هو الأجدر بأن نتخذه عقيدة لنا.

حسبها ”سيف“ في رأسه بسرعة تجاوزت سرعة سيارة سباق طراز «فورميلا»، ثم تمهّل فجأة.. وناحية ”عدنان“ ترك نظرة جافّة لها خاصية الإحتقار عن بُعد قبل أن يردّ مشمئزّاً :

— وكيف هذا؟!.. ليس هناك غير الإسلام أو المسيحية، لتكون عقيدة للإنسان.. أم تراني سأخترع ديناً جديداً لي وحدي!.

— من ذلك الأحمق الذي أخبرك بما تقول؟!.. هل قرأت يوماً عن الماجوسيّة!!.. أتعرف شيئاً عن البوذيّة، والزرادشتية، والنوردية!!!.. أسمعت قبل اللحظة عن الإلحاد، والوجودية، ونظريات نشأة الكون!!!!.. صدّقني أنت الذي ارتضيت بمحاصرة عقلك طواعيةً داخل خندق ضيّق رغم إن العالم بالخارج رحب وشديد الاتساع.. تظنّ أنه لابد أن يكون أحدهما فقط على صواب لأنك لم تجرّب غيرهما، وربما لو فعلت لكنت الآن أتحدّث إلي زميل دراسة هندوسي مثلاً.. كونك لا ترى غير الأبيض والأسود ليس بالضرورة أن يكون الاخضر مثلاً غير موجود، أو أن الأزرق وهمٌ لا حقيقة له.. صدّقني العيب في نظرتك أنت للعالم الذي هو حولك.. أنظر جيداً وتمعّن خارج محيطك، وصدّقني ستجد الكون مليء بملايين الالوان.

أطاحت الكلمات بعقل ”سيف“؛ كما أطاحت القنبلة الذرّية بهيروشيما يوماً ما.. بُهت لفترة شارفت نصف دقيقة تقريباً، إعتزلت فيها أحباله الصوتية الحركة تماماً.. بعدها، طفح عقله بسؤالٍ لولبي :

— ومن أين لك بمعرفة كل هذه الأمور وحدك!!.. ألست مسلماً كباقي الذين حضروا حصّة الدين الإسلامي!!.

كانت تلك من أسعد لحظات ”عدنان“؛ حيث رأى الإنبهار يتجلّى في عينيّ مُحدّثه.. على إستعداد دائم لتبديل مصيره بمصير «سليمان الحلبي»؛ نظير الحصول على نظرة الإنبهار تلك ولو لهفوة زمنية لا تتعدّى اللحظة.. وفخراً بحاله رفع حاجبه الأيسر عالياً، ثم أجاب راضياً على ما وصل إليه من قمّة :

— أنصحك يا صديقي بالتوقّف عن توجيه مثل هذه الأسئلة لأيّ شخص، بل وأرجوك أيضاً ألا تسأل غريباً عن ديانته حتى لا تتسبّب في أزمة طائفية.. ولكن، أنا بصفة عامّة لست مسلماً ولن أكون أبداً نصرانياً؛ أنا ”عدنان“.. ”عدنان“ فقط.. أنا لست تابعا ًلقوّة، ولا ينبغي لمثلي الخضوع لفكر أو عقيدة شخصٍ ما أبداً مهما كانت هويّتة.

.

. ***

إقترب ”سيف“ من ناحية الستار بعد أن قتله الفضول لرؤية العالم الموجود خلفه.. وبهدوء مُفتَعل أزاح جانبه؛ فتسمّرت روحه بعدها لنصف دقيقة.. من مكانه رأى السحاب واضحاً كما يراه الجالس جوار النافذة في طائرة «Airbus» من الطراز الحديث.. ورغم ذلك الإرتفاع الشاهق، إلا أنه استطاع رؤية ”يَحيى“ من أعلى.. يسير بعباءته الواسعة وسط تلال من الزهور، وعلى وجهه نفس الإبتسامة التي رسمها قبل أن يغادر.. رمقه ”سيف“ من مكانه، ثم حدّق فيه جيداً بعد أن طاله الفضول؛ لمعرفة سبب وجوده داخل جنبات ذلك الصرح العريق :

— ”عدنان“ هذا كان هو الصديق المقرّب لي، وهو أيضاً من رأيت بعينيه أشياء كثيرة كانت غائبة عن عقلي.. صديقٌ أقرب لي من نفسي لمدة خمس سنوات تقريباً.. أعجبتني فصاحة عقله ورجاحته يومها كثيراً حتى أنني قد انجذبت إليه؛ كما ينجذب الحديد الخام إلى المغناطيس.. «ومن الممكن أن يكونا الاثنان على خطأ، وهناك دينٌ لم يصل إلينا حتى الآن ولكنه هو الأجدر بأن نتخذه كعقيدة لنا»!!!.. لا أخفي عليك سيدي أن تلك الكلمات تسبّبت في قلب كياني لمدة تزيد عن سنتين أو ربما ثلاث.. بالمناسبة، هل قرأت حرفاً عن نظرية التطوّر، أم أنك ممّن يصدّقون على أن معناها يقرّ بانحدار الجنس البشري عن فصيلة القرود!!.. أتعرف شيئاً حقيقياً عن الماجوسية، أم أنك تظنّهم ليسوا إلا عبدة النار فقط!!.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي