أنا و المطر

نور جمعة`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-08-02ضع على الرف
  • 63.7K

    إكتمل التحديث (كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

نبذة مختصرة...
وبسم الله نبدأ


لا شيء يروي قصة ذاك الليل الأسود الحزين سوا ضوء القمر

وأصوات حشرات الليل وأغصان أشجار تتكسر تحت وطأة أقدام

ثقيلة تسير فوقها بسرعة وخطوات ثابتة , بل على أرض تشبعت

بدماء أبنائها على أيدي أبنائها ولازال ينتظرها المزيد والمزيد

* * *

وقف واستدار لهم ليعكس الليل بريقه المظلم في سواد عينيه

ونظراته الواثقة وقال بحزم " سنفترق هنا ونتقابل في

منطقة السد "

قال المقبل له باحترام شديد " والاجتماع سيدي ؟ "

فاشتدت نبرته الحازمة لتظهر بحة صوته بوضوح قائلا

" لن أضيع الوقت في تلك الترهات ورجالي هناك
في خط

المواجهة , ومن أجل ماذا ؟ مؤتمر سخيف لن نخرج

منه بشيء "

قال بشبه همس " كما تريد سيدي "

ليغادر بخطواته الواثقة التي لم يعودوا يسمعوا منها سوا أنين

الأغصان اليابسة تحت وطئتها وظلين يتبعانه حتى اختفى فلم يقتنع

يوما بأن زعيم القبيلة لا يدخل في النزاعات والموت ورآها مجرد ستار

يختبئ خلفه الجبناء الذين يخافون على حياتهم قبل سلطتهم , فك العمامة

الزرقاء القاتمة التي كانت تحتضن عنقه ولفها على رأسه ليكمم بها فمه

وأنفه وفكيه ولم يبقى من وجهه سوا عينيه السوداء الواسعة بنظرتها

الصقرية الحادة ليكون في الخط الأمامي يعطي الأوامر ويوجّه الرجال

فلم يكن حياته إلا هكذا إن لم يكن في قلب الحدث لن يرتاح , دس

يديه في جيوب معطفه الطويل بعدما تحول للقائد المجهول وتابع

سيره حتى السيارة التي تنتظرهم في ذات المكان لتنقلهم للمنطقة

التي بدأت تشهد تناوشا ومناورات ليلية خفيفة فيبدوا أن الأمر

هناك أصبح يحتاج وجوده فعلا

* * *

(( وهكذا هي بعض الحقائق .. لا تموت لأنها تُدفن تحت الركام

التراب وخلف الماضي , وأسوئها وأعظمها تلك التي تُخفى خلف

تحت الموت خلف الدماء والخوف .. خلف حكاية تحتاج لمجنون

ليصدقها لكنها حدثت فعلا وظهرت بعض خفاياها وبقي الآخر

فهل لك أن تتخيل أن تعيش في بلادك وكأنك خارجها و ترى

الموت في أعين الباكين على موتاهم ؟ فأنت بذلك تعيش الموت

بأفظع حالاته فكيف إن صرت أنت محورا فيه !!



مررتْ أصابعها في عتمة شعر النائمة على فخذها
مغمضة العينين وهي تنظر لها بصمت مبهم حتى
قالت بقلق " عليك

أن تعلمي شيئا قبل أن تفكري في اقتحام حدود تلك القبائل

يا غسق "

لتفتح تلك المستلقية بهدوء جوهرتاها السوداوات ونظرت لها

بعبوس واجم ، عينان تشبه بحرا أسود شق قارة جليدية لا

شيء فيها سوا تلك الثلوج مهما علت وانحدرت تضاريسها

هذا كان الوصف الوحيد الذي استطاعت مخيلة المرأة الخمسينية

أن تستشفه في غمرة انبهارها الدائم بهذه الحسناء وهي تسبح

بأناملها في ذاك الحرير فكيف ستصف صورة لعينان سوادهما

غريب وكارتي ترتسم في بشرة ناصعة البياض وإن تدلى الشعر

على نحرها وكتفيها معانقا لخاصرتها حِرت في ماذا تركز بين

ثلاثتهم فبين البياض والسواد حكاية عندما يتجاوزان حدهما

المعقول ، حورية من حور الجنة هكذا وصفها البعض فسبحان

الله كيف سيكون شكل حور جنته ولما أصاب الرجال كل هذا

الغباء كي لا يسعوا فقط للنظر بفضول لشكلهن وركضوا خلف

نساء الدنيا ، كل تلك الأفكار كانت تجول في ذهن من كانت

لسنوات تعرف بعمتها وهي وشخصان فقط كانوا يعلمون حقيقة

أن هذه الطفرة لا يمكن أن تكون لعائلتهم بل لقبيلتهم أجمعها

فكيف تكون هذه ابنة لعائلة من قبيلة عرفت بسم قبيلة ( صنوان )

لحكاية قديمة لجدهم الأول حين لقبه الناس بالصيني لقصر قامته

وصغر حجم عينيه الذي توارثته الأجيال بعده ابن عن أب وحفيد

عن جد حتى أصبح لقبا كرهه الجميع وشنوا المعارك الفردية بحق

كل من ناداهم به في وجوههم , وحين خاف الناس منهم أصبحوا

ينادونهم بـ ( صنوان ) بدلا من صيني أمامهم واعتادت عليه الألسن

وألفته القبيلة , فمن يصدق أن صاحبة هذا القوام الممشوق والعينان

الساحرة أن تكون فردا منهم لكن يبدوا أن الناس كان لها الظاهر فقط

وصدّقوا أن هذه الحورية ابنة لزعيم القبيلة الذي تزوج بوالدتها وقت

فرارها حاملا بها في شهورها الأولى وأنجبتها عنده ولحسن والدتها

الذي لم ينافسها فيه سوا هذه الابنة صدّق الناس أنها ابنته وأنها أول

تحسن في نسل القبيلة فتأملوا أن يكون له تابعات لكن أملهم مات مع

مرور السنين فحتى إن تزوجوا بمثيلتها فعرق القبيلة باق للأبد , قد

يكون رجالها اكتسبوا بعض الطول والهيبة مع مرور الزمن وتعاقب

الأجيال لكن الملامح بقت تميزهم عن باقي القبائل الكبرى في البلاد

قبيلة ( هازان ) وقبيلة ( صنوان ) وقبيلة ( الحالك ) وباقي القبائل مجرد

توابع وفروع لهم ، ابتسمت لها بود وقالت " عمتي لن يثني قراري

شيء مهما حكيتِ لي "

أبعدت خصلات شعرها عن جبينها الثلجي الصغير وقالت بضيق

" غسق أنتي تري بعينك حال البلاد في حرب بين ثلاث محاور فيها

وبكل جنون تريدي أن تدخلي حدود تلك القبيلة التي لا تعرف سوا

الدماء , عليك أن تقتنعي أن بلادك تقلصت لثلثها فقط والباقي منها

لم يعد وطننا ولا أرضنا ولا يحق لنا دخوله "

جلست مبتعدة عن حجرها نصف جلوس ليتدلى ذاك السواد القاتم

مغطيا الفراغ ما بين ذراعها وفخذها حاضنا لكتفها من الخلف

وقالت بضيق مماثل " لن أخاف من كلامك عمتي فلا تتعبي

نفسك ولا طريقة أخرى لأعلم إلا بزيارة تلك العجوز التي

تعيش تحت قبيلة الحالك , لا حل أمامي "

هزت رأسها بالرفض وقالت بإصرار " لن أسمح بهذا يا غسق

فماذا إن علم والدك وجبران أقسم أن يقتلاني قبلك فجبران كان

يعد الدقائق لتنجلي حقيقة أنك لست شقيقته فنصدمه بفرارك

لتعرفي حقيقة لن تؤثر في الواقع شيئا , فإن كانت ذا معنى

لقالتها والدتك لشقيقي حين جاءته "

عدلت جلستها ورمت شعرها للخلف وقالت باستياء ناعم " كم مرة

سأعيد عمتي أن جبران ليس أكثر من شقيق لي , هذه حقيقة عشت

عليها لتسعة عشر عاما , وإن كان هوا يعلم خلافها منذ صغري فأنا

لا ولن أستطيع إقناع نفسي أن يكون زوجا لي وأريد أن أعرف

من هم أهلي , من حقي هذا أم ليس من حقي ؟ "

تنهدت بيأس من عناد هذه الحسناء الصغيرة ثم مسحت على

فخذها وقالت " عودي لحجري لأحكي لك حكاية قد تعنيك معرفتها "

عادت للنوم على فخذها رغم الضيق الذي لازال واضحا على

ملامحها لتعود تلك الأصابع للغوص في ذاك الشلال الأسود

الحريري وقالت بهدوء " ألا يكفيك ما أخبرك به والدك شراع

عن حقيقة عائلة والدتك وأنها من صلب هذه البلاد وتعرفيهم جيدا "

تنهدت غسق بضيق وقالت " عمتي لا تقولي هذه البلاد منذ متى

كنا بلادا لوحدنا ؟ لما تريدون تقسيم الدولة وهي لم تقسم بأي

حدود دولية "

عقبت على كلامها بحزن " لكنه واقع يا غسق فكيف مع كل هذه

الحروب والفرقة والدماء تري أن البلاد لازالت واحدة وكل واحد

ممنوع من تجاوز حدوده والمعارك طاحنة وكل قبيلة تريد أن

توحدها بفرض سيطرتها على كل شبر من أراضيها "

أغمضت عيناها مجددا وقالت بحزن " هل هذا ما كنتِ

تودين قوله ؟ "

لتزفر تلك نفسا قويا ومررت أصبعها على رموش عين النائمة على

فخذها في حركة تعشقها كلاهما وقالت مبتسمة " أريد أن أعرف

فقط زوجك ما سيفعل وأنتي تنامين في حجره هكذا ؟ أنا المرأة لا

أتحكم في يداي من أن تسافرا في هذه التفاصيل فكيف برجل ! "

فتحت عيناها سريعا وقالت بضيق يخالطه الحياء " عمتي

ما هذا الكلام الذي تقولينه ؟ "

فابتسمت تلك بمشاكسة وقالت " لا شيء أنا خائفة فقط على

عقل الرجل من الجنون "

أغمضت عينيها مجددا وقالت " لا تقلقي فلن أتزوج أبدا , ومن

هذه التي تتزوج في هذا الوضع ليزفوا لها خبر موت

زوجها في أي وقت "

ثم ما لبثت أن عادت وفتحتهما مجددا وقالت " احكي الحكاية

التي تريدين قولها لي فقد أصابني الفضول أخيرا "

ضحكت عمتها بشفافية وقالت " مادامت غسق وصلت

لحالة الفضول فقد أنجح في ما أنوي "

نظرت لها باستغراب لتكمل كلامها قائلة وقد غابت بنظرها

للبعيد وأصابعها لا زالت تعبث بذاك الشعر الحريري " ما

سأحكيه لك يا غسق عمره قرابة الأربعين عاما حين كان لرجل

من قبيلة الحالك يدعى شاهين ابنة من زوجة توفي كل طفل تحمل

به بعدها وتزوج عليها مرتين وكانت الحال ذاتها يموت الجنين

قبل أن يولد حتى زاره عجوز وقتها يدعى ( قطاط ) لم يكن ذاك

اسمه لكنه عرف به من كثرة ما كان يدّعي أنه يعلم المخفي والمستور

ويقرأ الطالع والغيب , والحقيقة أن هؤلاء الدجالين لا شيء لديهم سوا

بعض الرجال من الجن يتجسسون على السماء ليسمعوا ما تكتبه

الملائكة في الألواح ويزيدوا عليه من الكذب الكثير , ذهب ذاك الرجل

للمدعو شاهين وقال له أنه رأى له رؤيا في منامه وأنه لن ينجب أبناء

إلا من امرأة من قبيلة معينة وأن أحدهم سيكون بست أصابع في يده

اليسرى وأن ذاك الابن سيحكم ثلث هذه البلاد ومن ستكون له القدرة

على حكمها كاملة فكبُر الموضوع في رأس الرجل وقال له سأعطيك

بشارتك حين يولد فزاده من العيار وقال (وعليه أن يحذَر فهزيمته

وهوا على مشارف نصره تكون من أهلك من دمك ومن أقربهم لك )

فركبت الهواجس عقل ذاك الرجل وفرحته الغامرة كانت أن يولد له

ذاك الابن الذي سيحكم القبيلة بل وجميع قبائل البلاد وهوا يتخيله كيف

سيكون وبدأ يطلب النساء من تلك القبيلة ويتزوجهن ومن تحمل وتظهر

صور الأشعة أن الابن يده سليمة ينزله فورا ويطلقها لأنه كان يسفرها

خارج البلاد فقط من أجل أن يكشف على المولود ولأنه كان صاحب

جاه ومال في تلك القبيلة كانوا يزوجوه دون تردد وهم يعلمون نواياه

فالخير الذي سيأتيهم منه كثير حتى إن طلقها فكيف إن أصاب الظن

وحملت بذاك الابن المنتظر , وفي مرة صدفت تلك الكذبة وحملت

إحداهن بابن له ست أصابع وفي اليد اليسرى أيضا وكان الجميع

ينتظر ذاك الخبر ليروه بأعينهم فمن يصدق أنّ تكهن قطاط البعيد

ذاك صدق حقا حتى ظنوا أنه رؤيا بالفعل ولم يكذب فيها "

قاطعتها غسق بفضول " ولما كان يقتل باقي الأبناء ؟ "

نظرت لها وقالت مبتسمة " لا تستعجلي فالخير قادم وكثير "

اكتفت بالصمت لتتابع عمتها حكايتها وهي تنظر لوجهها وتمسح

بإبهامها على الحاجب المرسوم كالسيف " ولد ذاك الابن أخيرا

في ليلة ماطرة بل كان أشد مطرا نزل على تلك البلاد ولم تشهده

من قبل وعجزوا عن إيصال والدته للمستشفى فأحضروا لها القابلة

لتوليدها ودخلت لها تحت تهديد منه أنه إن أصاب ابنه شيء قطع

عنقها وقضت أغلب الليل تحاول توليد تلك المرأة التي تعسرت

ولادتها بشكل لم تعهده تلك العجوز طوال سنوات عملها وذاك

يصرخ من الخارج أن تشق لها بطنها وتخرجه قبل أن يموت

فعظم الأمر على تلك العجوز فكيف تقتل بشرا لتخرج آخر ! كيف

تُجري لها عملية قيصرية بلا أدوات فتفتحها وتتركها تنزف حتى

تموت ؟؟ وعند اقتراب الفجر كانت المرأة بدأت تلفظ أنفاسها

الأخيرة مما لم يخفى عن تلك القابلة أنها تحتضر ففعلتها وشقت

لها رحمها وأخرجت الصغير قبل أن تموت الأم ويتبعها بوقت

قليل لأنه من سابع المستحيلات أن يصلوا بها للمستشفى في ذاك

الطقس المخيف , فخرجت تلك الليلة روح من جسد تخرج روحه

وكأنها خرجت منها روحين معا وماتت المرأة فورا وخرجت تلك

العجوز بالطفل لوالده الذي استقبله بقبلة لجبينه الناعم الصغير

الأزرق وقال ( وُلدت يا مطر في ليلة تشبهك ) وسماه ( مطر )

وعاش يربيه على الجَلد والقوة وهوا يرى فيه حاكما لكل هذه القبائل

فأركبه الخيل ابن العام وعلمه السلاح ابن الخمس سنين وأجلسه في

مجالس كبار شيوخ القبيلة وكان يأخذ رأيه أمامهم في كل ما يقال إن

أخذوا به أو لم يأخذوا والجميع لاحظ حنكة ذاك الفتى وذكائه وسرعة

بديهته بل أصبحوا يأخذون برأيه وهوا لم يتجاوز الخامسة عشرة

وكانت له هيبة في أقرانه وكلمته ترتفع عليهم فلم يره أحد يركب

الدراجات ويلعب بالمزاليج في كثبان الرمال لا يعرف السهر عند

المقاهي والمطاعم , كان أكبر وأكبر بكثير من عمره بل حتى في

طفولته كان يضربه والده إن رآه يلعب مع الصبيان ويقول له

( أنت لم تخلق لتلعب أنت خلقت لتحكم وتأمر فجهز نفسك

لذلك واترك عنك حركات الفتيات )

كان ذاك رد والده إن لعب مع أحد الصبيان في سِنّه فكيف سيكون

الوضع إن رآه مع فتاة ! لذلك كان احتكاكه بهن من سابع المستحيلات

رباه جَلدا قويا وزاده ذكائه وحنكته الفطرية ليصنع منه رجلا لم

ترى القبيلة مثيلا له , وفات ذاك العجوز أنه هوا سبب ما صار

فيه ابنه وليس ترهات ذاك الخرِف قطاط "

توقفت عن الكلام فجأة وابتسمت برقة وهي تسافر بإبهامها

للخد الناعم وقالت " لا تقولي أن فضولك أصبح يقودك لرؤيته "

هزت غسق رأسها نفيا من فورها وقالت " كيف أرى رجلا لم

يعرف الفتيات ولا في صغره ! مؤكد سيقطع عنقي فقط لأني

قابلت وجهه "

ضحكت بخفوت ولم تعلق لتسهب غسق بعفوية

" وهل هوا متزوج ؟؟ فستكون زوجته تستحق الدعاء

لها بالرحمة "

عادت العمة للضحك مجددا وقالت " لا , وهل تري شخصا

مثله لم يعرف النساء ولا في صغره سيفكر في الزواج ؟ أو

قد يكون مثلك يرى أنه لن يربط نفسه بامرأة وهوا على

مشارف الموت "

حركت غسق شفتيها الرقيقتين بتلقائية ثم همست

" رجل بقلب صخرة "

فابتسمت عمتها وقالت " وكم من صخر أذابه عشق امرأة "

لم تفهم غسق ما صبت له عمتها التي أكثر ما تخشى على هذه

الفتية هوا ذاك الرجل فإن أصبحت في قبضة رجاله أصبحت

في قبضته وإن أصبحت في قبضته وقع ما تخشاه حقا أكثر من

موتها على يديهم , قالت غسق ويدها تحضن يد عمتها التي

تلامس صفحة وجهها الغض " لم تخبريني حتى الآن لما

قتل ذاك الرجل جميع أبنائه "

تنهدت وقالت بحزن " بل لم يكن بطشه لهم فقط لأنه تخلص

من جميع الرجال في عائلته وبطرق مموهة "

جلست غسق فزعة وقالت بصدمة " قتل أهله !! "

هزت رأسها بنعم وقالت " تصوري وكله خوفا على ذاك الابن

من باقي كلام العجوز من أن هزيمته على أعتاب نصره

تكون من شخص من دم والده سيولد بعد رؤاه المزعومة "

هزت رأسها بصدمة غير مصدقة كل ما سمعت فكيف يصل

به ذلك لأن يقتل أشقائه وكل من يقرب له من أجل كلام لا

يعرف صحته ! لكن من يلوم مجنونا مثله حدث معه نصف

ما قال له ذاك العجوز فبالتأكيد سيفكر أن النصف الآخر

سيحدث , قالت بحيرة " هذا يعني أنه لم يبقى لابنه أحد "

هزت رأسها بنعم وقالت " شقيقته من زوجة والده الأولى

فقط لأنها وُلدت قبله وهوا خشي حتى أن يولد لأشقائه ابن

يهزمه ولأنه كان الأكبر تخلص من شقيقه الذي عصاه قبل

أن يتزوج والآخر لم يتزوج حتى الآن ولا شقيقته أيضا

التي من حبها لابن شقيقها تخشى أن تنجب ابنا يكسره

ويقتله وضحت بأن يكون لها زوج وأطفال من أجله "

جالت غسق بعينيها السوداء الواسعة الطويلة في ملامح

عمتها بنظرة ملئها حيرة ثم رفعت شعرها خلف أذنها وقالت

" كيف هذا !! كيف تصدّق هي أيضا ما قال ذاك الدجال ؟ "

تنهدت العمة وأردفت " لم يعد يستطيع أحد التكهن بشيء

وهم يروا أن الابن بالست أصابع ولد فعلا وحكم القبيلة

بأكملها وكل مجاوراتها وفي أراضيها فيبدوا أنه صَدق

وكانت رؤية وليس تكهنا "

زحفت مقتربة منها أكثر وقالت بفضول " وهذه قصة

حقيقية أم من الخيال وفي أي جيل من قبيلتهم "

ابتسمت على جملة صغيرتها التي ربتها في حضنها وها

قد فاتها ذكائها الفطري أن تعرف من تقصد وقالت

" بل الآن في هذه البلاد "

لتشهق غسق بصدمة وقالت " هنا !! هل هوا .... "

ثم رفعت شعرها ولفته بعشوائية وغرست فيه مشبكا فضيا

وقالت بصدمة " لا تقولي أنه زعيم قبيلة الحالك ؟ "

هزت رأسها بنعم دون كلام فتابعت غسق بحماس " ظننته

عجوزا فلم أره يوما ولا تحدث عنه أحد سوا بابتعدوا عن حدوده

حتى بعدما دارت الحروب بيننا وبينهم لازال الجميع يخاف

الهزيمة على يديه ولم يكن أحد يذكر اسمه وجميعهم ينادونه

بزعيم قبيلة الحالك أو ابن شاهين زعيم منطقة الجنوب "

ثم أمسكت يد عمتها وقالت برجاء يقارب للطفولة

" صفيه لي عمتي كيف يكون ؟ "

لتشد يدها منها وقالت بحدة " غسق ما هذا الكلام ؟؟ أعرفك

لا يحرك فضولك إلا شيء تمكن من عقلك فلما تريدي معرفته ؟ "

تأففت برقة وقالت " أنتي السبب حكيتِ لي حكاية أقرب للخيال

منها للواقع عن رجل لم أرى مثيلا له فكيف لا يجتاحني الفضول "

نهرتها مجددا قائلة " لا تنسي أن العشرات من رجال قبيلتنا ماتوا

على يد رجاله وأنه يريد انتزاع الأرض منا "

قالت بتذمر " ونحن لسنا بأقل منه قتلنا رجاله ونريد

انتزاع أرضه منه "

قالت العمة بصدمة " غسق ما هذا الذي تقوليه ؟ "

فعقبت بحزن وقد هدأ حماسها " متى سينتهي هذا الحال عمتي ؟

هل حقا اعتدنا أن يموت الناس وأن نعيش في سكون لليلة

لتعقبها حرب لليالي ؟؟ "

وكان الجواب منها أن هزت رأسها بيأس وقالت " ومن سينسى

الدماء يا غسق ؟ كلٌ أصبح يحمل الحقد في قلبه ولن تتصافى

النفوس إلا بأن يحكم أحدهم بالقوة بعدما يدمر ثلثي البلاد الباقيين "

غزى الحزن ملامحها وعلقت بعبوس " وما بِنا هكذا ! خرج الاحتلال

من بلادنا ليتركنا نذبح بعضنا البعض ولسنوات ونعاني ويلات

الحرب الأهلية , متى سنتحرر من أنفسنا متى ؟ "

مسحت عمتها على شعرها بحنان وقالت " والآن عليك محو فكرة

الذهاب إلى هناك من رأسك لأن الأرض أرضه وإن أمسكك رجاله

سيسوقونك له , ولك أن تتصوري كيف أن رجل يمسك رجاله بامرأة

يسلموها له دون أن يلمسوها وهم رجال كيف ستكون سطوته وقوته

وسيطرته عليهم حد أن يهابه المحاربين من الرجال وهوا ليس معهم "

برقت عينيها السوداء وقالت بحيرة " يا الله كيف يكون هذا

الرجل المخيف ! "

فاشتعلت النار في فخذها التي قرصتها عمتها ونهرتها قائلة

" غسق ماذا قلنا "

عدلت جلستها تفرك فخذها بتألم وقالت بتذمر " عمتي هذا

مجرد كلام فلن أراه ولن يمسكني رجاله ولن أذهب

اطمئني فقد أرعبتني منه بجدارة "

لتبتسم قائلة بحب " جيد المعلومة وصلتك إذا وأتمنى أن

لا تكون مجرد تصريفه لي لأسكت "

هزت غسق رأسها نفيا وهي موقنة من أن ما فيه لن يغيره شيء

فإصرارها لمعرفة والدها وعائلته وابنة من تكون وصل لأبعد

نقطة في عقلها لأنها كرهت حديث عائلتها منذ أن علم المقربون

بقصتها وأنها ليست ابنة هذه العائلة , وما خفف كلامهم هوا

معرفتهم بعائلة والدتها العريقة وبقي نسب الأب لغزا تتداوله

الألسن وفي كل حين يرموها على شخص مما جعل إصرارها

على معرفته يكبر يوما بعد يوم لتخطئ عمتها الخطأ الأعظم

وتذكر لها اسم من كانت ولادتها على يدها ووحدها من ستكون

تعلم به لأنه كان من عاداتهم أن تخبر المرأة القابلة وقت توليدها

عن اسم أب ابنها وتحفظه تلك حتى الموت ولا تتفوه به إلا في

الضرورة القصوى ولو كان فيه موتها , ولأن تلك العجوز تسكن

أراضي الحالك فالوصول لها أشبه بالمستحيل والمخاطرة كبيرة .

انفتح حينها باب الغرفة لتنظرا كليهما معا للداخل دون إذن مسبق

وكان من ابتسمت له العمة بحب وقفزت غسق ناحيته ووقفت على

رؤوس أصابعها حتى قبلت رأسه قائة " صباح الخير أبي "

مسح على خدها بحنان وقال " صباح الخير , ما يوقظ

ابنتي الحبيبة قبل الفجر بساعة "

نظرت للخلف وقالت بابتسامة " عمتي حكت لي حكاية

أخافتني ولم أنم بعدها "

ضحك كثيرا وقال " خذي حذرك من حكايات عمتك

فمخيلتها واسعة جدا "

فنظرت لعمتها بطرف عينها بخبث وقالت بنبرة مقصودة

" هكذا إذا ؟ هي تعبث بخيالها كثيرا "

لتقف تلك تعدل لباس الصلاة على صدرها وقالت ببرود

" لا تضحكي على نفسك فكل ما قلته حقيقة "

ثم نظرت لشقيقها وقالت بقلق " أراك باللباس الرسمي !!

هل ستخرج من البلاد ؟ "

هز رأسه بنعم وقال " مؤتمر صغير وسأعود اليوم "

تنهدت بأسى وقالت " تعبنا من هذه الاجتماعات التي

لا نخرج منها بشيء "
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي