لقاء مع الله

إبراهيموڤ فريدويڤسكي`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-08-08ضع على الرف
  • 61.8K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الاول

لقاء مع الله ١

في الساعات الأولى من مساء إحدى ليال أغسطس التي بلغ قيظها حرارة الإنصهار، تسلّلت نسمة هواء خفيفة؛ لتبحث عن مستقرٍّ لها بين جدارن بيت مهجور بحيّ «المريوطية».. صمتٌ مطبق، تستطيع معه سماع وقْع أقدام نملة هزيلة تعاني الشلل، أو فقدت أحد أطرافها في ظروفٍ غامضة.. بيتٌ خاوي على عروشه من الأثاث؛ إلا غرفة نوم مربّعة الزوايا، سكنت الطابق العلوي لڤيلّا من طابقين وسطح متهدّم.. بداخلها طاولة خشبية تبيت فوقها ثلاث شموع، تمايل ضوئهم متراقِصاً على جدارن الغرفة.. المحتويات.. قرآن، وكتاب مُقدس، طُمست سطورهما تقريباً بأقلام «ماركر» فسفورية، بعد أن إختفت مسافات ما بين السطور بحفنة من خطوط الرصاص.. أجواء قوطية تذكّرك بطقوس الكُهّان في تحضير الجان.

من خلال ذلك الضوء المُحتضِر، تستطيع بصعوبة ملاحظة إختفاء طلاء الجدران بالكامل خلف آيات قرآنية، وكلمات من الإنجيل؛ نُقِشت جميعها بقلم أسود «كوبيا».. عن طريق جهاز «ألترا ساوند» مُعتمَد، سيمكنك سماع الصرخات فوق الصوتية؛ الصادرة من روح الجالس خلف طاولة صغيرة من الخشب الأبيض.. عدا نحوله المفرط؛ كمريض «أناركسيوس» في مرحلة متأخرة، كان منظره مألوفاً.. خيال مآتة عاري الجسد إلا من قميصٍ أبيض، حال لونه مؤخراً إلى الرمادي.. ومن الأسفل سروال «چينز» يصعُب على طبيب شرعي محترف، التعرّف على لونه الأصلي.. ”سيف“ هو إسمه وأيضاً كُنيته.. ثلاثيني حائر، إعتكف تلك الغرفة لأربعين يومٍ ولم يبرحها لحظة.. وحيدٌ لا يجمعه سوى قلمه الرصاص؛ المنحول من الجهتين بطريقة غير آدمية.. بالإضافة إلى «چِِركن» ماء عظيم، يزاحم دلو بلاستيكي عميق؛ ليعينه على قضاء الحاجة في إحدى زوايا الغرفة.. وفي الرُكن المقابل، تكدّست كُتُب قديمة عن الوجودية، واللاهوت، والإلحاد، ونظريات نشأة الكون بجانب حقيبة «نايلون» شفّافة، حَوَت أخر رغيف خبز أسمر يفوح منه الزغب.

بعد ساعة أو أقل قليلاً، تجمّعت قطرات العرق على جبين ”سيف“؛ الكاشف عن صدره من خلال قميص مُبتلى، فتحه على مصراعيه بعد أن شمّر أكمامه إلى ما بعد المِرفقين.. فمسح كالمحموم ما تصبّب من جبهته وكاد يُبلّل الأرضيّة الـ«باركيه»، متنقلاً ببصره بين صفحات الكتابين.. لوهلة هزّ قدميه متوتراً بعد أن بلغت حيرته عَنان السحاب، ثم همَد ساكناً فجأة.. لا يمكنك التحقّق من طبيعة الإبتسامة التي عَلَت شفتيه تلك اللحظة؛ حسرة كانت أم سخرية.. أحكم قميصه حول جسده بعد أن وقف، ثم تحرك نحو زاوية الغرفة حاملاً إحدى الشموع بيمينه.. ومن هناك إلتقط الرغيف بهدوء، ثم قضمه بعفنه ناظراً لأحد الحوائط بعد أن تأجّجت عيناه بالدموع.. لقد إنقضت أسفاً مُهلة الإعتكاف؛ وتلك هي الليلة الخاتمة.. لم يكن هناك بُدّ مما إنتوى عليه عقله، وعزمت إليه روحه.. من داخل كتاب «نظرية النشوء والإرتقاء»، سَحَب سيجارة ملغومة بقطعة حشيش مغربي مُعتبَرة، أعدّها خِصّيصاً لتلك اللحظة.. ومشوّشاً كجهاز «ترانزستور» قديم، أشعلها من الشمعة الواقفة في يمينه، ثم هدأ ليتنفّثها أمام أحد الجدران.. طلاء «بِرجاندي» مُعتِم، زاده سواد قلم الرصاص كآبة.. وعلى ضيّ الشمعة المتوهّجة بين أنامله، قرأ ما خطّته يمناه طوال الأربعين يوم.. {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.. توقف لحظة عن مطالعة الحائط، ونظر لساعده لثانية.. محزوناً شرد فيه متأملاً الآية في عقله، ثم أشاح بوجهه إلى الحائط ثانيةً.. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.. ساحت معالم الإبتسامة على شفتيه، وأصبح التكهّن بحقيقتها أمراً مستحيلاً.. سابحاً في بحر أفكاره، سحب نفساً مُعتّقاً من سيجارة ذات شذى مغربي، ثم أكمل :
{أنا أنا الرب.. وليس غيري مُخلّص}.. كلمات من سِفر «إشعياء» المُقدَس، نطقها بصوتٍ لا يسمعه سوى عقله.. وكقاطرة بُخاريّة، نفّث ”سيف“ دخانه الأزرق من فتحتي أنفه المستقيم، وتابع.. {أنا عارف أعمالك وتعبَك وصبرك وأنك لا تقدر أن تحتمل الأشرار}.. ربّما كانت تلك هي قرائته المليون لتلك الكلمات خلال فترة إعتكافه داخل غرفته الكئيبة.

بات الأمر الآن محسوماً، ولا ريبة فيه.. بالنسبة له؛ فرحلة البحث كانت بمثابة قضية حياة، إستنفدت كل مراحل الطعن فيها.. إذا كانت الدنيا فانية والآخرة خيرٌ وأبقى؛ فما المانع من إنهاء حياته بيده، وإستعجال فاتورة الحساب.. لو أن الدنيا دار إبتلاء؛ فما العلّة من الصبرِ على البلاء ما دام بوسعه الخلاص منه في لحظة.. إذا كانت الحياة لعباً ولهو؛ فلينهي ذلك العبث السخيف ليستقبل الأبديّة الجدّية.. في زمن مقداره لحظة أو أقل، داعب الحشيش عقله فإستقرّ نهائياً على قراره.. ولسببٍ غير مفهوم، إزداد وجهه تنميلاً بعد أن زحفت البرودة القارسة إلى أطرافه.. لا إرادياً إرتعشت يداه لحظة إلتقاطه لكتاب «نظرية الإنفجار العظيم».. وبطيئاً قلّب صفحاته إلى أن عثر على مبتغاه.. شفرة حلاقة حادّة لا يشوب معدنها الصدأ!!.. بيمينٍ هزيلة، تناولها ثم توجّه بها للحائط المقابل قابضاً على سيجارته بأسنانه.. الخَدَر كان يتسلّل إلى أعماق روحه المقهورة، والرؤية أضحت هلاميّة لا يمكن تحديد إطاراتها.. وعن غير قصد، زاغت عيناه نحو صفحات منزوعة، لصقها في إحدى الليال الجحيميّة على سطح ذلك الجدار.. {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}.. هذا ما إستطاع رؤيته من تلك الصفحة؛ التي أخفت أغلبها صفحة أخرى لم يظهر منها إلا.. {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ}.

إنخفضت بعدها معدّلات السكّر في الدم لمستويات جنونية عقب تلك المدة؛ التي لم يذُق فيها سوى رغيف فاسد، وحيد يومياً.. رحلة من الإجهاد العصبي، والبدني، والنفسي يجعل جهنّم أمراً هيّناً ومُرحب به.. متوتراً رَفَع طرف الورقة بيده؛ ليطالع ما تخفيه أسفلها.. {ليس إله إلا أنت المُعتني بالجميع}.. كلمات من سِفر «الحكمة» تمتم بها بخفوت، قبل أن ينطق جارتها المنبسطة على الجدار أمامه.. {يا رب.. إسمع صلاتي، وإصغ إلى تضرّعاتي.. بأمانتك إستجب لي.. بعدلِك}.. كلمات من سِفر {المزامير} المقدّس وشوَش بها نفسه مُنكمِشاً في قميصه، قبل أن يلتفت لورقة مُحكمة إلى الجدار بالقرب منها.. {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

باعتبار أن وجوده في الدنيا إمتحاناً له.. فلماذا لا يسلّم ورقة الإجابة؛ ما دام قد فشل في الوصول للإجابة النموذجيّة!!.. إلى متى سيظلّ منتظراً فرصة للغِشّ أو إنتهاء وقت الامتحان بالموت.. متشبّثاً أحكم يمينه على الشفرة المصقولة، ثم ثبّت أحد حدّيها فوق رُسغ يده اليسرى.. لفترة إنتظر مروره أمام عينيه المغمضتين؛ كجنينٍ غفله أهله وحيداً في الظلام.. عن شريط حياته، كان عقله المُجهد يبحث في ذاكرته.. ولكن للأسف خاب حظّه متسائلاً عن تفسير لغياب ذلك المُتقاعس أيضاً.. لماذا لم يمُرّ ذلك الشريط المتخلّف أمام عينيه؛ كما صوّر له المتفلسفون.. اللحظات السعيدة واللحظات القاسية.. الفرح والحزن.. الراحة والألم.. جميع عوالق الذاكرة المهمة، كانت من المفترض أن تعبر الآن قُبالة مُخيّلته.

يائساً إستشعر ”سيف“ الألم للحظة، فعدَل عن تلك الوسيلة.. ورغم غياب عقله بفضل الزرعة المغربية؛ إلا أنه يتذكّر جيداً أين يحتفظ بكتاب «أصل الأنواع».. ذلك الكتاب الثقيل الذي إئتمنه على أنبوب «سيانيد الهيدروچين».. إنها أسرع وأسهل طريقة لإنهاء حياتك، إذا أردت ذات يوم الرحيل في سلام وبلا معاناة.. مِثقال ذرّة دقيقة منه، قد تكفي للإجهاز على حياة فيل أفريقي بدين في ثوانٍ.. ولكن أين هو ذلك الكتاب الثمين!!.. كان واثقاً من حِفظه في ركنٍ ما؛ والآن قد تبخّر ولم يعد له وجود.. حكمة آلهية.. تأثير الحشيش.. لن يهُمّ؛ فالقرار بات الآن محسوماً ولا مناص منه.. الإنتحار سقوطاً من أعلى.. ولكن على إرتفاع طابقين؛ لن يهنأ سوى برضوض في أطرافه اليابسة، وكدمات في وجهه الشاحب، وربما كسور في ضلعٍ أو إثنين.. بفضل زيت الحشيش الساحر، توقّفت سيجارته عن بعثرة دخانها النفيس في الهواء، فداوى طرفها بقبَسٍ من وهج الشمعة.. ومن مبسمها سحب برئتيه نفساً حامياً حتى كاد يسفحها؛ فألهمه عقله الغافي بعيداً الصواب الأمثل.. كباري المشاه العابِرة للقطارات.. لماذا لا يجرّب تلك الوسيلة.. القفز من هناك لحظة عبور القطار، سيجعل الروح بالتأكيد تنفصل عن الجسد في جزء من الثانية.. لن يلمح حتى لحظتها إستشعار الألم ولو خفيف.

أدار ”سيف“ زِناد عقله رويداً إلى أن تذكر واحداً ما زال فعّالاً.. خلال ساعة كالحة وحده الله يعلم كيف إنقضت، كان قد وصل إلى هناك بعقلٍ مُترنح.. سيراً علي الأقدام أم بسيارة أجرة، لا أدري ولم يتذكّر هو.. في دقيقة أو ربما إثنتين، صعده راضياً مطمئناً.. وبصعوبة السباحة ليلاً عكس التيّار، تسلّق العالق المعدني إلى أن إنتصب عوده واقفاً.. من مكانه سمع صرير القطار يقترب؛ فتأهّب مترقّباً وشْك اللحظة الختاميّة.. لسببٍ لم يهتمّ بايجاد تفسيرٍ له، هبّت عليه نسمة هواء رشيقة، أطاحت بورقة جريدة معارضة في وجهه.. إنها لعنة القدر على حَسْب ما صرخ عالياً في مكانه!!.. أمعقول أن يكون محسوداً على الإنتحار.. متحرّشاً بمصيره، أمسك بالورقة ليحدفها جانباً، ثم توقّف.. للحظة تأمل محتوياتها مُستثاراً؛ وكأنه قد رأى ما يستدعي الإستفزاز.. ربما لوجود إعلان باهظ التكلفة شاغلة مساحته طول الصفحة وعَرضها.. مُذيّل أسفله بطباعة بارزة، «العدل للإستشارت النفسيّة».. جاهز في أي وقت؛ للإجابة على جميع التساؤلات مجاناً.

لا يمكنك تخيّل حجم الطاقة الاستفزازية الصارخة؛ التي ألقت بذبذباتها على عقل ”سيف“ بعد مطالعة الإعلان الموجود بالورقة.. بدا له حينها إعلاناً تجاريّاً نوعاً ما؛ ولكن مع مجّانية الإجابة تختفي سريعاً تلك الصفة.. بعد سنوات من البحث في شتّى الكُتب المختلفة، والاعتكاف لأربعين يومٍ باءت جميعها بالفشل وصولاً للحقيقة؛ يأتي ”العدل“ ليعلن بسهولة جاهزيته للإجابة على جميع تساؤلاته مجّاناً.. ولكن ما الضير في التأكّد من مصداقيته.. مع ثبات قرار الإنتحار، يمكنك تجربة أي أمر دون الخوف من وقوع أيّة نتيجة شنعاء.. في أي لحظة، تستطيع إيقاف نزيف الحيرة، بإنهاء حياتك للأبد إذا أردت.. إذ لم يعُد هناك أيّة مضيعة للوقت، ما دمت عازماً على الإنتحار.

مُستجيباً لنصائح عقله الرابض مُخدّراً داخل جمجمته، نَزَل ”سيف“ هابطاً من فوق العالق المعدني.. وقانعاً بوجوب زيارة ذلك الطبيب، أعاد ترتيب مظهره مؤجِّلاً تسليم ورقة الامتحان لساعات.. في خلال ساعة بطيئة قضاها سيراً إلى العنوان المذكور، وصل أخيراً إلى هناك.. أسفل شجرة مزهرة يبدو أنها كانت تطرح تفّاحاً يوماً ما، وقف ليُطالع البناية أولاً.. من بعيد شاهد المنظر لدقائق في عدد أصابع يد، ينقصها خِنصر.. بيتٌ عتيق مُزيّن بطلاء أبيض من كافة نواحيه، عِوضاً عن بوّابة معدنيّة مغمور أغلبها بنفس درجة الدِهان، ولا أثر حولها لأية حرّاس.. هكذا تراءى له المكان؛ فسجّل عقله سريعاً ملاحظته الأولى، بعدم وجود أيّة حركة من وإلى البيت.. وتمريراً لدقيقة فاترة، قضى مُعظم ثوانيها في محاولات بائسة للسيطرة على عقله الغافي قليلاً، جاءه القرار.. متلفّتاً حوله، عَبَر الأسفلت بخطواته المرسومة قاصداً إيلاج مقبض، تهيّأ له أنه يراه.. وبنظرة نحيفة تتجاوز الثانية إنخفاضاً، قرأ لافتة تمايل ضوئها بدلال نُصب عينيه.. «واحد شارع عَدن»، كانت هي فحوى كلماتها ومضمونها.. مُطمئناً لتماثل الإحداثيّات مع العنوان المدوّن في صفحة الجريدة، إقترب بخِفّة من البوّابة العريقة؛ فوضحت الرؤية أمامه.. «العدل للإستشارات النفسية»، كانت هي كلمات اليافطة الساكنة قِمّة المدخل الوحيد للبيت.. مع وجود مجّانية الإستشارة، لا ينبغي لك الندم أبداً على خسارة متوقّعَة، إلا إذا كان وقتك ثميناً.. وببلوغ مرتبة معيّنة من الثقافة، يمكنك بسهولة تبرير ذلك الركود الحركي؛ كنتيجة حتميّة لإرتفاع مستويات الجهل عند الغالبية من الجموع.. عندما تتأكد من بوار سلعتك؛ فعليك مغالاة ثمنها أكثر، وعلى هذا أجمع خُبراء الإقتصاد وأقرّوا علناً.. إذا عرضت سلعة جيدة بسعرٍ زهيد، وأخرى فاسدة بثمنٍ باهظ؛ فالقاعدة هي نفاذ الفاسدة لإعتقاد الدهماء بحتميّة وجود الخير فيها.

عاقِداً النيّة في الدخول، وازنها ”سيف“ في رأسه خلال ثانية، ولم يتردّد.. ربما كان ذلك الركود دليلاً دامغاً على جودة المُنتج؛ هكذا دار خلده رغماً عنه.. بعد هفوة زمنيّة، أصبح قُبالة البوّابة تماماً.. بحثاً عن زِرّ أو مقبض يعلن بهما مجيئه، فتّشت يداه جنبات البوّابة للحظتين أو ربما ثلاث.. ومُقلّباً في ثنايا ذاكرته، تأكّد من عدم ذِكر الإعلان ضرورة الحجز مسبقاً.. كما أنه لم يرِد فيه أية مواعيد للكشف، أو توضيح لساعات عمل.. من الناحية الفنيّة يُمكن إعتبار هذا دليلاً قاطعاً على النَصب الصريح؛ لوجود ثِقة مفرطة محفوفة بالغرور.. ثقة تسبّبت في حساسيّة مؤلمة لحوايا عقله الشرس.. يستحيل الإجابة مطلقاً على تساؤلاتٍ تدور داخل عقل، إحتوى أمّهات الكتب لسنوات بهذه السرعة.. إستحالة مؤكدة حتى ولو تُدار هذه المؤسسة بفضل عقول عبقرية جبّارة بزعامة «أينشتاين» و «داڤينشي» مجتمعين.. إذا كان لابد من الإنتحار؛ فمن الضروري تلقين صاحبها درساً قاسياً قبل مفارقة ذلك الملعب الواسع.

لثانية ظنّ ”سيف“ إستحالة الدخول، ولكن يأسه لم يزد عن الثانية.. أوتوماتيكياً إنفرج الباب ببطء، بعدما إنبعث صوت هادئ من جهاز تسجيل خفي جانب البوابة.. صوتٌ واثق منتظم، بدأ بالبَسملة تتبعها كلمة وحيدة : «تفضّل».
دفع ”سيف“ الباب قليلاً ليزيد الانفراجة، بعدها عَبَر بجسده من خلاله.. بنظرات مضطربة، شاهد حديقة غنّاء لا يمكنك حصر أنواع زهورها، فضلاً عن عددها.. وفي المنتصف، كان يوجد هناك ممشى مكسو بالحصى للعبور فوقه.. ومشوّشاً إعتمده ”سيف“ للوصول إلى لُبّ البيت؛ فقطعه في لحظة أو أقل.. كيف أمكنه قطع ذلك الطريق المُغربَل بالحصى بتلك السرعة!!.. هكذا كانت مرادفات التساؤل؛ الذي أضرم عقله ناراً حين أتمّ خطواته.. من بعيد يمكنك الشعور بأن طوله، قد يتجاوز الألف ميل حتى تصل لباب المبنى نفسه.. كيف أمكنه قطع هذه المسافة بتلك السرعة.. لابد من من أنها إضطرابات عقلية بفضل زيت الحشيش؛ الذي جعله يخسر في تقدير المسافات.

رفع ”سيف“ يده ليطرق الباب، ولم يفعل.. بواسطة شخص ناصع البياض، فُتِح الباب أمامه على مصراعيه.. لابد أنه لم يتعرّض لأشعة الشمس طيلة حياته، وإلا ما وقف أمامه باهياً في زهو هكذا.. ومرتدياً بالطو فِضفاض، تجانس بياضه مع خلايا جلده؛ فبدا لعيون الناظر له جسماً مضيئاً.. عمداً وقعت نظرات ”سيف“ على صدر البالطو مستطلعاً جمال نسيجه.. «بادچ» بسيط مدون عليه إسم، همهم به محاولاً قرائته.. ومع تراقص الحروف أمام عينيه، عَجَز للأسف عن رؤيته بوضوح.. ربما كان ”جابر“، وقد يكون ”جبريل“؛ ولكن بالتأكيد أنه أدرك توافق الأحرف مبدئياً مع حروف إسم ”جبر“.. لا يهم، فلابد أنه ليس سوى عامل هنا.

— إذا سمحت من فضلك.. كنت أريــــ,,,,,,.

— تفضّل، من هنا.. هو في إنتظارك بالأعلى.

نطقها الممّرض - أو هكذا إعتقد ”سيف“ من هيئته - مشيراً إلى سلّم حلزوني، يؤدّي للطابق العلوي.. لم يمكنه حصر المساحة من الداخل؛ فالبيت كان يبدو واسعاً جداً عكس ما ظهر له قبل أن يدلف إليه.. مقاوماً ترنّحاته، إجتهد ”سيف“ في قطع درجاته إلى أن صَعَد.. وبعد تجاوزه لكل درجة، كان يشعر أن جسده أصبح خفيفاً أكثر فأكثر، كأن روحه تنفصل عن جسده البالي.. تسعة وتسعون درجة حصرهم بإعجوبة بعدما أتمّهم، واكتمل ارتقاؤه.. فاشلاً في تقدير الإرتفاعات، لَعَن ”سيف“ عقله المنحوس كثيراً قبل أن يظهر له جليّاً محتويات الطابق.. زجاجي متلألأ كأنه المرمر؛ هكذا بدت له معالمه.. هدوءٌ مصمت خيّم حوله إلى أن تفتّقت عيناه إلى «شيزلونج» عريض، إحتسبه مريحاً بعد رحلة سير أنهكته إلى هناك.. وبراحة مصحوبة بتنهيدة مسموعة، جلس عليه فجاءه صوتٌ رفيع حاملاً صدى رقيق من خلف زجاج بلّوري :

— تفضّل.. إلقِ بسؤالك.

— أسنتحدّث هكذا، دون أن يرى بعضنا الأخر.

نطقها ”سيف“ بغطرسة واضحة، بعدما تداعى لطبلتيّ أذنيه سؤال المتحدّث.. عدا إحكامه لقميصه بعدما إستشعر برداً ملحوظاً رغم حرارة الصيف، ورغم عدم رؤيته لأيّ مبرّدات في جنبات المكان، لم ينبس لحظتها بحركة :

— جِئت تبحث عن إجاباتٍ للتخبُّط الذي بعقلك، ولن تُحدِث رؤيتك ليّ أي فارق في إنقشاع الحيرة عن رأسك.. تفضّل، إلقِ بسؤالك.

إستشعر ”سيف“ الثقة والحزم في الصوت المنبعث، الذي لم يجد تفسيراً لمصدره رغم محاولاته.. لا يبدو آلياً، ولم تسمعه طبلتيّ أذنيه من آدميٍّ قطّ.. الحيرة إنتابت عقله أكثر بعد فشله في تحديد مصدر ذلك الصوت، فلم يعثر مطلقاً على سمّاعات أو مكبّرات صوت في أي مكان.. عِوضاً عن عدم وجود أيّة فتحات نهائياً في اللوح الزجاجي الحائل للرؤية أمامه.

— لا أعرف، سيّدي من أين أبدأ حديثي إليك تحديداً.. أناااا.. أنا أُدعى ”سيف“.. ”سيف إسلام“.. وأمي هي ”ماريان راتب“ إذا كنت قد شاهدت يوماً أفلام الثمانينيات الهابطة.. ولك أن تتخيّل مدى معاناة طفل تربّى بين أبوين هما ”ماريان راتب“ و ”إسلام شرف الدين“.. طفلٌ تربّى بين أبٍّ مسلم وأمٍّ من النصارى، توقّع أنت حجم شقاء معيشته.. إثنان إختلفا فيما بينهما حول الإله الأجدر بالتعبّد إليه، فماذا تتوقّع أن يفعلان مع ابنهما.. ولا تخاطبني من فضلك عن حرية العقيدة والشعارات الرنّانة، لأنك تَحيا بيننا ومن المؤكد أنك تدرك الحقيقة جيداً حيث أن الدين وراثة.. نتسلّمه أبّاً عن جِدّ، ثم نسقيه بعد ذلك إلى نسلنا منذ المهد وحتى يبلغوا من العمر عتيّاً.مع
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي