الفصل الحادي عشر

تأفأفت طيف من الهدوء الذي يلفهم.. فهو منذ أن استيقظ في الصباح ولم يجدها من جديد تحاشاها
حتى حينما بررت غيابها أنها اتجهت الي منطقة في الجوار اكتشفت أن وبها محلات تجارية ذهبت لتشتري بعض الاشياء الهامة التي يحتاجوها بالكوخ
لم يقبل عءرها وظل يتحاشى النظر لها وإن ظلت تلح يناظرها بوجهٍ عبوسٍ واجم
غضب هذا الرجل غير هين ابدًا.. وهي ملت من تكرار أسفها أمام صمته.. هي لم تخطئ بشيئ ليعاملها بهذا الجفاء

انتفضت من فراشها تخرج من الغرفة.. لتراه جالسًا على الأريكة يمسك كتابًا لخال ليلى ومن الواضح انه اعجبه للغاية.. زاد حنقها من لا مبالاته تجاهها فتحركت لخارج الكوخ بحدة وهي تقول...
-سأذهب لجمع القواقع واتركك لكتابك..لم ينزل الكتاب عن وجهه وتجاهلها بشكلٍ تام وكأنها هواء

صفعت باب الكوخ خلفها وماكادت تتقدم في سيرها صُدمت وهي ترى سيارة سعد أمامها..يهبط منها مع زوجة عمها راوية!
شحب وجهها وقبضت يدها على فستانها الصيفي الرقيق وهي تبتلع رمقها خوفًا من اكتشافهم لوجود نديم

اقتربت منها راوية بذات الابتسامة السمجة وتلك النظرة الساخرة وهي تقول لسعد...
-ألم أخبرك أنها ستكون هنا..تلك الأجواؤ تليق بشهر عسل لا بعطله لاراحة نفسيتها ياولدي

ثم نظرت لها ساخرة واقتربت منها تعانقها وهي تهمس في اذنها ببطئ...
-معك خمس دقائق فقط لتأتي معي داخل السيارة
وإلا سأتصل بالشرطة لتقبض على ذاك المجنون معك في الكوخ واتصل بعائلتك لياتوا ويشاهدوا فضيحة ابنتهم الطااااهرة

ازداد شحوب طيف وحركت رأسها بطاعة وهي تشعر أن الأرض تميد بها..فاتجهت إلى سيارة سعد تجلس داخلها بعدما قالت راوية ضاحكة لسعد..
-لا تؤاخذنا ياولدي أود مناقشة بعض الاشياء الخاصة مع ابنة اخ زوجي..دقائق وساترك لك السيارة

دلفت السيارة وجلست جوار طيف الشاحبة تضحك ساخرة عليها وهي تقول...
-بنات هذا الزمان فقدوا كل التربية والاحترام
تهربين مع مجنون ياطيف..وأنا التي ظننتك ستتزوجين بسعد..ذاك الرجل المسكين الذي اوقعته في حبك ثم استغفلته

تحكمت طيف بأعصابها.. فهي ليست بموقف يسمح لها بأن ترد على الاتهامات أو الاسائة.. فقالت بشكلٍ مباشر...
-مالذي تريدينه

اخرجت راوية بعض الأوراق من حقيبتها مع قلم والقتهم على قدمها تقول بجفاء...
-توقعين على أوراق البيع والشراء هذا
وتكتبين ورقة تنازل عن إرثك كاملاً.. ثم اغربي عن وجهي بعدها

ابتلعت طيف اهانتها وأمسكت الأوراق تمضي عليها واحدة تلو أخرى وهي تقاوم شعورها العارم بالغضب
ثم بدأت كتابة صيغة التنازل عن ميراثها.. وتختم الورقة بتوقيعها ثلاثيًا
ثم اعطتها الأوراق بصمت لترى ملامح الارتياح والظفر على وجه زوجة عمها.. لقد احكمت الخيوط حولها واستغلت الوقت المناسب لتسلبها كل شيئ

تحدثت راوية أخيرًا بحنق وهي تشير لها آمره...
-هيا اذهبي واجعلي ذاك الأحمق يعود بي حيث أتى
الاجواء هنا حارة لا تناسبني

ترددت طيف في النزول من السيارة فـ التفتت لها تقول بهدوء مرتبك...
-هل سـ

قاطعتها رواية بحدة وهي تلقيها بنظرة مستهينة...
-أنا لا آبه بك ابدًا لا يهمني إن هربتي مع رجل أو مع عشرة رجال.. انت وعائلتك أخر من يهمني أمرهم
لقد اتفقنا اتفاق والتزمتِ بحانبك.. فلا حاجه لي بك لا انت ولا ذاك المجنون.. المهم أن حق أولادي معي

حسنًا راوية واضحة وإن كانت تنوي بها شرًا كانت ستقول بلا تردد.. لذا هبطت من السيارة بصمتٍ تام
واتجهت على بعد خطوات حيث يقف سعد بوجهٍ عابس يظهر عليه الغدر.. ونظرة الخيبة
وقفت أمامه معتذرة بصدق...
-سعد أنا أسفة إن شعرت بالغضب او الحزن بسببي
ولكنني لأنني كذبت عليك بشأن سفري ولكن..

قاطعها سعد بنبرة حادة...
-كنت أنتظر منك بعض التقدير فقط
لا أن أعلم من زوجة عمك انك تسكنين كوخًا مع رجلاً غريب.. المرأة التي أحبها جالسة مع رجلاً مختل هارب من مصحة الأمراض العقلية.. الله أعلم مالذي فعله بك

-لا تقل عليه مختل من فضلك.. هذا الرجل أعقل مني ومنك.. لا تقلل من شأنه ياسعد أنا أحب هذا الرجل
وهو لم يمسسني بسوء ولم يقترب من جسدي رغم أنني أمامه ولا أنفك عن ترديد حبي له.. هذا الرجل يعلم ماله وما عليه.. وأنا أحبه

ردد سعد بلا استيعاب وجهه ينطق ذهولاً وغضبًا..
-تحبينه

-نعم ياسعد أحبه.. أنااعتذر منك على موقفي الغير محسوم تجاهك.. ولكنتي أسفة لك بصدق.. سأعود غدا وأقدم استقالتي وابتعد عنك نهائيًا كي لا..

ظهر الحزن في عين سعد فأشاح وجهه وهو يقاطعها بنبرة هادئة تحمل الحدة والغضب في الآن ذاته...
-لا داعي لأن نتصرف بطفولية.. هذا قرارك وأنا احترمه.. لا تقحمي العمل فيه، حتى وإن لم نكن سويًا كمحبين او زوجين.. سيظل الاحترام هو سيد الموقف بيننا.. إن أردتي تتركي العمل تذرعي بعذرٍ غيري.. انتبهي على نفسك ياطيف

ثم غادرها متجهًا إلى سيارته يقودها مبتعدًا عنها وعن الكوخ والمنطقة بأسرها.. حكت طيف جبينها وهي تشعر بالاستنزاف من مواجهتين أصعب من بعضهما.. وداخلها رجاء ألا يبلغوا الشرطة عن وجود نديم هنا

تنهدت وهي تجلس على الرمال تحاوط نفسها بخوفٍ وحيرة تخشى القادم.. تخشى المجهول
وعلى مقربةٍ منها كان نديم يقف داخل الكوخ وقد رأى كل ماحدث من النافذة وسمع كل شيء
إلى أن رأها تنهار على الرمال.. وتحدق في الفراغ بصمت.. طيف عانت كثيرًا بسببه.. وهما لازالا في البداية!

***
كانت الأيام تمر ولازالت طيف تحاول ترميم نفسية نديم.. لا تتوقف عن التعمق في حياته وخلق لغة تواصل بينهم، تحاول اثبات أنه يستحق الحياة والتمتع بمباهجها
يستحق أن يعيش بصورة طبيعية ويكفر عن ذنبه بأكثر من طريقة بدلاً من الاختباء في مصحة عقلية
وكان هو يتلقى كلامها في كل مرة بطريقة مختلفة
تارة يثورة ويزمجر بجنون رافضًا كلماتها ويخرج من الكوخ يتجنبها بضع ساعاتٍ يعلن فيها عن رفضه لأفكارها إلى أن تخرج له وتجلس جوارة تراضيه بنبرتها الرقيقة الشقية وتطبح احد قبلاتها النارية على وجنته تراضيه وكأنه طفلٍ صغير.. فيزداد داخله جنونًا من نوعٍ آخر.. جنون لذيذ لا يتفاقم داخله إلا بسببها..

أما طيف فتهرب من أفكارها تتناسى التفكير بالعقل والمنطق.. وظلت تتلاشى اتصالات ليلى التي تحمل الانذار والقلق الذي يصل للفزع في بعض الأحيان وهي تتسائل لمَ اطالت وجودها هناك هي غاصبة منها أنها اعطت عنوان الكوخ لزوجة عمها.. ومبررها على ذالك أن عائلتها تأتي لشقتها باستمرار ليطنئنوا عليها بسبب اختفائها المفاجئ.. وهي ظنت انهم تغيروا واصبحوا اقارب طيبون!
ليلى المسكينة صدقت أنهم يخافون ويدون الاطمئنان عليها!
لا تعلم أن زوجة عمها جائت لتساومها واخضعتها لتتنازل عن المنزل والأرض وارثها الأساسي لهم
وهي رضخت.. رضخت خوفًا على نديم وليست نادمة على ذاك الرضوخ
حتى أنها قاومت الشعور بالحرج والندم وصرحت أمام سعد بقوة بعدما اعتذرت منه أنها تحب نديم
وطوال الأيام الماضية كانت تود مهاتفته واخباره أنها لن تستطع الكذب غليه أكثر من هذا

والحمدلله أن سعد كان متفهمًا لمشاعرها رغم حزنه.
في أحد الصباحات استيقظت طيف مبكرًا عن المعتاد
منذ صغرها تستيقظ فورًا حينما تشعر أن احد يراقبها اثناؤ نومها.. وكان هذا سبب استيقاظها الآن
حينما فتحت عيناها طالعتها عينان زرقاوتان يحدقان بها بنظرة باسمة على غير العادة.. ينظر لها بمشاعر عدة جعلت معدتتها تتلوي بارتباكٍ لذيذ رغم جرأتها معه
اعتدلت في الفراش حينما استفاقت بالكامل واستوعب أن نديم جالس أسفل الفراش ينظر لها بصمته المعتاد ويده تعبث في شعرها برقة تُذيبها

تنحنحت وهي تقول ارتباكها وهي ترفع كفاها تساوي شعرها وتقول بصوتٍ متحشرج من أثر النوم...
- مالذي جاء بك إلى غرفتي.. أقصد انت عاى مايرام!

حرك رأسه بإيجاب ويبعد كفاها عن شعرها تتركه على تشعثه الطبيعي في الصباح.. فاشاحت وجهها عنه وهي تضع كفاها على وجنتها متمتمة بضيق..
-حينما استيقظ يكون وجهي منتفخ وشعري مشعث
لثاني مرة على التوالي تراني بهذا الشكل المريع، انت تستيقظ بوجهك هذا ولمعة عيناك الزرقاء وأنا استيقظ بوجهٍ منتفخ وشعرٍ مشعث.. لا عجب منك انك لم تحبني بعد

سمعت ضحكته جوارها.. ضحكة جعلتها تلتفت تنظر له ملتهفة وهي ترى ذاك الوجه الوسيم ينفرج بضحكة طبيعية ذات صوتٍ رنان في اذنها
ضحكة أظهرت عمق طابع الحسن في ذقنه ونضارة وجهه.. أيجب عليه أن يكون جميلاً لهذا الحد
منذ مراهقتها وهي ترفض أن تقع في حب رجلاً اجمل منها.. رغم أنها نشأت في بلد ايطالي يعج بالرجال الوسيمون إلا أنها لم تستطع الاقتراب منهم او العكس لاختلاف الديانات.. رغم أن اصدقائها الايطاليون لا ينفكون عن الترديد لها بالزواج المدني
وانها يجوز قانونا أن تتزوج مت غير ديانتها وكل هذا الهراء.. إلا أنها تعلم أن هذا غير محلل شرعيًا، وفي حكم الدين والشريعة هي مجرد زانية لأن لا يجوز الزواج بغير مسلم
وهكذا أخبرها والدها منذ أن بلغت سن الخامسة عشر.. نبه عليها ألا تنجذب للشباب اجنبي من غير دينها.. كل شيء إلا الزواج والشرف والدين

ولكن نديم جمع بين أكثر ثلاث اشياء تحتاجهم حبيبها.. العرق العربي ومرؤة العرب..من نفس دينها
ووسيم صاحب شخصية غامضة تثير المشاعر في نفسها.. ومع توفر كل تلك الصفات فيه الا تستطيع إلا أن تسقط في حبه.. تحب عيناه وصمته
تحب هدوئة واتزانة حتى بنوبات جنونه عند تذكر الماضي، وفي كل يومٍ يمر تشعر أنها تحبه أكثر
سقطت في حبه بأسرع مما يمكن.. وهذا يبهرها

رغم انها تعرف سعد منذ أربع أعوام إلا أنها لم تشعر نحوه بذات الانجذاب الذي تشعر به مع نديم
تشعر وكأنها راضية بكل شيء.. راضية أن تساعده ليصبح شخصًا طبيعيًا.. راضية به لو كان فقيرً ومتشردًا.. نديم هو الرجل الذي تود أن تستيقظ جواره ولو بعد خمسون عامًا
وهو الرجل الذي تود أن تنجب منه دزينة أطفال
ربما في السايق كانت منجذبة بتهور لشكله، ولكن الآن هي تشعر وكأنها تحب روحه قبل وجهه
وجهه ماهو إلا بوابة جميلة للعبور لروحة الأجمل
ليته يشعر نحوها ببعض الحب.. ليته!

انتبهت على مبادرته الغريبة وهي تراه يشبك أنامله بأناملها بقوة ويتأملها بقلق من صمتها الغير مألوف
فتنهدت وهي تسند رأسها إلى ظهر الفراش وتقول هامسة بشرود...
-لمَ لا تتزوجني يانديم.. ألم تحبني او تشعر ولو بانجذابٍ بسيطٍ نحوي!

ظهر التفاجؤ على وجهه.. أعرضت عليه الزواج لتوها!
طيف لا تتوقف عن ادهاشه في كل ساعةٍ ويوم يقضيهم معها.. ولكن تلك النظرة الحزينة في عيناها جعلته يمحو دهشته فورًا وهو يسمعها تقول بخفوت..
-الآن فقط فهمت شعور سعد.. علمت ماهو شعور أن تحب شخصًا وتظل حائرًا نحوه وانت تتسائل
أيحبني أم لا.. هل أنا الشخص الذي يتمناه
والكثير من الأسئلة التي تضجر مضجعي يانديم
لمَ الحياة ليست بسيطة.. نلتقي في مكانٍ ما مناسب لكلينا.. ونقع في حب بعضنا البعض.. ونعترف بهذا الحب.. ثم نتزوج وننجب الكثير من الأولاد
ونصبح اجداد مبحبوبون لأولادنا واحفادنا
لمَ الحياة صعبة ومتعبة لهذا الحد!

أجاب على سؤالها حينما جذب كفها ومرر سبابته على باطن كفها يرسم كلمة وهمية قرأتها بسهولة وبطئ وهي تردد كلمة كلمة إلى أن اتمت الجملة
"انت
فتاة
أحلامي
ياطيف"

نظرت له فورًا بلهفة وقالت...
-صدقًا أتراني فتاة أحلامك

حرك رأسه بإيجاب وشقت بسمة رقيقة ثغره
فتابع يرسم الكلمات على باطن كفها...
" في ظروفٍ اخرى كنت سأحبك.. سأحب لون سعرك البُني.. أنا اعشق اللون البني، وايضًا أحب وجهك المستدير. وكنت سأحب ثرثرتك
وطريقتك في الحديث..روحك الحنونة التي تجعلني أظن انك ستكونين أمًا رائعة، كنت سأحب اندفاعك لو كان لي وحدي.. وكنت سأحب نهجك في الحياة رغم تحفظي على أكثر من تصرف طائش لكِ.. أنا واثق أنني لو كنت رأيتك في الماضي كنت سأحبك بالتأكيد"

-ياحبيبي
قالت تلك الكلمة حينما رفعت عيناها الدامعة له وهي تتأوه سعيدة وترتمي بين أحضانه ليختل توازنه للحظات قبل أن يتمسك بها يحاوطها يبادلها عناقها المندفع.. وكعادة طيف، كانت دافئة للغاية.. عاطفية جدًا ومثيرة لأبعد حد.. تجعله يكتوي بنار ملذات الحياة التي أخذ عهدًا على نفسه أنه سينساها
فتأتيه هي وتذكره أن الحياة مليئة بما يجعل قلبه يتضخم سعادة.. واثارة

أبعدها عن حضنه بصعوبة وهو يفك يداها الملتفتان حول عنقه ككماشة.. تلك الفتاة لا تجيد فنون الترفع في الحب.. بل تلقي مشاعرها في وجهه بلا تردد
ابعدها عنه اخيرًا يحدجها بنظرات حازمة تصنعها رغمًا عنه.. هو انسان، يشعر ويأمل ويتألم
يحاول ابعاد الشيطان ووسواسه عن عقله ويقاومه
ولكن طيف لا تساعده أبدًا
بملابسها الغريبة تلك ولمساتها العفوية ومشاعرها الظاهرة في عيناه.. كل هذا لا يساعده ابدًا

انتشلته من تفكيره وهي تمسك يده وتقول بحماسٍ ملتهف وعيناها العاشقة ترجوه....
-مارأيك أن نسافر للخارج، نسافر لايطاليا ونستقر هناك.. ننشئ مطعمًا خاصًا بنا الايطاليون يعشقون الأكل، سأترك كل شيء هنا لأجلك.. ولا تقلق معي مايكفي من المال، ربما سيأخذ المطعم كل ما معي.. ولكن لا بأس بالتأكيد سيدخل لنا دخلًا كبيرًا.. ايضًا أنا سأقدم أوراقي في أحد المحطات الفضائية وامي لها الكثير من المعارف وستساعدني.. انت تولى ادارة مطعمنا وأنا سأعمل في المجال الاذاعي كما أنا
وإن شعرت أنك صرت تحبني بشكلٍ يجعلك تتزوجني، سنتزوج فورًا وننجب العديد من الأطفال
سننسى الماضي بأسره وسنبدأ في مكانٍ جديد تمامًا
سننشئ ظروف خاصة بنا.. مارأيك أليست فكرة جيدة

وماكان ردة سوى أن تنهد تنهيدة ثقيلة وهو يجذبها له يعانقها.. ويربت على ظهرها تارة وشعرها تارة
وصوتٌ في نفسه يقول بحسرة
"ليت الحياة بتلك البساطة ياطيف"

وبعد لحظات امسك كفها يخط كلماته الحازمة على باطن كفها كقرار لا يقبل العودة...
"سنعود غدا إلى شقتك ياطيف.. لن نبقى هنا طويلًا لقد تعبت الجلوس هنا"

عقدت حاجباها بحيرة وتغضن وجهها قلقًا وهي تقول..
-ولكن يانديم.. من الممكن أن يعثروا عليك
نعم ان الناس نسيت ماحدث لمرور شهرٍ وأكثر
ولكن لا الشرطة ولا البحث عنكم توقف

حرك رأسه بإيجاب وهو يتنهد ويعيد رسم الكلمات غلى باطن كفها...
"لا تقلقي... لن يعثروا عليّ.. سنعود صباح الغد ياطيف، وهذا قراري النهائي"

حركت رأسها بطاعة وهي تقاوم الصوت الخائف داخلها.. تتمنى لا تنقلب حياتهم رأسًا على عقب
تتمنى ألا تفقده بعد أن وجدته وصارت بينهم المشاعر واضحة.. هي تعبت الفقد..

وقفوا وحضروا أغراضهم للعودة
ونظفوا الكوخ سويًا وكلاهما يتأملانه ببعض الحنين والحزن.. كلاهما يشعران أن تلك الأيام التي قضوها هنا لن تعوض ابدًا.. ستظل كعلامة مميزة في عقولهم
رغم الصمت والظروف والجنون.. ستظل من أرق الأيام وأحلاهم مذاقًا في نفسهم

جاء الليل يسدل ستارة.. وقرروا أن يجلسوا أمام البحر يودعون المكان بجلسة هادئة يراقبان الأمواج
ويتأملان السماء الصافية.. والنسمات الباردة تضرب أجسادهم فتصيبهم بقسعريرة لذيذة

جذبت طيف الوشاح التي تلتف به وحدها.. واقتربت تلتصق بنديم تضع طرف الوشاح على كتفه الأيسر
وتبعد ذراعم الأيمن لتندس إلى صدره وتضع الطرف الأخر على كتفها.. كالعادة لفتة جريئة منها ولكنها دافئة ولطيفة.. جعلته يبتسم وهو يضع ذراعه عليها وينعما بدفئ الوشاح سويًا
فقالت طيف تبدد صمتهم متنهدة...
-البحر يبدو مرعبًا في الليل.. وهو الشيء الوحيد الذي أخاف منه بشدة، واتحاشى الوجود أمام البحر في الليل.. ولكن لا أعلم لمَ لا أخاف منه وانت معي
ورغم ذاك أصبحت أخاف من شيءٍ أخر بدلا من البحر

اخفض رأسه ينظر لها متسائلاً عن ذاك الشيء الذي تخافه فتقلصت المسافة بينهم وكان وجهها المليح قريبًا منها للغاية.. فوضعت كفها على وجهه وافصحت عن خوفها...
- في الماضي كان يغوص قلبي بين أضلعي حينما أتخيل فقط وجود رجلٍ اتكئُ على كتفه لاهثة من ركض أعوامٍ مضت وأعوام أتيه.. فقد تعبت من صلابة الجدران
أود أن تستند وجنتاي على لحمٍ ودمٍ وحب.. الكثير من الحب، وحينما رأيتك شعرت أنك موضع اتكائي
فلا ترحل فأسقط يانديم.. خوفي الجديد هو أنا

يالله كلماتها العميقة تجعل قلبه يجفل لها بلا ارادة
فقربها إلى صدره أكثر يربت على خوفها بصمت
لا يدري كيف يطمئنها وهو نفسه يعلم أن النهاية لابد لها من غيابه.. كان يود لو يجعلها تستوعب أن مايحدث معهم لا حل له.. ولا أمل لهم معًا
هو لن يقبل تضحياتها تلك.. لن يقبلها ابدًا.. يكفيها ماتنازلت به لأجله.. يكفيها حياتها التي بُعثرت وتشتت للغاية، طيف لا تستحق أن تشاركه حياته الصعبة او شخصيته المعطوبة.. ورغم ذالك لا يستطيع صد حبها لا يستطيع تخيل الحزن والجرح في عيناها

قطعت شروده وهي تقول بنبرة رقيقة تخرج من ذاك الشرود الواجم..
-أتعلم أن في ايطاليا اصدقائي كانوا يقولن لي"Tefi"
وحين جئت للوطن وجدت جدي يقول "طَيف".. بتشديد الطاء.. وزملائي في العمل يرققون الطاء
وأمي تقول لي" توفي"
لي فضول كبير أن أعلم إن كنت ستددلنني مالذي ستقوله انت

قضب جبينه بحيرة وهو يبحث في عقله عن دلال لاسم "طيف" حاول أن يشتت الحروف ويجمعها
ولكن ولا دلالٍ واحد يليق بها.. طيف تبقى طيف
دلالها في اسمها ذاته
وحين طال صمته وبات متحيرًا وجدها تعتدل وتطبع قبلة سريعة على وجنته الخشنة وهي تقول باسمة...
-أُحب التشبيهات البديعة، فلا تشتق من اسمي دلالًا تناديني به.. بل قُل لي أنني أشبه زهرة الأقحوان
أو اندهش أن لي جناحي فراشة.. اتفقنا!

اتسعت ابتسامته وحرك رأسه بطاعة.. فعادت تسكن تحت ذراعه وهي تتنهد براحة والكثير من الحب.

***
الفصل السابق الفهرس الفصل التالي