الفصل الثاني عشر
المشهد الأخير
ما أن وصلوا للشقة ودلفوا.. تحدثت طيف باسمة وهي تشير له بحماس...
-ما أن تأخذ حمامًا طويل تزيل به ارهاق الطريق
سأحضر لك أشهي شطائر من أنامل الطاهية طيف
ابتسم وحرك رأسه بإيجاب ولكن تعالت الدقات على باب المنزل.. فانتفضت طيف فزعة من قوة الطرقات
فنظرت إلى نديم وقالت بخفوت...
-اذهب للغرفة واغلق الباب إلى أن أرى من الطارق
لم يتزحزح من مكانه وهو يعقد حاجبيه بضيق
يقترب من الباب ينوي فتحه ليرى من الطارق.. ولكنها احكمت يدها على رسغة تهمس راجية..
-لا تخف علي.. ولكن ان كان احد من عائلتي او جيراني سيظنوا بي السوء لوجود رجلا غريب معي.. هيا ادلف للغرفة واغلق الباب
اطاعها على مضض، واتجهت لتفتح الباب بعدما نظرت للشاشة الصغيرة التي عكست الواقفين خلفه
فرأت رجالا غرباء.. غير مثيرون للريبة
فتحت الباب وهي تنظر لهم بحذر قائلة...
-عذرًا ما الأمر
اجابها رجلا بلباقة يبدو علية الوقار والتقدم في السن..
-معذرة ياانسة.. ولكننا نريد رؤية نديم في الحال
اخبريه أن عائلته ينتظرونه
توسعت عيناها وهي تتأمل الثلاث رجال أمامها
شابان وذاك الرجل الذي حادثها وثلاثتهم يرتدون بذلاتهم الرسمية.. نديم له عائلة يبدو عليهم الثراء والرقي!
ارتبكت وهي تضم الباب لها وتتصنع عدم الفهم...
-سيدي يبدو انك اخطأت و..
قاطعها الرجل وهو يقول بهدوء حازم لا يقبل النقاش..
-لقد رأيته يصعد معكِ للبناية..لذا اذا سمحتي أن تدلفي تخبريه أن عائلته تنتظره
كادت تتحدث ولكن أطل نديم من خلفها يبعدها عن الباب وهو ينظر لعائلته بشحوب الموتى..والاخرون ينظرون لهم بحزنٍ مشتاق..جعل حدس سيئ ينمو داخلها
وماهي إلا دقائق وكان نديم جالس مع عائلته في الصالة
وقد طلب منها أن تدلف الغرفة ولا تظهر لهم نهائيا..حتى انه اغلق الباب عليها محذرا بعيناه ألا تخرج
مضى الوقت وهي لازالت جالسة على الفراش بقلق
تخشى عليه أن يؤلموه بكلماتٍ قد تسيئ حالته أكثر
ولكن لم يصلها صوت مرتفع او اتهامات او ايًا من هذا
بل كانوا يتحدثون معه بصوتٍ هادئ منخفض لم يصلها فحواه
دقائق اخرى ودلف نديم الغرفة فانتفضت واقفة تتجه له تمسك يداه بقلق وتقول...
-تبدو حزينًا.. هل غادروا.. مالذي قاله لك هذا الرجل لتشحب هكذا!
حرك رأسه نافيًا وهو يجذب كفها ويكتب عليه بسبابته بكلماتٍ وهمية قرأتها ببعض التشتت وهي تقول بصدمة..
-ستعود معهم..واثبتوا انك لست مجنون!
مالذي تقوله يانديم.. تعود معهم إلى أين، تقصد انك ستسافر معهم.. لمَ تعود معهم هل غصبوك او ابتزوك!
حرك رأسه نافيًا وتنهد قبل أن يرسم الكلمات على كفها
تنظر للكلمات الذي يكتبها ببعض الصدمة وعدم الاستيعاب
"هم عائلتي ياطيف لن يفعلوا هذا، وبالأساس أنا من بعثت لهم برسالة من هاتفك كي يأتوا..عليّ أن اصلح الماضي
أكفر عن ذنبي بطريقة صحيحة كما قُلتي.. لا أود العيش هاربًا كمتشرد مجنون بعد الآن
سقطت دمعاتها تباعًا وهي تحدق في وجهه بهلع
وتتمسك في سترته الناعمة بكل قهوتها وهي تلهث باكية بعنف....
-لا تذهب معهم ارجوك لا ترحل يانديم.. أنا راضية بك
راضية أن تكون جواري بلا كلمة واحدة.. أنا لا أخاف على نفسي معك.. أنا راضية بك وانت فقير او متشرد
لا تذهب معهم أنا سأحميك من الجميع.. أنا أحبك
سأخبيك بين اضلعي
تنفس مرتجفّا وهو يكوب وجهها بكفاه ويحرك رأسه نافيًا وقد لمعت عيناه بالدموع مثلها.. دموع جعلتها تشهق وهي تكمل بلهفة متألمة..
-تعال لنسافر خارج البلاد إلى أمي.. أنا معي مال يكفينا.. وايضًا انسيت اتفاقنا أننا سننشئ مطعم خاص بنا
انسيت ما حلمنا به معًا.. لقد قُلت لي أنني فتاة احلامك
وانك وانك...
غلبها نحيبها فأسبلت رأسها على صدره وبكت بقوة وهي ترتعش.. بكت بكل جوارحها وهي تتخيل أن ماكان بينهم سيكون مجرد سراب.. أو انها نامت ورأت حلمًا وحانت لحظة الاستيقاظ.. سيتركها نديم
الرجل الوحيد الذي احبته وشعرت معه بالسعادة
كانت سعيدة معه رغم كل العراقيل التي تحاوطه
كانت متقبله لصمته الذي لم تمل منه ابدًا.. متعاونة مع نوبات جنونه وفزعه
سيتركها الرجل الوحيد الذي جعلها تعشقه دون أن يتفوه بحرفٍ واحد.. فقط يومئ برأسه حينما يكون راضيًا
وتتسع عيناه ويسحب يده منها عند غضبه
وحين يرتبك ينفخ في يده كطالبٍ سيضرب بالعصا
كل تلك الاشياء التي جعلت قلبها يرفرف حبًا ستختفي معه، سيختفي نديم دون عودة
ابعدها عن صدره ومسح على شعرها بحنانٍ حزين
وسحب كفها وبدء يمرر سبابته على باطنها.. يخلق لغة حوارهم التي عاشا عليها منذ أشهر.. ظل يكتب الكلمات الوهمية بسبابته وهو تارة ينظر لوجهها الباكِ وتارة لكفها
قرأت بصوتٍ مرتجف أول كلمة كتبها..
-سأعود.. لكِ انتظريني؟
حرك رأسه بإيجابٍ صادق وعاد يكتب ببطئ لتفهم
فشهقت باكية وهي تنظر لكفها ولحركة سبابته وقرأت..
-سآتي لك حينها بهدية جميلة.. ستحبينها رغم كرهك الكبير للهدايا
رفعت رأسها له بنظرة مخذولة حزينة وسحبت كفها منه بعنف وصرخت بحدة...
- لا أريد منك شيئا إن غادرتني يانديم لا تعود.. لن أنتظرك
إن غادرت سأمسح حُبك من قلبي، ان نفذت ما أرادوا لن اسامحك ابدًا يانديم
لم يملك إلا أن ينظر لها بنظرات عاجزة يشوبها الوداع
التفت يخرج من الغرفة إلى عمه الذي لازال ينتظره في الخارج مع ابناء عمه.. وبنظرة أخرى شملت شقتها التي كانت تدفئ قلبه كصاحبتها في يوم.. ثم سار مبتعدًا يكتب رمز شقتها ليُفتح الباب ويخرج هو واقربائه راحلًا!
ومع انغلاق الباب توقفت أنفاسها لثوان ووقفت عن الفراش تدور في الشقة كفرسٍ حبيس مجروح
تنظر في الصالة وتتساقط دموعها بصمت.. وتتذكر حينما جلست معه في أول مره حينما استيقظ فزعًا من النوم
ثم سارت إلى المطبخ تنظر للطاولة الانيقة التي جلسا حولها يتناولون افطارهم وقد بدى قلقًا منها حينها
كان يظنها هي المجنونة رغم عقلها.. وكانت مؤمنة أنه ليس بمجنون كما يقول الجميع
ثم سارت وهي تكتم شهقاتها إلى أن وصلت لفراشها وارتمت عليه باكية.. بكت بكل ذرة أحبته في قلبها
بكت وكأن البكاء سيعود به إليها.. بكت الحب والحزن والنهاية، بكت نديم الحبيب
وحينما تعالت شهقاتها دفنت وجهها في الوسادة تشهق بألم هامسة بحب مُعذب وقلبٍ ملتهف...
-كنت راضية بك كما أنت.. كنت احبك كما أنت
وانقضت ليلتها في بكاءٍ وحزن وتبعتها ليالي أخرى طويلة
كانت تأمل في الصباح أن يطرق بابها أو يفتحه ويقتحم حياتها فجأة كما اقتحمها في السابق
ولكن حين يأتي الليل موحشًا تصدق أن لا أمل لعودته
فهو الآن في أبعد نقطة على الأرض.. بعيد عنها تمامًا
وما زاد الحزن في قلبها أنه لم يحاول مراسلتها.. لم يحاول الاتصال بها، لم يتذكرها كما هي تتذكره وتفني أيامها في ذكراه، نُسيت تمامًا وكأنها لم تكن
كما قال درويش في وصف النسيان، وبكل ألم ناسبها قوله.
ناسبها النسيان.. وناسبتها الوحدة بعده
تُنسى كأنك لم تكن
تُنسى كمصرع طائرٍ
ككنيسة مهجورة تُنسى
كحبٍ عابرٍ و كوردة في الثلج
وتنسى
تُنسى كأنك لم تكن شخصًا نصًا
وتُنسى.. تنسى كأنك لم تكن خبرًا ولا اثرًا
وتنسى
صارت الأيام تتلو بعضها البعض وانحسرت أمالها وزاد يأسها
وماعادت تلك الفتاة هي طيف نفسها التي تشع تلقائية واندفاع.. بل باتت متبلدة، باردة حد اللا مبالاة.. تخفي بين برودها حزنً عميق وخوف يغلف قلبها
اكتفت بقضاء وقتها في عملها الذي عادت له بانتظام بعدما حجمت ألمها وتصنعت القوة وتولت رعاية نفسها وحيدة
في الصباح تذهب للقناة لتأديه فقرة النشرة الاخباريه الصباحية التي تولتها بدلاً من زميلتها علياء التي اخذت النشرة الاخبارية المسائية..
وفي آخر النهار تقود سيارتها حيث الكوخ الذي شغلوه لاسبوعين كاملين هي ونديم
تجلس في شاردة، تسترجع ذكرياتهم بعيون دامعة وقلبٍ وجل.. تنام على وسادته تبكيها وتسرد لها رحيله
تحصي الشهور التي مضت دون وجوده.. تخبرها أنها لا تقوى على النسيان، وكلما حاولت تخطيه تجد نفسها في آخر يومها تتذكر عيناه التائهتان، فيلين قلبها له وتنسى غضبها.. وتخبر نفسها أنه سيعود
وتنقضي الأيام دون عودته.. ويتألم قلبها لخذلانها منه
تقضي الساعتين في الكوخ تسترجع ذكرياتهم
ثم تحمل نفسها راحلة إلى شقتها لتجهز طعامها وتقضي ليلتها تقرأ كتابًا أو تشاهد التلفاز ثم تنام بعدها مستعدة ليومٍ جديد
حتى جاء يوم واستيقظت هادئة.. دون أحلام ودون دموع
استيقظت وهي لا تنتظر عودة نديم، وكأنها استوعبت أنه كان مجرد حلم واختفى وهل نبكي الأحلام حين تختفي!
يومها تأنقت وارتدت ثيابٍ ملونه تبعث في النفس بهجة من نعومتها.. ورشت عطرًا مختلف عن الذي ابدى نديم اعجابه به، وأكلت شطيرة جُبن صغيرة مع كوب شاي بعجالة
ثم اتجهت إلى عملها سريعًا كي لا تتأخر وينفجر بها خالد غضبًا، لأول مره منذ شهران تبتسم لم يحيها، فتبدو كطيف القديمة أو فتات منها
وبعد تأديه النشرة الاخبارية.. لملمت أوراقها ووقفت تغادر غرفة التصور ولكنها ابتسمت حينما رأت خالد يتقدم منها راضيًا كقطة تناولت سطل حليبٍ بمفردها...
-ماهذا التألق ياطيوف.. ها نحن نعود من جديد
استمري على هذا المنوال وستكونين علامة مميزة في عالم الاخبار.. فقط التزمي بالابتسامة الدبلوماسية
والنبرة الرقيقة بقوتها تلك
حركت رأسها بإيجاب وهي تضحك بخفوت عليه
فهي تعلم أن خالد طيب القلب وسهل المعشر..يخاف على عمله ويكره الاخطاء.. ولكن حين يحسن من حوله في أعمالهم لا يتوانى في مدحهم وتشجيعهم بصدق
فقالت ممتنة...
-اشكرك ياخالد.. وبهذه المناسبة اتركني أرحل مبكرًا اليوم
أود قضاء بعض الاشياء في النهار
جعد جبينه للحظات قبل أن يقول بسخرية...
-اهٍ منك يامستغلة، اذهبي مبكرًا اليوم ولكن لا تعتادي استغلال كرم اخلاقي
ضحكت مطيعة وهي تنزع مكبر الصوت الصغير عن ملابسها وتغادر موقع التصوير بعجالة ولكن صوت سعد اوقفها فالتفتت له فورًا تنظر له بهدوء وتقول باسمة..
-مرحبًا ياسعد كيف حالك
ابتسم لرؤية بسمتها ولو كانت مصطنعة، فتأمل وجهها الحبيب الذي لا يمل من النظر له.. لازالت في قلبه كما هي
طيف حبيبته التي يتمنى قضاء عمره جوارها.. رغم حبها لأخر إلا انه يأمل انه مجرد افتتان وسيزول.. وتعود كما كانت في الماضي طيف فتاته!
تنهدت مطولًا قبل أن يقول بنبرة متسائلة بها بعض الالحاح...
-لازلتِ لا تريدين الزواج مني ياطيف!
ارتبكت لوهلة واشاحت وجهها عنه.. خجلة منه
خجلة من أنها تركته وركضت إلى نديم دون أن تفكر في حال ولا شعوره.. وصرحت أمامه بكل قوة انها تحب نديم
وهي على قولها إلى الآن.. هي تحب نديم ولن تستطع أن تكون لغيره طالما لازال هو في ذاكرتها
فقالت معتذرة وهي تنظر له بأسف واضح...
-سعد ارجوك لا....
قاطعها بهدوءٍ متفهم وهو يربت على كتفها...
-لا تقولي لي ردك الآن سأعطيك يومان لتفكري بروية
حتى وإن رفضتني مرة أخرى عليك أن تفكري جيدًا قبلها
اتفقنا!
حركت رأسها بإيجاب واغتصبت ابتسامة تخفي بها حزنها عليه.. وعلى نفسها وهي تقول برفق..
-اتفقنا
اهداها ابتسامة لطيفة غير متكلفة وهو يضع كفيه في جيب بنطاله ويتأملها بتلك النظرات المُحبة التي تراها في عيناه من سنواتٍ طويلة
ليت العلاقات تسير بسلاسة تفكير سعد
ليتها ماوقعت لنديم وأحبته في تلك المدة الصغيرة
ولكنها أحكام القلب التي لا نقض فيها ولا رجعة
إلا من تمرد على حكم قلبه وغصبه على مالا يطيقه
وهي أضعف من أن تفعل هذا..
تحدث ينهي وقفتهم الصامتة تلك وهو يشير لزملائها قائلا..
-في التاسعة مساءًا سيتجمع الجميع في مطعم كي نحتفل بعيد مولد خالد فهو اصبح عجوزًا مثلي وتخطى الخامسة والثلاثون.. انضمي لنا كما السابق
واعدك أن تكون ليلة مميزة لن الح عليكِ فيها بطلبي
كادت تعتذر منه أنها لا رغبة لها في التجمعات
ولكنها اتبتلعت ترددها وهي تُذكر نفسها.. لن تختبئ بين منزلها وتنعزل عن العالم كما الأشهر الماضية.. هي تود التخطي ونسيان ماحدث
فاندفعت تقول باسمة بايجاب...
-حسنًا لنا لقاء في التاسعة.. وداعًا
ذهبت للتسوق وتشتري لها الثياب التي أرادت
دخلت مول التسوق وهي عازمة على قضاء يومها دون التفكير بنديم.. لن تفكر به لن تفكر سوى في نفسها فقط
ستشتري الكثير من الملابس الأنيقة التي ستناسب عملها
وايضًا لأنها أرادت أن تخرج من قوقعتها الحزينة
ستخرج مع الرفقاء وتتناول العشاء معهم
ستقع في حب رجلٍ ما وسيظل جوارها للأبد
ستكون امرأة قوية لا يصفعها الحب او الغياب
ستكون طيف اخرى.. ستكون امرأة أقوى
هكذا لقنت نفسها.. هكذا أمرها عقلها
ولكن مع أول محل تجاري دخلته ورأت كنزه زرقاء بلون خيوط الفجر شعرت بقلبها يهوي في ساقها
ذاك اللون الرائع.. ذاك اللون المؤلم يُذكرها بعيناه الحبيبة
عيناي نديم التي افتقدتها واشتاقتها و...
نزعت نفسها من تلك الهوة وهي تتحرك مبتعدة عن الكنزة تتأمل غيرها.. تشتت انتباهها عنها بكل حدة
لا لن تتذكر نديم بمجرد لون.. لن تسقط في فخ قلبها مره اخرى
اندفعت داخل المحل تنتقي ألوانًا داكنة بعيدة كل البعد
عن الأزرق
أو ألوانًا فاتحة تتخطى ذاك اللون العين
ابتاعت كل ماهو مختلف عن ملابسها القديمة
تجرأت في انتقاء ملابسها فتنوعت بين القصيرة والمتوسطة.. ارادت أن تمحي عن ذهنها نفسها القديمة
ولكن جزء في عقلها يسألها.. أتودين نسيان نفسك أم نديم
اتودين محو شخصك الضعيف أمام عائلتك.. ام تريدين تخطي أن سبب هذا الضعف كان هو
تشابكت خيوط عقلها وعكرت صفو يومها
فاكتفت بالتسوق واخذت ما اشترته وعادت إلى منزلها
وهي تقول لنفسها أنها ستنام ساعتين ثم تستيقظ وتتجهز للقاء زملاء عملها.. وينقضي يومها بسلام
رغم ندمها الداخلي على قبولها دعوة سعد.. ولكنها أرادت اثبات أنها قادرة على مواصلة حياتها دون اختباءٍ وحزن
تخطت شعورها بالندم حينما اقتربت من شقتها وكتبت رمز الدخول وفتحت الباب تدلف بارهاق وهي تخلع حذائها العال.. وتلقي حقائب التسوق وحقيبتها الصغيرة على أقرب مقعد وهي تفرك يداها المتعبتان
وما كادت تخط داخل غرفتها فوقعت عيناها على ستره رجالية سوداء مُلقاه على فراشها.. وأسفله حذاء مُترب وجورب رمادي بخطوطٍ سوداء.. فتسمرت بغريزة وهي تشعر بشيء مختلف..أحدهم دلف شقتها، لا بل اقتحمها .. وقبل أن تلتفت بفزع تطلب المساعدة شعرت بأنفاسٍ خلفها تحاوطها
فانقبض قلبها وانكمش جلدها ببعض الفزع
أحدهم يقف خلفها يتنفس بصوتٍ مرتفع.. يقترب منها بخطواتٍ واسعة ليستقر خلفها تمامًا
ويحاوط كتفاها بقوة ويضع وجهه في عنقها المكشوف قائلاً بصوتٍ أجش مبحوح...
-اشتاقت عيناي لكِ ياطيفي.. ألم تشتاقي لهما!
تجمعت الدموع في عيناها وارتعشت بقوة وبردت بشرتها
شعرت وكأن الأرض تميد بها وأنفاسها تنتهي من صدرها
قلبها لا يخونها في الشعور به.. قلبها لا يخونها في حُبه
ولكن الصوت.. كيف.. كيف
شعرت بيداه تلفها له لتقع عيناها المغرقة بالدموع على وجهه.. وجهه الحبيب الذي جافاها
كان نديم.. نديم يقف أمامها وينظر لوجهها ببسمة مشتاقة
وعيون لامعة بزرقتها تلتهم وجهها بلهفة كمثلها
وجهه النضر بتلك الذقن النامية التي زادته وسامة في عيناها.. هزالته اختفت تمامًا وبات رجلًا قويًا غير الذي التقته منذ ثلاثة أشهر
رجلًا يحاوط كتفاها وينظر لها وكأنها عالمه
رفعت أناملها المرتعشة تحاوط وجهه وهي تكاد تسقط ارضًا فدعمها ممسكًا بجسدها بقوة.. همست بنشيجٍ باك..
-نديم.. نديم لقد أتيت
مسح دموعها بإبهامه وربت على وجنتها وهو يكرر بصوته الغريب على اذنها...
-عُدت ياطيف.. عُدت لأجلك
صوته وجهه وجوده أمامها جعلها تتخبط مابين السعادة والغضب.. لا تعلم من أين أتت قوتها فدفعته عنها وجلست على فراشها تبكي محاوطة وجهها تشهق بحزنٍ منه وفرحة لأجله.. لا تعلم اتعانقه سعيدة بعودته أم تصفعة على غيابه عنها، نديم هو الوحيد القادر على تشتيتها بين اختيارين أحلاهما مُر
جلس أرضًا أمامها يبعد كفاها عن وجهها قائلا بقلق...
-طيف حبيبتي.. لمَ البكاء انفذتي وعيدك لي انك سـ
انهارت باكية تقول بحدة ولا حيلة...
-حاولت نسيانك.. حاولت أن انزعك من قلبي
وقررت أن اليوم سيكون أول أيام تخلصي منك
ولكنك جئت، وبمجرد رؤيتك اختفى غضبي وحزني
ولكن قلبي لازال يتألم منك.. انت غادرتني بكل قوة ولم تحاول التواصل معي.. انت لم تحبني يانديم، أنا كنت مجرد امرأة سهلة جعلتك تدرك حبها دون أن تطالبك بأي شيء...
وضع كفه على فمها يمنعها من المتابعة
يرفض سماع هذيانها الظالم حول تفسيرها لشعوره حولها
هو مخطئ بشكلٍ تام انه غادر ولم يطمئنها عليه من وقتٍ لأخر.. ابتعد وتركها لأفكارها تتلقفها بقسوة
وقف وجلس جوارها على الفراش يشبك أنامله بأناملها الباردة قبل أن يقول بهدوء...
-لقد اخذني عمي إلى مركز تأهيل نفسي بعدما حضرت أمي من الخارج واطمئنت برؤيتي.. وبعدما شاع خبر حياتي في كل العائلة وعُقب رائد على مافعله لي
لا انكر أنني كنت خائف من الظهور من جديد.. خائف من أن تقع عيناي في عين زوجة عمي وأرى اتهامها وحزنها
أنني من قتلت ابنها، شعرت أني أود الهروب قبل أن ارى تلك النظر في عيناها
ثم لان صوته بتأثر واهتز وهو يقبض على كفها...
-ولكنها عانقتني ياطيف.. عانقتني وبكت أنها شعرت بحسرة موت ولدها الثاني حينما قرأت رسالة الانتحار
أخبرتني أن قلبها اكتوى ألمًا من وفاتي المزعومة
بكت وبكيت وفاة صدْيق.. لقد قالت لي أن هذا قضاء وقدر.. وهي لم تلومني ولن تلومني يومًا على وفاته
حتى عمي حاول تعويضي عما فعله بي رائد
ظل يعرضني على اطباء نفسيين كي يعود لي صوتي
ولكنهم قالوا أن سبب الصمت صدمة.. ومايعيده لي صدمة اخرى أو أن تتحسن حالتي النفسية
ولكن بعد لقائي بزوجة عمي وبكينا سويًا.. وذهبت للنوم في أخر اليوم.. رأيت صديق في حلمي
رأيته يخبرني انه يسامحني.. يسامحني على طيشي
واخبرني أنه اشتاق لي وأن اعتني بوالدته
كانت دموعي تسقط في الحلم وأنا أحاول التمسك به ليعود.. فلم أشعر إلا وأنا اصرخ فزعًا في نومي بإسمه
يومها استيقظ الجميع يحاوطوني وهم يبكون سعادة أن صوتي عاد لي.. رغم انه عاد ضعيف مبحوح كطفل يتعلم الكلام.. ولكن كانت البداية لعلاجي
تنهد وهو ينظر لها يرى الدموع تسقط على وجهها وهي تتأملة بحزن رغم الراحة التي تسكن عيناها
فتابع بخفوت وهو يرفع كفه يربت على وجنتها المُبتلة قائلا...
-حينها قبلت طلب عمي أن انضم للتأهيل النفسي
أردت أن اتخلص من مل الرواسب داخلي قبل أن أعود لكِ
أردت أن تكون عودتي مفيدة وأن أليق بفتاة مثلك
ورغم أن لازال طريقي طويلًا إلا أنني أردت أن أسير هذا الطريق معكِ ياطيف.. أردت أن اكمل حياتي مع المرأة الوحيدة التي استطعت حُبها في أكثر وقتٍ كنت كارهًا لنفسي.. لا تقولي لي انك تخلصتي من حُبي
لن استطيع الصمود دونك
اشاحت وجههل عنه وهي تمسح دموعها وتقول بخشونة..
-كفاك حديثًا.. انت قُلت أن كثرة الحديث خطأ عليك
المهم انك بخير و..
جذبها له يعانقها بقوة يذيب برودتها التي تقابله بها
يحكم ذراعاه حولها يلصقها به وهو يربت على شعرها برفق ويقول...
-أنا بخير لأنك أمامي.. اغفري غيابي لأكون في أحسن حال.. ثم انني وعدتك أن آتي وأتيت لم اخل بوعدي
استقر رأسها على كتفه تمسح أخر دمعاتها وهي تحاوطه معانقه ترمي غضبها بعيدًا عنها وهي تقول بخفوت معترفة...
-لقد اشتقت لك يانديم.. كدت اموت حسرة على غيابك
كنت اظنك تقطع وعدًا لن توفيه كي تتخلص من رجائي لك بالبقاء حينها
ربت على ظهرها يبعدها عنه وهو يتجه لسترته تحت نظراتها المتسائلة.. يخرج من الجيب الداخلي بضعة أوراق مطوية يقدمها لها بابتسامة جميلة تسلب مشاعرها منها..
-هذه هديتي التي وعدتك بها
اخذت الأوراق تنظر فيها باهتمام إلى أن توسعت عيناها بدهشة وهي تردد بحيرة..
-تلك أوراق ملكيتي لمنزل جدي وللأرض الزراعية التي كتبها لي قبل وفاته.. ولكني تنازلت عنهم لزوجة عمي..
جلس جوارها يجذب يدها يمسك ويتحسس جلدها الناعم وهو يقول بايجاب وهدوء يخالف حدة وجهه..
-علمت ذاك اليوم من ان كذبتي علي وقلتي أنها كانت تود الاطمئنان عليكِ.. علمت أنها ساومتك على أن تبلغ الشرطة انك تتسترين على مجنون وتفضحك وسط العائلة ان لكِ علاقة غير شريعة.. ابتزتك بأسوء الصور لتجبرك على التنازل عما قدمه لكِ جدك قبل وفاته
حينها اقسمت في نفسي أنني سأسلبهم ما اخذوه منك
وساعدني في هذا عمي.. هو محامٍ كبير يعلم خفايا حياة عمك.. واستطاع ابتزازهم كما فعلوا لك واخذوا منهم مامان لك.. بالاضافة إلى ارثك الشرعي من جدك
كلمة واحدة مذهولة خرجت منها وهي تردد..
-معقول!
حرك رأسه بآيجاب ونظر لساعة معصمه قائلا بهدوء..
-الساعة الآن تجاوزت السابعة بقى القليل من الوقت على حضور عمك حامد وكذالك عمي وزوجته وأمي
قفي لتتجهزي لاستقبالهم لأن اليوم سنطلب يدك من عمك
لاتزوجك
بدى عليها عدم التصديق اطلاقًا
فاتجه نحو الخزانة يفتحها ويجلب رداء مُغطى..ففتح سحاب الغطاء وظهر فستان رقيقًا أزرق اللون مع خطوط بيضاء رقيقة..وقربه منها باسمًا..
-هيا قفي وارتدي هذا.. سأنتظرك في الخارج لأراكِ قبل أن اخرج لشراء الزهور الاقحوانية كما تحبينها
ولكِ لا يغضب عمك من وجودي معك وحدنا في الشقة..
كاد يغادر الغرفة ولكنها وقفت سريعًا تتمسك برسغه خشية أن يغادرها ويطيل الغياب كما السابق فقالت راجية...
-نديم
التفتت لها يقترب منها يحاوط وجهها ويُقبل عيناها برقة هامسًا بصدق طمئن فؤادها المحب...
-اقسم أنني سأذهب لاشتري لك الزهور وآتي
اتذكرين ماقُلتي لي سابقًا في الكوخ
حركت رأسها بإيجاب تمسح الدموع عن وجهها وتقول بخفوتٍ رقيق...
" أُحب التشبيهات البديعة، فلا تشتق من اسمي دلالًا تناديني به.. بل قُل لي أنني أشبه زهرة الأقحوان
أو اندهش أن لي جناحي فراشة! "
حرك رأسه بإيجاب وهو يمسح وجنتها بإبهامه قائلا بصوتٍ مهتز تعب من الحديث وعيناه الزرقاء تجريان على وجهها المتورد سعادة وترقب...
-انك أجمل من كل الزهور.. ولكنني سأذهب لأجلب لكِ ظهور الاقحوان لتليق بجناحاكِ.. حسنًا!
وايضًا سأقوم ألا استجيب لتلك النظرات ولا أُقبلك الآن
فقط نتزوج وحينها سأعوض ما كنت أود فعله ونحن معًا في الكوخ.. اتفقنا!
حركت رأسها بإيجاب متحمس يغلفه السعادة الحقيقة وتأملته وهو يبتعد عنها.. قلبها يقرع بعنف حبًا وسعادة
وكلما أبصرته او سمعت صوته الحبيب دمعت عيناها سعادة ورقص قلبهل طربًا فحبيبها الوسيم معها الذي ما عاد صامت ولا مجنون
وقد توسط الأمر.. مابين الصمت والجنون!
***
ما أن وصلوا للشقة ودلفوا.. تحدثت طيف باسمة وهي تشير له بحماس...
-ما أن تأخذ حمامًا طويل تزيل به ارهاق الطريق
سأحضر لك أشهي شطائر من أنامل الطاهية طيف
ابتسم وحرك رأسه بإيجاب ولكن تعالت الدقات على باب المنزل.. فانتفضت طيف فزعة من قوة الطرقات
فنظرت إلى نديم وقالت بخفوت...
-اذهب للغرفة واغلق الباب إلى أن أرى من الطارق
لم يتزحزح من مكانه وهو يعقد حاجبيه بضيق
يقترب من الباب ينوي فتحه ليرى من الطارق.. ولكنها احكمت يدها على رسغة تهمس راجية..
-لا تخف علي.. ولكن ان كان احد من عائلتي او جيراني سيظنوا بي السوء لوجود رجلا غريب معي.. هيا ادلف للغرفة واغلق الباب
اطاعها على مضض، واتجهت لتفتح الباب بعدما نظرت للشاشة الصغيرة التي عكست الواقفين خلفه
فرأت رجالا غرباء.. غير مثيرون للريبة
فتحت الباب وهي تنظر لهم بحذر قائلة...
-عذرًا ما الأمر
اجابها رجلا بلباقة يبدو علية الوقار والتقدم في السن..
-معذرة ياانسة.. ولكننا نريد رؤية نديم في الحال
اخبريه أن عائلته ينتظرونه
توسعت عيناها وهي تتأمل الثلاث رجال أمامها
شابان وذاك الرجل الذي حادثها وثلاثتهم يرتدون بذلاتهم الرسمية.. نديم له عائلة يبدو عليهم الثراء والرقي!
ارتبكت وهي تضم الباب لها وتتصنع عدم الفهم...
-سيدي يبدو انك اخطأت و..
قاطعها الرجل وهو يقول بهدوء حازم لا يقبل النقاش..
-لقد رأيته يصعد معكِ للبناية..لذا اذا سمحتي أن تدلفي تخبريه أن عائلته تنتظره
كادت تتحدث ولكن أطل نديم من خلفها يبعدها عن الباب وهو ينظر لعائلته بشحوب الموتى..والاخرون ينظرون لهم بحزنٍ مشتاق..جعل حدس سيئ ينمو داخلها
وماهي إلا دقائق وكان نديم جالس مع عائلته في الصالة
وقد طلب منها أن تدلف الغرفة ولا تظهر لهم نهائيا..حتى انه اغلق الباب عليها محذرا بعيناه ألا تخرج
مضى الوقت وهي لازالت جالسة على الفراش بقلق
تخشى عليه أن يؤلموه بكلماتٍ قد تسيئ حالته أكثر
ولكن لم يصلها صوت مرتفع او اتهامات او ايًا من هذا
بل كانوا يتحدثون معه بصوتٍ هادئ منخفض لم يصلها فحواه
دقائق اخرى ودلف نديم الغرفة فانتفضت واقفة تتجه له تمسك يداه بقلق وتقول...
-تبدو حزينًا.. هل غادروا.. مالذي قاله لك هذا الرجل لتشحب هكذا!
حرك رأسه نافيًا وهو يجذب كفها ويكتب عليه بسبابته بكلماتٍ وهمية قرأتها ببعض التشتت وهي تقول بصدمة..
-ستعود معهم..واثبتوا انك لست مجنون!
مالذي تقوله يانديم.. تعود معهم إلى أين، تقصد انك ستسافر معهم.. لمَ تعود معهم هل غصبوك او ابتزوك!
حرك رأسه نافيًا وتنهد قبل أن يرسم الكلمات على كفها
تنظر للكلمات الذي يكتبها ببعض الصدمة وعدم الاستيعاب
"هم عائلتي ياطيف لن يفعلوا هذا، وبالأساس أنا من بعثت لهم برسالة من هاتفك كي يأتوا..عليّ أن اصلح الماضي
أكفر عن ذنبي بطريقة صحيحة كما قُلتي.. لا أود العيش هاربًا كمتشرد مجنون بعد الآن
سقطت دمعاتها تباعًا وهي تحدق في وجهه بهلع
وتتمسك في سترته الناعمة بكل قهوتها وهي تلهث باكية بعنف....
-لا تذهب معهم ارجوك لا ترحل يانديم.. أنا راضية بك
راضية أن تكون جواري بلا كلمة واحدة.. أنا لا أخاف على نفسي معك.. أنا راضية بك وانت فقير او متشرد
لا تذهب معهم أنا سأحميك من الجميع.. أنا أحبك
سأخبيك بين اضلعي
تنفس مرتجفّا وهو يكوب وجهها بكفاه ويحرك رأسه نافيًا وقد لمعت عيناه بالدموع مثلها.. دموع جعلتها تشهق وهي تكمل بلهفة متألمة..
-تعال لنسافر خارج البلاد إلى أمي.. أنا معي مال يكفينا.. وايضًا انسيت اتفاقنا أننا سننشئ مطعم خاص بنا
انسيت ما حلمنا به معًا.. لقد قُلت لي أنني فتاة احلامك
وانك وانك...
غلبها نحيبها فأسبلت رأسها على صدره وبكت بقوة وهي ترتعش.. بكت بكل جوارحها وهي تتخيل أن ماكان بينهم سيكون مجرد سراب.. أو انها نامت ورأت حلمًا وحانت لحظة الاستيقاظ.. سيتركها نديم
الرجل الوحيد الذي احبته وشعرت معه بالسعادة
كانت سعيدة معه رغم كل العراقيل التي تحاوطه
كانت متقبله لصمته الذي لم تمل منه ابدًا.. متعاونة مع نوبات جنونه وفزعه
سيتركها الرجل الوحيد الذي جعلها تعشقه دون أن يتفوه بحرفٍ واحد.. فقط يومئ برأسه حينما يكون راضيًا
وتتسع عيناه ويسحب يده منها عند غضبه
وحين يرتبك ينفخ في يده كطالبٍ سيضرب بالعصا
كل تلك الاشياء التي جعلت قلبها يرفرف حبًا ستختفي معه، سيختفي نديم دون عودة
ابعدها عن صدره ومسح على شعرها بحنانٍ حزين
وسحب كفها وبدء يمرر سبابته على باطنها.. يخلق لغة حوارهم التي عاشا عليها منذ أشهر.. ظل يكتب الكلمات الوهمية بسبابته وهو تارة ينظر لوجهها الباكِ وتارة لكفها
قرأت بصوتٍ مرتجف أول كلمة كتبها..
-سأعود.. لكِ انتظريني؟
حرك رأسه بإيجابٍ صادق وعاد يكتب ببطئ لتفهم
فشهقت باكية وهي تنظر لكفها ولحركة سبابته وقرأت..
-سآتي لك حينها بهدية جميلة.. ستحبينها رغم كرهك الكبير للهدايا
رفعت رأسها له بنظرة مخذولة حزينة وسحبت كفها منه بعنف وصرخت بحدة...
- لا أريد منك شيئا إن غادرتني يانديم لا تعود.. لن أنتظرك
إن غادرت سأمسح حُبك من قلبي، ان نفذت ما أرادوا لن اسامحك ابدًا يانديم
لم يملك إلا أن ينظر لها بنظرات عاجزة يشوبها الوداع
التفت يخرج من الغرفة إلى عمه الذي لازال ينتظره في الخارج مع ابناء عمه.. وبنظرة أخرى شملت شقتها التي كانت تدفئ قلبه كصاحبتها في يوم.. ثم سار مبتعدًا يكتب رمز شقتها ليُفتح الباب ويخرج هو واقربائه راحلًا!
ومع انغلاق الباب توقفت أنفاسها لثوان ووقفت عن الفراش تدور في الشقة كفرسٍ حبيس مجروح
تنظر في الصالة وتتساقط دموعها بصمت.. وتتذكر حينما جلست معه في أول مره حينما استيقظ فزعًا من النوم
ثم سارت إلى المطبخ تنظر للطاولة الانيقة التي جلسا حولها يتناولون افطارهم وقد بدى قلقًا منها حينها
كان يظنها هي المجنونة رغم عقلها.. وكانت مؤمنة أنه ليس بمجنون كما يقول الجميع
ثم سارت وهي تكتم شهقاتها إلى أن وصلت لفراشها وارتمت عليه باكية.. بكت بكل ذرة أحبته في قلبها
بكت وكأن البكاء سيعود به إليها.. بكت الحب والحزن والنهاية، بكت نديم الحبيب
وحينما تعالت شهقاتها دفنت وجهها في الوسادة تشهق بألم هامسة بحب مُعذب وقلبٍ ملتهف...
-كنت راضية بك كما أنت.. كنت احبك كما أنت
وانقضت ليلتها في بكاءٍ وحزن وتبعتها ليالي أخرى طويلة
كانت تأمل في الصباح أن يطرق بابها أو يفتحه ويقتحم حياتها فجأة كما اقتحمها في السابق
ولكن حين يأتي الليل موحشًا تصدق أن لا أمل لعودته
فهو الآن في أبعد نقطة على الأرض.. بعيد عنها تمامًا
وما زاد الحزن في قلبها أنه لم يحاول مراسلتها.. لم يحاول الاتصال بها، لم يتذكرها كما هي تتذكره وتفني أيامها في ذكراه، نُسيت تمامًا وكأنها لم تكن
كما قال درويش في وصف النسيان، وبكل ألم ناسبها قوله.
ناسبها النسيان.. وناسبتها الوحدة بعده
تُنسى كأنك لم تكن
تُنسى كمصرع طائرٍ
ككنيسة مهجورة تُنسى
كحبٍ عابرٍ و كوردة في الثلج
وتنسى
تُنسى كأنك لم تكن شخصًا نصًا
وتُنسى.. تنسى كأنك لم تكن خبرًا ولا اثرًا
وتنسى
صارت الأيام تتلو بعضها البعض وانحسرت أمالها وزاد يأسها
وماعادت تلك الفتاة هي طيف نفسها التي تشع تلقائية واندفاع.. بل باتت متبلدة، باردة حد اللا مبالاة.. تخفي بين برودها حزنً عميق وخوف يغلف قلبها
اكتفت بقضاء وقتها في عملها الذي عادت له بانتظام بعدما حجمت ألمها وتصنعت القوة وتولت رعاية نفسها وحيدة
في الصباح تذهب للقناة لتأديه فقرة النشرة الاخباريه الصباحية التي تولتها بدلاً من زميلتها علياء التي اخذت النشرة الاخبارية المسائية..
وفي آخر النهار تقود سيارتها حيث الكوخ الذي شغلوه لاسبوعين كاملين هي ونديم
تجلس في شاردة، تسترجع ذكرياتهم بعيون دامعة وقلبٍ وجل.. تنام على وسادته تبكيها وتسرد لها رحيله
تحصي الشهور التي مضت دون وجوده.. تخبرها أنها لا تقوى على النسيان، وكلما حاولت تخطيه تجد نفسها في آخر يومها تتذكر عيناه التائهتان، فيلين قلبها له وتنسى غضبها.. وتخبر نفسها أنه سيعود
وتنقضي الأيام دون عودته.. ويتألم قلبها لخذلانها منه
تقضي الساعتين في الكوخ تسترجع ذكرياتهم
ثم تحمل نفسها راحلة إلى شقتها لتجهز طعامها وتقضي ليلتها تقرأ كتابًا أو تشاهد التلفاز ثم تنام بعدها مستعدة ليومٍ جديد
حتى جاء يوم واستيقظت هادئة.. دون أحلام ودون دموع
استيقظت وهي لا تنتظر عودة نديم، وكأنها استوعبت أنه كان مجرد حلم واختفى وهل نبكي الأحلام حين تختفي!
يومها تأنقت وارتدت ثيابٍ ملونه تبعث في النفس بهجة من نعومتها.. ورشت عطرًا مختلف عن الذي ابدى نديم اعجابه به، وأكلت شطيرة جُبن صغيرة مع كوب شاي بعجالة
ثم اتجهت إلى عملها سريعًا كي لا تتأخر وينفجر بها خالد غضبًا، لأول مره منذ شهران تبتسم لم يحيها، فتبدو كطيف القديمة أو فتات منها
وبعد تأديه النشرة الاخبارية.. لملمت أوراقها ووقفت تغادر غرفة التصور ولكنها ابتسمت حينما رأت خالد يتقدم منها راضيًا كقطة تناولت سطل حليبٍ بمفردها...
-ماهذا التألق ياطيوف.. ها نحن نعود من جديد
استمري على هذا المنوال وستكونين علامة مميزة في عالم الاخبار.. فقط التزمي بالابتسامة الدبلوماسية
والنبرة الرقيقة بقوتها تلك
حركت رأسها بإيجاب وهي تضحك بخفوت عليه
فهي تعلم أن خالد طيب القلب وسهل المعشر..يخاف على عمله ويكره الاخطاء.. ولكن حين يحسن من حوله في أعمالهم لا يتوانى في مدحهم وتشجيعهم بصدق
فقالت ممتنة...
-اشكرك ياخالد.. وبهذه المناسبة اتركني أرحل مبكرًا اليوم
أود قضاء بعض الاشياء في النهار
جعد جبينه للحظات قبل أن يقول بسخرية...
-اهٍ منك يامستغلة، اذهبي مبكرًا اليوم ولكن لا تعتادي استغلال كرم اخلاقي
ضحكت مطيعة وهي تنزع مكبر الصوت الصغير عن ملابسها وتغادر موقع التصوير بعجالة ولكن صوت سعد اوقفها فالتفتت له فورًا تنظر له بهدوء وتقول باسمة..
-مرحبًا ياسعد كيف حالك
ابتسم لرؤية بسمتها ولو كانت مصطنعة، فتأمل وجهها الحبيب الذي لا يمل من النظر له.. لازالت في قلبه كما هي
طيف حبيبته التي يتمنى قضاء عمره جوارها.. رغم حبها لأخر إلا انه يأمل انه مجرد افتتان وسيزول.. وتعود كما كانت في الماضي طيف فتاته!
تنهدت مطولًا قبل أن يقول بنبرة متسائلة بها بعض الالحاح...
-لازلتِ لا تريدين الزواج مني ياطيف!
ارتبكت لوهلة واشاحت وجهها عنه.. خجلة منه
خجلة من أنها تركته وركضت إلى نديم دون أن تفكر في حال ولا شعوره.. وصرحت أمامه بكل قوة انها تحب نديم
وهي على قولها إلى الآن.. هي تحب نديم ولن تستطع أن تكون لغيره طالما لازال هو في ذاكرتها
فقالت معتذرة وهي تنظر له بأسف واضح...
-سعد ارجوك لا....
قاطعها بهدوءٍ متفهم وهو يربت على كتفها...
-لا تقولي لي ردك الآن سأعطيك يومان لتفكري بروية
حتى وإن رفضتني مرة أخرى عليك أن تفكري جيدًا قبلها
اتفقنا!
حركت رأسها بإيجاب واغتصبت ابتسامة تخفي بها حزنها عليه.. وعلى نفسها وهي تقول برفق..
-اتفقنا
اهداها ابتسامة لطيفة غير متكلفة وهو يضع كفيه في جيب بنطاله ويتأملها بتلك النظرات المُحبة التي تراها في عيناه من سنواتٍ طويلة
ليت العلاقات تسير بسلاسة تفكير سعد
ليتها ماوقعت لنديم وأحبته في تلك المدة الصغيرة
ولكنها أحكام القلب التي لا نقض فيها ولا رجعة
إلا من تمرد على حكم قلبه وغصبه على مالا يطيقه
وهي أضعف من أن تفعل هذا..
تحدث ينهي وقفتهم الصامتة تلك وهو يشير لزملائها قائلا..
-في التاسعة مساءًا سيتجمع الجميع في مطعم كي نحتفل بعيد مولد خالد فهو اصبح عجوزًا مثلي وتخطى الخامسة والثلاثون.. انضمي لنا كما السابق
واعدك أن تكون ليلة مميزة لن الح عليكِ فيها بطلبي
كادت تعتذر منه أنها لا رغبة لها في التجمعات
ولكنها اتبتلعت ترددها وهي تُذكر نفسها.. لن تختبئ بين منزلها وتنعزل عن العالم كما الأشهر الماضية.. هي تود التخطي ونسيان ماحدث
فاندفعت تقول باسمة بايجاب...
-حسنًا لنا لقاء في التاسعة.. وداعًا
ذهبت للتسوق وتشتري لها الثياب التي أرادت
دخلت مول التسوق وهي عازمة على قضاء يومها دون التفكير بنديم.. لن تفكر به لن تفكر سوى في نفسها فقط
ستشتري الكثير من الملابس الأنيقة التي ستناسب عملها
وايضًا لأنها أرادت أن تخرج من قوقعتها الحزينة
ستخرج مع الرفقاء وتتناول العشاء معهم
ستقع في حب رجلٍ ما وسيظل جوارها للأبد
ستكون امرأة قوية لا يصفعها الحب او الغياب
ستكون طيف اخرى.. ستكون امرأة أقوى
هكذا لقنت نفسها.. هكذا أمرها عقلها
ولكن مع أول محل تجاري دخلته ورأت كنزه زرقاء بلون خيوط الفجر شعرت بقلبها يهوي في ساقها
ذاك اللون الرائع.. ذاك اللون المؤلم يُذكرها بعيناه الحبيبة
عيناي نديم التي افتقدتها واشتاقتها و...
نزعت نفسها من تلك الهوة وهي تتحرك مبتعدة عن الكنزة تتأمل غيرها.. تشتت انتباهها عنها بكل حدة
لا لن تتذكر نديم بمجرد لون.. لن تسقط في فخ قلبها مره اخرى
اندفعت داخل المحل تنتقي ألوانًا داكنة بعيدة كل البعد
عن الأزرق
أو ألوانًا فاتحة تتخطى ذاك اللون العين
ابتاعت كل ماهو مختلف عن ملابسها القديمة
تجرأت في انتقاء ملابسها فتنوعت بين القصيرة والمتوسطة.. ارادت أن تمحي عن ذهنها نفسها القديمة
ولكن جزء في عقلها يسألها.. أتودين نسيان نفسك أم نديم
اتودين محو شخصك الضعيف أمام عائلتك.. ام تريدين تخطي أن سبب هذا الضعف كان هو
تشابكت خيوط عقلها وعكرت صفو يومها
فاكتفت بالتسوق واخذت ما اشترته وعادت إلى منزلها
وهي تقول لنفسها أنها ستنام ساعتين ثم تستيقظ وتتجهز للقاء زملاء عملها.. وينقضي يومها بسلام
رغم ندمها الداخلي على قبولها دعوة سعد.. ولكنها أرادت اثبات أنها قادرة على مواصلة حياتها دون اختباءٍ وحزن
تخطت شعورها بالندم حينما اقتربت من شقتها وكتبت رمز الدخول وفتحت الباب تدلف بارهاق وهي تخلع حذائها العال.. وتلقي حقائب التسوق وحقيبتها الصغيرة على أقرب مقعد وهي تفرك يداها المتعبتان
وما كادت تخط داخل غرفتها فوقعت عيناها على ستره رجالية سوداء مُلقاه على فراشها.. وأسفله حذاء مُترب وجورب رمادي بخطوطٍ سوداء.. فتسمرت بغريزة وهي تشعر بشيء مختلف..أحدهم دلف شقتها، لا بل اقتحمها .. وقبل أن تلتفت بفزع تطلب المساعدة شعرت بأنفاسٍ خلفها تحاوطها
فانقبض قلبها وانكمش جلدها ببعض الفزع
أحدهم يقف خلفها يتنفس بصوتٍ مرتفع.. يقترب منها بخطواتٍ واسعة ليستقر خلفها تمامًا
ويحاوط كتفاها بقوة ويضع وجهه في عنقها المكشوف قائلاً بصوتٍ أجش مبحوح...
-اشتاقت عيناي لكِ ياطيفي.. ألم تشتاقي لهما!
تجمعت الدموع في عيناها وارتعشت بقوة وبردت بشرتها
شعرت وكأن الأرض تميد بها وأنفاسها تنتهي من صدرها
قلبها لا يخونها في الشعور به.. قلبها لا يخونها في حُبه
ولكن الصوت.. كيف.. كيف
شعرت بيداه تلفها له لتقع عيناها المغرقة بالدموع على وجهه.. وجهه الحبيب الذي جافاها
كان نديم.. نديم يقف أمامها وينظر لوجهها ببسمة مشتاقة
وعيون لامعة بزرقتها تلتهم وجهها بلهفة كمثلها
وجهه النضر بتلك الذقن النامية التي زادته وسامة في عيناها.. هزالته اختفت تمامًا وبات رجلًا قويًا غير الذي التقته منذ ثلاثة أشهر
رجلًا يحاوط كتفاها وينظر لها وكأنها عالمه
رفعت أناملها المرتعشة تحاوط وجهه وهي تكاد تسقط ارضًا فدعمها ممسكًا بجسدها بقوة.. همست بنشيجٍ باك..
-نديم.. نديم لقد أتيت
مسح دموعها بإبهامه وربت على وجنتها وهو يكرر بصوته الغريب على اذنها...
-عُدت ياطيف.. عُدت لأجلك
صوته وجهه وجوده أمامها جعلها تتخبط مابين السعادة والغضب.. لا تعلم من أين أتت قوتها فدفعته عنها وجلست على فراشها تبكي محاوطة وجهها تشهق بحزنٍ منه وفرحة لأجله.. لا تعلم اتعانقه سعيدة بعودته أم تصفعة على غيابه عنها، نديم هو الوحيد القادر على تشتيتها بين اختيارين أحلاهما مُر
جلس أرضًا أمامها يبعد كفاها عن وجهها قائلا بقلق...
-طيف حبيبتي.. لمَ البكاء انفذتي وعيدك لي انك سـ
انهارت باكية تقول بحدة ولا حيلة...
-حاولت نسيانك.. حاولت أن انزعك من قلبي
وقررت أن اليوم سيكون أول أيام تخلصي منك
ولكنك جئت، وبمجرد رؤيتك اختفى غضبي وحزني
ولكن قلبي لازال يتألم منك.. انت غادرتني بكل قوة ولم تحاول التواصل معي.. انت لم تحبني يانديم، أنا كنت مجرد امرأة سهلة جعلتك تدرك حبها دون أن تطالبك بأي شيء...
وضع كفه على فمها يمنعها من المتابعة
يرفض سماع هذيانها الظالم حول تفسيرها لشعوره حولها
هو مخطئ بشكلٍ تام انه غادر ولم يطمئنها عليه من وقتٍ لأخر.. ابتعد وتركها لأفكارها تتلقفها بقسوة
وقف وجلس جوارها على الفراش يشبك أنامله بأناملها الباردة قبل أن يقول بهدوء...
-لقد اخذني عمي إلى مركز تأهيل نفسي بعدما حضرت أمي من الخارج واطمئنت برؤيتي.. وبعدما شاع خبر حياتي في كل العائلة وعُقب رائد على مافعله لي
لا انكر أنني كنت خائف من الظهور من جديد.. خائف من أن تقع عيناي في عين زوجة عمي وأرى اتهامها وحزنها
أنني من قتلت ابنها، شعرت أني أود الهروب قبل أن ارى تلك النظر في عيناها
ثم لان صوته بتأثر واهتز وهو يقبض على كفها...
-ولكنها عانقتني ياطيف.. عانقتني وبكت أنها شعرت بحسرة موت ولدها الثاني حينما قرأت رسالة الانتحار
أخبرتني أن قلبها اكتوى ألمًا من وفاتي المزعومة
بكت وبكيت وفاة صدْيق.. لقد قالت لي أن هذا قضاء وقدر.. وهي لم تلومني ولن تلومني يومًا على وفاته
حتى عمي حاول تعويضي عما فعله بي رائد
ظل يعرضني على اطباء نفسيين كي يعود لي صوتي
ولكنهم قالوا أن سبب الصمت صدمة.. ومايعيده لي صدمة اخرى أو أن تتحسن حالتي النفسية
ولكن بعد لقائي بزوجة عمي وبكينا سويًا.. وذهبت للنوم في أخر اليوم.. رأيت صديق في حلمي
رأيته يخبرني انه يسامحني.. يسامحني على طيشي
واخبرني أنه اشتاق لي وأن اعتني بوالدته
كانت دموعي تسقط في الحلم وأنا أحاول التمسك به ليعود.. فلم أشعر إلا وأنا اصرخ فزعًا في نومي بإسمه
يومها استيقظ الجميع يحاوطوني وهم يبكون سعادة أن صوتي عاد لي.. رغم انه عاد ضعيف مبحوح كطفل يتعلم الكلام.. ولكن كانت البداية لعلاجي
تنهد وهو ينظر لها يرى الدموع تسقط على وجهها وهي تتأملة بحزن رغم الراحة التي تسكن عيناها
فتابع بخفوت وهو يرفع كفه يربت على وجنتها المُبتلة قائلا...
-حينها قبلت طلب عمي أن انضم للتأهيل النفسي
أردت أن اتخلص من مل الرواسب داخلي قبل أن أعود لكِ
أردت أن تكون عودتي مفيدة وأن أليق بفتاة مثلك
ورغم أن لازال طريقي طويلًا إلا أنني أردت أن أسير هذا الطريق معكِ ياطيف.. أردت أن اكمل حياتي مع المرأة الوحيدة التي استطعت حُبها في أكثر وقتٍ كنت كارهًا لنفسي.. لا تقولي لي انك تخلصتي من حُبي
لن استطيع الصمود دونك
اشاحت وجههل عنه وهي تمسح دموعها وتقول بخشونة..
-كفاك حديثًا.. انت قُلت أن كثرة الحديث خطأ عليك
المهم انك بخير و..
جذبها له يعانقها بقوة يذيب برودتها التي تقابله بها
يحكم ذراعاه حولها يلصقها به وهو يربت على شعرها برفق ويقول...
-أنا بخير لأنك أمامي.. اغفري غيابي لأكون في أحسن حال.. ثم انني وعدتك أن آتي وأتيت لم اخل بوعدي
استقر رأسها على كتفه تمسح أخر دمعاتها وهي تحاوطه معانقه ترمي غضبها بعيدًا عنها وهي تقول بخفوت معترفة...
-لقد اشتقت لك يانديم.. كدت اموت حسرة على غيابك
كنت اظنك تقطع وعدًا لن توفيه كي تتخلص من رجائي لك بالبقاء حينها
ربت على ظهرها يبعدها عنه وهو يتجه لسترته تحت نظراتها المتسائلة.. يخرج من الجيب الداخلي بضعة أوراق مطوية يقدمها لها بابتسامة جميلة تسلب مشاعرها منها..
-هذه هديتي التي وعدتك بها
اخذت الأوراق تنظر فيها باهتمام إلى أن توسعت عيناها بدهشة وهي تردد بحيرة..
-تلك أوراق ملكيتي لمنزل جدي وللأرض الزراعية التي كتبها لي قبل وفاته.. ولكني تنازلت عنهم لزوجة عمي..
جلس جوارها يجذب يدها يمسك ويتحسس جلدها الناعم وهو يقول بايجاب وهدوء يخالف حدة وجهه..
-علمت ذاك اليوم من ان كذبتي علي وقلتي أنها كانت تود الاطمئنان عليكِ.. علمت أنها ساومتك على أن تبلغ الشرطة انك تتسترين على مجنون وتفضحك وسط العائلة ان لكِ علاقة غير شريعة.. ابتزتك بأسوء الصور لتجبرك على التنازل عما قدمه لكِ جدك قبل وفاته
حينها اقسمت في نفسي أنني سأسلبهم ما اخذوه منك
وساعدني في هذا عمي.. هو محامٍ كبير يعلم خفايا حياة عمك.. واستطاع ابتزازهم كما فعلوا لك واخذوا منهم مامان لك.. بالاضافة إلى ارثك الشرعي من جدك
كلمة واحدة مذهولة خرجت منها وهي تردد..
-معقول!
حرك رأسه بآيجاب ونظر لساعة معصمه قائلا بهدوء..
-الساعة الآن تجاوزت السابعة بقى القليل من الوقت على حضور عمك حامد وكذالك عمي وزوجته وأمي
قفي لتتجهزي لاستقبالهم لأن اليوم سنطلب يدك من عمك
لاتزوجك
بدى عليها عدم التصديق اطلاقًا
فاتجه نحو الخزانة يفتحها ويجلب رداء مُغطى..ففتح سحاب الغطاء وظهر فستان رقيقًا أزرق اللون مع خطوط بيضاء رقيقة..وقربه منها باسمًا..
-هيا قفي وارتدي هذا.. سأنتظرك في الخارج لأراكِ قبل أن اخرج لشراء الزهور الاقحوانية كما تحبينها
ولكِ لا يغضب عمك من وجودي معك وحدنا في الشقة..
كاد يغادر الغرفة ولكنها وقفت سريعًا تتمسك برسغه خشية أن يغادرها ويطيل الغياب كما السابق فقالت راجية...
-نديم
التفتت لها يقترب منها يحاوط وجهها ويُقبل عيناها برقة هامسًا بصدق طمئن فؤادها المحب...
-اقسم أنني سأذهب لاشتري لك الزهور وآتي
اتذكرين ماقُلتي لي سابقًا في الكوخ
حركت رأسها بإيجاب تمسح الدموع عن وجهها وتقول بخفوتٍ رقيق...
" أُحب التشبيهات البديعة، فلا تشتق من اسمي دلالًا تناديني به.. بل قُل لي أنني أشبه زهرة الأقحوان
أو اندهش أن لي جناحي فراشة! "
حرك رأسه بإيجاب وهو يمسح وجنتها بإبهامه قائلا بصوتٍ مهتز تعب من الحديث وعيناه الزرقاء تجريان على وجهها المتورد سعادة وترقب...
-انك أجمل من كل الزهور.. ولكنني سأذهب لأجلب لكِ ظهور الاقحوان لتليق بجناحاكِ.. حسنًا!
وايضًا سأقوم ألا استجيب لتلك النظرات ولا أُقبلك الآن
فقط نتزوج وحينها سأعوض ما كنت أود فعله ونحن معًا في الكوخ.. اتفقنا!
حركت رأسها بإيجاب متحمس يغلفه السعادة الحقيقة وتأملته وهو يبتعد عنها.. قلبها يقرع بعنف حبًا وسعادة
وكلما أبصرته او سمعت صوته الحبيب دمعت عيناها سعادة ورقص قلبهل طربًا فحبيبها الوسيم معها الذي ما عاد صامت ولا مجنون
وقد توسط الأمر.. مابين الصمت والجنون!
***