الفصل الثاني

مر عامًا بمشاعر مُتخبطة كانت تتخبط بها يمينًا ويسارًا تائهة في بحر الحياة عالمًا لم تعهده أبدًا أدركت أنها ظلت حبيسة قفص شهاب الذهبي لأعوامٍ منذ أن فتحت جفنيها لتدرك الحياة... بدأت تعمل بشهادتها الجامعية تمارس مهنة المحاماة فكانت تتحرك كطفل رضيع بدأ المشي بعدما كان يحبو كلما كانت تسقط وجدت من أصدقائها القدامى الذين أنقطعت أخبارهم قديمًا يساندونها إذ إن شهاب كان يضعها بداخل أصداف كحبة لؤلؤ ثمينة يخاف من أن ينظرها أحد....

في أحد المرات وهي بالمحكمة تُنهى بعض الأوراق أصطدمت بأحدهم فتناثرت أوراقهم معًا أرضًا....

هتفت معتذرة وهي تنحني تُلملم أوراقها المتساقطة :

- أعتذر بشدة أعتذر منك سيدي ...

رفعت عيناها فتلاقت مع عينان سوداوتان بهما إشيتاق غريب، أزدردت ريقها وهي تتطلع به صامتة... عيناه ليست بالغريبة عليها ولكن إشتياقهما يشتتها ينظر إليها كطفل وجد كنزه الطفولي المُخبأ بعدما نساه لسنوات....

همس بصوت أجش وهو يرفع خصلاته السوداء الناعمة المتمردة على جبينه :

- مرحبًا فداء عاش من رأكِ

ضيقت عيناها وهمست بتعجب وهي تُرتب من وضعية وشاحها حول رأسها :

- عذرًا ولكن هل أعرفك؟ تبدو مألوفًا ولكن أعذرني لا أتذكر الوجوه جيدًا

رُسمت ابتسامة حزينة على محياه ليردد بهدوء :

- لم نتحدث معًا قديمًا ولكني كنت أحد زملائك بالجامعة ...

حكت رأسها بتفكير وأشاحت عن عيناه لثانية فعادت سريعًا لتهتف دون تفكير :

- تذكرتك أنت الفتى الذي تشاجر معه شهاب

هدر ببسمة لم تصل لعيناه :

- حسنًا لم أعد فتى بل صرت رجلًا ...
وأسمي هو معتصم أتمنى أن تتذكريه جيدًا

قالها ورحل من أمامها، لتهتف بصوتٍ مرتفع قبل أن يتوارى عن أنظارها :

- أعتذر منك سيد معتصم سأتذكر اسمك في المرات القادمة بالتأكيد ...

أختفى من أمامها وعلى ثغره ابتسامة رزينة ليحرك رأسه أسفًا...
ظلت تنظر في أثره شاردة لتفيق وتجد على ثغرها ابتسامة حمقاء فنهرت نفسها بحدة وعادت لعملها من جديد...

°°°°°

تركت مكتب المحاماة الذي تعمل به لترحل لمقر جديد لمحامٍ ذاع صيته في الأونة الأخيرة "معتصم عز الدين الدهشوري" رشحها رئيسها السابق للعمل هناك حيث إنها أثبتت جدارتها خلال فترة عملها معه...
كانت صدمتها وهي ترى ذلك الفتى من الجامعة هناك... تقصد الرجل الذي صدمها بالمحكمة... لم تكن تظن بإن مكتب محامٍ مشهور قد يكُن صاحبه رجلًا لم يتخط التاسعة والعشرون من عمره فظنت أنه رجلً بلغ من العمر منتصف عَقده الخامس...

عملت معه قرابة العام أصبح اسمهما مرتبطان ببعضهما في مجال العمل فدائمًا ما كان يأتي الموكلون بقضاياهم لمكتب "معتصم عز الدين الدهشوري" ليتحدثوا مع المحامية "فداء عاصم البدوي" فتُمسك قضاياهم بجدية مع بعض الملاحظات من معتصم فتظفر بالقضية بكل سلاسة ويسر...

تقاربا من بعضهما فأصبحا صديقين مقربان تركت فداء الماضي خلفها لتخطو خطواتها في المستقبل بمساعدة معتصم فكم أرادت أن تصبح مثله تمتلك مكتبها الخاص ولكن عليها أولًا أن تتعلم ما فاتها من سنوات ....

°°°°°

بأحد الأيام كما أعتادا أن يذهبا معًا لتناول العشاء بأحد المطاعم المُفضلة لكليهما على ضفاف نهر النيل؛ أتى النادل بالطعام فشردت فداء تتناول طعامها لتجد يد معتصم تمتد إليها بعلبة قطيفة الملمس زرقاء اللون، قطبت حاجبها بتعجب وهو يفتحها ليظهر منها خاتم زواج من الذهب الأبيض يحتوي على فص من حجر الفيروز الكريم وتلمع حوله فصوص ماسية متوهجة كسراجًا يُضاء في الليل...

تنهد بعمق قبل أن يهمس بجدية وهو ينظر عبر عيناها :

- أريد أن أتزوجكِ فداء أريد أن أبني معكِ حياتي القادمة تشاركيني فيها وأشارككِ مشاعري... فهل تقبلِ أن تصبحِ زوجتي لأعوامٍ كثيرة قادمة حتى أصير كهلًا عجوزًا؟!

ألتمع الدمع بمقلتيها لتهمس بتحشرج :

- عرضك للزواج بي لا يُرفض أبدًا ولا توجد حمقاء قد ترفض الزواج بك ولكن أُعذرني معتصم سأكون أنا تلك الحمقاء...

زفر بحزن ليسألها بعدم فهمٍ :

- لماذا قد ترفضي أعطيني سببًا واحدًا للرفض وسأحترم قراركِ بعدها...

أغمضت عيناها للحظات لتفتحهما ويظهر الألم بهما فهمست جاهشة بنبرة مُختنقة :

- أنا لا أنجب... لا يمكنني أنجاب الأطفال

ضحك ساخرًا وهو ينظر في عيناها :

- أهذا هو السبب!!! حقًا لا أصدق...

تلونت ملامحها بالغضب وهي تهُم بالذهاب فأنتفض يُمسك بيدها سريعًا، صاحت بغضب وهي تجذب معصمها من بين كفه :

- أتركني معتصم أتسخر مني !!

وضع كفه الأخر على وجنتها وهمس بحب يتخلل نبرته، صوته بعث بداخلها الطُمئنينة كطفل تغني له والدته تهويدة قبل النوم :

- أنا لا أسخر منكِ أبدًا يا فداء الروح ولكن ما أخبرتني به ليس سببًا حقيقيًا للرفض لم أخبركِ بإنني أريد أطفالًا بل قلت أريد الزواج منكِ أريد أن تشاركيني حياتي تسانديني في وقت ضعفي... أريد أن تشيب خصلاتنا معًا ، حقًا أريدك أنتِ

صمتت والدمع يتراقص بمقلتيها لتهمس بنحيب خافت :

- إذا تزوجتني لن تحصل على أطفال أبدًا

- ومن قال ذلك !

قالها لترفع وجهها إليه قاطبة جبينها ليفرد عبوسها بأنامله ويضع الخاتم في بنصرها الأيسر ثم ابتسم ليردد بحنان :

- ستكونين أنتِ طفلتي الأولى والأخيرة إذًا....

تساقطت عبراتها لترتمي بداخل أحضانه تبكي وهو يمسد على ظهرها ويربت عليه بحنان بالغ يبُث إليها السَكِينَةٌ والأمان فأشعرها وقتها أنها حقًا أبنته....

°°°°°
مر شهران سريعًا ليأتي يوم زفافها على "معتصم" أصر أن يبدأ معها من جديد فأقام حفل زفاف يشمل أصدقائهم المقربون وعائلتها وعائلته أرتدت فيه فستان زفاف يشبه فستانًا للأميرات فقد كان يتوجها على عرش قلبه، زاد من توهج بشرتها وشاحها الأبيض وهو مُلتف حول رأسها فتوردت ملامح وجهها... وجدت معتصم يقف بعيدًا في أنتظارها وهو يرتدي بذلته السوداء برابطة عنق لامعة تشابه قميصه الأبيض مع لون ثوبها فكان كلاهما بنقاء السُحُبْ....
هبطت الدرج وهي متأبطة ذراع والدها تبتسم له بحياء وتشعر بخجل يعتريها وكأنها لأول مرة تتزوج وترتدي ثوب الزفاف الأبيض ...

بعدما هبطت لأسفل توقفت قدماها عن التقدم وهي ترى شهاب يقف في المنتصف بينها وبين معتصم عيناه تتحدث بحزن عجز لسانه عن سرده....

هتف شهاب بحزن دفين وصوته يتجرع ألمًا :

- أعتذر منكِ فداء على ما حدث قديمًا وأتوسل إليكِ ألا تتزوجِ ، عودِ إليّ رجاءً

تشدقت فداء بنظرة ثابتة وهي تتسأل :

- وأين زوجتك سارة يا ابن العم ؟

- رحلت ... رحلت للأبد وتركت صغيري لي عودي لتصبحِ أمه يا فداء عودي لتبقى مع حبيبكِ شهاب

قالها وهو يمسك بكفيها معًا بتوسل لترفع نظراتها فتُقابل نظرات معتصم الصامتة نظرات جامدة لا تنطق بشيء فقدت نظراته القدرة على الحديث كفمه تمامًا...
نظرت له بحزن وهي تحرك بصرها بين كلاهما فهز معتصم رأسه بألم أسفًا على حاله ليستدير معطيها لهما ظهره ....

°°°°°

عادت من شرودها بعدها توقفت قطرات الغيث عن الهطول فتحركت الغيوم تُعلن عن صفاء السماء فأغمضت عيناها لثوانٍ وهي تتنفس الصعداء فما مضى قد مضى...

هتف لسانها بلا وعي اسمٍ قد ظل يردده عقلها منذ ذاك اليوم الذي رأت به شهاب مجددًا لتردده بخفوت :

- معتصماه

أقتربت منها يدًا ذكورية تطوق خصرها بتملك وهي تمسد على بطنها ذات البروز الصغير فهنا أثمرت ثمرة حبهما...

همس بجوار أذنها ببحته الرجولية :

- أشتقت إليكِ يا فداء الروح

ابتسمت وهي تتطلع من النافذة أمامها، أستدرك قائلًا بحاجبين معقودان :

- لماذا هتفتِ مناديةً لأسمي !

رفعت حاجباها صدمة ورددت بتعجب :

- وكيف علمت ذلك ؟ فأنت لم تكن جواري وقتها !!

وضع كلتا كفيه فوق كتفيها ليجعلها مقابلةً له :

- لا أدري منذ يوم زفافنا عندما أستدرت موليًا ظهري لكِ وظننتكِ ستختارين شهاب ولكنكِ همستِ مناديةً لي ومنذ ذلك الحين وأنا استمع دائمًا لهمسكِ بِأسمي الخارج من بين شفتاكِ...

ابتسمت له وهي تقبل وجنته هامسة :

- أظن أننا أحببنا بعضنا بعقلنا أولًا فكما تعلم يا حضرة المحام المشهور الحب يبدأ من الدماغ أولًا ليأمر بعدها القلب بأن تحب فلذلك ستظل عقولنا مرتبطة معًا كلما فكرت بك أجدك تأتي إليّ مسرعًا...

ضغط بسبابته فوق طرف أنفها ليهتف بمشاكسة :

- أحسنتِي القول يا أم غيداء فيبدو أن صغيرتي ستصبح ذكية كأمها تمامًا أرى هذا من خلال فترة حملك بها

صاحت بحنق طفولي وهي تضرب الأرض بقدمها :

- أصمت يا معتصم لا تهزأ بي

ضحك بقوة وهو يقرب رأسها من صدره يحيطها بذراعيه :

- من قال لكِ أنني أهزأ بكِ يا فداء الروح فمن عاقل يهزأ من روحه ... أحبك يا صغيرتي...

- و أنا أيضًا أحبك يا معتصماه ....

محت ماضٍ أرهقها من ذاكرتها لتعش بحاضر ومستقبل أختارته بكامل أرادتها لم يُفرض عليها كماضيها... وُلدت فكبُرت على وجود "شهاب" ليقتنع قلبها بإنه حبها الحقيقي فعاشت معه سنوات لتدرك خطأ أختيارها فأحيانًا القلبُ يُخطيء في تحديد مصيرنا لنترك بعدها تلك المهمة للعقل فنجده رسم مستقبلًا ممهدًا يحُث القلب على أن يسير فيه فأختارت "معتصم"... من أختارها بعدما ظل سنوات يحيا على ذكراها... فتاة لم تلمحه إلا لحظات لم ترى عيناه المتتبعتان لها لم ترى نظراته الحالمة بها...
أعتصم عن أن يتحدث معها قديمًا ليصبح فدائها... وبعد سنوات عجاف أختارته هي لتُصبح فداء المعتصم.....

°°°
"تمت بحمد الله"
"أمينة عزت"
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي