الفصل الثاني

غطى السكون الواجم على ملامحه وقال بشبه هدوء

" على الأقل نتبادل الأسرى حتى يأتي الله بفرجه

على الجميع "

قالت من فورها وبضيق " هل تظن زعيم قبيلة الحالك سيقبل ؟

ففي المرة السابقة خرج بأسيرين مقابل كل أسير "

تحدثت حينها الواقفة تتنقل بنظرها بينهما ولا تشارك في

الحديث بشيء كعادتها وقالت بعفوية " وكيف خدعكم هكذا ؟ "

أجاب شراع بجمود " لا يحظر اجتماعا إلا وخرج منه بما

يرضيه فسيطرته كما نعرفها تتحكم في العقول , وما يعزينا

أنه لن يحظر اليوم فقد نكسب شيئا من غيابه "

قالت غسق باندفاع " ولما لن يحضر ؟ "

لينهرها الصوت الحازم من خلفها " غسق "

فلاذت بالصمت ونظرت للأرض قائلة بهدوء " ترجع لنا

سالما يا أبي واعتني بنفسك جيدا "

وكان الرد منه قبلة صغيرة لجبينها تحمل كل معاني المودة ثم

قال بدفء " جبران سيوصلك للمدرسة اليوم "

حاولت إخفاء ضيقها خلف النظرة الحنونة التي تغمره بها وحده

وقالت " لن أذهب وكرهتها أيضا , لما أدرس أنا وغيري

الكثيرات بلا دراسة ؟؟ أريد أن أكون كغيري هنا "

تنهد وقال " غسق كم مرة سنتحدث في هذا فلستِ وحدك من

تدرس , بنات خالاتك وأخوالك يخرجون أيضا للدراسة حتى

بنات شقيقي يكملن تعليمهن , هل ستبقي وحدك متأخرة عن

الجميع ؟ يكفي ما ضاع منك بسبب هذه البلاد التي لن

تنتهي حروبها "

تنهدت باستسلام وقالت " حسنا لكن اليوم لن أذهب

ستأخذني أنت غدا "

لتُظلم الغرفة فجأة وتدخل في سواد قاتم وتحركت العمة لكشاف

النور في الجدار وشغلته ليعطي المكان نورا أصفرا خفيفا ونظرت

غسق من حولها وقالت " قطعوا الكهرباء من الآن يعني لن

ترجع حتى منتصف النهار "

فخرج شراع قائلا " أفضل من انقطاعها في الليل , اذهبي

لمدرستك يا غسق إن كان رضاي عنك يعنيك "

ثم أغلق الباب خلفه لتزفر بضيق فهوا يعلم من أين يأتيها

ويحاصرها , التفتت لعمتها وقالت " اذهبي معنا أنتي "

قالت وهي منشغلة بتثبيت الضوء " وهل سيأكلك مثلا ؟

جبران كان يوصلك أغلب أيام العام المضي "

تأففت بصمت ثم قالت " ذاك حين كان شقيقي ولا أعلم

أما الآن الأمر اختلف والرحلة طويلة "

التفتت لها بصدمة وقالت " هل يضايقك بشيء ؟ "

لتنتفض بجزع وقالت مستنكرة " حاشا لله عمتي فلم يكن يتجنبني

أحد من أخوتي مثله , حتى عينيه لا يرفعهما بي إلا للضرورة

لكنه لا يجوز فهذا سفر لثمانين كيلو مترا بالسيارة , لا أعرف

كيف كنتم توافقون عليه "

تنهدت وقالت " للضرورة أحكام وحين تتزوجا لن

يصبح سفرا وخلوة "

لوت غسق شفتيها بعدم رضا بما أن عمتها لن تلحظ ذلك في ضوء

الكشاف الخفيف , فقد كرهت مناقشتها في هذا الأمر وتعلم أنها لن

تخرج منه بنتيجة ولن تخشى شيئا مادام والدها حيا فهوا لا يرفض

لها طلبا وحين تبرر له اعتراضها على ابنه لن يجبرها عليه

فكل ما تفكر فيه الآن أصلها ونسبها فقط لا شيء غيره

*

*

*

في تلك المدينة التي لم يعد يسكنها سوا أشباح خفافيش الليل المتراقصة

على أنغام صوت الهواء وهوا يصفر في مبانيها المهجورة المظلمة نزلوا

ما أن اجتمعت سياراتهم عند الخط الترابي المشهور بسم ( خط حفار )

لكثرة ما كان يستخدم هذا الطريق لنقل مواد البناء التي يتم استخرجها

بحفر الجبال ، المكان الذي لم يعد موجودا فيه سوا المنشئات الخالية

وآلات الحفر الضخمة المعطلة فلم يبقى من حفار سوا صور ثابتة

ساكنة ميتة مخبأ للأفاعي والثعالب , وهذا ما تخلفه الحروب مناطق

مهجورة لأنها كانت في يوم قريب جدا وإن في ذاكرة أهلها فقط

نقطة للهجوم أو الدفاع وقد تعود كما كانت في أي وقت فلا يفصلها

عن خط الحرب سوا منطقة واحدة فقط تشبهها في كل شيء .

بعد رحلة دامت لساعات وصل الرجال الستة بسياراتهم المفتوحة

المخصصة بنقل الجنود , قديمة الطراز لكن وحدها التي تفي بهذا

الغرض هنا ، بلاد قُسمت لثلاث أجزاء شرق وغرب وجنوب

فالاحتلال لم يخرج منها قبل أكثر من خمسين عاما إلا وهوا واثق

من أنه خلّف بعده شبه بلاد , فرقة ودماء وثأر متأصل , فقد عُرف

جنوبها بالتمرد وحارب الاستعمار بكل استماتة وخسر الآلاف من

رجال قبائله ولم ينحني , حتى أن قائد قوات جيش ذاك الاستعمار

اعترف وقت خروجهم أن الجنوب كان مصدر رعب لرجالهم

وأنهم خسروا في حروبهم معه الكثير ، أما غربها فكان مقرهم

الأساسي انتهك بالغصب فكان مقرا لمساكنهم ومنشئاتهم العامة

ومرافقهم الصحية , أي كان نقطة استقرارهم الأساسية لأنه

يربطهم بالبحر وأما شرقها فعرف هنا ببؤرة الشر فهوا أرض

الخونة من قبائل البلاد درجة أن جميع الثكنات العسكرية لؤلئك

الجنود كانت فيه وبعض أبناء القبائل كانوا يعملون جواسيس لهم

بين قبائل بلادهم الأخرى , ومن هنا لعب ذاك المستعمر لعبته

وأصبح يسلم بعض المناطق لهؤلاء القبائل ويعيد تقسيم البلاد

كيف شاء ونشب الحرب بين شرقها وغربها وجنوبها وبث

الفرقة والأحقاد التي امتدت لسنوات فبعد خروجه طالبت قبائل

الجنوب بحكم البلاد واسترجاع أراضيه لقبائلها وتعويض أهل

ضحايا الحرب وجاء الرفض من الثلثين الآخرين , غرب البلاد

أرادوها انتخابية ومجالس وبلديات وأن لا يسلبوه من مرافقه

شيئا وهوا النقطة المعمرة الوحيدة في البلاد فالجنوب شبه مدمر

بالكامل والشرق أشبه ما يكون بثكنة عسكرية , وآخر ما اقترحوه

أن تقسم البلاد لثلاث ولايات تحت حاكم واحد ورفضت باقي

الأطراف أما الشرق فكان من أعلنها حربا وأنه سينتزع المدن

بالقوة ودخلت البلاد في حرب أهلية دامت لسنوات وسنوات

ومات الآلاف بالمئات وأصبحت قضية دم وليس أرض فقط

وقد فشلت جميع الجهود العربية لحل النزاع أما الغرب فكان

غرضهم الوحيد أن تبقى البلاد في حالة فوضى , أغراض

سياسية يغطونها بمؤتمرات واجتماعات لا تخرج بأي حلول

ومن تحت الطاولات يمولون الجماعات الإرهابية لتقوى

شوكتها في الداخل ويدخلون بحجة محاربتها .

اقتربت منهم سيارة أخرى ونزل من فيها واقترب أحد تلك

الخيالات التي تتحرك في سكون هذا الليل ليقف أمام صاحب

المعطف الطويل والعمامة الزرقاء وقال بجدية " كل ما أمرت

به جاهز سيدي , خسرنا أربعة رجال خلال الخمس ساعات

الماضية ، مصدر الرصاص والقذائف اليدوية مباني

الردم الطينية القديمة "

تحرك حينها باتجاه السيارة قائلا بحزم " هذه المرة لن نرجع

لأهالينا إلا والردم والحويصاء أصبحت ضمن حدودنا

أو نموت دون ذلك "

لترتسم ابتسامات الرضا على وجوه رجاله فكم انتظروا هذا

القرار منه , القرار الذي أجّلته المحاولات الدولية الفاشلة لجبر

ما لن تجبره إلا القوة ، وبعد حوالي خمسون كيلو مترا كانوا

في منطقة السد لينزل القائد الملثم المجهول وخلفه أقرب رجاله

القائد الذي وصوله هنا وفي هذا الوقت له معنى واحد فقط

وهوا أن وقت التحرك قد حان وسيتحول الجميع من وضع

الدفاع للهجوم فهذا القائد أوامره سارية على جميع قادتهم

ولا أحد يحق له أن يسأل من يكون ، ومن هناك طلعت

شمس الصباح لتتخلل تلك النافذة المكسورة وتتسرب أشعتها

على الخارطة الورقية التي تتوسط الطاولة الخشبية الكبيرة

التي ترتكز عليها يدان بقفزات سوداء وحوله القادة من رجاله

بعضهم يحار في هذا الملثم صاحب النظرة الصقرية الحادة

والشخصية القيادية الواثقة والبعض لا يستغربه أبدا لأنهم

يعرفون من يكون وأنه الرجل الذي يضن جميع من هنا أنه

نائم الآن في منزله ينتظر أن تأتيه الأخبار ، حرك أصبعه

على خط حدود مناطقهم ونظر لهم وقال بثبات " هنا نقطة

الانطلاق , هم مستعدون لنا بالتأكيد وقد وضّحت لكم نقاط

الهجوم والتراجع والأهم من كل ذلك نقاط الالتفاف فتلك

الثغرة نقطة ضعفهم الوحيدة , سنكون على اتصال وأنا

سأكون في الخط الأمامي وإن مت عثمان حداد

سيكون مكاني مفهوم "

أشاروا له بالطاعة التامة فعدل وقفته وقال بحزم

" الإمدادات ستصل تباعا ولا تَوقف لنا حتى نصل لحدودنا

الجديدة , التراجع إن حدث سيكون بالتحرك غربا حتى

منطقة غويطاء ونرجع هنا , وهذا في حال فشلنا طبعا "

وتحرك الرجال مع بزوغ الفجر لتدخل البلاد نقطة محورية

جديدة بين شرقها وجنوبها وهي انتزاع الأراضي بالقوة بعدما

فشلت آخر محاولات التهدئة الخارجية لأن الشرق بدأ بخرقها

*

*

*

وبعد ساعات ذلك الفجر الجديد وفي مكان آخر بعيد وأبعد ما

يكون عن تلك الحروب الدائرة وعن تلك البلاد الممزقة كان

اجتماع لرجال ببدل رسمية وربطات عنق أفكارهم لا تشبه

لباسهم أبدا , أناس اجتمعوا في مبنى زُخرفت أعمدته الضخمة

بالفضة والنقوش الذهبية العريضة , طاولة اجتماعات طويلة

أكواب كريستالية موزعة ورجال الفصائل المتنازعة من تلك

البلاد في الصفقة الثالثة لتبادل الأسرى بينهم .

مال جهته قليلا وهمس " كما أخبرونا حضر عمه وبعض

رجال قبيلتهم وهوا لم يأتي "

بادله شراع الهمس بجدية وهوا يحرك قلما على الطاولة

أمامه " إن لم نخرج من هنا ونسمع أخبار تخصه لا أكون

شراع صنوان فغيابه عن هذه الصفقات التي يسترجع فيها

رجاله سيكون لغرض أهم منها فلا تنسى أنه في اجتماعنا
الثاني هنا أخذ عشرة رجال مقابل واحد لأنه ابن عمك

وقمنا بتعويض عشر عائلات أخرى بدية عن أبنائهم فلن

يترك جولة يعلم أنه رابح فيها إلا لسبب أقوى منه "

جال ابنه بنظره بين الحضور وهمس له مجددا " زعيم

قبيلة هازان غادر الاجتماع سريعا يبدوا توقعك كان

في محله واستقبل هدية من ابن شاهين "

لم يخفي شراع ارتجاف يده ووقوع القلم منها لوقع همس

ابنه على أذنه فأن يتحرك ابن شاهين بغثة شيء لا يُطمئن

بالنسبة له ولكن ما يطمئنه أن ذاك الزعيم لن يخاطر بالتحرك

وقت اجتماع عقدته دول صديقة تحاول جاهدة إيجاد حلول لتلك

النزاعات فسيضع نفسه في موقف حرج أمام المساعي الدولية

عاد لإمساك القلم بذهن شارد يتردد صداه ككلمات في رأسه

المشوش ( لن يفعلها أبدا إلا إن جُن مطر حقا وضرب جميع

مساعيهم عرض الحائط وهم يسعون لتهدئة ولو جزئية )

*

*

*

بعد رفض عمتها القاطع للذهاب معها غادرت مع جبران لمدينة

النور من أجل المدرسة كي لا يغضب والدها فيما بعد , ولأنهم

اليوم درسوا شبه نصف الحصص فقط غادرت وقت الفسحة لأن

جبران لن يغادر وكان سينتظرها , خرجت وركبت السيارة

وعادا مغادرين من هناك في صمت تام كرحلة مجيئهما إلى

هنا فجبران كان طبعه معها دائما قلة الكلام وهوا يعلم أنها

ليست شقيقته وتجهلها هي والآن بعدما علم الجميع زاد صمته

حتى تحول لصمت أموات فلا يحدثها إلا للضرورة القصوى

كان يبني الحواجز بينهما لأنه على علم بالحقيقة ولأن مشاعره

نحوها تجاوزت الأخوة بكثير فأتقى لنفسه وأبرئ لها أن يبقى

بعيدا عنها , بعيدا عن امرأة حتى صوتها الناعم يفتنه لأقصى

النخاع فكيف برؤية حسنها كل يوم وفي كل حالاتها حتى وهي

مستيقظة من النوم , بعد مسافة مد يده لمسجل السيارة وشغل

المذياع ليشغل نفسه حتى عن سماع أنفاسها , بحث في تردداته

حتى ثبت على قناة إخبارية محلية وقال المذيع من فوره

" ... ومؤتمر الإمارة ألغي بسبب خبر هجوم قبيلة الحالك

على مدينة الردم والمعارك لازالت في أوجها "

وضعت غسق يدها على صدري ونظرت لجبران

وقالت بصدمة " تقاتلوا !! "

قال ونظره على الطريق " منذ الفجر واستولوا على

الردم , والحويصاء تبدوا في الطريق "

غصت العبرة في حلقها ونزلت دمعتها رغما عنها فمسحتها

سريعا لكن الذي كان يقود لا يفوته شيئا من تحركاتها فقال

بصوته الجهوري الهادئ " آن لك أن تعتادي يا غسق

فلسنا حديثي سنة بالحروب "

تجددت العبرة التي تحاول بلعها وأناملها تقبض بقوة على

الحقيبة في حجرها وقالت بأسى " ومتى سينتهي هذا

متى ؟؟ بل أرى دورنا سيكون القادم "

قال ببرود ممزوج ببعض بالجدية " هم جلبوه لأنفسهم واخترقوا

التهدئة الجزئية من أجل الرهائن مع زعيم قبيلة الحالك وجاءهم

رده القاطع فصمته اليومين الماضيين لم يكن عبثا وكما عرفه

الجميع يضرب مباشرة وبلا حِيل "

كانت الملايين من الأسئلة تدور في ذهنها لكنها لن توجهها

لجبران فقد اعتادوا أنها تسمع كل شيء ولا تتدخل إلا إن

تحرك فضولها بشكل قاتل وهذه النقطة لن تفوته أبدا , ثم هي

تحترم أنه لا يريد الخوض في الكلام معها وتراه أفضل لهما

مد يده وأغلقه مجددا فسماع أنفاسها بات لديه أرحم من بكائها

وصوتها الحزين , ليغلق على أفكاره بزفرة قوية علّه
يبرد بها

حر جوفه ( متى ستقرر يا أبي وترحمني من الانتظار
متى ؟؟ )
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي