فداء

نجمة`بقلم

  • الأعمال الأصلية

    النوع
  • 2022-06-10ضع على الرف
  • 2.4K

    جارِ التحديث(كلمات)
تم إنتاج هذا الكتاب وتوزيعه إلكترونياً بواسطة أدب كوكب
حقوق النشر محفوظة، يجب التحقيق من عدم التعدي.

الفصل الأول

"رحلة أختيار"....

تقف أمام النافذة الزجاجية المُغلقة تُتابع عيناها الفيروزية المشابهة للأحجار الكريمة بلمعتهم حركة قطرات الغيث الساقطة من السماء تنساب بهدوء على زجاج النافذة الشفاف تهوى بخفةً كما تهوى عبراتها المتلاحقة، خصلاتها المنسابة على ظهرها كسلاسل من الحرير الأسود تركتها متحررة من قيدها كما أرادت أن تكون هي قديمًا، أزداد توهج وجنتيها الورديتان كما كانتا دائمًا... عادت بذاكرتها لذلك اليوم منذ سبع سنوات شردت في ماضٍ ظنت أنها قد تناسته لتجده يتكرر بمخيلتها من جديد في ذلك اليوم "الأول من شهر آذار" مُذ سبع سنوات وبضع أشهر تحديدًا تساقطت الأمطار بهذا الشهر وتعجبت لتساقطها قبيل فصل الربيع بعدة أيامٍ ليُحاكىَ نفس ذاك اليوم مجددًا ولكن مع الكثير من الأختلافات...

قبل سبع أعوام مضت مرت عليها كلحظة ضرب البرق في السماء ضوءً شديد تغمض به عيناك للحظات ليدوي بعدها صوته عاليًا فينتفض جسدك ثم تعود للسَكِينَةٌ من جديد وهي عادت إليها الآن...

فتاة في مُقتبل عقدها الثاني... جسدها مكتنز، صاحبة قامة متوسطة، عيناها فيروزتان تجمع مزيجًا غريبًا بين زُرقة السماء الصافية وتداخُل خضرة الأشجار البديعة، تلمع مقلتيها بسعادة وهي ترتدي ثوب الزفاف الأبيض مرصعًا بحبات اللؤلؤ البراقة، ابتسامتها تشق ثغرها تنفرج شفتاها المصبوغتان بالحمرة القانية ببسمةٍ منبهرة....

شهقت بخفة مندهشة وهي تجد يداه تلف خصرها فيصبح وجهها مقابلًا له ...

- لقد أفزعتني يا شهاب !!

قالتها وهي تصيح بحنق طفولي، ليهتف بابتسامة جذابة :

- أشتقت إليكِ فداء ، ما أجمل طالتكِ اليوم! أصبحتِ فاتنةً يا ابنة العم...

توردت وجنتها بخجل وأشتعلت كأشتعال قرص الشمس بلحظة المغيب...

حمحمت بخجل فطري وهي تهتف بهمسٍ رقيق :

- مبارك لك يا شهاب...

أقترب مرددًا بخفوت جوار أذنها :

- مبارك لنا معًا ، فاليوم أصبحتِ زوجتي أخيرًا بعدما أنتظرت لسنوات حتى تُنهي دراستك الجامعية ... مبارك لنا يا زوجتي

قالها بعدما طبع قُبلة على جبينها، فأرتجف جسدها بقوة خجلًا فهي اليوم أصبحت زوجته شرعًا... بعد ثمانِ سنوات صارت زوجته حقًا فأول مرة خفق بها قلبها لجنس أبناء آدم بعدما تخطت عامها الخامس عشر كانت له... ابن عمها وصديق طفولتها "شهاب" الذي يكبرها ببضع أعوام قليلة؛ كان لها كقفص ذهبي يحيط بها فلا تتعامل مع أحدٍ سواه حتى في فترة دراستها الجامعية لم تقترب لأي ذكرٍ قط...

تذكرت ذلك اليوم في سنتها الأولى عندما تغيبت عدة أيام لأسباب مرضية وعادت فوجدت أحد زملائها التي لا تعرفه فلم تلمحه إلا لمرات قليلة يعطيها ملاحظاته التي دونها طوال فترة غيابها وعندما علم شهاب بذلك نشب شجار بينه وبين ذلك الزميل المجهول ومن يومها قررت أعتزال الحديث مع الجنس الأخر...

أتت الذكرى الخامسة لزواجهما لتمر كما مرت الذكرى التي سبقتها...

صاحت بقوة وهي تشهق بعنف :

- لقد فاض بي الكيل... لما لا تفهم هذا أمر الله ؟!

أعاد إليها الصياح بقوة أكبر وهو يدفع باب غرفة النوم بغضب :

- ونعم بالله يا فداء ولكنكِ لا تسعيّن ...

أتسعت عيناها دهشة وهتفت بتحشرج ساخر يُدمي القلب :

- أنا!! أنا لا أسعى؟!! كدت أن أذهب لجميع أطباء العالم ليصر الجميع أن لا عيب بي وهذا أمرًا من ربي الأنجاب ليس بيدي يا شهاب...

زفر بضيق وهو يتخلل شعره بأنامله يتحرك بالغرفة يمينًا ويسارًا، ساد الصمت لحظات إلا من صوت شهقاتها المتألمة...

تنهد بعمق وهو يهمس بصوتٍ بارد :

إذًا وماذا عن العملية ؟ أَلم يخبركِ الطبيب بإن موعدها قد حان لتخبريه بإنكِ لن تقومِ بها !...

صرخت بقهر وهي تضرب بكفيها فوق صدرها :

- لمَ لا تشعر بي!.. ألا يكفي في سنوات زواجنا خمس عمليات باتت جميعها بالفشل ، ألا تعرف بماذا أشعر بعدما أحصل على أمل في أنجاب صغير يخرج من رحمي لأحصد بعدها نطفته قبل أن تكتمل ... ألا تشعر بالنيران التي تنشب بصدري وأحشائي ، لقد أكتفيت شهاب ....

نظر لها مطولًا بصمت مُميت ليهدر بعدها بجمود كصخرة لا روح بها قد تصيّب من أمامها وتترك له جرحًا ودمائه مازالت ترتسم عليها ولكنها لازالت لا تشعر :

- أنا أيضًا أكتفيت فداء وأريد طفلًا من صلبي يحمل اسمي بعدي ... سأتزوج مجددًا فداء سأتزوج يا ابنة العم ....

مر عليها ستة أيام وكأنهم سنوات فكل يومٍ يمر عليها كمرور عقدٍ كامل، ستة أيام مُذ أن تزوج وكأنه كان بأنتظار لحظة الخلاف تلك ليهرول ويتزوج زميلته في العمل... لا تصدق أنه عقد قرانه عليها في اليوم التالي بعد شجارهما...

ابتسمت بسخرية وهي تعلم بأن كل هذا كان مخططًا له فلا أحد يعقد قران أبنته فجأةً دون ترتيب مُسبق....

تقبلت ذلك الوضع وهي تشعر بأحشائها تتأكل قهرًا وضيقًا مما هي فيه فمر شهران وهو لم يقترب من منزلها قط... ستون يومًا وهي لم ترى ملامحه التي أعتادت عليها منذ الصغر...

ليأتي أخيرًا وهو يصيح فرحًا ولم يبالى بما ستشعر به هي فأصبح حقًا لا يكترث إلا به وبنفسه ...

صاح بسعادة وهو يجدها تجلس على الأريكة تُتابع التلفاز بنظرات شاردة وعيناها الفيروزية مُنطفئة كقمر ألتفت حوله السحب فأختفى ضوءه :

- سأصبح أبًا يا فداء... سارة حامل تحمل في رحمها صغيري...

ابتلعت غصة تحمل المرارة بداخلها لتردد بخفوت :

- مبارك لك... ليصبح قرة عيناك ...

لا تحمل الضغينة ضده أو ضد صغيره أو حتى زوجته الأخرى ولكن قلبها قد أكتفي من لامبالاته أحقًا لا يشعر بها !؟....

لم تظن يومًا أن حبيبها وزوجها وأول مالكٍ لقلبها يشعرها يومًا هكذا بأنها لم تُخلق بمشاعر لتتألم ! بأنها لا تشعر بألم أفتقاد الأمومة ! ... ألا يدري أن قلبها يؤلمها كلما رأت صغير يضحك لوالدته فتبادله الضحكة !! وها هو الآن يأتي بكل قوته ليخبرها بحمل زوجته الثانية ....

زفرت زفرة حارة لتهدر بنبرةً جامدة :

- أريد الأنفصال يا شهاب ...

زمجر بغضب وهو يشدد من أمساك ذراعها :

- ماذااا ؟ هل أصابكِ الجنون أم سقطِ على رأسك ؟!!...

- لا لم يصيبني الجنون أو أصيب رأسي بل أصبت أنت قلبي بأسهمٍ تخترقه فتُدميه ... أظن إلى هنا وأكتفي من الألم يا شهاب فلم يعد لدي قلب يتحمل...

قالتها وهي تقف أمامه بثبات رغم دموعها التي تشق الطريق على وجنتيها فيزداد أحمرار أعينها لتنقلب كبحر لاجي يندلع اللهب من حوله فإذا لم تَمُت غرقًا سَتَمُتْ حرقًا بالتأكيد ...

أحزاننا تقتُلنا بالبطيء ننتظر أن تنتهي كأنتظار أنتهاء شمس الصيف الحارقة وحلول الشتاء؛ ليس بإيدينا أن نُغير الفصول ولكن قلوبنا تتشبث بالأمل الضعيف، أصبحنا ننتظر الفرح كأنتظار هطول الغيث من السماء ونحن نحيا بأرضٍ قحلاء تيبست تربتها أفتقارًا للماء كأفتقار قلوبنا للبهجة نُتابع الأرض بأعين مُتلهفة منتظرين النبتة الأولى الخضراء التي تنبُت بقلوبنا قبل أرضنا... وفداء مازالت بأنتظار تلك النبتة تتلهف لتَمسُك شهاب بها كما كان دائمًا معها لتستيقظ لهفة قلبها على واقعٍ مرير ....

صُدمت من كلمات شهاب التي وأدت روحها وقلبها كأطفال تنازل عنهم والدهم فلم ينسبهم إليه، ردد لها بهدوءٍ بارد بحروفٍ أسرت بداخل جسدها البرودة :

- حسنًا سأفعل ما تريدين في الأخير أنتِ من أخترتِ... أنتِ طالق يا فداء ...

قالها وهو يتركها ليرحل مُغلقًا خلفه باب المنزل، تركها بلا عودة فسقط جسدها يهوى على الأريكة بجمود وكأن روحًا فارقته تيبست قدماها وأرتفعت وتيرة أنفاسها تلهث بألم وكأنها عداءة أتمت العشرون كيلومترًا الآن... زاغت عيناها وغشت العبرات عليها فظلت تتساقط بلا توقف تحررت أخيرًا كعبرات مسجون قُيد لخمسون عامًا وبعد عناءٍ تحرر ليُلامس بأنامله أرض أباؤه وأجداده فيبكي وكأنه لم يبكي يومًا قط....

°°°°°
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي