الفصل الثاني

لقاء مع الله ٢

من داخل كاڤيتريا «الأمفتريون»، وتحديداً الطاولة الواقعة في نهاية دِهليزها الأيمن، هرش ”إسلام“ قِمّة رأسه، مُتأمّلاً بين الفينة والأخرى ساعة الحائط المُعلّقة أمامه.. إنطباعك العام عنه حين تقع عينيك عليه للمرة الأولى.. طويل، نحيف ذو بشرة قمحية، بالإضافة لوجه مُدمَج ينبت بلحية خفيفة لا تكاد تُرى من مسافة قد تزيد عن مترين.. وعدا شعيراته النامية، التي تعطيه وقاراً مضاعفاً لنظّارة ليس بحاجة إليها، كان وجهه مألوفاً.. كانت تلك هي أيّامه الأولى في إقلاعه عن التدخين، ولم يكن من أنصار الإستعاضة عنه بأقراص النعناع أو اللِبّ.. ولو أصابك لحظتها مكروهاً في حدقتيك؛ لإستطعت وبسهولة أيضاً رؤية إحتراقه حيّاً انتظاراً لأمرٍ ما.. يجلس على مِقعدٍ خشبي له بِطانة «مزركشة» تاركاً عيناه تتراوح كل لحظة بين ساعة يده وساعة الحائط؛ كأنه يتوقّع أن تكون إحداهما أسرع من الأخرى.
حسب الميعاد المُتفّق عليه؛ فقد تأخّرت ”ماريان“ حوالي ساعة ونيف، لسببٍ لا يزال مجهولاً.. إنها سبعينيات القرن المنصرم، حيث لم تكن الحداثة تعرف لوجوده سبيلاً.. لو خاطبته وقتها عن التليفون المحمول أو الـ«إنترنت»؛ لقَدّم إليك روحه عن طيب خاطر مقابل إقتناؤه لهما ولو للحظة.

متوتراً دلّك يديه في بعضهما مستغرِقاً في هزّ ساقيه بسرعة نافست سرعة الضوء، ثم أطلق سراح كتيبة فئران بلدي داخل عِبّه الوثير.. لقد تخطّت الساعة الواحدة ظهراً، وبدأ الشكّ في طهي عقله على نار باردة بعد أن كوى روحه بالقلق.. لو رأيته مصادفةً لحظتها لظننت أنهم قد اتّهموه ظُلماً في قضية خيانة عظمى، وينتظر من القاضي الآن تِلاوة حُكمٍ مُنصفٍ له بالبراءة.. أخيراً يأست روحه وخمدت بعد أن تيقّن من أنها لن تأتي؛ ولكن لم يدُم يأسه أكثر من لحظاتٍ ضنينة.. لقد أثمرت دعواته لبارئه، التي تمتم بها لساعة طويلة عن ظهور هلاله الذي كان يستطلع رؤيته بأملٍ محتضر.. ومنتفِضاً كمن يسير حافياً فوق رمال صحراوية مُحرِقة، نظر أمامه ثم أوسع لا إرادياً حدقتا عينيه.
وكعادتها التي لن تشتريها، أطلّت عليه ”ماريان راتب“ بإشراقة من جسدها المرسوم وصدرها النافر بعد أن بزغ نجمها من خلف زجاج المقهى.. مائة بالمائة أنثى، كان عنوان التكوين العام لتفاصيلها.. طويلة، أنيقة، وذات شعر حريري لم يثبُت لونه لأكثر من شهر وأحياناً أقل.. تارّة هو أشقر، وتارّتين يكون أسود، والعديد تصبغه بإحدى درجات البُنّي العنيف.. ناهيك قطعاً عن أطنان المساحيق التجميلية التي تجعلك تشفق على خلايا وجهها منها.. ولسببٍ لم تشهره أبداً، كانت لديها رغبة جامحة في الوقوف أمام عدسات كاميرا سينمائية، لأكثر من نصف دقيقة.. رغبة غير معلَنة قد تدفعها في سعادة لبتر كافة أعضائها مقابل إظفارها ولو بمشهد أمام نجم شُبّاك قوي.. لم تكن وقتها قد بدأت في رفع شعارها الإسطوري، الذي نَهَب عِقداً من أيام حياتها.. «الشرف تَرَف والعُري شطارة»، هي مفردات شعارها ومفتاحها للِحاق بِرَكْب الأضواء.. على الرغم من هياج سينما المقاولات تلك الحِقبة، إلا أن ”ماريان“ كانت لا تزال تعيش البدايات، حيث أن الصبر جميل، والنجاح مسألة حتميّة حتى ولو تأخّر قليلاً، عِوضاً عن أن الموهبة سلعة ولابد ستفرض نفسها يوماً ما إذا كانت جيدة.

وبعد نظرة شاملة مسحت بها أرجاء المكان من الداخل، تخطّت ”ماريان“ عدة طاولات حتى وصلت إلى الأخيرة.. وتأثّراٌ بموضة شارع «الشواربي» التي أبادت «ريڤولي» و «بنزايون» عقب الإنفتاح الإقتصادي المأفون، تجلّت نحوه بأناقتها.. مرتدية بلوزة بيضاء مخملية، تُخفي تحتها صليب دهبي رقيق، ومن الأسفل بنطلون قماشي واسع، تعامد لونه مع حقيبة يد جلديّة.. وبيمينها نفّست عن شعرها المُموّج، ثم أزاحت حقيبتها من على كتفها، ووضعتها قُبالتها على طرف الطاولة :

— ما سبب كل هذا التأخير.. لقد كدت أن أموت قلقاً عليكِ حبيبتي.

— أعتذر منك كثيراً، وأرجو أن تتقبّل اعتذاري.. صِدقاً، لم يكن لي ناقة ولا جمل في مسألة التأخير، فقد كنت أبذل ما بوسعي تجاه أمّي لأقابلك الآن.. حقّاً، لم توافق على مغادرتي من المنزل إلا بعد أن جعلتني أقسم لها مِراراً بأني لن أراك؛ فاضطررت أن أكذب عليها وأخبرتها بأنني سأذهب لتصوير مشهد سينمائي.. سامحني الربّ على ما فعلت كي أقدر على رؤيتك الآن حبيبي.

— لا عليكِ، وحمداً لله أولاً على سلامتك.. ولكن أخبريني بسرعة، هل فاتحتِ أهلك في موضوع زواجي منكِ.. أقسم على أنني لم أعد صابراً على بعادك عني أكثر من ذلك.

متوجّساً نطقها ”إسلام“ بعد أن طلب القهوة الخالية تماماً من السكّر لنفسه، وعصير الليمون الـ«فريشّ» لها.. نطقها على الرغم من رؤيته لإجابة سؤاله تنبض بالحرارة على قسمات وجهها قبل أن يصدح به :

— للأسف، لم يوافق أحدٌ منهم بتاتاً على زواجك مني يا ”إسلام“.. لقد كنت على يقين من أنهم حتماً سيرفضون حدوث ذلك قدر استطاعتهم.. كما أنهم حتى إذا وافقوا؛ فمن المستحيل أن تعترف الكنيسة بزواجي من مسلم، وقد وضّحت هذه الحقيقة لك أكثر من مرّة!!.. وحتى الآن لا أعرف لماذا كنت مُصِرّاً على أن أخبرهم بأمرنا يا حبيبي!!.

— ها نحن قد فعلنا ما تمليه علينا ضمائرنا، ولم يعد أمامنا سوى حلّ واحد، وأقسم على أنه هو الأخير ولا مفرّ.. ”ماريان“ تعلمين جيّداً كم أنا أُحبّك، ولا يمكنني أبداً أن أتنازل عنكِ ولو في أحلامي.. وإذا كنتِ تبادلينني كلّ هذا الحُبّ؛ فلتدعينا إذاً نتزوّج حالاً ونضعهم جميعاً أمام الأمر الواقع.. دعينا نتزوج الآن لنثبت للعالم أجمع أنه لا توجد قوّة أو دين يقدران على أن يفرّقانا عن بعضنا أبداً.

على سبيل أدب القرود، قُطِع الحديث بينهما لحين إنتهاء النادل من وضع طلبيهما؛ ولم أفهم أبداً غيّتهما من ذلك!!.. لماذا يعتقد الجميع أن أحاديثهم مثار أهمية تستدعي حمايتها من التجسّس؛ كأن العامل سيحدّد الطريقة التي سيعاملهم بها بناءً على تصرّفاتهم وتصريفهم لحياتهم.. صِدقاً إنه لا يريد سوى إنهاء ساعات عمله دون توبيخ، ويا حبّذا لو كان البقشيش سخيّاً :

— إنني واثقة من صِدق حبّك لي يا ”إسلام“، ولكن ماذا عسانا أن نفعل لنحقّق ما تقول.

سؤالٌ وجّهته ”ماريان“ لزميل طاولة جلس أمامها قابضاً على يديها برّقة مُفتعَلة ومبالغ فيها.. سؤالٌ سبّبت به حيرة لم تنجح في إزالتها، سوى رشفة مبدئيّة من فنجان قهوته، ثم أردف بعدها :

— قطعاً لن نفعل شيئاً أكثر مما يُقدِم عليه الأخرون.. سأصحبك حالاً لنذهب معاً إلى المأذون، وهناك سنعقد قراننا.. وحِرصاً على توثيق عقد الزواج؛ فيمكننا بعدها أن نطلب تسجيله في الشهر العقاري إذا كنتِ ترغبين في ذلك؛ فقط كي يطمئن قلبك.

— يا روحي أنا أيضاً أُحّبك من كل قلبي وربّما أكثر صدّقني، بل وأريد أن أبقى معك أيضاً طوال عمري، ولكن.. لا أُخفي عليك كم أنا منزعجة الآن، وأشعر بالريبة إلى حدٍّ كبير.. صِدقاً، إنني أخشى أن نرتكب حماقة، ثم نندم عليها بعد ذلك طيلة حياتنا.

بعد الانتهاء من أخر رشفة بالكُستبان في دُفعةٍ واحدة، إنتفض ”إسلام“ ناهضاً من فوره كما لو أنه قد حزم قراره.. وعلى الطريقة الكلاسيكية، أحكم صدر البذلة المفصّلة حول جسده أكثر، ثم سحب ”ماريان“ من يدها وانصرفا.

. ***

— هذا تماماً ما حدث بينهما، وقصّته عليّ هي بعدما كبرت وأتممت عِقدي الثاني.. وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك أنه كان حبّاً أفلاطونياً إستمرّ لمدة عامٍ.. عامٌ واحد لا أكثر.

نطقها ”سيف“ مُغمِضاً عينيه بعد أن أسدل كُمّيّ قميصه إلى أسفل.. بعدها ظلّ صامتاً لثانية، ثم أتبع :

— كان والدي يعتقد أن حُبّه لها سيدوم إلى أبد الدهر، وأنهما سيقدران بالتأكيد على مواجهة أيّ مشكلة تعترض طريقهما نحو السعادة، ما داما كانا سوياً يعشقان بعضهما البعض.. ولكن الأمر بدا غير ذلك تماماً.. ولسببٍ غير معلوم، لم يستطع أبي أن يقرّبها إلى دينه مطلقاً، كما لم يقدر على تحمُّل إختلاف العقيدة فيما بينهما؛ فبدأت الأزمات تتسلّل إلى روحهما رويداً رويداً، والمشاحنات لم تنقطع من بيتنا أبداً.

كلمات خرجت من بين شفتيه بسخرية قبل أن يتوقّف عن الحديث مضطّراً للحظة.. توقُفٌ مُستَتِر لم يزد عن لحظة بسبب دلوف ”جابر“ إلى الغرفة طالباً الإذن من الطبيب :

— سيدي ”رحيم“.. إن ”يَحيى“ بالخارج ويرغب في التحدّث إليك؛ فجئت لأخبرك وأسف إذا كنت قد أزعجت حضرتك.

نطق ”جابر“ الإسم ممدوداً وبفتح الياء، كما ننطق في هتافاتنا «يَحيا».. وهارشاً في رأسه، رمق ”سيف“ العامل محاولاً فَكّ شيفرة إسمه مجدّداً؛ فأثمرت محاولته هذه المرّة عن ”جُبران“ :

— حسنٌ، دعه يدخل.

ردٌّ مستفّز، سبّب لثوانٍ بسيطة احتراقاً جُهنّمياً في عقل ”سيف“.. إذا كان ميعاده مع ”يَحيى“ هذا متّفقٌ عليه من قبل، وتمّ الترتيب له مُسبقاً؛ فلماذا وافق على مُقابلته هو الآن.. ثم كيف له سماع شخصين في نفس الوقت.. تساؤلات قاسية شعُر معها ”سيف“ بالإهانة الجامحة، وهمّ لينصرف ولم يفعل.. فحيحاً تمتم ”يَحيى“ بشفتيه في همسٍ بعد أن دخل ووقف جواره.. لا تكاد سماع صوته حتى إذا دفنت أذنيك داخل حنجرته، أو علّقتها على أحد أحباله الصوتيّة.. إنقضت بعدها ثانية صغيرة، ثم أتبعها صوت الطبيب في جلال :

— أكمل حديثك يا ”سيف“.. إنّي أسمعكما أنتما الإثنين.. أكمل مناجاتك، وأخبرني ماذا حدث بعد ذلك.

تلجّم لسان ”سيف“ بعدها؛ كمن قفز داخل بحيرة ثلجيّة تقع في أقصى القطب الجنوبي.. كيف له سماع فردين في نفس اللحظة.. ثم كيف له سماع ”يَحيى“ هذا بفحيحه الرقيق من مكانه.. يَحيا.. مظهره لا يوحي بالإطمئنان إطلاقاً.. متوسّط الطول، مرتدياً عباءة واسعة، ومطلِقاً لشعر رأسه الثائر الذي لامس كتفيه :

— إذا كان لي حقّ السؤال، أرجو أن تخبرني من فضلك بحقيقة إسمك.. هل هو ”العدل“ أم أنك ”رحيم“.

سؤالٌ رتيب دفعه ”سيف“ بلسانه؛ فخرج باهتاً من بين شفتيه منتظراً إجابة مبهمة :

— لي أسماءٌ كثيرة، وتستطيع أن تناديني بأيّ إسمٍ فيهم كما تُحِب.. تفضّل، أنا أسمعك.

لم يكن ”سيف“ راضياً عن كَشْف أسراره أمام الغريب الذي يغمغم جواره مغمض العينين؛ ولكنه فعل.. ببطء سلحفاة بحرية تحتضر بالقُرب من الشاطئ، إبتلع ريقاً غير موجود ثم نطق :

— جميع ما حدث بينهما في كفّة، وما سأقصّه عليك حالاً من أخبارهم في كفّة هي الغالبة.. صِدقاً، لقد بدأت حيرتي وعذابي حين شاهدت أول مشاجرة حقيقية بينهما، وكنت وقتها لا أتجاوز الخامسة من عمري تقريباً.. وأكاد أن أقسم على أنه كان أطول وأصعب يوم مَرّ عليَّ بحياتي.. يومٌ لم أقدر طيلة حياتي أن أنساه، عِوضاً عن أنني لا أعرف السبيل إلى نسيانه إذا أردت الدِقّة.

وهكذا بدأ ”سيف“ في سرده مرحلة الطفولة العسيرة، التي عاشها بين أبوين يختلفان فيما بينهما حول العقيدة، الأجدر بالتقرّب إلى خالقهما بها.. وكان صوته الهادئ، يتصاعد من حنجرته ناحية الزجاج الحائل بينه وبين رؤية الطبيب.. ولم يفقد ثانية قضاها بين والديه، إلا وحكى عنها في خشوع وطمأنينة، أملاً في أن يجد السلوان عند من أعلن جاهزيته للردّ على جميع تساؤلاته مجاناً.
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي