الفصل الثالث

. {لقاء مع الله}

. - ٣ -

الجمعة.
٦ يناير ١٩٨٤.
١٠:٣٧ صباحاً.

انتفض ”سيف“ من على سريره؛ كمن رأى شبحاً بثلاث عيون وأربعة أقدام، ثم هبّ واقفاً في جزء من الثانية.. وسريعاً دسّ قدميه في نعلين قماشيين، وتوجّه نحو منتصف الرواق، الواصل بين غرفته وحجرة والديه.. كان الزعيق مُدوّياً حينها في ثنايا البيت حتى ظنّ أن هناك زِلزالاً بقوة خمسة «ريختر»، يضرب الجدران المفروشة على آخرها بورق الحائط.. ورغم نهيجه المتلاحق إلا إنه عثر بسهولة على مصدر ذلك الصوت.. شجارٌ عنيف بين والديه، كان هو السبب في إزهاق حلمه الوردي قبل أن يفزع من سريره.. ومُرتعشاً إندفع ”سيف“ بسرعة رصاصة تسعة «ملّي» إلى باب غرفتهما الموصد بإحكام.. في أقل من ثانية حاول فتح الباب الخشبي المدهون بالأصفر لينضم إليهم، قاصداً طرد الرَوع عن روحه.. محاولة يتيمة، باءت بالفشل سريعاً إلى أن إستقرّ عقله على النظر من ثقب المفتاح تارّة، والإنصات بأذنه تارّة أخرى.. وبصعوبة إسترق حديثاً صارخاً، جمع بين والده الواقف أمام الدولاب، وبين أمّه المُنهكة حنجرتها بصراخٍ مبحوح :

— حقّاً، لا أفهم قصدك بقولك أنك حرٌّ!!.. إذا كنت كذلك؛ فأنا أيضاً يحقّ لي تربيته وفقاً لما أرى أنه سيصبّ في مصلحته، بل ومن حقّي أيضاً أن أجعله قبطياً مثلي!!.. لماذا تريد فرض عقيدتك وحدها على إبننا، وتثنيني تماماً عن فعل ذلك!!.

— دعكِ من هذا الجدال الذي لا طائل منه؛ فنحن لن نقضي حياتنا في النقار هكذا.. وأقسم لكِ أن الأمر بات محسوماً، ولن تجدي توسّلاتك في زحزحتي قيد أنملة عن قراري، وإذا كنتِ ترين عواراً في ذلك؛ فلتفارقيننا إلى الأبد.. إنه ولدي وأنا حرٌّ فيه، ولا أريده حين يكبُر أن يدعو عليّ، ظنّاً منه بأنني قد تخلّيت عنه.

— حُرٌّ فيه!!.. ما لي أراك تتحدّث كما لو أنني عدمٌ لا وجود له، أو غريبة تتطفّل عليه!!.. أليس هو إبني كما هو ولدك، ويحقّ لي تنشئته كما تربّيت أنا منذ الصِغَر!!.. أليس بمقدوري أن أجعله يذهب معي إلى الكنيسة، كما تصحبه أنت كلّ جمعة إلى المسجد!!.

كنيسة!!.. لفظة غريبة لم يفهمها ”سيف“ وقتها بعقله الضيق؛ الذي ما زال هَشّاً لا يعرف المبارزة الفكرية.. لم يكن ما سمعه مفيداً لروحه بتاتاً، عِوضاً عن أنه كان مؤلماً بقسوة على عقله؛ حيث كان يشعر بأنه طرفٌ أصيل في ذلك الحديث، ولكن لم يفطن حتى الآن إلى السبب الرئيسي لإقحام إسمه.. ما الضير في الذهاب للكنيسة مع أمه؟!، ثم إن ما هي الكنيسة أصلاً؟!!.. هكذا كانت التساؤلات تقتحم عليه سلامه النفسي؛ فزادته حيرة هائلة لا تنفَد.. ومن خلال ذلك الثقب الواهن استطاع رؤية والده يذرع الغرفة جيئةً وذهاباً؛ كمُهرة صغيرة أبعدها الحوذي قسراً عن أمها.. ثانية أتبعتها اثنتان، ثم أصغى بعدهم لكلمات حاسمة خرجت من بين شفتيّ والده؛ كأنه يفضّ نزاعاً دولياً حول جزيرتين أو مساحة أرض محل جِدال :

— وماذا أقول إلى الله حين يسألني عنه بعد موتي؛ الذي أتمنى أن يقترب ميعاده كثيراً لأستريح منكِ ومن عِنادك اللزج هذا!!.. أتريدين أن أخبره بأنني قد تركته يشبّ على المسيحية، فقط كي لا تحنق وتبتأس والدته النصرانية.. كفى جهلاً، وكُفّي قليلاً عن ثرثرتك الغبية وطنينك المزعج؛ الذي أصبحا فرضاً عليّ كل يوم.. إنني سأجعله مسلماً مثلما كانت أجداده سلفاً ومن بعدهم أبيه، وصِدقاً هذا قراري الأخير ولا رجعة فيه، ولن أخوض نقاشاً بعد الآن نحو هذا التيه.. وإذا كنتِ ترغبين في أن يمرّ يومك بسلامٍ وهدوء؛ فلتعزفين عن هذا الحديث إلى الأبد، ولا تنطقي حرفاً عن دينك أمامه بعد الآن.

— الآن فقط أصبحتُ ثرثارة ذات طنينٍ مزعج!!.. هل تظنّ أنك ستخشى عليه من حدوث مكروهٍ له أكثر ممّا سأفعل أنا والدته!!.. ألا تعرف أنني من حملته في بطني تسعة أشعر، وبالتأكيد سأكون أكثر من يخاف عليه، عِوضاً عن يقيني المطلق والتام بمصلحته!!.. وأقسم لك بأن أبانا الذي هو في السموات سيسألني عنه وعمّا قدّمت له، وحتماً لن يغفر لي إذا رآني قد فرّطت في تربيته بهذه السهولة.

نطقتها ”ماريان“ ببكاءٍ مُشتعل لا يمكن إطفائه.. نطقتها وهي تداري دموعها في وسادة ضئيلة، إرتمت عليها قهراً بنصفها العلوي.. وركضاً إلى مرقده الدافئ أسفل أغطية سريره الوثيرة، عاد ”سيف“ مشوّشاً كمحطّة إذاعية دمّرها القصف الجوّي تماماً.. وبيدين مرتعشتين رفع البطّانية، ثم إنزلق بجسده المهزول تحتها سامحاً لملايين التساؤلات بنهش عقله المفزوع.. أبانا؟!.. من هو ذلك الأبّ؛ الذي اتّخذ من السموات مسكَناً له؟!.. من إذاً ذلك الشخص؛ الذي كانت والدته تتحدّث معه قبل قليل، إذا كان والده الحقيقي موجوداً في السماء؟!.. وهناك ربّنا أيضاً.. هل يختلف إذن عن الأبّ الموجود في السموات؟!.. ثم ما معنى كلمة موت؟!.. وماذا سيحدث له بعد أن يموت؟!.. تساؤلات قتلته حيرة لدقائق قبل أن يندفع والده نحوه، قاطعاً طريق التأمّل أمام عقله الثائر؛ فقط ليصدر إليه «فرماناً» لا يجوز التباطؤ في تنفيذه :

— ”سيف“.. هيّا انهض يا صغيري، وكفاك نوماً إلى هذه الساعة من الصباح.. هيّا انفض الكسل عن كتفيك، واجهز سريعاً لصلاة الجمعة بالمسجد مع أبيك ككل أسبوع.

من داخل «جلّابية» تسبح في رائحة المِسك، حدفه بها ”إسلام“ بنبرة مزعجة، ثم انصرف.. ونحو نافذة حجرة أخذت شكل نصف دائرة، تحرّك ”سيف“ مشوشاً كجهاز لاسلكي منزوع الهوائي.. وفي تأمّل صوفي مُحنّك، فتحها ونظر إلى السماء أولاً قبل أن يطيح بعقله سؤالٌ فلسفيّ.. كيف لأحد أن يسكن السماء؟!.. تلك هي الكلمات التي ظلّت تطرق عقله مِراراً إلى أن إصطحبه والده إلى المسجد، ولم تبرح جدران جمجمته ولو للحظة.

وخلال ساعة طويلة لا يمكن حصر دقائقها البطيئة، انتهى ”إسلام“ من صلاته بخشوعٍ غير موجود؛ أو بالأحرى مصطنعٌ لم يجتهد في تمثيله.. عدا طاقيّة شبيكة، وسبحة كريستال زاحمت سجّادة صغيرة في يسراه، كان مظهره مألوفاً تستسيغه الأعين في الطرقات عِند ظهيرة الجمعة من كل أسبوع.. بهدوء اقترب في بطء من شيخٍ عجوز، وفي خلفيّته ”سيف“ يتبعه مهرولاً.. وعلى سبيل الإحترام المبالغ فيه، تلعثم أولاً ثم نطق أخيراً داعياً ربّه أن يحلل العقدة من لسانه :

— حرماً يا مولانا.. هذا هو إبني الذي قد حدّثتك عنه الليلة الماضية، وطلبت منّي أن أحضره إليك.. وأكون شاكراً إذا رقيته، ودعوت له بالهداية، وصلاح القلب يا شيخنا.

كان الأمر سهلاً على ”سيف“ حينها، ولم يكلّفه سوى إبتسامة مُبهمة، يُخفي بها تساؤلاته المرهِقة ذهنياً.. وبابتسامة شديدة الاصفرار، قابل إمام عجوز ذو لحية مخضّبة بالشيب، ينحني بهامته قليلاً ليسأله بلكنة عربية غير متداولة :

— ما اسمك يا فتى؟!.
— اسمي ”سيف“.

— اللــه.. اسمٌ جميل يا فتى، ويذكّرني بالصحابي الجليل «خالد بن الوليد» الملقّب من قِبَل رسولنا الكريم بسيف الله المسلول.. لقد كان يبارز عشرات الكفّار وحده ذات يوم إلى أن تحطّم سيفه لينصر دين الله؛ فاستحقّ ذلك اللقب عن جدارة.. حسناً، وماذا تريد أن تصبح بعدما يشتدّ عودك وتبلغ الشباب يوماً ما بإذن الله يا فتى؟!.

— أريد أن أصبح كوالدي.

— إذاً لابد أن تستمع لأوامر أبيك، لعلّك تفلح في بغيتك ويرضى عنك المولى سبحانه وتعالى.. ألست تريد أن يحبك الله، ويمنحك من كرمه وفضله كل ما تشتهيه نفسك وترضاه!!.

— نعم.

—ومن يحب أحداً، أليس من اللائق والواجب أن يسمع كلامه، وينصاع لأوامره وتعليماته!!.

— نعم.

— إذاً لابد أن تطيع والدك في كل أوامره، وأن تصلّي جميع الفروض في مواقيتها مثله حتى يرضى عنك الله؛ فيدخلك الجنّة مع الأطفال النجباء، ويُبعدك عن جنهم والعياذ بالله.

الجنة!!.. ما هي الجنة؟!.. وكيف السبيل إليها؟!.. ولماذا نستعيذ بالله من جهنّم ولا يريد أحدٌ أن يدخلها؟!!.. أسئلة جوهرية داعبت عقل ”سيف“ قبل أن يقصف لسانه في رهبة :

— أنا لا أرغب في الذهاب إلى الجنة أو أيّ مكانٍ أخر؛ بل أريد فقط أن أعود إلى أمّي.

— إن شاء الله يا صغيري ستذهب إليها.. ادعو لها بالهداية، وأطلب من ربنا إن يغفر لها ويهديها كي يجمعها بنا في الجنة إن شاء الله.. هيّا ارفع يديك الصغيرتين هكذا، واطلب منه كل ما تريده وتتمنّاه، وهو بالأعلى يسمع تضرّعاتك ويراك دائماً.

بهذه الكلمات أنهى الشيخ حديثه، ثم ربت بيمينه على رأس ”سيف“ في رفق ماسحاً شعره.. ومُدبِران نحو المنزل تحركا الإثنان بطيئاً إلى أن وصلا أخيراً.

. ***

— تستطيع أن تقول الآن ولا حَرَج أنهما كانا يختلفان حول نصيب كلٌ منهما في توزيع التَرِكة بينهما.. أو بمعنى أصحّ وأكثر دِقّة، كانا يتشاجران حول حقّ التوريث!!.. هذا هو سبب المشاحنة التي دارت بينهما، وفطنت سببها بعد ذلك بسنين.. حقّ كل واحدٍ منهما في توريث دينه وعقيدته لولده؛ كأنني غير موجود أو لا رأي لي.

ساخراً نطقها ”سيف“ بصُحبة ضحكة محتشمة قصيرة المدى، لم يخرج صداها عن حيّز المترين.. نطقها ثم توقف عن الحديث لحظات، بسبب إنصراف ”يَحيى“ من جواره مبتسماً، وبطريقة توحي بأنه قد أنجز مهمّته وحصل على ما يريد.. إنقضت بعدها لحظة ونصف، ثم انتصب ”سيف“ واقفاً موجّهاً خطابه للزجاج الحائل أمامه :

— أرجو أن تعذر فضولي، فقط أريد أن أستفهم عن أمرٍ يقتلني حيرة.. من ذلك الشخص، الذي كنت تحدّثه منذ قليل، ويُدعى ”يَحيى“؟!!.

— ولماذا تسأل عن أمرٍ ليس لك أيّة صلة به؟!.

— فقط، لفتت نظري غرابة هيئته صراحةً، عِوضاً عن تفرّد ملابسه العجيبة التي يبدو عليها القِدَم.. يُشعرني أنه يرتدي زيّاً أعرابياً تعود نشأة تصميماته إلى عام خمسين قبل الميلاد!!.. ألست توافقني الرأي في ذلك سيدي الطبيب!!.

ظل ”سيف“ بعدها منتظراً الردّ لدقيقة صامتة لم تثمر عن إجابة ولو مقتضبة من الطبيب.. وقاصداً إستكشاف الحجرة الواسعة من حوله، جال ببصره في جنبات المكان بعد أن تأكّد من إستحالة حصوله على أيّة إجابة مُرضية.. ومعابثاً مسح على شعره بيمينه، ثم أكمل في فتورٍ قاتل :

— بالتأكيد كل ما حكيته حالاً لا يعدو أن يكون أكثر من حادثٍ نمطيّ يتكرر دوماً في جميع البيوت العربية.. أبٌّ متدين أو المفترض أنه كذلك، ويرغب في اصطحاب ابنه معه إلى المسجد لصلاة الجمعة.. والدٌ أراد أن يريح ابنه الوحيد، ويسلّمه صَكّ دخول الجنّة على طبقٍ من ذهب.. جدّي كان من المسلمين؛ فجاء أبي إلى الدنيا مسلماً مثله، ولابد أن أكون أنا أيضاً كذلك اقتداءً بهم كونهم أكثر دراية بمصلحتي.. وينبغي عليّ حتماً أن أجعل ولدي مثلي، ومثل أبي وجدّي حتى يظفر بالجنّة بعد عمرٍ طويل.. أمرٌ طبيعي جداً، ولا خِلاف عليه.. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونََ}.
.

. ***

من داخل كنيسة عريقة تسكن نصف ميدان تقريباً، تناغمت أصوات أجراسها بنعومة لتعلن بداية القُدّاس.. حثيثاً تهادت الأصوات إلى مسامع ”ماريان“؛ التي أمسكت بيمين ولدها لحظة عبورها طريق، تتسارع السيارات فوق أسفلته.. ونحو مبنى الكنيسة، اتّجهت دامعة العينين بعد أن أحكمت يدها قوياً حول كفّه الهزيلة.. دقيقة عصيبة فتكت بروحها قبل أن تدلف بقدميها الطويلتين بابها في تردّد.. وعالياً رفعت يسراها لتداري وجهها نوعاً ما إلى أن وصلت لتمثالٍ مُعذّب، أخذ شكل آدميّ مثبّت إلى صليبٍ خشبيّ، ومُعلّق أعلى حِفنة من شموع مضيئة يتراقص نورها على الجدران الداخلية للكنيسة.. ضمّت ”ماريان“ يدها أمامها أولاً، ثم إبتهلت بدعاءٍ خافت، خرج من بين شفتيها هائماً مدحوراً.. كم وقفت؟!!.. لا أعلم ولم تحسب هي.. سريعاً أشعلت واحدة جذبتها بيدها المرتعشة كمريضة دَرَن، ثم ثبّتتها قهراً أسفل التمثال.. ونحو دولاب خشبي ذي ضلفتين تعملان على حاملٍ جرّار، سمحت لقدميها أن يقوداها إليه جاذبة طفلها بيمينها.. وفي لحظة بسيطة سكنت داخله بعد أن رأت القِسّ، ينزوي في أحد جوانب الدولاب، ويبدو على قسمات وجهه الرقيق مظاهر الوَرَع.. وعلى كرسي خشبي باهت ما زال في حاجة إلى دهان، إتكأت ثم أجلست ”سيف“ بعد ذلك فوق فخذيها.. وبصوتٍ متقهقر، نطقت متلعثمة بكلماتٍ خافتة تطاير أغلب حروفها :

— لقد جئت إلى هنا، لاعترف لك يا «أبونا»، وأرجوك أن تنصت لي هذه المرّة.. أرجوك.

أبونا؟!.. أصبح هناك ثلاثة آباء إذن.. واحدٌ بالبيت، وآخر في السماء، عِوضاً عن الذي يصغي للاعترافات الآن.. أم عساه أن يكون قد انتقل لتوّه من السماء إلى هنا!!!.. تساؤلات ضربت عقل ”سيف“ متأمّلاً حديث أشبه بالتوسّلات لا تختلف كثيراً عن الأدعية؛ التي هَمَس به والده صباح اليوم لحظة سجوده :

— إنني أعرف جيداً أني «خاطية»، ولن يرضى عنّي الربّ أبداً.. جئت أعترف لك أنني قد أخطأت حين ضَعُفت رغماً عنّي وأحببته، فخِسرت ديني لحظتها وأصبحت زانية لا تستحق الغفران.. ولكن أريدك أن تدعو لي كثيراً، علّه يغفر لي ويصفح عن خطيئتي.. أتمنى يا أبتي أن أربّي ابني بالقرب من الكنيسة، وعلى مرأى ومسمع من تعاليم سيّدنا المسيح كما تربّيت أنا.. صِدقاً، لقد أصبحت لا أطيق هذا العذاب أكثر من ذلك، عِوضاً عن أنني بِت غير قادرةٍ على أن أحيا مع الشعور بالذنب هكذا.

خاطية!!!.. ما هي خطيئتها؛ التي لم تخجل بالحديث عنها أمامه، وقصدتها في كلماتها؟!.. ومن هو ذلك الكيان الذي توسّطت القِسّ شفيعاً عنده، وطلبت منه السماح والمغفرة؟!.. تساؤلاتٌ عسيرة تضاربت داخل عقل ”سيف“ كثيراً؛ وهو يرفع يده ليلمس النافذة المثقوبة التي تحدثت والدته حالاً من خلالها.. لم يستطع من مكانه سماع همس الطرف الآخر؛ ولكنه إكتفى بزوال العبوس عن وجه أمه ولو قليلاً.. ثانية يتيمة مسحت فيها أمّه قمة جبهتها بأطراف أناملها، ثم انتهت أخيراً بلمس نهديها؛ تماماً كمن ترسم الصليب على جسدها بالإشارات.. كانت بالنسبة لمضطرب الهويّة الدينية، حركة مُبهمة فلم يشغل لها ”سيف“ بالاً بعد أن عاد معها إلى البيت ثانيةً.
.

. ***

— نسيت أن أسألك سيّدي، ما هو دينك إذا كان لي قطعاً حقّ السؤال؟!.. فلقد لاحظت حين دلفت إلى هنا - ويا للعجب - عدم وجود السبحة الخشبية التي اعتدت رؤيتها دائماً في العيادات، بالإضافة إلى غياب كَفّ «مريم» الأزرق الشائع عنه أنه جالب للحظّ.. عِوضاً عن عدم اقتنائك للصليب النحاسي التقليدي؛ الذي يعلّقه الأقباط دائماً جوار صورة القدّيسين المعروفة.

كلمات سليلة عَصَف بها ”سيف“ حوايا الغرفة الواسعة قبل أن يصيخ السمع ماطّاً أذنه اليمين بسبّابته.. بعدها، هدأ منتظراً إجابة لم تكن أذنه أهلاً لها؛ فاكتفى بسماع صوتٍ راقٍ عَزَف جهراً :

— أكمل، أنا أسمعك.

إجابة وقورة نطقها صوت هادئ لم يفلح ”سيف“ في كشف مصدره حتى الآن.. عبثاً ضرب بقدمه الأرض أولاً ليكتشف نوع الرخام البلّوري؛ الذي يقف فوقه ثم طلب ممازحاً في أدب :

— ألا ينبغي لي أن أتناول شراباً يعينني على الاسترسال سيدي الطبيب؛ فلقد التصق لساني في سقف فمي من كثرة الحكي، وأخشى أن تصاب حنجرتي بالجفاف بعد قليل!!.

لم تنتهِ كلماته إلا ودلف ”جابر“ إلى المكان حاملاً صينية فضّية، وقفت عليها مجموعة من أكوابٍ وأباريقٍ وكأسٍ من معين، بداخله سائل أبيض شفّاف يبدو أنه لَذّة للشاربين.. وباندهاش إلتقطه ”سيف“ وهو يمعن النظر في ذلك الوجه المريح للعين والأعصاب، ثم أتبع حديثه بنفسٍ مطمئنة :

— أعجبتني يومها غرفة الإعتراف الموجودة بالكنيسة إلى الحدّ الذي جعلني أفتتن بها لفترة لا بأس بها من حياتي.. كان الأمر يشبه كثيراً الدعاء الذي ناجى به أبي ربّه صباح ذلك اليوم، ولكن كان هناك اختلافاً طفيفاً.

— أكمل.

— الإنسان دائماً ما يحتاج إلى من يسمعه ويبثّ إليه شكواه وهمومه وأحزانه أيضاً، حتى ولو لم يكن بمقدوره تقديم يد العون أو المساعدة.. الجميع في حاجة لأناسٍ ذوي أذانٍ صاغية ولو ليومٍ في العمر، بَيد أن الجميع يرغب في إضفاء صفة الإنسانية على من يسمعوهم؛ فحينئذ يرغب كلٌ منّا في إيجاد بشريّ من لحمٍ ودم، يقدر أن يناقشه وجهاً لوجه فقط ليرى إنفعالاته وتأثير حديثه عليه.

— أكمل!.

— ولكن اكتشفت بعد ذلك أن الموضوع مقلِق ومخيف صراحةً.. أُفضّل أن يُدفَن سِرّي معي بالقبر، بدلاً من قَصّه على إنسانٍ لا أعرف كيف ومتى سيستخدمه ضدّي.. أنت تعلم بالتأكيد أن كل إنسان له نقطة ضعف، وأنا لا أرغب في أن أكون ضحية لضعف غيري، ولا تنسى سيدي أن القساوسة ليسوا برسلٍ أو أنبياء معصومين من الخطأ.. ولهذا فقط جَبُنت أن أحكي لآدمي من لحمٍ ودم؛ فيضعف في يومٍ من الأيام وأجد أسراري كلها قد أصبحت مشاعاً أو يساومني عليها.

— أكمل.. ماذا حدث لك بعد زيارتك للكنيسة بصحبة والدتك؟!.

هكذا قاطع الصوت إسترسال ”سيف“ فشعُر الأخير بإهانة جارفة.. وفي ضجر زمّ شفتيه أولاً، ثم تطلّع ببصره إلى سقفٍ لا نهاية له قبل أن يردف بصوتٍ ناعم مشيراً إلى رأسه :

— هناك ما يُعرف تحت اسم منطقة الأمان.. إنها منطقة تكمن هنا في العقل ومعروفة بأنها هادئة وشديدة الراحة، ويصل إليها الفرد حين يقدر فقط على إدخال ذاته في دوّامة الحياة، ومن ثَمّ تسكت نهائياً تساؤلاته فيصبح وقتها كما الدواب لا يفكّر إلا في غرائزه الحيوانية فقط.. أقول سيّدي أنها منطقة آمنة، ومحاطة بأسلاكٍ شائكة مكتوبٌ عليها بالأحمر الفاقع «ممنوع الإقتراب أو التفكير».. وتجلّت سوئتي حين قرّرت العبث جوار أسوار هذه المنطقة، وحدث ذلك عندما ألقيت سؤالي على أستاذ التربية الدينية بعدما كبُرت قليلاً.. وكان سؤالاً صعباً، وأقسم على أنه يحتاج إلى خبيرٍ للردّ عليه، فحواه هو {لماذا من حقّ المُسلم الزواج من مسيحية، وليس من حقّ المسيحي الزواج من المسلمات}.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي